|
في النموِّ، والتنمية، والثقافة، وتكوين المهندس والمعمار.
رهيف فياض
الحوار المتمدن-العدد: 4248 - 2013 / 10 / 17 - 09:59
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
المهندس والمعمار، والتنمية، كمكوِّن رئيس، من مكوِّنات ثقافة التحرر الوطنيِّ.
I - المقدِّمة.
تسودُ في العالمَ اليومَ، علاقاتُ الإنتاجِ الرأسمالية. فهي تعمُّ الكرة الأرضية وتوحِّدها. ويُقسم المجالُ الاقتصاديُّ - الاجتماعيُّ العالمي، إلى مجَالَينِ نقيضَيْن، مجالُ مجتمعاتِ "ما بعد الإنسان"، أو مجتمعاتِ "الإنسان الهجين" كما يُسمَّى. إنه مجالُ بلدانِ المركز. وهي البلدان السبعة الموجودة في ثلاثية أميركا الشمالية، وأوروبا الغربية، واليابان. يحتكرُ هذا المركزُ الذي تُهيمن عليه أميركا، ميادينَ خمسةً هامَّة، هي (1) ميدانُ التكنولوجيا المتقدِّمة، (2) وميدانُ التدفُّقات المالية المُسيطرةِ عالمياً، (3) وميدانُ التحكُّمِ بالمواردِ الطبيعيةِ، (4) وميدانُ الاتصالات والمعلوماتيـة، (5) وميدان أسلحة الدمار الشامل، (إذا استثنينا روسيا). أما المجالُ الآخر، فهو مجالُ بلدانِ الأطرافِ، التي لا تملكُ سوى الإفقار والتبعية. إنه مجالُ البلدان المستعمَرة سابقاً (بفتح الميم). وقد طُرِدَ منها المحتلُّ الكولونياليُّ، وتركها أسوأ مما كانت عليه. فسمِّيت البلدانُ "المتخلِّفة" بدايةً، ثم بلدانُ "العالم الثالث"، ثم البلدانُ "النامية"، التي لا تزال تحلُمُ "بإِقلاعِ روستو". "والإقلاعُ"، هو الصيغَةُ الرأسماليةُ "للتنمية". تدفعنا هذه النِظْرةُ، إلى مقاربةِ أطروحاتٍ ثلاث: I-1- الأولى، مركزيَّةٌ في الاستلابِ الاقتصاديِّ، تُميِّز رأسماليَّة اليوم. والاستلابُ، عند سمير أمين، هو أن الوسيلة، أي الاقتصادُ والتراكمُ الرأسمالي، قد أصبحتْ هدفاً، يُهيمن على الحياةِ الاجتماعية، ويفرضُ نفسه قوَّةً موضوعيَّةً خارجها. I-2- الثانية، مركزيةُ الاستقطابِ، الناجمِ عن عولمةِ الرأسماليَّة. نجدُهُ بالازديادِ المضطردِ للفارقِ في مستوياتِ التطوُّر الماديِّ، بين مركزِ النظام العالميِّ، وبين أطرافة. وينحصرُ مفهومُ التنمية، في العملِ على إزالة هذا الفارق، وفي إعادة بناءِ مجتمعات بلدان الأطراف، بما يرقى بشعُوبها. وقد تكون إعادة بناء هذه المجتمعات تدريجية، وفي إطارٍ "ما بعد رأسمالي". I-3- الثالثة، هي تاريخيَّةُ الأنظمةِ الاقتصادية الاجتماعية. فكلُّ نظامٍ اقتصاديٍّ اجتماعيٍّ هو نظامٌ تاريخي، أي أن له بداية وله نهاية. وتختَلفُ الأنظمةُ البديلةُ باختلافِ البلدانِ، وباختلافِ المعايير التي تتحكَّمُ بأوجهِ الحياة، في هذا البلد أو ذاك. تقودُنا هذه الأطروحات الثلاث، إلى الجزمِ، بأن "قضيَّة التنمية" تحتلُّ راهناً موقعاً مركزيَّاً في مجتمعات بلدان الأطراف التابعة، وبأنَّها لم تَجد حلّاً لها بعدُ، ولا يمكِنُ لهذا الحلِّ أن يُنتَجَ في إطارِ علاقاتِ الإنتاج الرأسمالية السائدة. ومفهوم تنميةُ البلدانِ التابعة (النامية بصيغة مقنَّعة) ليس مفهوماً اقتصاديَّاً تقنياً صافياً، بل هو مفهومٌ سياسيُّ نقديُّ، يرفُضُ الانغلاقَ في بعدٍ اقتصاديٍّ صافٍ يسمَّى، "قتصاد التنمية".
II - في النموِّ والتنمية.
