عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 4249 - 2013 / 10 / 18 - 20:26
المحور:
الادب والفن
في صباح أول يوم من تشرين الثاني خرج كاظم من داره ومعه حالوب يرفعان نعش والدته التي توفيت ليلة الأمس دون أن يعلم أحد بذلك إلا من بضع دقائق, عادة كاظم لا يحضر أو لا يظهر في هذ الوقت ,يكون مشغولا في خان الفحم لتجهيز زبائنه, هو الوحيد الذي يمتهن بيع الفحم بالمدينة ,أجتمع بعض الرجال وطلبوا منه أن يشاركوا معه في تشيع جنازة العجوز وعدهم خيرا وقال ,سأذهب بها للمستشفى لتسجيل الوفاة أولا.
كانت تلك اخر كلمات سمعتها من جاري كاظم ولم يره أحد بعده ذلك, تجمهر بعضهم في بابنا كوننا نحن الأقرب من دار كاظم واسئلة وتكهنات بعد أن مضى كثيرا من الوقت , قرر البعض أن يلحقوا بهم إلى المستشفى في طرف المدينة على الطريق المؤدي الى مركز المحافظة, عاد أحدهم للتو ليخبر الجميع ان كاظم ذهب ليدفن والدته منذ مدة لم يعد هناك من تشييع.
عرفت كاظم من سنتين كان عمري لا يتعدى الثامنة قبل أن ننتقل لهذا المسكن الملاصق لداره, كنت صبيا صغيرا اعمل في العطلة الدراسية في مقهى صغير في سوق الخضار, اكثر ما أحببت في عملي هو ذهابي لخان الفحم لأشتري الفحم الناعم لموقد المقهى ,كانت من أكثر المقاهي التي يزدحم عندها الناس.
رجل تعدى أواسط الأربعينات من العمر ذلك كاظم أبو الفحم متدين هادي قليل الكلام لم يسمع عنه أنه تخاصم مع أحد أو رأه احد خارج الخان او في غير وقت الصلاة في المسجد أو عندما يدلف بيته ليخرج في اليوم التالي دون أن يحس أحد حتى بصوت اغلاق و فتح بابه الخشبية القديمة.
كنت سعيدا جدا عندما انتقلت العائلة للسكن في الدار المجاورة لبيت كاظم ,برغم مما يشاع أن الدار مسكونة وأنها مرتع أشباح, لكن حبي لشخص كاظم ذلك الرجل البسيط أخذ منحى أخر عندما أتذكر ما يقوله الصبيان عن وجود جنية في البيت تخنق الأطفال والصغار الذين يتجرؤون على دخول الدار, لكن من المؤكد أن الكبار كان لهم صورة أخرى أو قد يكونوا هم من أشاع ذلك ليمنعوا أترابي من محاولة دخول دار كاظم في غيابه.
مرت ثلاثة أيام ولم يظهر كاظم في المدينة وحده حالوب الذي يدير عمل الخان والكل يتسائل عن عودة كاظم, حالوب ذك الرجل الطويل شديد السواد ليس من أهل المدينة ولكنه هو مالك الخان, قد يراه البعض فضا وقاسيا بذئ الألفاظ شديد الحرص على ماله, عكس كاظم الذي تتمثل دماثة الخلق فيه إنه أمين ولكنه أيضا كريم.
عندما كنت أذهب للخان ومعي درهم لشراء الفحم منه كان كاظم دائما ما يمنحني خمسة أو عشرة فلوس ويطلب مني أن لا اخبر صاحب المقهى لأنه يعلم كم هو جشع, كانت هذه الأعطية تساوي نصف قيمة ما اتقاضاه يوميا منه, ينصحني دائما أن أجمع نقودي لكي أتهيا لأيام الدراسة, كان حريصا على تشجيعي أن اتعلم ويقول لأنه متفائل بي لأني سأصبح يوما معلما للتلاميذ, هكذا كانت نبوءته لي.
