|
سيرَة حارَة 2
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 4247 - 2013 / 10 / 16 - 19:14
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
1 " جماعة كفتارو "؛ كانوا مجموعة من الشبان الملتفين حول المفتي العام السابق للجمهورية، وتحديداً ممن كانوا يحضرون دروسه في " مسجد أبو النور ". هذا المسجد، يقوم في منطقة " الأيوبية "، الواقعة عند حدّ حيّ الصالحية، المجاور. ابن خالتي، " مهدي "، كان من أبرز وجوه هذه الجماعة. على ذلك، كان يحاول جاهداً أن ينشّط الفكر الديني في حارةٍ يغلب عليها الولاء الشيوعي والقومي الكردي. ذات مرة، وكنتُ في الإعدادية بعدُ، سمعت جلبة عند باب دارنا. وبما أنّ صوت أخي " جينكو " تناهى من هناك، فقد اعتقدت أنه مع واحد من همشريته. ما أن أطللت من الباب، حتى رأيت شقيقي الكبير هذا يتكلم مع ابن خالنا معتذراً عن عدم استطاعته حضورَ الدرس الإرشاديّ . وما لبث " جينكو " أن أشار نحوي فجأةً، مخاطباً المرشد: " ليذهب أخي معك، هذه المرة ". هز ابن خالنا رأسه وهو يحدجني بنظرة مواربة، ثم مضى في سبيله دونما أن ينطق بكلمة....! " الدكتور محي الدين "؛ هو اليوم أحد كبار المرشدين في الشام. إنه من " آل لحّو "، الفرع النصراني الذي يحمل كنيتنا، مذ أن أسلمَ أسلافهم ورافقوا أسلافنا من ثمّ إلى الشام الشريف. وعلى الرغم من أنه يكبرني بعامين على الأقل، فقد كنت وإياه بفصل واحد في الصف السادس الابتدائي. وعلى حدّ علمي، فإنه لم ينل سوى الشهادة الابتدائية. إلا أن كثيرين من أمثاله، في سورية الأسد، قد حصّلوا شهادة الدكتوراه من جامع الأزهر في القاهرة. حينما كنت فتىً في أوج حماسي للأفكار اليسارية، كان " ابن لحّو " هذا ينشط مع جماعة كفتارو. في أحد أيام الصيف، مررت على الخيمة التي نصبها أفراد من الجماعة على ناصية موقف ابن العميد ( الجوزة )، وكانوا يكنزون فيها تلاً من البطيخ. كنتُ صديقاً لشقيق أحدهم، حيث علمت أنه موجود ثمّة. على الأثر، حضرَ صاحبنا " محي الدين " أيضاً وقد بدى على ملامحه الغضب: " ولك أنا أبو الحسن!.. كيف يجرؤ هؤلاء الكلاب على تهديدكم؟ "، كان يردد أمام جماعته. على حين غرة، وإذا بسيارة مخابرات ( من نوع لاندروفر القديم ) تتوقف أمام الخيمة، التي كان يصدح منها آيُ الذكر الحكيم من جهاز مسجّل. أطلّ من سيارة الدورية رأسُ أحد عناصرها، فوجه خطابه نحونا بلهجة ريف الساحل منذراً: " ولاه!.. ما قلنا لكم، ممنوع إقامة شادر بدون ترخيص من الأمن؟ " " إننا من طرف فضيلة مفتي الجمهورية، وكنا ننوي بيعَ البطيخ لصالح صندوق خيري لفقراء الحيّ "، أجابه " أبو الحسن " الغاضب. هذا المسكين، ما عتمَ أن وجدَ نفسه تحت أقدام أفراد الدورية، الذين راخوا ينهالون فيه ركلاً ولكماً مع شتائم مقذعة. ثمّ ما لبثوا أن جروه إلى السيارة، لينطلقوا به إلى مجاهل مقرّهم. بعد بضعة أيام، ولجتُ دكان قريبنا الحلاق، وإذا بي أفاجأ بمرأى " محي الدين " ثمّة. وعلى ما يبدو، فإنه كان يحدّث الحاضرين بتفاصيل " وقعة الخيمة ". فإذا به يلتفت نحوي، قائلاً بنبرة منتصرة: " ها هوَ ابن العم، كان شاهداً أيضاً على مواجهتي لرجال المخابرات!.. معلوم، ولك أنا أبو الحسن ! ".