II-1- في النمو، أولاً. النموُّ مفردةٌ مستعارةٌ من البيولوجيا. فنقول نمو جسدِ طفلٍ، أو نمو مدينةٍ، أو نمو الاقتصاد الوطني الإجمالي. ولا تُتَرجَم الحياةُ الاقتصادية والاجتماعية، بنموٍّ كميٍّ مطلقٍ(إنتاجٌ واستهلاك)، بل بتغييرٍ مُرافق ٍ في المؤسَّساتِ، وفي البُنى الاقتصاديَّة والاجتماعية. فالتقدُّم الاقتصادي والاجتماعي، يتقدَّم إذاً على النموِّ. ونموُّ الناتجِ الوطنيِّ لا يمثِّل تقدُّماً، إلا إذا ترافَقَ مع ارتفاع مُستوى الحياةِ للشرائحِ الاجتماعيَّة الأكثرِ فقراً. لقد ساهمت الكولونيالية في ازدهار بلدان المركز، التي تفرِضُ اليومَ عَبْرَ الأمبرياليةِ والعولمةِ، إيقاعَها على بلدانِ الأطراف التابعة، وتجعلُ (إقلاعَها) مستحيلاً، في ظلِّ النظام الرأسمالي السائد. (1) فالنمو إذا حصلَ في هذا البلد التابع أو ذاك، لا يُزيل الفروق الكبيرة في بنيةِ المجتمع فيه (الأجور، والعائدات، والثروات...)، بل يجعلُها أكثر بروزاً وعمقاً. (2) والنموُّ هو رديفُ عدمِ التوازنِ الاقتصاديِّ. وهو يُنتج غالباً التدهور في ظروف الحياةِ وفي شروط العملِ، والتمركزَ المدينيَّ، وهجرةَ الريف، والإفقار. وانطلاقاً من هذه الوقائع، يزداد انتقادُ المظهر الكميِّ الصافي للنموِّ في بلدان الأطراف التابعة، وتزدادُ إدانتُه باسمِ جودةِ الحياة. II -2- في التنمية، ثانياً. وخلافاً لمقولةِ النموِّ، تفترضُ مقولةُ التنميةِ، وجودُ مكوِّناتٍ نوعيةٍ في حالةٍ اقتصاديَّةٍ، تسيرُ بها نحو التقدُّم، والعدالة الاجتماعية. وتمثِّل التنميةُ عندها، تطوُّراً لمجموعةٍ من مكوِّناتِ هذه الحالةِ، اقتصادية، واجتماعية، وإنسانية، وثقافية...، تدلُ كلُّها على مسيرةِ هذهِ الحالة، نحو حياةٍ عادلةٍ، لائقة. وتنطلق سياساتُ التنمية، من مقولةِ التخلُّف، المحصورةِ تاريخياً في البلدانِ المستعمَرة سابقاً (بفتح الميم) أي بلدان الأطراف الرأسمالية التابعة. ومن المنظِّرين من يقول، إنه على بلدان الأطراف التابعة، أن تقبلَ رسالةَ المركز الغربيِّ الحضارية، وأن تسعى لتلحَقَ بهِ، فتنخرِطُ في النظامِ الاقتصاديِّ العالميِّ، لتستفيد من الفتات. هذا ما يسمِّيه روستو (الإقلاع). ويقول آخرون، إنه على بلدان الأطراف التابعة، أن تَعتَمِد إستراتيجيةً لها هدفان، (1) الأول، تسريعُ نموِّها الاقتصادي. (2) والثاني، الحدُّ من الفقر السائد في مجتمعاتها. وهناك، من يريدُ لبلدانِ الأطرافِ التابعةِ، أن تنهج سياسةَ استئصالِ التخلُّف. ونقطةُ العبورِ إلى هذا الهدف، هي التحرُّر الاقتصادي، مرافِقاً للاستقلال السياسي. والاستراتجية الجماعيَّة هذه، هي التعبيرُ عن تضامنٍ سياسيٍّ بين بلدان الأطراف التابعة، على المستوى الإقليمي بخاصة. إنها سياسةٌ جماعيَّة مخطَّطة، تهدف إلى بناءِ نظامٍ إنتاجي وطنيٍّ، متمركزٍ على الذات، يهدفُ إلى بناء اقتصادٍ جماعيٍّ متكاملٍ، دونَ إهمالِ حاجاتِ المواطنين الأساسية. إنَّه نوع من الانكفاء الذاتي، يفترضُ "فك الارتباط" مع النظام الرأسمالي المعولم. وليس في هذا المفهومِ أيُّ نزعةٍ انطوائيَّة (Autracie). فهو يعني، أنه على بلدانِ الأطرافِ التابعةِ، أن تُسيطِر على طريقةِ اندماجها في النظامِ الاقتصاديِّ العالمي، فتنتقلُ من التبعيةِ إلى المشاركةِ، عَبْرَ إخضاعِ العلاقاتِ مع الخارج لمقتضيات البناءِ الداخليِّ. لذلك اصطدمت مجموعة باندونغ (1955 – 1975) بعداءٍ وحشيٍّ من قوى رأس المال العالمي آنذاك. وكل محاولةٍ جديدة، سوفَ تصطَدمُ بقوى رأسِ المالِ المعولَم المسيطرةِ، في الاقتصادِ كما في السياسة. ومفهومُ التنميةِ انطلاقاً من هذا الواقعِ، هو مفهومٌ نقديٌّ للرأسمالية، يقومُ على فكُّ الارتباط مع المركز الرأسمالي العالمي.
III- في الثقافة.
III-1- في الثقافة عند العرب. في لسانِ العربِ لابن منظور، الثقافةُ هي الحذاقةُ، والفهمُ، وسرعة التعلُّم. فيقالُ رجلٌ ثُقْفٌ، وثقِفٌ، أي حاذقٌ فَهِمٌ. وهو بيِّنُ الثقافة. وهناك في المعاجِم والقوامِيس العربية اليوم، إلى جانبِ تعريفِ ابنِ منظور، ثقافةٌ، جمعُها ثقافاتٌ، وهي التمكُّن من العلومِ والفنونِ والآدابِ، والغِنى الفكريِّ والمعرفةِ الواسعة، وهذه تُعرَّف بالثقافةِ العامة. ومثيلتُها في اتساع المعارف الموسيقية، هي ثقافةٌ موسيقية...، أو مثيلتُها التي تعرِّف خاصيَّاتِ حضارةٍ ما، كالثقافة الغربيَّة أو الثقافة العربيَّة ...