مصطفى ملو
الحوار المتمدن-العدد: 4235 - 2013 / 10 / 4 - 07:20
المحور:
الادب والفن
تضامنا مع كل حمار
كتبت في طنجة سنو 2007
قرر سيزيف بعد فشله في مباراة ضباط الشرطة التوجه إلى مدينة طنجة بحثا عن عمل,ففي كل مرة يفشل في مباراة ما,يخجل من العودة إلى بلدته النائية,حيث ألسن الناس القاطعة ستكون في استقباله,خاصة وأن كل أقرانه نجحوا في الظفر بوظيفة في قطاع التعليم أو الشرطة أو الدرك,أو تمكنوا من الوصول إلى الضفة الأخرى.
في هذه البلدة وكعادة كل "البدويين"؛ما أن تنجح حتى تكسب احترام الكل,وإما أن تفشل فيلفظك الكل ويتنكر لك,فالفشل يعني العار والذل,ليس لصاحبه فحسب,بل لعائلته أيضا,لأن الحياة عند أهل البادية قائمة على التنافس والتحدي وعدم القبول بالهزيمة, إذ لا يعرفون أو لا يعترفون أن الحياة نجاح و فشل,أو فشل ثم نجاح(شوف ولد فلان شنو دار,أولد فلان تبارك الله عليه,أولد فلان كيف والو...).
وصل إلى طنجة قبل أسبوع,تجول في الحي الصناعي لمغوغة والحي الصناعي لمسنانة لعله يجد عملا كيفما كان,وكلما سلم لأحدهم نهج سيرته؛يكون الجواب إما؛هذا الساعة مكايزيدو الخدامة أو إكون خير,لكن دون نتيجة تذكر.
بعد أسبوع من البحث المضني,ظل فيها سيزيف متنقلا بين معمل للكبلاج وآخر للفرماج وبين وكالة للحراسة الخاصة,قرر أن يعمل بنصيحة أصدقائه الذين نزل عندهم فيتوجه إلى الموقف ليعرض نفسه سلعة للعطاشة والمقاولين ولكل الباحثين عن خدام.
لم تكن تلك هي المرة الأولى التي يقف فيها سيزيفنا في الموقف,ولم تكن هي الأولى التي يعمل فيها "البالة والبيش",فلقد آلف الأعمال الشاقة وآلفته,كما آلف الوقوف بالموقف مع العمال منذ كان تلميذا بالثانوي.
جلس ينتظر حظه,لم يكن كبقية الخدامة الذين ما أن يلمحوا سيارة فاخرة أو شخصا أنيقا حتى يهرولوا نحوه هاتفين؛
ماخاصك شي خدام ما خاصك شي خدام.
قصده رجل في الستين من عمره,يبدو من هيئته أنه من المقاولين الذين يسميهم أهل الموقف بالمقاولين جعانين.
-السلام أعليكم.
-أعليكم السلام.
-واش باغي تخدم أولدي؟
-إوا الله أوعلم منين راني هنا راه ماجايش غير باش نخدم.
-(يضحك ساخرا),راه كاينين هنا اللي مبغاوش إخدمو كايجيو غير باش إطلعو السوق.
-أنا ما شغلي فحتى شي واحد المهم أنا جاي باش نخدم.
-مزيان,أو سبق ليك خدمتي بعد فالبالة أولا لا,حيت هاد اليامات ديال العطلة كاينين صحاب القراية كنجيبوهم إخدمو يومين تلت يام كيهربو.
-ما خليت حتى خدامة ألحاج.
-أرى يديك نشوف.
بدأ "المقاول جيعان" يتفحص يدي سيزيف,ما أثار ثائرته وغضبه.
-شفتك كتقلبني بحال إلى باغي تشريني؟
-بان ليا أولدي يديك ماشي ديال تمارة.
انتهت المفاوضات بين الاثنين وذهب كل منهما إلى حال سبيله.الحركة في الموقف بدأت تخف,والعمال ممن لم يتمكنوا من إيجاد عمل ما شرعوا ينسحبون إلى بيوتهم أو أكواخهم كما هو الحال بالنسبة لصاحبنا.
في الغرفة/الكوخ التي يكتريها هو وتسعة من أصدقائه بحي بير الشيفا,استلقى على ظهره وبدأ يتأمل و يتساءل مع نفسه أسئلة لا حصر لها,تارة يندب حظه وأخرى يعزي فيها نفسه بأن الخطأ ليس خطأه,فقد فعل كل ما بوسعه أن يفعل.
