|
ملاحظات على فكر سان سيمون (3)... المجتمع المثالي
حسين محمود التلاوي
(Hussein Mahmoud Talawy)
الحوار المتمدن-العدد: 4234 - 2013 / 10 / 3 - 15:54
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
في هذا المقال، نعاود إلقاء الضوء على فكر المفكر الفرنسي هنري كلود دي سان سيمون بعد فترة توقف بسبب سلسلة المقالات التي تتناول الوضع العام في مصر. إلا أن التطورات الحالية في المشهد السياسي المصري تستدعي التوقف قليلًا إلى حين استيعابها ثم تضمينها في سير المقالات؛ بحيث لا تصبح المقالات وكأنها تسير في اتجاه مغاير — أو على الأقل بعيد — للواقع السياسي المصري. وفي هذا المقال، سوف نركز على الجزئية المتعلقة بالمجتمع المثالي في فكر الفيلسوف الفرنسي سان سيمون، وهي الجزئية التي ربما لم تحظ بالتركيز الكافي من المتابعين. ولكن يتعين التأكيد في البداية على أن ما سوف يرد في الأسطر التالية هو مجرد ملاحظات لا ترتقي لمستوى الدراسة المعمقة؛ لأنه من غير المعقول أن تتم دراسة الفكر المثالي لمفكر بحجم سان سيمون في مجرد مقال واحد مهما بلغ حجمه.
هل المجتمع "المثالي" مثالي؟! يمكن القول إن سان سيمون "رأى" المجتمع المثالي قائمًا في مخيلته. كيف ذلك؟! رأى سان سيمون أنه من الممكن إقامة المجتمع المثالي الذي يعمل فيه كل فرد من أجل الحصول على نصيبه من الإنتاج، على أن يقود هذا المجتمع فئة العلماء والمفكرين، بينما تحكمه ما يمكن أن يطلق عليه "الأخلاقيات الصناعية"؛ أي الأخلاق التي تتسم بالإيجابية، وتهدف بالدرجة الأولى إلى تحفيز المجتمع على العمل والإنتاج. وشدد سان سيمون على ضرورة أن تتولى "طبقة الصناع" مسئولية قيادة هذا المجتمع بالنظر إلى أنها الطبقة الوحيدة التي تنتج في المجتمع، وبالتالي هي الأحق بالإدارة. هذا هو الجوهر الأساسي لفكر سان سيكون فيما يتعلق بالمجتمع المثالي. ولكن هل هذا الفكر ممكن التطبيق؟! ويمكن الانطلاق بالتساؤل إلى مستوى أعلى ليكون السؤال: "هل هذا مجتمع مثالي حقًا؟!". هل هذا مجتمع تتحقق فيه صفات المثالية والعدالة؟! هناك اعتراض — وليس مجرد تحفظ — أساسي على فكرة المثالية المتعلقة بوجود طبقة متحكمة في المجتمع؛ فهذا يتنافى مع أبسط قواعد العدالة الاجتماعية بوضع طبقة تتحكم في المجتمع ككل دون النظر إلى حق باقي الطبقات في قيادة المجتمع الذي تعيش فيه. إذن، المجتمع الذي يبدأ بـ"استفراد" طبقة بالحكم دون الطبقات الأخرى — مهما بلغ الإسهام الذي تقدمه هذه الطبقة للمجتمع — فإنه يفقد صفة المثالية. التحكم نقيض المثالية، والاستفراد والد الديكتاتورية التي تمثل النقيض الصريح للمثالية. لماذا؟! لأن المثالية تعني إزالة كل المشاعر السلبية والعيش في سعادة وهناءة؛ وهذا عين النقيض للواقع المعاش في ظل الديكتاتورية. ولا يوجد من هو أقدر على وصف مشاعر العيش في ظل الديكتاتورية أكثر منا نحن العرب!!