، لنصلَ إلى صيغةٍ للجابري في تعريفِ الثقافة، هي أشبهُ ما يكون بتعريف الحضارة، إذ يقول، إن الثقافةَ هي هذا المركَّبُ المتجانسُ من الذكرياتِ، والتصوُّراتِ، والقيمِ، والرموزِ، والتعبيراتِ، والإبداعاتِ والتطلُّعات، والتي تحتَفِظُ لجماعةٍ بشريَّةٍ تشكِّل أمَّة أو ما في معناها، بهويتها الحضارية. والثقافة، هي المعبِّر الأصيل عن الخصوصية التاريخية لأمَّة ما. III-2- في الثقافة، في الغرب. والثقافة في الموسوعات الغربية، هي: (1) تغذية الفكر بتمارين عقلية، (2) وهي ثقافة عامة، (3) أو ثقافة متخصصة، (4) أو ثقافة إتنيَّة حضارية، (5) أو ثقافة طبقية فئوية. وهي تؤسِّسُ ربَّما لتعريف الجابري. (1) ومفردة الثقافة، هي من أصل لاتيني (Cultura). وهي تعني العناية والجهد المبذولين، لإبرازِ قيمةٍ حقلٍ معرفيٍّ خاصٍّ، ولإبرازِ الممارسة المعرفيَّةِ التي يتطلَّبُها هذا الحقلُ. فهي الفلسفةُ عند سيسرون، والنشاطُ الفكريُّ والممارسات الأدبيَّة، عند فرانسيس بيكون. (2) ودونَ التوقُّف عند كثرٍ، نقول إن المفهومَ المعاصرَ لمفردةِ الثقافة، هو مفهومٌ إنكلوسكسونيٌّ. وهيردر (Herder) هو المبتكرُ الفعليُّ للمفهومِ الحديثِ لكلمةِ ثقافة. وهو الذي أعطاهَا البُعد التاريخيَّ، عندما رأى فيها شكل الحياة لأمة ما، أو لشعب ما. وهو مفهوم مجاورٌ لمفهومِ كلمة حضارة. (3) ويمكِنُنا أعطاء مفردة ثقافة، تعريفاً فينومينولوجياً ظاهراتياً، أي الثقافةُ هي ظاهرةٌ خاصة بالجنس البشري، فهي كونية، وتاريخية، واجتماعية، في آن واحد. (4) وعند فجر الإتنولوجيا والأنتروبولوجيا الحديثتين، أعطى تَايْلُور (E.B. Tylor) للثقافة، التعريف التالي: كلُّ مركِّبٍ يتضمَّن المعارفَ، والمعتقداتِ، والفنَّ، والأخلاقَ، والقوانين. وكلُّ تنظيمٍ أو أَحكامٍ أو عاداتٍ، يكتسبُها الإنسانُ كعضوٍ في مجتمع. (5) إن قرناً من الأبحاثِ الأنتروبولوجية، قد حدَّد مضمونَ مفردةِ الثقافة، حيث يُعرِّف النهجُ الثقافيُّ في كلِّ مجتمعٍ ميزاتِه وخاصيَّاتِه، وهي، نظامُ الإنتاجِ والتوزيعِ الاقتصاديين، وإنتاجُ التقنياتِ، ونظامُ القُربي، والتنظيمُ العائلي، والتنظيمُ السياسي، والدين، وقواعدُ الحياةِ اليومية، والنظامُ الأخلاقي والقانوني، واللغة، وإنتاجُ الأساطير، والإنتاج الفني والفلسفي، والإنتاج العلمي. وفي التعريفِ الأنتروبولوجي المتقدِّم للثقافةِ، (6) نجد التطويريين بدايةً (Evolutionnistes)، الذين يَفترِضُون الانتشارَ البشريَّ من بؤرةٍ بدائيةٍ وحيدةٍ. (7) والبنيويِّين (Structuralistes)، الذين يشدِّدون على الخصوصيَّةِ التي لا تدجَّن لكلِّ حضارةٍ. (8) والوظيفيين (Fonctionnalistes)، الذين يعتبرونَ الثقافةَ مشتقَّةً من نظامٍ للحاجَاتِ، يتأسَّسُ على مفهومٍ بيولوجيٍّ وفيزيولوجيٍّ.
III-3- هل من نظريَّةٍ علميَّة للثقافة؟ ربَّما استطعنا، أن نصوغ تعريفاً للثقافة، أكثر التصاقاً بالحياة الجماعية الراهنة، فنقول، الثقافةُ هي هذا الكلُّ الذي يضم الأدوات المنزليَّة، والخيرات الاستهلاكية، والمواثيق التي تُنظِّم الجماعاتِ المختلفة. إنها الأفكار، والفنون، والمعتقدات، والعادات. وفي كلِّ مقاربةٍ لمفهومِ الثقافة، إنَّما نواجه جهازاً واسعاً بشرياً، ومادياً، وروحياً، يتيحُ للإِنسان القدرةَ على مواجهةِ المسائلِ التي يجابهها في حياته. وتعودُ هذه المسائلُ إلى كونِ الإنسان في جَسَده، عبداً لحاجاتٍ عُضوية. وهو يعيشُ في بيئةٍ هي أفضلُ حليفٍ له، وهي أيضاً أسوأُ أعدائه. ويستنتج مالينوفسكي من هذا التأكيد، في كتابه "نظريَّةٌ علميَّةٌ للثقافة"، أن نظرية الثقافة إنمَّا ترتكِزُ على البيولوجيا. فالكائناتُ البشريَّةُ هي جنسٌ حيوانيٌّ، عليها، لتعيش وتتكاثر، أن تبْتكِرَ المصنَّعات وتتسلَّح بها، لتخلُقَ بيئةً جديدةً اصطناعية تعيشُ فيها. نستنتجُ من ذلك خلاصتين، الأولى: إن تلبية الحاجات الأولية للإنسان، كالحاجةِ إلى الغذاء، والحاجةِ إلى التكاثر...، إنَّما تتمُّ بابتكارِ بيئةٍ جديدةٍ، اصطناعيَّة. وهذه البيئةُ الجديدةُ الاصطناعيَّةُ، ليست شيئاً آخر غيرَ الثقافة. والثانية: إن المستوى الثقافيَّ الجديدَ للحياةِ، يفترضُ ولادةَ حاجاتٍ جديدة، تفرُضُ نفسَها على السلوكِ الإنساني. وعلى هذه الثقافةِ، أن تنتقِلَ بالتأكيد من جيلٍ إلى آخر. والتحليلُ العلميُّ للثقافةِ، يسمحُ بتحديدِ علاقةِ الفعلِ الثقافيِّ بحاجةِ الإنسان. وهذا التحليل يسمِّيه مالينوفسكي، التحليل الوظيفي، لأن الوظيفة ليست سوى تلبية الحاجةِ بنشاطٍ ما. مبدأ آخرٌ يساعِدُ في إكمالِ مراحلِ التصرُّف الثقافي. إن هذا المبدأ هو التنظيم. والوحدة الأوليَّة للتنظيم، يسميِّها مالينوفاسكي المؤسسة. إنها مفهومٌ يفترضُ توافقاً عاماً من الناس، على مجموعةٍ من القيم التقليدية، كما يفترضُ أيضاً أنَّ الناس ينسجون علاقاتٍ فيما بينهم، ومع عناصرَ من بيئتهم الطبيعية والاصطناعية. إن صياغةَ مثلَ هذه المبادىء، لا يعني أن كلَّ الثقافاتِ متشابهة. وهناك طريقان للتحليل إذاً هما، التحليل الوظيفي، والتحليل المؤسساتي. ومن الضروريِّ بالتأكيد أن نُعطي لعامِل الزمنِ دورَه، أي أن نُعطي للتطوُّرِ دوره. فالتطوُّر يظهرُ قبل كلِّ شيءٍ عَبْرَ التحوُّلاتِ المؤسَّساتية. فبالابتكار أو بالتصميم، ينغرسُ الأسلوبُ التقنيُّ الجديدُ في نظامٍ من التصرُّفات موجودٍ مسبقاً، ويؤدِّي بالتدرُّج، إلى تغييرٍ كاملٍ في المؤسَّسة.
IV - في تكوين المهندس وتكوين المعمار.