أصدقاؤه كلهم ذهبوا للعمل في ورشة للبناء,فبقي وحيدا في ذلك الكوخ الذي تنبعث منه رائحة مقززة ونتنة تزكم الأنوف,رائحة ملابس العمل التي تبذل لونها بفعل التآكل و الغبار,ورائحة الأحذية البلاستيكية التي غالبا ما يرتديها عمال البناء اتقاء المواد الكيماوية للإسمنت التي تسبب الإكزيما في الجلد,رائحة المرحاض هي الأخرى تفوح من وراء غطاء الثوب الذي كان يفصل بينه وبين قنينة الغاز التي يطبخون عليها ما يأكلون,ووراء هذا الغطاء يقضون حاجتهم ووراءه يستحمون,ومن صنبور المرحاض يملؤون الماء الذي يشربون,الفراش رث ومتسخ ولونه تغير بفعل العرق و الغبار المتناثر في كل مكان,البق منتشر فوق وتحت الفراش أو ما يشبه الفراش,أما السقف فقد استعمرته العناكب واتخذت منه موطنا.
في اليوم الموالي اتجه مجددا صوب الموقف,لعله يحظى برضا أحد الباحثين عن عامل,جلس واضعا أمامه كيسا بلاستيكيا به ملابس العمل و "صباط الميكا",بعد لحظة قصده رجل طويل القامة,أقرع الرأس,تبدو على محياه علامات الطيبة والظرافة.
-السلام أعليكم.
-أعليكم السلام.
-باغي تخدم أخويا؟
-ييه باغي نخدم,شحال الثمن؟
-ستين درهم.
-لا لا أنا مكنخدمش بستين درهم.
-أوبشحال بغيتي تخدم؟
-سبعين درهم.
-واخا أسيدي يالله جيب حوايجك.
ركبا الطاكسي التي ذابت وسط أزقة بني مكادة متجهة نحو حومة الحداد,وفي الطريق شرعا يتبادلان أطراف الحديث وأسئلة الراغبين في التعارف,لقد استبشر سيزيف خيرا منذ الوهلة الأولى التي قصده فيها المعلم ع القادر,ورأى من ملامح وجهه وطريقة كلامه أنه رجل طيب وليس من المقاولين أو العطاشة جيعانين أو من "كمامر الويل",لذلك فقد كان مستعدا أن يقبل عرض ع القادر ولو بستين درهما.
في الورشة,خشب البناء متناثر هنا وهناك,الآجر مرتب في ركن خاص,الإسمنت مغطاة بغطاء بلاستيكي خشية أن تتبلل بالمطر,بدا لسيزيف أن المعلم ع القادر انتهى لتوه من إزالة الكوفراج للضالة,وراء أكياس الإسمنت قام بخلع ملابس "التفركيس" وارتداء ملابس "التكرفيص",لحسن حظه العمل في هذا اليوم الأول ليس شاقا,فالمطلوب منه جمع الخشب وتنقيته من المسامير وتنظميه بشكل جيد,قبل نقله إلى مكان آخر حيث سيبدأ الكوفراج والضالة,لقد كان أخشى ما كان يخشاه أن يتصادف يومه الأول في العمل مع يوم الضالة أو أعمال الخرسانة.
وقف صاحب العربة المجرورة الذي استأجره ع القادر لنقل الخشب إلى مكان آخر,وقف جنبا إلى جنب مع سيزيف الذي يمده بالخشب ليرتبه فوق العربة,لا حديث بينهما,ملامح الرجل وعيناه يكاد الشر يتطاير منهما أو هكذا خيل لصاحبنا,المعلم ع القادر ذهب لمراقبة العمل في ورشة أخرى,والإطلاع على ما وصل إليه حميد الروبيو وبا محمد هناك.
امتلأت العربة عن آخرها,ولم تعد أرجل الحمار المسكين تحتمل المزيد من الثقل,فبدأ يتململ يمنة ويسرة,لكن الرجل الجشع مصر على وضع المزيد من المادري والبلانش والبونتاريس كما كان متحمسا لنهر الحمار كلما تململ أو جرب الحركة,كمن أصيب بعقدة حب السلطة و إعطاء الأوامر,فلم يجد من يفرض عليه أوامره غير الحمار,أما سيزيف فوقف مشدوها من هول ما رآه,لذا امتنع عن وضع مزيد من الخشب على العربة ما أفاض كأس صاحبها,فشرع ينهر سيزيف هو الآخر.