الطبقية.....!! لا يمكنني أن أقتنع أن مجتمعًا يستند إلى الطبقية في بنيانه هو مجتمع مثالي. والسبب في ذلك بسيط، وهو أن فكرة الطبقية تعني أن هناك تراتبية، وأن هناك فئات أعلى من فئات أخرى في المجتمع. لست أقصد أن المثالية تعني المساواة، ولكن على الأقل لا تعني تحكم فئة في باقي فئات المجتمع. وكان حريًا بالفيلسوف الفرنسي أن يتحرر من فكرة الطبقية التي كانت سائدة في المجتمع الفرنسي الذي قامت الثورة ضده رافعةً مبادئ الحرية والإخاء والمساواة. لكن بدلا من ذلك نجد أن سان سيمون يتكلم عن أهمية الطبقية في المجتمعات، بل إنه يجعل الطبقية المفتاح الرئيسي للمثالية في الحياة من خلال جعلها أسلوب حكم في مجتمعه المثالي. كان يتعين على سان سيمون ألا يورط نفسه في هذا المنزلق، وأن يشير إلى "الفئات" بدلًا من "الطبقات" تلافيًا للسقوط في منزلق عدم العدالة والتمييز بين المواطنين في مجتمع يفترض فيه أنه قام لكي يقضي على التمييز ويجعل أفراده يعيشون في أكبر قدر من "المثالية".
المثالية الاقتصادية بنى فيلسوفنا الفرنسي قواعد مجتمع المثالي على أساس اقتصادي لا سياسي، بالنظر إلى أنه جعل الإنتاج والعمل هما الأساس الرئيسي للمجتمع المثالي، وجعل طبقة الصناع والمنتجين هي الطبقة الحاكمة في المجتمع. وفي هذه الجزئية يتميز سان سيمون على غيره من المفكرين الذي حاولوا صياغة المجتمع المثالي على أسس سياسية أو اجتماعية؛ فهو يقول بالاقتصاد أساسًا للمجتمع المثالي. وفي هذه الجزئية يمكننا أن نلمح تأثير سان سيمون على فكر مؤسس الشيوعية كارل ماركس الذي تدور فكرته الشيوعية حول الاقتصاد بالدرجة الأولى. وهناك بعض الملاحظات التي تشير إلى أن المثالية التي يريدها سان سيمون في المجتمع الإنساني هي مثالية تأتي على الكثير من الحقوق الطبيعية للإنسان مقابل إعلاء دور الدولة في السيطرة على الأداء العام في البلاد، بما يشمل "الأداء الاجتماعي"، إن جاز التعبير. هذا الحرمان وهذه السيطرة يتبديان في أن الفكر السان سيموني ينص على أن الدولة هي الوريث الشرعي والوحيد للمواطنين بدافع حماية المواطنين من مشاعر الغيرة والإحباط التي تصاحب عملية توزيع الميراث، وهي المشاعر التي تتنافى مع فكرة المثالية. إلى جانب أن فكرة الميراث تتنافى مع فكرة العدالة الاجتماعية بحصول أحد الأفراد على قدر من المال والثروة لم يكن ليتوافر له لولا الميراث؛ أي توافر له دون بذل الجهد في الإنتاج، الذي يمثل المحور الرئيسي في المجتمع المثالي لدى مفكرنا.
غياب القضاة لمثالية المجتمع!! لا يرى سان سيمون أن هناك حاجة للقضاة في المجتمع المثالي إلا في المراحل الأولى لنشأة المجتمع. لماذا؟! لأن الأفراد سيأتي عليهم وقت سوف يحفظون القانون ويطبقونه من أنفسهم دون الحاجة إلى قضاة. وهنا يتغاضى سان سيمون عن واحدة من أبسط الخصائص في النفس البشرية وهي الميل إلى الاختلاف. فالاختلاف سواءً كان بالطريقة الإيجابية أو السلبية هو جزء من طبيعة الإنسان. لذا، يحتاج المجتمع المثالي لدى سان سيمون إلى أن يكون الناس قرناء للملائكة لكي يعيشوا بالطريقة التي حددها سان سيمون في غياب للقضاء، وكذلك سيادة الأخلاقيات الصناعية التي تستهدف في النهاية تحقيق زيادة الإنتاج.