ما هي الهندسة؟ ومن هو المهندس؟ من هو المعمار؟ وما هي العمارة؟
ما هي الهندسة؟ ومن هو المهندس؟ نعودُ إلى البداياتِ، حيث ينقُلُ عبد اللطيف فاخوري، عن ابن خلدون في مقدِّمته قولهُ، "إنَّ الهندسة تُفيد صاحبها إضاءةً في عقله، واستقامةً في فكره. لأن براهينها كلُّها بيِّنةُ الانتظامِ، جليَّةُ الترتيبِ، فيَبعُدُ الفكرُ بممارستها عن الخطأ". وبدأَ علمُ الهندسةِ يحظَى بالاهتمامِ عندنا، في أواخر القرن التاسع عشر، يقولُ، (أي عبد اللطيف فاخوري) مذكراً بكلمةٍ للشاعِر الشيخ أبو الحسن الكَسْتي تعودُ إلى العام 1881 قال فيها ما معناه: "إن العلومَ اليوم أصبحت كثيرة، ومنها علمُ الهندسة. وقد ظَهرَت منافعُه فتحسَّنت الأبنيةُ والطرق ... ونرى به العجائبَ الناشئة عن استعمالِ الخطوطِ المستقيمة والمُنحنيةِ، وأنواعِ الزوايا والدوائرِ ... أليسَ من جُملةِ فوائِده جلبُ الماءِ البعيدِ إلى محلِّ لزُومه؟". والمهندسُ، في اللُّغةِ العربيةِ، هو اختصاصيُّ مؤهَّل بدروسٍ فنيَّة عالية، لوضعِ التصاميمِ، وللاشتراكِ في البحوثِ الفنيَّة والتقنيَّة، ولاختراع الآلات، في المجالاتِ الصناعيَّةِ كافَّةً. وهو الذي يهندسُ للمباني والجسورِ وقنواتِ المياه. والمهندسُ، في اللُّغة الفرنسية القديمة، هو (engenieur). والتعريف مشتقٌّ من كلمةِ (engin) أي آلة حربية. واختصاصُه هو ابتكارُ آلاتِ الحروب. أما المهندسُ في اللغةِ الفرنسيةِ المعاصرة أي الـ (Ingénieur) فهو، شخصٌ تؤهِّلهُ معارفهُ الواسعَةُ ليحتلَّ وظائفَ عِلميةً أو تقنيةً. من هو المعمار؟ وما هي العمارة؟ والمِعمار في اللغةِ العربيَّة أيضاً، هو مهندسٌ يمارس مهنة العِمارة. أما المِعمارُ (Architecte) في اللغة الفرنسية، فأصلُها لاتيني وهو (Architetus). إنه الشخصُ الذي يتصوَّر المباني من كل الأنواع ويزيِّنها، ويُدير تنفيذهَا. وأصلُ الأصلِ في اللغةِ دائماً، هو كلمةٌ يونانيةٌ قديمةٌ مركبَّة من كلمتين: "أرخى" أي رئيس، و" تكتوس" أي الحرفيين. والمعمارُ إذاً، هو رئيسُ الحرفيين البنَّائين. وهناكَ مسافةٌ زمنيةٌ كبيرة، بين أولَ معمارٍ عُرِفَ في التاريخِ وهوَ المِعمارُ الفرعوني "إِمحوتب"، وبين المِعمارِ خرِّيجِ أكاديميَّات عصرِ النهضةِ في أوروبا. والمعمارُ الذي كان رجُلَ دينٍ في بدايةِ الأزمنةِ التاريخية، وصارَ رئيسَ البنَّائين الحرفييِّن في اليونانِ القديمة، ومهندساً في روما، أصبحَ في عصر النهضة، معماراً وفقَ تعريفِ اليوم. والعِمارة (بكسر العين) في اللُّغة العربيَّة، هي التشييدُ بالبناء. وهي مشتقَّةٌ من عَمَر(بفتح العين والميم)، أي سَكَنَ. والمكانُ العامرُ، هو المكانُ الآهل بالسكَّان. والعِمارةُ هي إقامةُ بناءٍ للحياة. وسكَنَ الرجلُ دارَه، أي أقام بها. والمسكنُ البيتُ. وهكذا يجتمعُ في العِمارةِ، الحياةُ والحجرُ والبشرُ. أي إنَّ العِمارةَ هي مثَّلثٌ من الإنسانِ والمكان والزمان. والعِمارة في الغرب، هي فنُّ بناء المباني وفقَ قواعدَ جماليةٍ، وهندسيةٍ (geométriques) ورقميَّةٍ (numériques) محدِّدة. وهذا الفنٌّ إجتماعيٌّ، إذ تُنظِّم العِمارةُ المجالاتِ، ليلجأَ إليها الناسُ في حياتِهم وفي أعمالِهم. وهي ليسَت المعلَمُ المميِّزُ فقط، بل إنها الملجأُ، والمأوى، والأثاثُ، وكلُّ المقتنياتِ الضروريَّةِ لحياة الإنسان. ولغةُ العِمارةَ الرئيسة منذُ نشأتها، كانت في الشكلِ، حيثُ تجاورَ النحتُ والرسمُ، وحيثُ تقدَّم البحثُ عن الجمالِ، دونَ إهمالِ الموادِّ، وطُرُقِ البنيان واقتصاديَّاتها. إن هذا الاهتمامَ المزدوجَ، قدَّم قراءاتٍ متباعدةً، لا مِقياسَ مشتركاً بينها سوى "التقنية". وفي هذا الإِطار نضعُ عِمارة بعضِ تيوقراطيَّات الشرق، حيث كان المِعمارُ رجلَ دين. وقد تَرك كلُّ ذلك أثراً في الأعمِدةِ اليونانية، وفي القِببِ، وفي المتخيَّلِ السماوي للكنيسة القوطية لاحقاً. أما عِمارةُ عصرِ النَّهضة، فهي عمارةُ المِعمارِ المحترِف، خرِّيج الأكاديمياتِ. لقد حدَّد معمارُ عصرِ النهضة لنفسِه، منحىً إنسانياً (Humaniste)، وأهملَ التقنياتِ، فضاقَ مجالُ عمله. أما المهندسُ، فأخذَ مجالُ عملِه يتَّسعُ باضطراد. ولم يكنْ هذا الاختلافُ بين المَنْحى الجماليِّ الإِنساني، وبين المَنْحى التقنيِّ الصَّافي، ظاهراً في البدايةِ بشكلٍ كافٍ. لكنَّه ما لبثَ أن أخذ يبرزُ بوضوحٍ متزايدٍ، بدءاً من النصفِ الثاني من القرنِ التاسع عشر.