2 في طفولتنا، كانت تبدو ساحة " مسجد سعيد باشا "، بما فيها من بيوت ومحلات، على منقلب آخر. ها أنا أتأمل صورة فوتوغرافية، تعود لتلك الأيام التليدة: لكأنما هذا الرجل، ذو الملابس العربية، هو " أبو علي قادريكي " الذي كان دكانه يقع إلى الخلف مباشرةً ملتصقاً بصالون " فيصل دقوري ". لأنّ جماعة " المللية "، في الحارة، كانوا آنذاك ما زالوا يرتدون هذه الملابس. الرجل على الحصان، هو أحد الباعة المتجولين ممن اعتدنا في ذلك الوقت على مرورهم اليومي، وهم محملون بخضار وفواكه ريف دمشق، الطازجة. سيارة اللاندروفر، من ناحية أخرى، كانت علامة على وجود السلطة؛ خصوصاً أنها كانت تستخدم وقتئذٍ من لدن رجال المخابرات والمباحث.... " صالون فيصل "، المشهور ببيع البوظة والمرطبات، كان قديماً مقهىً يعجّ بالروّاد والسمّار. ذات مساء، غشى المقهى " فيّو " ابن عمنا الكبير، الذي كان شبه أصم، وكان برفقة ابن عمّتنا " خلّو ". هذا الأخير، كان قد تطوّع حديثاً في سلك الدرك. على ذلك، دخل متبختراً بملابسه الرسمية المهيبة ، وما عتمَ أن نادى النادل. يبدو أن الزبائن كانوا كثراً في تلك الساعة، فلم يستجب النادل لنداءات ابن العمّة المتكررة. " المعلّم فيصل "، صدف أن مرّ عندئذٍ بحَذاء طاولة قريبينا، فسأله عن سبب صياحه وغضبه. " فيّو "، ولكونه لا يسمع جيّداً كما قلنا ( ناهيك عن الضجة المصمّة في المقهى )، فإنه اعتقد أن ابن عمّته قد دخل في مشادة ما مع صاحب المقهى، فإذا به ينهض بوجه هذا المعلّم، مشهراً مديته: " بهيله أز دخيو وعرصه وينو: دعني أفعل كذا وكذا بشرفه! "، كان يصرخ وهو مندفعٌ بدون هوادة. أما المعلّم، المأخوذ على غرة، فكان يحاول إذاك أن يتحاشى المهاجم فيما هو يردد بدَوره: " يوَل خلّو، أف ديني حرام بكَره: ولك خلّو ، أبعد عني هذا المجنون! ". إلى أن تمكن ابن العمّة من تهدئة قريبه المهاجم، بمعونة من الحاضرين. ثمّ أدنى " خلّو " فمه من أذن ابن خاله، لكي يوضح له بصوت عال أن المسألة كلها سوء فهم ولا تحتاج لاستعمال السلاح! ".
3 مع انتهاء الوجود العثماني، وما تبعه من ترسّخ الانتداب الفرنسي، تقلّص حجمُ التأثير الكردي في المجتمع الدمشقي ( وهذا أيضاً كان شأن النخب السنية الأخرى )، ولم يعُد يعتمد على سلطة الآغوات من قادة الجند. غير أن قيام الثورة السورية الكبرى، جعل الفرنسيين يعيدون النظر في موقفهم من موضوع التجنيد. فما لبثوا أن شكّلوا جيش الشرق، ليضمّ بين صفوفه أبناء المكونات الاثنية والمذهبية في مواجهة الأكثرية السنية، الثائرة. هكذا عاد الكردُ لكي يعيدوا سيرة أسلافهم، فتطوعوا في هذا الجيش الجديد وصار لديهم على الأثر قوّة خاصّة اسميت بـ " الفوج الكردي ". كما أن آخرين من أبناء حيّهم انتسبوا لسلاح الدرك، فخدموا في الأرياف القريبة أو النائية. هؤلاء الأخيرين، اشتهروا بميلهم إلى السلب والنهب؛ لدرجة أن المثل الشعبي قد انطبق تماماً عليهم: " حاميها حراميها "....! " علي حسّو "، كان زوج ابنة عمتي، الوحيدة. ها هوَ في مساء أحد الأيام ممتطياً فرسه، يتقدّم فصيلة من مرؤوسيه الدركيين، في الطريق إلى إحدى قرى غوطة دمشق. في تلك الأيام، حينما كان أهالي الريف يلحظون اقتراب الفرسان الكرد من قراهم، فإنهم اعتادوا أن يفتحوا أبواب الحظائر لكي يطلقوا الدجاج في البرية خوفاً من النهب، ثم لا يلبثون ان يستعيدوها لاحقاً. وإذاً، استقبل مختار تلك القرية قريبنا ومساعديه، ثمّ دعاهم بترحاب إلى مضافة منزله. أما بقية أفراد الفصيل، فإنهم انتشروا في المنازل الأخرى بحثاً عن رزقهم، المعلوم. " علي حسّو "، ما لبث أن تململ إثر مرور الوقت وانتهاء شرب القهوة. فما أن لاحظ المختار ذلك، حتى توجه إلى قريبنا هذا قائلاً بنبرة ودية: " آغا!.. ما رأيكم بعشاء خفيف من المجدّرة؟ ". فانتفض " الآغا " من مكانه، فوجه رأس عصاه نحو صدر المضيف لاكزاً إياه بغضب: " ولك يا بهيمة! هل البرغل هوَ الخفيف، أم الفراريج التي تطير بأجنحتها من سطح إلى آخر؟ "، قالها وهوَ يقلّد بيديه حركة طيران الدجاجة..!
