|
تخلّف الخطاب السياسي (سور برلين)
فؤاد النمري
الحوار المتمدن-العدد: 4236 - 2013 / 10 / 5 - 17:53
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
في مقالتنا الأخيرة كتبنا عن تخلف الخطاب السياسي حيث عامة الكتاب والمعلقين السياسيين بل والإقتصاديين أيضاً يستهجنون تأكيدنا بأن النظام الرأسمالي كان قد انهار في سبعينيات القرن الماضي ويؤكدون بالمقابل على أن النظام الرأسمالي ما زال فاعلاً بل وازداد تغوّلاً بعد أن تجسّد في شركات عديمة الجنسية . وما يثير الإستغراب حقاً هو أن بعض المتمركسين من هؤلاء الكتاب يشتط في القول لأن يدّعي أن الدولة يمكن أن تكون فقيرة ومفلسة في الوقت أن نظام الإنتاج الذي تديره في غاية الثراء !! إلى هذا الحد المستغرب يصل التخلف في الفكر وفي الخطاب . اليوم تصرف الإدارة الأميركية سبعمائة ألف موظفاً في إجازة غير مدفوعة الأجر لأن ليس لديها فلوس تدفع أجورهم، ومع ذلك يظل كتابنا ومحللونا السياسيون يؤكدون أن القطب الأوحد في العالم، الإدارة الأميركية الإمبريالية المتوحشة تنهب ثروات العالم بغير حدود . المراقب المحايد خارج هذا المعمعان لا بدّ وأن يستغرب إصرار هؤلاء الكتاب والمحللين الشديد على الإدعاء بأن النظام الرأسمالي الإمبريالي ما زال في أوج قوته وفي أميركا تحديداً رغم أنها على وشك الإفلاس !! السبب الوحيد لذلك هو أن هؤلاء الكتاب والمحللين السياسيين سيبيتون في حالة إفلاس تام إذا ما وافقوا على انهيار النظام الرأسمالي قبل أربعين عاماً . لن يبقى لديهم أية سياسة يعبثون بها كتابةً آم تحليلاً نظراً لقصورهم الفكري .
ضرب آخر من ضروب تخلف الخطاب السياسي لدى عامة الكتاب والمحللين السياسيين هو مقارباتهم لسور برلين وانهياره . لم يذكر أحدهم سور برلين إلا كرمز للرجعية والتخلف ومعادٍ للوحدة الوطنية والروح القومية . تلك هي الصورة التي رسمتها دوائر الإعلام الرجعية الإمبريالية والمعادية للإشتراكية لسور برلين، ولم يجد غضاضة ذوو الخطاب المتخلف في نسخ الصورة إياها متجاهلين تماماً ما تعكسه من مفاهيم معاكسة لما هي حقيقةً حيث يقوم سور برلين في الواقع تمييزاً للاشتراكية المتأنسنة على الرأسمالية المتوحشة، الإشتراكية التي ميزتها الأولى التنمية البشرية على الرأسمالية التي لا ترى في الإنسان إلا علجاً تحول قواه للعمل إلى ثروة تؤمن من خلالها الربح وتركيم رؤوس الأموال .