V - التعليم الهندسي، المؤتمرات الهندسية العربية، والتنمية.
V-1- التعليم الهندسي. تعود بدايةُ التعليمِ الهندسيِّ في الوطن العربي، إلى العام 1816، حين أقامَ والي مصر محمد علي باشا، مدرسةَ المهندسخانة. ضُمت المهندسخانةُ، وقد أصبحت مدرسة الهندسة الملكية، إلى الجامعة الأهلية في مصر، في العام 1935. وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر، تأسست في بيروت الكلية الإنجيلية السورية، التي أصبحت لاحقاً الجامعة الأميركية في بيروت وفيها كليَّة للهندسة. كما تأسَّست في بيروت أيضاً، جامعةُ القديس يوسف للآباء اليسوعيين الفرنسيين، وفيها مدرسةٌ عليا للمهندسين. وعمَّت الجامعاتُ بعد الاستقلال، معظمَ البلدانِ العربية، وفيها كلِّياتٌ للهندسة. وامتد التعليم الهندسيُّ من القطاعِ العام إلى القطاع الخاص. ومع توسُّع التعليمِ الهندسيِّ في الوطنِ العربيِّ، ومع نهوضِ حركة التحرُّر الوطني العربية، تأسَّس اتحاد المهندسين العرب في نيسان/إبريل من العام 1963. وكان قد سبق تأسيسه، المؤتمرُ الهندسيُّ العربي الأوَّل، (الإسكندريَّة – 1945).
V- 2- المؤتمرات الهندسية العربية. أربعةٌ وعشرون مؤتمراً هندسياً عربياً، في ثمانيةٍ منها كان التعليمُ الهندسيُّ المحورَ الرئيس. عالجَ المؤتمرُ الخامسُ (القاهرة -1954)، برؤيةٍ تنمويةٍ، موضوعةَ إعداد الحرفيين الصناعيين، والفنيين، كحلقةِ وصلٍ بين المهندسين والعمال، وقد حدَّد المؤتمرُ مضمونَ التعليم ومكوِّناته، وسنةَ التدريب الإلزامية. أما المؤتمر التاسع (بغداد – 1964)، فقد تابعَ الرؤيةَ التنمويَّة على المستويين الوطني والقومي لمكوِّنات التعليمِ الهندسي، فأوصى بتطويرِ البرامج لمواكبة التقدُّم العلمي والتكنولوجي، وبعقدِ اجتماعاتٍ دوريةٍ للمسؤولين عن التعليم الهندسي. كما أوصى بدعمِ حركةِ الترجمةِ والتأليف، وبتشجيعِ البحثِ العلميِّ. وفي المؤتمر الهندسي العربي الثاني عشر، (القاهرة - 1972)، أكَد المؤتمرون موضوعةَ الاهتمام بالبرامجِ، وبالدوراتِ اللازمةِ، لاستمرارِ تعليمِ المهندسين طوال حياتهم. كما أوصُوا، بتشكيلِ لجنةٍ عليا لتخطيطٍ شاملٍ للتعليم الهندسيِّ، ورَبطِه بالنشاطاتِ العمرانية والصناعيَّة في كلِّ بلدٍ عربيٍّ. أما المؤتمر الهندسي العربي الرابع والعشرين (عمَّان – 2007)، فقد خُصِّص بكاملِهِ للتنميةِ، وللتعليم الهندسي. وتمحورت الأبحاثُ فيه حولَ (1) التقويمُ الذاتيُّ، (2) والتطويرُ المهنيُّ المستمر، (3) والإبداعُ والابتكار، (4) والاتجاهاتُ الحديثةُ في التعليم الهندسيِّ، (5) والتعليمُ الهندسيُّ والصناعة، (6) والتعليم الالكتروني، (7) ومُخرجات التعليمِ الهندسي وسوقُ العمل. تُظهِرُ المحاورُ الرئيسةُ، نِظرةَ المنظِّمين إلى التعليمِ الهندسيِّ، بكونهِ رافعةً رئيسةً للاقتصادِ الوطنيِّ والقوميِّ، الهادِفِ إلى الارتقاءِ بمُستوى الحياةِ في المجتمعاتِ العربية، وإلى تحقيق جزئيَّاتٍ تنمويَّةٍ، تُنتزع من سيطرةِ رأسِ المالِ المعولم. كما تظهَرُ هذه النِظرةُ، في أبحاثٍ رئيسة (1) مثل تطوير العلاقة بين التعليم الهندسي، والصناعة، (2) وتطويرُ البرامج وتفاعلها مع سوق العمل، (3) والتعليمُ الهندسيُّ والتنميةُ المستدامة، (4) والتطويرُ المهني المستمرُّ، ودورُ المهندسين في عمليَّةِ التنمية (5) والتعليمُ الهندسيُّ ودورُه في التنميةِ الصناعية.
VI - تعليمُ العمارةِ في الوطن العربي، والتنمية.
VI-1- واقع تعليم العمارة في الوطن العربي. لم يُنظرْ إلى العِمارة، باعتبارِها مجالاً مهنياً مستقلاً. ولم يُنظَرْ إليها بأن لها نهجاً تعليمياً مميِّزاً. بل انتقَلَ الخلافُ بين الاتجاهين الإنسانيِّ والتقنيِّ، إلى مؤسَّسات تعليم العِمارة. فاعتبرَها الاتجاهُ الجماليُّ الانسانيُّ جزءاً من تعليمِ الفنونِ، واعتبرَها الاتجاهُ التقنيُّ الصافي، جزءاً من تعليمِ الهندسة. وفي حين أصبحَ لتعليمِ العمارةِ الحديث في أوروبَّا وفي أميركا، مدارسُ، أو معاهدُ، مستقلَّةٌ تُعلِّم العِمارة، لا نزال في الوطنِ العربيِّ ننظرُ إلى هذا التعليمِ، بكونِه مُلحقاً يتمُّ في أقسامٍ داخل كليَّاتِ الهندسة، وأحياناً في أقسامٍ داخلَ كلياتٍ أو معاهدَ للفنون. مع بعضِ الاستثناءَاتِ في المغرب العربي. أما في سورية، فتدرَّس العِمارةُ في كليَّة مستقلةٍ هي كليَّة الهندسة المعمارية. وربَّما وجدنا تنظيماً مشابهاً، في جامعةِ بيروتِ العربية.