كانت هذه أبرز الملاحظات على الفكر المثالي لدى الفيلسوف والمفكر الفرنسي كلود هنري دي سان سيمون، وهي في النهاية مجرد ملاحظات وتعليقات انطلاقًا من قراءات لما كتبه المفكر أو ما كُتِبَ عنه، ولا ترقى لمستوى الدراسة الكبرى؛ فهذا لا يستقيم مع العقل الإنساني أن تكون هناك دراسة في ثلاثة مقالات أو أربعة!! وبشكل عام، ربما يكون هذا المقال هو نقطة انطلاق نحو رؤية للمجتمع المثالي من وجهة نظر المدارس الفلسفية المختلفة في إطار يوضح المبادئ الأساسية للمجتمع المثالي في هذه الفلسفات مع إلقاء الضوء على جزئية مهمة وهي موقع المجتمع المثالي في الدين مع التركيز على الدينين الإسلامي والمسيحي في هذا السياق بالنظر إلى كثرة الأدبيات التي تناولت المسألة المثالية لدى المفكرين المسلمين والمسيحيين.
#حسين_محمود_التلاوي (هاشتاغ)
Hussein_Mahmoud_Talawy#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الوضع المصري... محاولة للفهم وربما الخلاص (4) كيف أخفق رجال
...
-
الوضع المصري... محاولة للفهم وربما الخلاص (3) الطبقة الوسطى.
...
-
الوضع المصري... محاولة للفهم وربما الخلاص (2) كيف حُشِدَ الش
...
-
الوضع المصري... محاولة للفهم وربما الخلاص (1) كيف حُشِدَ الش
...
-
ملاحظات على فكر سان سيمون (2)... الدين والطبقة الاجتماعية
-
ملاحظات على فكر سان سيمون (1)... التاريخ وتقدم المجتمعات
-
مصر... في زمن الإرهاب
-
مصر... بين ديكتاتورية اللحية وعسكرة الفساد
-
الإنسان إذ يواجه ذاته... وقد ينتصر!
-
من الهيمنة إلى الفناء... الثقافة كعامل فناء وإفناء
-
الأخلاقية في الفعل السياسي... الحالة المصرية والتشيّؤ!
-
تأملات... في حاكم سقراط!!
-
سفر الخروج... تأملات لا دينية!!
-
لماذا يخاف الإخوان من (تمرد)؟!
-
التعديل الوزاري المصري.... عندما يتجسد الفشل!!
-
بين عمرو دياب وأم كلثوم... عن التأثير المصري نتحدث!
-
حلوة بلادي...!! إفطار في الجمالية...!!
-
بعد 9 أشهر... ألم يولد مشروع النهضة بعد؟!
-
هل الإنسان -الحر- أسطورة؟؟!! الذات الإنسانية قيدا وقائدا
-
القومية العربية... ألا تزال حية؟!
المزيد.....
-
تحقيق CNN يكشف ما وجد داخل صواريخ روسية استهدفت أوكرانيا
-
ثعبان سافر مئات الأميال يُفاجئ عمال متجر في هاواي.. شاهد ما
...
-
الصحة اللبنانية تكشف عدد قتلى الغارات الإسرائيلية على وسط بي
...
-
غارة إسرائيلية -ضخمة- وسط بيروت، ووسائل إعلام تشير إلى أن ال
...
-
مصادر لبنانية: غارات إسرائيلية جديدة استهدفت وسط وجنوب بيروت
...
-
بالفيديو.. الغارة الإسرائيلية على البسطة الفوقا خلفت حفرة بع
...
-
مشاهد جديدة توثق الدمار الهائل الذي لحق بمنطقة البسطة الفوقا
...
-
كندا.. مظاهرات حاشدة تزامنا مع انعقاد الدروة الـ70 للجمعية ا
...
-
مراسلتنا: اشتباكات عنيفة بين -حزب الله- والجيش الإسرائيلي في
...
-
مصر.. ضبط شبكة دولية للاختراق الإلكتروني والاحتيال
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|