في هذا المقام يلزمنا أن نفجأ ذوي الخطاب المتخلف من الذين يرسمون صورة بائسة لجدار برلين بالعودة إلى بيانات الأمم المتحدة الخاصة بالتنمية في نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات من القرن الماضي التي كانت تعلن أن ألمانيا الديموقراطية (الاشتراكية) كانت تحتل المرتبة السادسة بين الدول الصناعية المتقدمة في العالم، بينما ألمانيا الاتحادية (الرأسمالية) لم تكن من بين الدول العشرة الأولى رغم أن ألمانيا الشرقية كانت لدى التقسيم هي الجزء الزراعي المتخلف من ألمانيا بينما ألمانيا الغربية هي الجزء الصناعي المتقدم . وكانت التقارير الواردة من برلين في نهاية الخمسينيات تقول أن عمال برلين الغربية يعبرون إلى برلين الشرقية بعد انتهاء العمل كل يوم لتناول وجبة غداء دسمة وقضاء السهرة في أرقى المسارح ودور السينما مقابل فرنكات قليلة . كان هناك بالطبع نمطان من الحياة والتنمية، النمط الاشتراكي في ألمانيا الديموقراطية والنمط الرأسمالي في ألمانيا الاتحادية، وكان لا بدّ أن يتمايزا بشكل من الأشكال . كان لا بدّ أن يقوم بينهما حدود مانعة للإختلاط والعبور. التنمية البشرية هي من مستلزمات التنمية الإشتراكية والتي تهملها التنمية الرأسمالية التي لا تهتم إلا بقوى العمل وكأن البشر مجرد علوج ليس أكثر . كان التعليم ميسوراً لكل أبناء الشعب دون مقابل في ألمانيا الإشتراكية بالعكس من ألمانيا الرأسمالية حيث لم يكن يصل المعاهد العليا سوى القليل من أبناء الأغنياء . كان خريج المعاهد العليا في ألمانيا الإشتراكية يكلف الدولة ما بين 60 – 100 ألف مارك . وعند تخرجه ومباشرته العمل بعد تأهيله لا يلبث أن يهرب إلى ألمانيا الغربية ليتقاضى راتباً يساوي خمسة أمثال ما كان يتقاضاه في ألمانيا الاشتراكية . تحملت حكومة ألمانيا الاشتراكية طويلاً مثل هذا الاستنزاف لاقتصادها من قبل ألمانيا الرأسمالية . لم يكن هناك حيلة لوقف مثل هذا الاستنزاف اللصوصي غير بناء جدار يفصل برلين الغربية عن برلين الشرقية كي لا يهرب الشاب المؤهل في برلين الشرقية ليوظف تأهيله في خدمة الاقتصاد الرأسمالي في ألمانيا الغربية علما، بأن البطالة في ألمانيا الغربية لم تكن أقل من 10% بينما هي في الشرقية صفر .
كان سور برلين في حقيقته تمييزاً لحسنات النظام الإشتراكي على مساوئ النظام الرأسمالي فالحياة في ألمانيا الشرقية كانت أسهل وأرخى منها في ألمانيا الغربية . وحتى اليوم يتذكر الناس في شرق ألمانيا سهولة الحياة في ظل الاشتراكية فيعطي الكثيرون منهم أصواتهم في الانتخابات العامة إلى حزب اليسار في ألمانيا الذي انضوى إليه الشيوعيون .
لكن لماذا بدت الصورة معكوسة فيما بعد السبعينيات ؟ لماذا تقدمت ألمانيا الرأسمالية أخيراً على ألمانيا الإشتراكية ؟ فيما بعد الخمسينيات بدأت الردة السوفياتية على الاشتراكية التي قامت بها عصابة خروشتشوف في العام 1953 تؤثر على النهج الاشتراكي اللينيني الستاليني في ألمانيا ،نهج الملتحي والتر أولبرخت (WUlbricht) وانعكس ذلك في تباطؤ التنمية الاشتراكية ؛ ويضاف إلى ذلك المساعدات الكبيرة التي ترتب على ألمانيا الديموقراطية تقديمها إلى الحركات الثورية في أفريقيا بشكل خاص . في المقابل فإن الولايات المتحدة التي استنفذت نفسها في مقاومة الشيوعية هبت في نهاية الخمسينيات عندما بدا واضحاً أن ألمانيا الاشتراكية تتقدم على ألمانيا الرأسمالية، هبّت تساعد ألمانيا الاتحادية عن طريق رجلها الاقتصادي القوي لودفيج إيرهارد لتجعل منها فاترينة النظام الرأسمالي في وجه التمدد الشيوعي . كان هذا ما فعلته الولايات المتحدة مع بداية الخمسينيات في اليابان وقد وظفت عشرات المليارات من الدولارات في تصنيع اليابان عندما كان للشيوعيين قوة في الشارع .
في العام 1989 نشطت مخابرات الكي جي بي (KGB)السوفياتية التي كانت ومنذ تنصيب العسكر لرجلهم المتعاون نيكيتا خروشتشوف قائداً للحزب الشيوعي وللإتحاد السوفياتي، كانت قد غدت أنشط القوى في مقاومة الاشتراكية . نشطت في العمل على تقويض الأنظمة في دول شرق أوروبا . كان دور الكي جي بي في انهيار الدولة في ألمانيا الإشتراكية واضحاً بصورة جلية فالإتحاد السوفياتي كان ما يزال في العام 89 له جيوش جرارة في ألمانيا الشرقية عندما سلمها لقمة سائغة لألمانيا الغربية بتواطئ الخونة . وتعاونت الكي جي بي مع المخابرات الفرنسية في تنظيم انقلاب في رومانيا على تشاوتشسكو وإعدامه مع زوجته سدوراً في الخيانة والإنحطاط . وأخيراً كانت الضربة القاضية الكبرى التي وجهتها الكي جي بي للدولة الاشتراكية الأولى والأخيرة في العالم المتمثلة بانقلاب 91 وتفكيك الاتحاد السوفياتي. ليس ثمة أدنى شك في أن انهيار الدولة في ألمانيا الإشتراكية وكذلك انهيار سور برلين هو من أعمال المخابرات السوفياتية الكي جي بي التي غدت ومنذ العام 1953 وحتى اليوم أقوى التنظيمات العاملة ضد الإشتراكية . لا يمكن تصور تفكيك الاتحاد السوفياتي دون موافقة جهاز المخابرات الكي جي بي القوي السطوة والذي كان في أحايين كثيرة يفلت من قبضة ستالين القوية ويقترف جرائم ضد النظام الإشتراكي من مثل عصابة الأطباء اليهود في الكرملن المكلفين بقتل زعماء الحزب الشيوعي وقد أكتشفت في العام 1951 وكانت على ما بدا من تنظيم وزير الأمن لافرنتي بيريا وهو من تم إعدامه بعد محاكمة سرية خلافاً للعرف وللنظام في ديسمبر 1953 .
#فؤاد_النمري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تخلف الخطاب السياسي
-
الإخلاص للثورة الإشتراكية لا يتحقق إلا بالوعي
-
الطبقة الوسطى تختطف السياسة وتذوِّتُها
-
المادية الديالكتيكية والدولة الخدماتية
-
الماركسية ليست بحاجة لشهود
-
إشتراكيون لا يدركون ماهيّة الإشتراكية
-
الرفيق وليد مهدي يراجع الماركسية
-
معوقات العمل الشيوعي
-
ماذا عن يسار أميركا اللاتينية ؟
-
تلكم هي الشيوعية فليخرس أعداؤها
-
لماذا البطالة في العالم العربي وغير العالم العربي !؟
-
ما زالوا يجادلون في انهيار النظام الرأسمالي !!
-
المؤتمر الأخير للشيوعيين
-
مجرد تعليق محجوب
-
ما بين اتحاد الشيوعيين ووحدة اليسار
-
طلائعيو البورجوازية الوضيعة في الأردن يعلنون اتحاداً شيوعياً
...
-
الشيوعيون القدامى ودورهم
-
في العمل غير المنتج (رد على الدكتور حسين علوان حسين)
-
الإنتقال - السلمي - إلى الإشتراكية (2/2)
-
الإنتقال - السلمي - إلى الإشتراكية 1/2
المزيد.....
-
الرسوم الجمركية.. ترامب يعلن تطورًا جديدًا بعد اتصال مع رئيس
...
-
الشرع يتحدث لـ-تلفزيون سوريا- عن معركة إسقاط النظام: خطط لها
...
-
ترامب يفرض رسوماً جمركية إضافية.. فمن الدول المتأثرة وكيف رد
...
-
أحمد الشرع يبدأ أولى زياراته الخارجية إلى السعودية ويؤدي منا
...
-
تبون يتحدث عن شرطه الوحيد للتطبيع مع إسرائيل، ما هو؟
-
نور عريضة تتحدث لترندينغ عن حملتها مع هيفاء وهبي ضد التحرش ا
...
-
-مخاطرة بأمننا-.. شولتس يهاجم المحافظين بسبب تشديد الهجرة
-
حكومة غزة: الاحتلال الإسرائيلي يماطل في تنفيذ البروتوكول الإ
...
-
رئيس الوزراء الكرواتي يعلق على فكرة ترامب حول فرض رسوم على ا
...
-
على خلفية تصريحات ترامب.. غرينلاند تخطط لتشديد قيود التبرعات
...
المزيد.....
-
الخروج للنهار (كتاب الموتى)
/ شريف الصيفي
-
قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا
...
/ صلاح محمد عبد العاطي
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
المزيد.....
|