-واش نتا مبغيتش تخدم؟
-واش نتا مكتفهمش,واش كتسنا هاد الحمار مسكين إكولك باركا؟أولا كتسناه حتى يطيح لرض عاد تباركا؟
-أونتينا شغلك؟أش عندك نتينا,نتينا غير خدام,مد لي غيرالخشب أوماصوقكش.
لكن سيزيف أصر على التشبث بموقفه,وامتنع عن مده بالخشب,تضامنا ورأفة بالحمار المغلوب على أمره,وانزوى إلى ركن يمسح عرقه المتصبب من جبينه,أما صاحبنا الآخر فهم بالاتصال بالمعلم ع القادر ليخبره بأن خدامه الجديد الذي جاء به من الموقف لا رغبة له بالعمل.
وصل المعلم ع القادر ووجد سيزيف جالسا يتفرج على صاحب العربة,وعلى الحمار الذي يتعذب تحت نيرها,ثم توجه إليه بالسؤال؛
-لماذا توقفت عن العمل هل من مشكلة؟
-المشكلة يا سيدي أني لا أريد أن يتحمل هذا الحمار أكثر من طاقته,انظر إليه,حقق النظر في أرجله التي تكاد تنطوي بفعل الثقل,إذا كان الله قد جعل لنا نحن البشر ألسنا نتكلم ونشتكي ونحتج بها على ما يقع علينا من ظلم,فهذا الحمار المسكين ليس بوسعه فعل شيء من ذلك,هل تريدني يا ع القادر أن استمر في ملأ العربة حتى يسقط هذا الحمار على بطنه؟
لم يكن بوسعه أن يقول لهما بأن الإنسان مجرد حيوان ناطق أو الأصح حيوان عاقل,لأنه كان يدرك تماما,أن مستواهما التعليمي لن يسعفهما على فهم ذلك.
تعجب المعلم ع القادر مما سمعه من خدامه الجديد,وأفصح عن ابتسامة مصطنعة في وجهه,ثم توجه إلى صاحب العربة الذي لم يكن يود هو الآ×ر إزعاجه وفقدان زبونيته.
-إوا وقيلا سيزيف عندو الحق باركا عليه؟
-واش بغيتي أسي ع القادر نبقى نمشي ونجي,فعوط ما نعمل زوج فياجات نعمل غير وحيت*.
-أونسيتي نتينا إلى طاح لك الحمار أو وقعتلو شي,أوخسرتي الوقت أو خسرتي كلشي؟
وبالكاد أقنعه بالكف عن الملأ,ثم طلب من سيزيف مرافقته لمساعدته في دفع العربة عند كل عقبة.
وهو وراء العربة سرح به خياله في متاهات التأمل والدهشة والتساؤل,وسرعان ما تهاطلت على مخيلته أمطار من الأسئلة,فبدأ يحدث نفسه؛"هناك في مقدمة العربة سيزيف اسمه الحمار,وهنا وراء العربة سيزيف اسمه الإنسان,وبيننا مخلوق لا هو بالأول ولا هو بالثاني,لا رحيما بإنسان من مثله ولا شفيقا على مخلوق من غير جنسه,على الأقل الحمار الذي يحتقرونه لا يظلم أحدا ولا يحمل أحدا أكثر من طاقته,يأكل من عرق جبينه أما أمثال هذا فيأكلون من عرق جبين الحمار,ومع ذلك ينكرون جميله ولا يفونه حقه,يسمونه الحمار احتقارا,ولا يعلمون أن عائلات بكاملها تعيلها الحمير,ولم يعد يعرف هل هو أمام إنسان مسخ حمارا أم حمارا مسخ إنسانا,حينها تذكر نكتة صاحب الحمار والإحصاء.
-كم بكم في البيت؟
- واحد وعشرون
-ولكننا أحصينا فقط عشرين؟
-وهل نسيتم أن تحصوا الحمار؟
-الإحصاء يا شيخنا يهتم فقط بإحصاء الناس.