VI-2- إشكالية تعليم العمارة في الوطن العربي، ومقتضيات التحديث. وتحكُم تعليمَ العِمارةِ في الوطنِ العربيِّ اليوم، إشكاليةٌ تَبرُزُ في المشهدِ المبني الملوَّث، والمنتشِرِ في المدنِ العربيةِ، وفي مُعظم البلداتِ. كما تبرُزُ في البنيان العشوائيِّ، يدمِّرُ البيئةَ الطبيعيَّةَ، والتراثَ، والمناطقِ الأثريَّة. وإننا إذ نقرأُ في مقدِّمةِ ميثاق اليونسكو والاتحاد الدولي للمعماريين حول "تكوين المعماريين"، "أن ما يتصوَّره ويُنجِزُه المعماريون في البيئةِ المبنيَّةِ اليوم، هو نسبةٌ متدنيَّةٌ بشكلٍ مُستغْرب. وهناك إِمكانياتٌ لتطويرِ مهمَّاتٍ جديدة، إذا وعى المعماريُّون الحاجاتِ المتزايدة، في مجالاتٍ لم تكن مكانَ اهتمامٍ كبيرٍ من المهنة. لذلكَ وجَب تنويعُ ممارسةِ المهنةِ، وتنويعُ التكوينِ النظريِّ والعملي للمعماريين." (انتهى) نُدرِك إثرَ قراءَةِ هذا النص، أنَّ الإشكالية المطروحَة هي إشكاليةُ أَزمَة، تعودُ في جزءٍ منها، إلى الممارسةِ المهنيَّةِ لكلٍّ من المعمارِ ومخطِّط المدنِ. والممارسةُ هذه، ليست سوى ناتج مباشر للتكوينِ الأكاديميِّ للمعمار، وللعلاقةِ غير المتكاملة بين الثقافةِ والتقنية في هذا التكوين. وفي تقويمٍ لتكوينِ المعمار اللبناني ربَّما استطعنا القولَ، إن المعمار اللبناني الشاب كتقنيٍّ، يجدُ بصعوبةٍ موقِعَهُ وسط المهندسين التقنيين المتعدّدي الاختصاصات. وإن المعمار اللبناني الشاب كمثقَّفٍ، يواجِهُ الصعوبةَ ذاتَها، عندما يتصدَّى لإدارةِ الفريق ِ المهنيِّ الذي تعودُ إليه اليومَ صناعةُ البنيان وانتشارُه. إنه في تكوينه نصفُ تقنيّ، ونصفُ مثقَّف. وربَّما أصبحَ بمواجهةِ هاتين الصعوبَتين ضحيَّةَ التهميشِ، وضحيَّة البطالة أيضاً. لذا وَجَبَ علينا الإجابةَ على إشكاليةٍ ثنائيَّةٍ، هي: أيُّ معمارٍ نُريد؟ ولأيةِ ممارسةٍ مهنيَّة؟ والجواب على السؤال الأول، أيُّ معمارٍ نريد؟ هو، بتكوين المعمار المثقَّف المسؤول اجتماعياً، والمزوَّد بثقافةٍ معماريَّةٍ، ومدينيَّةٍ، وبيئية شاملةٍ، تُدرِك ضرورةَ التكامُل بين العِمارةِ، والمدينةِ، والبيئةِ المبنيَّة بعامَّة. كما تُدركِ أيضا ًضرورةَ التكامُلِ بين العِمارة، والمكانِ، والمشهد الطبيعيِّ فيه. كما تحرُصُ، على حمايةِ التراثِ الوطنيِّ المبنيِّ والطبيعيِّ وعلى الثرواتِ والموارد الطبيعيَّة، بما يساعدُ في تأمين تنميةٍ وعمارةٍ مستدامتين. بثقافةٍ نقديَّة حرَّة، نقيضة ثقافةِ الصورة، والمشهديَّةِ، والإِبهار، تتعاملُ بثقةٍ مع مختلَفِ التياراتِ المعمارية الوافدةِ بغزارةٍ. وبمعرفةٍ تقنية كافية، وبثقافةٍ علميَّةٍ منفتحةٍ على المعارفِ الراهنة، يختارُ منها الملائِم. وبثقافةٍ وطنيَّةٍ واجتماعيةٍ، تُعزِّز دورَ المِعمار المميَّز، وتحدِّد مسؤولياتِه الاجتماعية. أما الجواب على السؤال الثاني، لأية ممارسة مهنية؟ فهو بتكوين المعمار المؤهَّل لممارسةٍ مهنيَّة مرنة بمرونَةِ الإعداد الأكاديمي له ، وهو تعليمٌ عالٍ، مُرتبطٌ بالبحثِ العلمي، وبإمكانِه تقديم مروحةٍ واسِعةٍ من الممارسات المهنيَّة المتنوِّعة. VI-3- العمارة والهُويَّة، والثقافةُ المعماريَّة. لقد عالجت المؤتمراتُ الهندسيَّةُ العربيَّةُ التي أَشَرنا إليها سابقاً، مسألة طابع العمارة وهويتها. فأوصى المؤتمر الحادي والعشرون (بيروت – 1998)، بإنشاءِ مَركزٍ عربيٍّ للأبحاثِ المعمارية، من أهدافهِ تحديدُ المكوِّنات الأصيلة للتراثِ المعماريِّ العربيِّ، وتغطيةُ النقصِ الواضحِ في معرِفةِ المهندسِ والمعمارِ العربيِّين لهذه المكوِّنات، وتوجيهُ العِمارة العربيَّة الحديثة، في اتجاهٍ يتلاءَمُ مع بيئةِ المجتمعاتِ العربية وهويتها. كما أوصى الجامعاتِ وكلياتِ الهندسة، ومعاهدَ الفنونِ الجميلة، بتغطيةِ النقصِ الواضح في الثقافةِ المعمارية، وفي الثقافة العامة في مجال الفنون الجميلة وتاريخها. وحدَّد المؤتَمرُ بوضوحٍ ثقافةَ المعمارِ العربيِّ، وفيها معرفتُه الضروريَّة للبيئةِ الطبيعية، والاجتماعيةِ، والتاريخيَّةِ، والثقافيَّة، حيث يبني. كما صَاغ له توجُّهاً في ممارستِه المهنيَّة، ينطلقُ دائماً من حاجاتِ المجتمع، ومن قدراتهِ الاقتصادية والمالية والتقنية. وحدَّد المؤتمَرُ دورَ مؤسَّساتِ التعليمِ ما قبل الجامعي، في تكوين ثقافةٍ معماريةٍ عامةٍ تتعدَّى المدرسةَ إلى المجتمعِ بكامله، ولا تقتصرُ على الوجهِ الجماليِّ للعِمارة، بل تتعدَّاهُ إلى مسألةِ ارتباطِها بالحاجاتِ الاجتماعية. VI-4- هيئة المعماريين العرب، وتعليم العمارة. كثُرتْ المؤتمرات الهندسية العربية كما رأينا. وعالجت بعضُ هذه المؤتمراتِ، مسألةَ العِمارة ومسألةَ تعليمها كواحدٍ من محاورها. ولم تُعقد إلى الآن، سوى ورشة عملٍ واحدةٍ مخصَّصةٍ للعمارة، ولتعليمها (بيروت – 2006). وقد نظَّمتها هيئة المعماريين العرب. إطارٌ فكري جامعٌ، حدَّد مضامين محاور الورشة السبعة. في الإطارِ الفكريِّ الجامعِ، تمهيدٌ يؤكِّدُ إجماع المعماريِّين العرب، على الاعتقادِ بأن معظمَ المدنِ العربيةِ تَنمو بشكلٍ عشوائيّ. فتتضخَّمُ وتكتظُّ بناسها وتختنِقُ بهم، نتيجة سياساتٍ غير متوازنة تدمِّرُ الريف وتدفع بسكَّانِه نحو المدينة. ونتيجةَ مضارباتٍ عقارية ضخمة، لا يمكِنُ ضبطُها. وكثيرا ً ما تسودُ في التنظيم المديني، نظريَّات "الأرضِ المحروقة" التي تَلتَهمُ المُتبقِّي من طابعِ معظم المدن العربية ومن هُويتها. ويُجمُع المعماريون العرب أيضا ً، على الاعتقاد بأن النسيج المديني في معظم المدن العربية، هو نسيج قامعٌ مغرِّبٌ، غَزتْهُ عِمارةٌ ملوَّثة وملوِّثة، فقدت كل قيَمها. فلا قيمةَ اجتماعيةَ فيها، ولا قيمةَ انتفاعية، ولا قيمةَ جماليَّة، ولا وجود فيها لأيَّةِ قيمةٍ رمزية. إلا، إذا دلَّت الأبراجُ التي تُشيَّدُ في هذه المدينة العربية أو تلك، على سلطةِ رأس المال وجبروتهِ. فيتساءلون، ما هو دور المعماريين العرب في كل ذلك!؟ وما هي مسؤوليتهم !؟ وتساؤلاتٌ مثل، لماذا الورشة؟ وما هو برنامجها؟ تساؤلاتٌ تطرحُ مسألتين رئيستين، الأولى، وهي المسؤولية الاجتماعيَّة للمعمار العربي، ودورُ الممارسةِ المهنيَّة للمعماريين العرب، في كتابةِ عمارةِ المدنِ العربيَّة، معتمدا ً تعريفَ ألدوروسِّي لعمارةِ المدينة. والثانية، وهي دورُ التكوين الأكاديميِّ والمعرفيِّ للمعماريين العرب، في ممارستهم المهنية. تطرحُ ورشة العمل، مسألةَ "تعليم العمارة في الوطن العربي". فتعودُ إلى البداياتِ في تعليمِ الهندسةِ وفي تعليمِ العمارة. وتبحثُ في دور الإرساليات الغربية، وفي دور جامعاتها. ثمَّ تشدِّدُ على التعليم الهندسيِّ وتعليم العمارة في زمن الانتداب. وتلاحِظُ استمرارية البرامجِ الكولونياليَّةِ، في العهودِ الاستقلالية. يلي ذلك بحثٌ معمقٌ في مضمونِ تعليمِ العمارة اليوم. ماذا نعلِّم؟ كيف ننقلُ إلى الطلاَّبِ مقولاتٍ ومفاهيمَ معقدةً، كمفهومِ العلاقة بين العمارة والمدينة والمجتمع ؟ أو مفهومَ العلاقةِ بين العمارة والنظريَّةِ والبنيان؟ أو المفهوم الأكثر تعقيداً؟ وهو مفهوم العلاقة بين العمارة والتراث والحداثة؟ ماذا نعلم إذا ً، في ظلِّ نفوذ المعماريين النجوم؟ وفي ظلِّ قوَّة تكنولوجيا المعلومات؟ وسطوةِ الإبهار بالصورة؟ وما هي العلاقةُ بين تعليمِ العِمارة في الوطنِ العربيِّ اليوم، وما يسمَّى بالفنون الإبداعية أو الفنون الجديدة، كالتجهيز، والبرفورمانس، والصورة الرقمية، والفيديو آرت، والكوبي آرت؟ وكيف نعلِّم العِمارة في ظلِّ العولَمَة، وثقافة السوق السائدة؟
VII - العمارةُ، كما نعلِّمها.
