|
سقوط أحزاب الأمم
عفيف رحمة
باحث
الحوار المتمدن-العدد: 4246 - 2013 / 10 / 15 - 21:36
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
بقراءة بسيطة لبرامج الأحزاب العقائدية التي ظهرت في سوريا منذ مطلع القرن العشرين، إسلامية كانت أم قومية و قومية يسارية، نتلمس من رؤيتها وممارساتها السياسية ثلاث مرتكزات ، المشروع الشمولي الموسوم بأمة إفتراضية، عقدة إمتلاك الحقيقة المطلقة، إقصائية الطروحات السياسية وتجاهلها للحقائق المادية للمجتمع.
مشاريع أممية صيغة ذهنياً برؤى ومقولات فلسفية تحاكي واقع إفتراضي مجرد من مكوناته الحقيقية ومناقض بمركباته للهويات التي أنتجتها الأقوام المنتشرة على مساحات جغرافيا هذه الأمم.
لتحقيق هذه المشاريع الأممية إرتكزت مجمل الحركات السياسية على فرضية الحقيقة المطلقة التي تبرر قمعها للتعددية بتجاهلها موضوعية التنوع العرقي والثقافي والديني، فرضية من حيث الفعل تناقض جدلية الحياة وقوانين سيرورتها وتفاعلية الثقافات فيها.
لقد كشفت مختلف الرؤى، الإسلامية، العربية القومية أو السورية الإقليمية، فظاظة أممها التي تعمل من أفرادها سلعة مكررة منتجة في مصنع بشري واحد.
لم يعرف التاريخ أمماً بالمعنى الحقيقي إلا تلك القبلية ما قبل المدينية، أمم القبائل ذات الدم الواحد، أما ما أتت به البرجوازيات الأوروبية بعد الثورة الصناعية من أمم تتمايز بها تعزيزاً لوجودها الطبقي فلم تكن أكثر من أمم سديمية التكوين قدمت بتعاريف وصفية يستحيل قياسها مادياً، سديمية حملت بمكوناتها عوامل تلاشي وجودها المفاهيمي في ظل التجمعات الإجتماعية الإقتصادية المعاصرة.
لم تختلف أمم الحركات السياسية في سورية عن الأمم الأوروبية إلا بشدة سديميتها وتعدد فواعيلها... وحدة الثقافة، وحدة الدين، وحدة اللغة، وحدة التاريخ، وحدة الإرادة ... ولتتجاوز النظرية سديمية الأمة، أجرت الحركات السياسية إسقاطاً لمعالم أمتها بمرآة الممارسة السياسية لتنسخ بها الأبعاد الحقيقية للواقع الإجتماعي والثقافي، ولتحول الحقيقة إلى ظل الحقيقة.
نسخ اللغات المتعددة بلغة الأمة والعقائد والمذاهب والديانات بدين الأمة ومذهبها، إصغار البنى الفكرية والثقافية لفكر وثقافة الأمة ...، هو نسخ قصري للهويات المتعددة بهوية أمة ذهنية لم تسعف الحركات السياسية على تنفيذ مشروعها السياسي بقدر الأزمة الفكرية الأخلاقية والوجودية التي أنتجتها والتي لم تحسن يوماً الخروج منها.
وإذا كان التاريخ شاهداً بالأمس على تهاوي التجربة الأممية للبعث بشقيه السوري والعراقي في محاولة لإحياء أمة العروبة، كما كان شاهداً قبل الأمس على تهاوي التجربة الناصرية في قيادة هذه الأمة، فها هو اليوم يسجل الفشل السياسي والأخلاقي لمشروع الإخوان المسلمين في تأطير أمة الإسلام في دولة.
سقط المشروع الأممي القصري وسقطت معه الحقيقة المطلقة مرتكز الفكر الشمولي، وانكشف نزوع هذه الحركات ومشاريعها الأممية نحو الإقصاء الممنهج للحقائق المادية والتاريخية كوسيلة للبرهان على سلامة النظرية السياسية.
ما هو جدير بالمعرفة أن الدولة العربية الإسلامية التي عرفتها شعوب المنطقة بعيد ظهور الإسلام لم تسعى صراحة لإلغاء الهوية الدينية والعرقية للأقوام التي سيطرت عليها، بإستثناء دولة الخلافة العثمانية التي سعت لكنها فشلت في تحقيق مشروع التتريك الذي فرضته في مراحلها المتقدمة والذي كان أحد أسباب ثورات الرفض والتمرد التي أدت لسقوطها.
وإذا شكلت الخلافة العثمانية مرتكز التضاد بين حركات أممية الإسلام التي تريد إعادة إحياء الخلافة كدولة أمة وحركات أممية العروبة التي نتجت كنقيضها التحرري، الأولى بسلفيتها والثانية بثوريتها، إلا أن كلتاهما إرتكزتا على منهج القمع السياسي والإقصاء الثقافي والديني والعرقي رغم زعمهما حداثة وإنسانية هويتهما الفكرية.
أما ما يثير الدهشة فهو التشابه إلى حد التطابق في حجج الدفاع وسندات الإتهام التي تستثمرها مجمل هذه الحركات في تفنيد وتعليل أسباب تجزئة الامة الغائبة، حيث تجد المؤامرة بمسمياتها واشكالها المختلفة مكاناً متقدماً في تفسير وتفنيد زوالها وتلاشي حضورها التاريخي.