-(ضحك ساخرا),وهل تعلمون أن لولا هذا الحمار,لما أكل واحد من هؤلاء العشرين طرف خبز؟هل تعلمون أن هذا الحمار من عرقه يقتات كل هؤلاء؟
العربة بالكاد تتحرك والحمار المسكين لم يعد يقوى على التحمل مع صعوده العقبة,فانهال عليه صاحبه بالضرب,سيزيف يدفع بكل قواه لمساعدة الحمار على الطلوع,لم يسلم هو الآخر من غضب صاحب الحمار,الذي احمر وجهه وتبدلت ملامحه,وبدأ يتصبب عرقا ويلهث بين الحمار ليضربه وبين سيزيف لينهره محاولا معاونته في الدفع.
وقف حمار الشيخ في العقبة هكذا علق سيزيف على المشهد أو الأصح وقف شيخ الحمار في العقبة,أو وقف الحمار الممسوخ إنسانا أو الإنسان الممسوخ حمارا,بعد أن توقف الحمار تماما عن الحركة!نعم هذه هي النتيجة التي توقف عندها تفكير صاحب العربة,وهذا ما أوصله إليه جشعه وسوء تدبيره وقلة نظره,لو عمل بنصيحة سيزيف لما توقف الحمار.
-ونتينا دفع أش كتشوف فيا؟
-وراه كندفع أوشنو كندير دابا؟
-هاك جر الحمار هاك,حيت ندفع نتينا جر.
لكن النتيجة هي هي,الحمار عاجز عن الحركة تماما,وصاحبه عاجز عن فهم أن ثقل الخشب فوق طاقته,وأمام انسداد أفقه,وانغلاق المنافذ في وجهه,وبما أن الحمار لا يجيبه,فإنه لم يجد سوى سيزيف ليفرغ عليه قناطر غضبه التي لا تقل ثقلا ووطأة من تلك القناطر التي يجرها الحمار.
-واغير قولي دابا نتينا واش جاي تعاوني أولا تفرج فيا؟
-أنا جاي نعاون الحمار.
-جاي زعما تعاونو أو تحماو عليا,ماشي تعاوني؟
- ماشي هكاك أشريف,أنا عونتك بالنصيحة مابغيتيش دير بها,دابا راني تنعاون الحمار,ماشي تنعاونك نتا,أو لوكان ماشي هاد لحمار مسكين اللي بقا فيا لو كان مشيت بحالي.
في طريق عودة سيزيف إلى الكراج تذكر أول شيء أثار انتباهه في طنجة,ففي كل حائط تجد مكتوبا عبارة:
-ممنوع رمي الأزبال يا حمار و شكرا.
في طريقه الطويل من حومة الحداد إلى بير الشيفا حيث الطريق كله عقبات,راودته مجددا أسئلة كثيرة وهو يتذكر ما حصل في يومه الأول؛"لن يحس بك يا حمار يا أيها المخلوق الطيب الصبور سوى سيزيف مثلك,سيزيف عرف مرارة الحياة وذاق من حنظلها الكثير,انظر كما هو شاق أن أصعد هذه العقبات وأنا لا أحمل فوق ظهري كيلوغراما واحدا,فما بالي بك يا حمار تحمل أسفارا فوق ظهرك؟لن يفهمك يا حمار ولن يتفهمك سوى سيزيف ينتظره غدا عمل شاق,عمل شاق جدا,إنه البناء وأشغال الضالة والخرسانة,والصعود بأكياس الإسمنت والآجر والرمل وما جوارهم,ومع ذلك فهم يحتقرون البناء كما يحتقرونك يا حمار,متجاهلين أنه لولا البناء ولولاك يا حمار ولولا الفلاح و الحداد و كل سيزيف في هذه الحياة,لما بنيت تلك البنايات الشاهقة والفيلات الفاخرة و لما غزلت الأثواب النقية و لما صنعت السيارات الفارهة,ولما اخضرت تلك الضيعات الوارفة,والأشجار الوافرة و الفواكه الطازجة,فتحية وألف تحية لكل سيزيف حكمت عليه آلهة القرن21 بالبؤس والشقاء والتعاسة,وهاهو سيزيف يحييكم من طنجة وكل أمنياته أن يجعل النقاد والقراء شخصية الحمار أو سيزيف في نسخته الحيوانية الشخصية المحورية لهذه القصة".
*واحد تنطق واحيت بالجبلية.
#مصطفى_ملو (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