العمارة كما نعَلِّمها؟ لتعليمِ العِمارةِ عناوينُ كبرى، ونحن نعلِّم، المكانَ، والزمنَ، والشكْلَ، والمجالَ، والرابطَ، والانتقالَ، والأُلفة الحميمَة، والمجالَ المتقاسَمَ، والمتطلِّباتِ، والموجِباتِ، والتجديدَ، والحركةَ، والإنشاء ... وغير ذلك أيضاً. نُعلِّم ما ننظرُ إليه عندما نُنْهي بناءَهُ، وما ننسَاه عندما نسكُنُه أو نستعملُهُ، ونجولُ فيه وحولَه، كما يقول ماسِّيميليانو فوكساس. وتعليمُ العِمارة هو أن نأخُذَ على عاتِقنا، نَقلَ معارفِ التاريخ، والعلومِ الإنسانيَّة والاجتماعية، والفنِّ، وتقنياتِ البنيانِ، وتطويعَ النظرِ، كي يكونَ قادراً على الالتصاق، وعلى المسافة. تعليمُ العِمارة، هو أن نعلِّمَ كيف نبني مجالاً للآخر، يكونُ في الوقتِ ذاته تعبيراً عن فرادتِهِ، وعن التعرُّفِ عبْرَ هذه الفرادة، على انتماءٍ مشترك. تَفرِضُ العِمارةُ معارفَ متعدِّدة، كما تفرِضُ القُدرةَ على التنفيذ. فهي، تستخدمُ الفِكرَ والفَبركةَ، كما يقول رينزو بيانو. أستعير قبل الخلاصة، فقرتين من ميثاق اليونسكو والاتحاد الدولي للمعماريين في صيغته الأخيرة المنقَّحة (للعام 2005). في الفقرة الأولى، "رؤيةُ المستقبل في مدارسِ العمارةِ، عليها أن تتضَّمنَ (1) جودةٌ في حياةِ الناس في كلِّ العالم. (2) استعمالُ التكنولوجيا، مع احترام الحاجاتِ الاجتماعيَّةِ والثقافيةِ والجماليةِ للناس في كلِّ سياق ٍ ثقافيٍّ محدَّد. استعمالُ الموادِّ الملائمة، والسهرُ على الكلفةِ في التشييد وفي الصيانة. (3) تطورٌ ايكولوجيٌّ متوازنٌ ومستدامٌ في البيئة الطبيعيَّة والمبنيَّة، والاستعمالُ العقلانيُّ للموارد المتوافِّرة. (4) عمارةٌ تُعتَبَر ملكَ كلِّ فردٍ في المجتمع، ومسؤوليَته. (5) إدخال القضَايا المتعلِّقة بالبيئة وبالعِمارة في التعليمِ العام (الابتدائي، والتكميلي، والثانوي). (6) إقامةُ نظامٍ للتعليم المستمر للأساتذة وللمعماريين الممارسين على السواء، إذ إن عملية التكوين لا تنتهي. إنها مستمرَّةٌ مدى الحياة". وفي الفقرة الثانية، "وأبعدُ من المظاهرِ الجماليَّة والتقنيَّة والماليَّةِ، والمسؤولياتِ المهنيَّة، فإنَّ الاهتماماتِ الكبرى المعبَّر عنْها في هذا الميثاق، هي الالتزامُ الاجتماعيُّ للمهنة أي أن يعي المِعْمارُ دورَه ومسؤوليتَه في المجتمع حيثُ يعيش، ودورَه في تحسينِ نوعيَّة الحياةِ فيه، عبرَ مساهمتِهِ في إقامةِ منشآت إنسانيَّةٍ تدوم".
VIII - هل من خلاصة؟ لهذا النص؟
1- يعتقد البعض، أن تنمية بلدان الأطراف التابعة، (النامية وفق التعبير المقنَّع)، تتحقَّقُ عَبْرَ خطواتٍ اقتصاديَّةٍ محدَّدة، معظمُها معروفٌ ومتداول. 2- إن هذا الاعتقادَ بالقدرةِ على تحقيق التنميةِ، عَبْر ما أسميِّه "الاقتصاد الصافي" (Economie Pure)، تُعطي مفهومَ التنميةِ مضموناً محدَّداً، هو الانخراطُ غير المشروط في الاقتصاد الرأسمالي العالمِّي المعولم، بهدفِ اللِّحاق ببلدان المركز الغربي. ووهم اللحاق هذا، للبلدان التابعة بالمركز الغربي، لن يُنتِجَ غيرَ وهم "الإقلاع"، الذي بشَّر به "روستو". 3- ومفهومُ التنمية، عليه بالضرورة أن يكون مفهوماً نقدياً للرأسمالية، يبدأُ بفكِّ الارتباط مع المركز الغربي، وبالتخلِّي عن وهمِ اللِّحاق به، ويرفُض رسالةَ المركزِ الغربيِّ الحضاريَّة، ويحاولُ بناء شيء آخرٍ مختلف. 4- فلا أَرى ثقافةً خاصَّةً بالتنمية، بل أَرى التنميةَ كمفهومٍ، جزءاً من ثقافةِ التحرُّر الوطنيِّ الناجزِ.
المراجــع.
1- لسان العرب- لابن منظور الإفريقي المصري – المجلَّد التاسع – دار صادر– بيروت. 2- عبد الله العلايلي – المرجع – المجلَّد الأول – دار المعجم العربي – بيروت 1963. 3- جورج قرم – مدخل إلى لبنان واللبنانيين، تليه اقتراحات في الإصلاح – دار الجديد – بيروت 1996. 4- سمير أمين – نقد روح العصر – دار الفارابي – بيروت 1998. 5- المنجد في اللغة العربية المعاصرة – دار المشرق – بيروت 2000. 6- سمير أمين – الاقتصاد السياسي للتنمية، في القرنين العشرين والواحد والعشرين – دار الفارابي – بيروت 2002. 7- المؤتمرات الهندسية العربية (1945 -2005 ) القرارات والتوصيات –الأمانة العامة لاتحاد المهندسين العرب – بيروت 2005. 8- تعليم العمارة في الوطن العربي – هيئة المعماريين العرب – إعداد رهيف فياض وآخرون – بيروت 2008. 9- رضوى عاشور – الحداثة الممكنة – دار الشروق – القاهرة 2009 10- رهيف فياض – تعليم العمارة في معهد الفنون الجميلة – الجامعة اللبنانية – معهد الفنون الجميلة – الفرع الرابع – بيروت 2011. 11- المهندس – العدد 28 – آذار 2012. 12- Grand Dictionnaire Encyclopedique – Larousse. 13- Charte UIA/UNSECO De La Formation Des Architectes Version Revisée. 14- Bronislaw Malinovsky – Une Theorie Scientifique De La Culture – François Maspero – Paris 1968. 15- Aldo Rossi - L’architecture De La Ville – L’equerre – Paris 1981. 16- L’architecture En Questions – Le Moniteur – Paris 1996. 17- Renzo Piano – Carnet De Travail – Seuil – Paris 1997. 18- Françoise Choay – Pour Une Anthropologie De L’espace – Seuil – Paris 2006
#رهيف_فياض (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الأبنية البرجية في النسيج المديني المعاصر
المزيد.....
-
معالجات Qualcomm القادمة تحدث نقلة نوعية في عالم الحواسب
-
ألمانيا تصنع سفن استطلاع عسكرية من جيل جديد
-
المبادئ الغذائية الأساسية للمصابين بأمراض القلب والأوعية الد
...
-
-كلنا أموات بعد 72 دقيقة-.. ضابط متقاعد ينصح بايدن بعدم التر
...
-
نتنياهو يعطل اتفاقا مع حماس إرضاء لبن غفير وسموتريتش
-
التحقيقات بمقتل الحاخام بالإمارات تستبعد تورط إيران
-
كيف يرى الأميركيون ترشيحات ترامب للمناصب الحكومية؟
-
-نيويورك تايمز-: المهاجرون في الولايات المتحدة يستعدون للترح
...
-
الإمارات تعتقل ثلاثة أشخاص بشبهة مقتل حاخام إسرائيلي في ظروف
...
-
حزب الله يمطر إسرائيل بالصواريخ والضاحية الجنوبية تتعرض لقصف
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|