4 " لباس مافيه، الدكّة بأربطعش "؛ إنه مثل شامي معروف، ويعني: ليسَ عليه ملابس، ولكنه يشتري الكلسون بمبلغ 14 مجيدية....! وإذاً فإن" الدكّة "، كانت قديماً هي لباس المرأة الداخلي، قبل أن يُعرف استعمال " الكلسون "؛ وكانت عبارة عن قطعة قماش حريرية ( أو قطنية ) تلف حول حوضها ثمّ تعقد جيداً. ويبدو أن الرجل كان يعاقب أحياناً من قبل امرأته، بأن تعقد دكّتها بإحكام شديد لكي تبدي له سخطها أو عدم رضاها. ذات يوم، كان جارنا " أبو بشار علكي " في عيادة قريبه دكتور الأسنان، " شمدين آله رشي ". وفيما كان هو ينتظر دوره راحَ يشكو من وضع أسنانه، مما جعل الزبائن الآخرين الشبان يعلّقون ويتندرون. عند ذلك، التفت إليهم " أبو بشار " قائلاً: " لقد خربت أسنان جيلنا من كثرة فك الدكّة "....! حينما كنت طفلاً، أتذكّر سهرة في منزل عمّنا الكبير. وكان " فيّو سنجو موسو "، قريب امرأة العمّ، ضيفاً شبه دائم على جهاز التلفزيون مع أسرته المكوّنة من زوجتين وعدد من الأولاد. في تلك الليلة، عُرض فيلم سهرة الخميس، وكان اسمه " ألمظ وعبده الحمولي " من بطولة المطربة وردة الجزائرية. حينما كانت أحداث الفيلم تتوالى، فإن قريبَ امرأة عمّنا كان يهوّم متناعساً بين فينة وأخرى. حتى جدّ مشهدٌ مثير، حينما بدأت مجموعة من الراقصات تتهادى الواحدة بأثر الأخرى في دخولهن إلى صالة سلطان البلاد. وبما أن كلاً منهن كانت بلا لباس ( أو دكّة ) فقد بدا عريُ مؤخرتها جلياً تحت غلالة بدلة الرقص الرهيفة. هنا، فتح " فيّو " عينيه على وسعهما كي يتأكّد مما يراه، ثمّ لم يلبث أن قفز وهو يردد بذهول: " وَلْ ول ول.. بي تربي، بي تربي: له، إنها بلا كلسون! .."
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في عام 12 للميلاد
-
سيرَة حارَة
-
جريمة تحت ظلال النخيل
-
جريمة في فراش الزوجية
-
جريمة عند مدخل الرياض
-
جريمة من أجل كنز
-
جريمة حول مائدة السّادة
-
جريمة في منزل الضجر
-
في عام 13 للميلاد
-
جريمة على الطريق العام
-
حكاية من - كليلة ودمنة - 8
-
حكاية من كليلة ودمنة 7
-
حكاية من - كليلة ودمنة - 6
-
حكاية من - كليلة ودمنة - 5
-
حكاية من - كليلة ودمنة - 4
-
صورة الصويرة؛الضاحية2
-
حكاية من - كليلة ودمنة - 3
-
العقلية المشتركة للسلطة والمعارضة
-
حكاية من - كليلة ودمنة - 2
-
صورة الصويرة؛ الضاحية
المزيد.....
-
لاستعادة زبائنها.. ماكدونالدز تقوم بتغييرات هي الأكبر منذ سن
...
-
مذيع CNN لنجل شاه إيران الراحل: ما هدف زيارتك لإسرائيل؟ شاهد
...
-
لماذا يلعب منتخب إسرائيل في أوروبا رغم وقوعها في قارة آسيا؟
...
-
إسرائيل تصعّد هجماتها وتوقع قتلى وجرحى في لبنان وغزة وحزب ا
...
-
مقتل 33 شخصاً وإصابة 25 في اشتباكات طائفية شمال غرب باكستان
...
-
لبنان..11 قتيلا وأكثر من 20 جريحا جراء غارة إسرائيلية على ال
...
-
ميركل: لا يمكن لأوكرانيا التفرّد بقرار التفاوض مع روسيا
-
كيف تؤثر شخصيات الحيوانات في القصص على مهارات الطفل العقلية؟
...
-
الكويت تسحب جنسيتها من رئيس شركة -روتانا- سالم الهندي
-
مسلسل -الصومعة- : ما تبقى من البشرية بين الخضوع لحكام -الساي
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|