على هذه المساحة، مساحة المؤامرة على الإسلام والمؤامرة على العروبة والمؤامرة على الأمة... والمؤامرات المتبادلة بين هذه الأمميات، تلتقي وتتشارك مجمل الحركات السياسية رغم التباين في جذورها العقائدية، حيث تجد ملتقاها على أرضية الموروث الديني الكامن في الوعي الباطن القائم على ثنائية الوجود، الخير والشر، الولاء والعداء، الوطنية والخيانة.
في ظل هذا الصخب العقائدي انساقت بعض التيارات الماركسية والشيوعية لتتبنى مبدأ الإقصاء السياسي والطبقي كسند لها في تحالفاتها السياسية ولتقفز فوق التاريخ وفوق ماديته، حيث فهمت من حرق المراحل تجاوز قصري وقمعي للطبقات والمكونات الإجتماعية، دون أن تعير أي إهتمام لجوهر نظريتها الثورية وإنسانيتها القائمة على الوعي والإدراك الفكري والمعرفي، الفردي والجمعي.
لم تستفد هذه الحركات السياسية أممية التطلع من الشواهد المعاصرة التي قدمها التاريخ الحديث وما انتجته العلاقات البشرية من دول ومجتمعات جديدة، حيث استطاعت بالديمقراطية المعاصرة أن تجعل من تعددية الهويات الإجتماعية والثقافية والدينية محركاً لبنى وعلاقات إقتصادية وإجتماعية جديدة قائمة على التشاركية الثقافية والمعرفية.
توافقت هذه الحركات بالفرضية وتباينت بمكونات الفرضية وسعة انتشار بيئتها، وكلما اتسعت رقعة الفرضية زادت التناقضات وتعددت عوامل سقوط الأمة. الأمة الإسلامية، الأمة العربية، الامة السورية، مشاريع إفتراضية لم تجد بداً لتعزيز وجودها من قهر الواقع أو إعادة إنتاجه وفق معايير ومقاييس الفرضية بحيث يتوافق مع الرؤية بدل أن تتوافق الرؤية مع الحقيقة، ولا بأس إن اقتضى الأمر التصفية الإثنية والدينية للإبقاء على الهوية التي تتلائم مع مشروعها الإفتراضي.
ظهرت الأمم الأوروبية لتنتهي بمفهوم الدولة المعاصرة الحاضنة لمختلف مكوناتها الفكرية والثقافية، كما سبق أن قدمت الخلافة العربية الإسلامية حالها كدولة لجميع مكوناتها الإجتماعية، وإن انساق السوريون في مطلع القرن العشرين لخلق أممهم السياسية كتقليد للأمم الأوروبية وكرد فعل على إستعمارية الأولى فإنهم اليوم أمام خيار واحد لا بديل عنه وهو بناء الدولة الحديثة بواقعها الإجتماعي والثقافي والديموغرافي كمقدمة اساسية وكشرط لازم لتساهم مستقبلاً في تشكيل تجمع إقتصادي اجتماعي جديد في إطره الإقليمية المعاصرة.
#عفيف_رحمة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المؤشرات المبكرة للأزمة السورية
-
معلولا اللغز السياسي والعسكري
-
شيوعيو سوريا وفقد الرؤية الطبقية
-
الشعب يريد إنهاء عصر الإستبداد!
-
وقود الأزمة الوطنية في سوريا وبيئتها الحاضنة
-
هجرة الكفاءات مؤشر فشل سياسات التنمية في سوريا
-
الداخل الوطني رهينة نرجسية السياسات الخارجية
-
زيرو دولار زيرو روبل
-
تفاعلية الوجود بين السلطة السورية وجبهة النصرة
-
-المعارضة وقاعدة حكم السلطة في ميزان الأزمة السورية-
-
جنيف 2 و أوهام التغيير
-
الفساد منظومة ظل الدولة
-
مراهنات النظام وآثارها في تعميق الأزمة الوطنية الكبرى في سور
...
-
التعليم في سوريا ومشكلاته
-
البحث العلمي في سوريا-حقائق ومؤشرات
-
فساد النظام وتجلياته في معالجة القضية السورية
-
الوجه الديني في تكوين الأحزاب اليسارية
-
قراءة طبقية في جذور الأزمة السورية-حقائق ومؤشرات البيئة الإج
...
المزيد.....
-
حزب الله يحدد 23 فبراير موعدا لتشييع نصرالله وصفي الدين معا
...
-
رئيس كولومبيا: سياسات ترامب فاشية
-
خبير عسكري يكشف سر زيارة زيارة نتنياهو لواشنطن
-
ترامب: لدينا مناقشات مخطط لها مع أوكرانيا وروسيا
-
المهاجم الدولي الجزائري أمين غويري يدعم هجوم مرسيليا
-
المكسيك ترفض البيان الأميركي وترامب يقر بتداعيات الرسوم الجم
...
-
تدشين معبد هندوسي ضخم في جنوب أفريقيا
-
سياسي بريطاني سابق يعلن انضمامه إلى المرتزقة الأجانب في أوكر
...
-
تبون: الجزائر تحافظ على توازن علاقاتها مع روسيا وأمريكا
-
رئيس كوبا: الضغط الأمريكي على المكسيك يهدد استقرار أمريكا ال
...
المزيد.....
-
الخروج للنهار (كتاب الموتى)
/ شريف الصيفي
-
قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا
...
/ صلاح محمد عبد العاطي
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
المزيد.....
|