منذ أن أستقر بنا المقام في الدار الجديدة وأنا أخطط لكي أدخل دار كاظم خلسة وأكتشف بفضولي الطفولي عن هذا العالم الرهيب وعن الجنية التي تسكن فيه, أحيانا لا أصدق ما أسمع, فالدار لا يسمع منها إلا أصوات الدجاج وبعض القطط التي تزور بيوت الجيران متنقله منه وإليه, لكنني في ساعة شجاعة قررت أن أفعلها وليكن ما يكون.
علمت والدتي من الجيران أن أم كاظم مشلولة تماما ولا تقوى على الحركة ولا تستطيع مدارات نفسها لذا يعود كاظم خلال النهار مرة أو مرتين للدار في النهار, وفي مرة بعثت أمي معي صحن من الحساء وبعض الرز ورغيفين خبز وطلبت أن أوصلها له بعد عودته من صلاة الظهر, أعتذر كاظم بكل أدب وقال أن والدته لديها طعام مخصوص كونها مريضة ولا تأكل مما نأكل.
كثيرا ما طرق الجيران الباب علينا يسألون عن جارنا وخاصة قد مضى أكثر من شهر على غيابه ,من حقوق الجار أن يسأل ولكن لا علم لنا بأي شيء فهو لم يترك أمارة على عودته من الغياب كما أن لا شيء يوحي بوجود أحد حتى أصوات الدجاج اختفت إنه محير هذا الأمر, لا بد من جواب في ذاكرتي أشياء قد لا يعرفها غيري أحد في المدينة لا أستطيع البوح بها.
حالوب يتهرب من أسئلة الناس كلامه يوحي ببعض الريبة, فلم تعتاد المدينة على وجوده طويلا هكذا فهم يعرفون أن له عائلة وأولاد في مدينة أخرى كما أن وجوده في الخان أصبح مصدر لكل المشاكل, فهو لا يتورع من تناول الخمر في الخان الذي يقدس الناس مكانه لأنه ملاصق تماما لباب الجامع بل هو جزء مفرز منه كوقف.
تسلقت في يوم ماطر الباب الخشبي الكبيرة بعد أن عجزت أن افتحها فكانت مقفلة بقفل كبير يتدلى على جانبه الأيمن ,أستعنت بشجاعتي وغياب العيون عني تحت وطأة المطر لأدخل إلى ذلك المكان المجهول, كان موحش جدا وغريب, فيه كوخ كبير مبني من حصران القصب حفت جوانبه المرتفعة قليلا كتل من الطين والطابوق لتمنع من دخول الماء لداخل الكوخ وفي أقصى الزاوية البعيدة كان هناك كوخ أخر صغير مهمل ومتهالك فيه الكثير من الأشياء القديمة المبعثرة بلا انتظام تأوي دجاجاته ودراجة هوائية قديمة وصندوق من خشب مقفل.
اليوم تذكرت أحداث تلك اللية التي لم تترك مخيلتي مذ عرفت أن كاظم في خلوته بعيدا عن ضجيج الناس كانت له روح أخرى, لقد تعودت القفز على دار جارنا ليل نهار, لا أخشى شيء فقط أن يمسك بس كاظم متلبسا بجريمة قد لا تغتفر, صباحا وأنا خرج من بيتي للذهاب إلى العمل وجدت قنينة عرق صغيرة من تاك التي سرقتها يوما من كوخ كاظم, عندما اكتشفت أمي وجودها في أغراضي اخترعت عذرا إني وجدتها في الباب, لم تغفر لي أمي حينها.
لا أحد اليوم من الذين عاصروا كاظم قبل غيبته يعرف ما أعرف, فهو الزاهد الطيب المؤمن, لا أنفي أنا ذلك أبدا كان اكثر خيرية من كثير ممن يتعبدون أمام الناس, في ليليتين قبل رحيل العجوز كنت أتنصت على صوت شجي حزين غارق في بكائيته حد السواد أعرف أنه سلمان المنكوب ,أمسكني كاظم من كتفي كنت مشدودا ومذهولا للصوت تملكني رعب مفاجئ فقد أخسر احترامي ومحبتي عند كاظم, سحبني من كتفي وفتح الباب بهدوء ليخرجني من الدار بدون أي كلمة... إنها أول مرة اخرج هكذا.
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