|
التقنية والسياسة
سعيد الوجاني
كاتب ، محلل سياسي ، شاعر
(Oujjani Said)
الحوار المتمدن-العدد: 4229 - 2013 / 9 / 28 - 14:41
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
ما المانع من معالجة المسألة السياسية بألفاظ التقنية ؟ لماذا نتحدث عن استيراد التكنولوجيا الملائمة ، ولا نتحدث عن السياسة كتكنولوجية ؟ اليست السياسة ترويضا للأجسام وتطويعا للعقول ؟ اليست السياسة هي العاشق الاول للتكنولوجيا وخدماتها و’مستعمِلها الاول ؟ من الثابت سوسيولوجيا ان الدولة ، بمعنى الجهاز السياسي الحاكم ، هو رائد التحديث وفاعله الاساسي ، لا في الغرب فقط ، بل في بلدان العالم الثالث . فالدولة تتطلع الى شراء احدث التكنولوجيات العسكرية البرية والبحرية والجوية ، وهي اول من يلجأ الى اقتناء تقنيات التواصل الاعلامي ( الاذاعة والتلفاز ) ، وهي اول من يلجأ الى استعمال الاجهزة الالكترونية في احصاء وتسجيل وضبط ومراقبة السكان والجماعات والأفراد ، ولكن هذا ليس هو بيت القصيد هنا ، بل ان هدفنا هو النظر الى المؤسسات السياسية ، والأجهزة السياسية ، والتنظيمات السياسية كتكنولوجيات . انها تكنولوجية بمعنى آخر ، اي أنها وسائل وأدوات لممارسة السلطة ، وللتحكم في اجساد وأرزاق العباد . وفي هذا الصدد يجوز ان نتحدث عن مسألة نقل التكنولوجية السياسية الملائمة لشعب من الشعوب ، وفي مرحلة وفترة من المراحل والفترات . فقد وجدت بلدان العالم الثالث نفسها ابتداء من اوائل القرن التاسع عشر ، واقعةْ وبدرجات متفاوتة في مخالب الاستعمار الغربي البغيض ، ودخلت من ثم في عملية تحديث لبنياتها السياسية والاقتصادية والتقنية ، وذلك باستنبات تنظيمات وأجهزة سياسية جديدة . وفي هذا المجال نتحدث عن استيراد الصناعات السياسية الثقيلة المتمثلة في تغيير نظام الحكم التقليدي ، واستبداله بنظام حديث مغاير يستجيب للمرحلة الجديدة .فقد كانت معظم دول العالم الثالث ملكيات او امارات تقليدية ، وكانت اول قطعة تكنولوجية سياسية كبيرة تم استيرادها ، هو النظام الجمهوري . فابتداء من الخمسينات عمت الوطن العربي موجة من الانقلابات السياسية استبدلت النظام الملكي بنظام جمهوري ، وكانت ثاني قطعة هي الدستور ، ثم البرلمان والانتخابات ، والمجالس الحضرية والقروية ، وتنظيم الجيش والشرطة وأجهزة الرصد وتتبع الاخبار والمعلومات بطرق عصرية ، وتنظيم الادارة بأساليب بيروقراطية حديثة . وفي اطار موجة نقل التكنولوجية السياسية ، ظهرت الاحزاب السياسية كصيغة تنظيمية قائمة على الانتماء الطبقي والإيديولوجي المشترك ، وظهرت النقابة والجمعيات . ولم يقف الامر عند استيراد تكنولوجيات سياسية تنظيمية ، بل تعداه الى إستنقال تكنولوجيات فكرية ، واقصد بها مذاهب سياسية غربية كالاشتراكية والليبرالية واليمين واليسار والوسط ويمين اليمين ويسار اليسار ..لخ لكن القوى التقليدية في المجتمع العربي ، التي استيقظت بعد ان فشلت الحركات التحديثية في انجاز المهام التي اوكلتها لنفسها في تحديث المجتمع والدولة ، وتحرير الارض والاقتصاد والثقافة ، بدأت عملية احتجاج كبيرة ضد هذه الحركات التي قبلت باستيراد تكنولوجيات سياسية غربية متقدمة ، وتناست الخردة السياسية التقليدية المتمثلة في الانماط المتوازنة والمجالس الجماعية ، مطالبة بتبيئة ( بيئة ) التكنولوجيات السياسية المستوردة ، إما حذفا او تكييفا ، ومطالبة بتطبيق الشريعة ، وبرفض البضاعة السياسية المستوردة ، لأنها لا تتلاءم وخصوصياتنا الثقافية . فالسلطة قد اصبحت استبدادا لا تسييرا وحكما ، والانتخابات قد اصبحت تزويرا وبزنسة ، والديمقراطية فوضى وزلفى ورشوة وهكذا . وعملية التبيئة والتكييف تقتضي عند البعض ، البداية بتسمية الاشياء بمسمياتها الاصلية ، فالقانون هو الشريعة ، والبرلمان هو مجمع المشاييخ ، والحزب هو العصبية ، والرئيس هو الخليفة او الامام . وعند البعض الآخر تنقية الممارسة السياسية من مظاهر استلابها تجاه الغرب بالدعوة الى تطبيق الشريعة والعودة الى الحدود والجزاءات التقليدية . ان هذا النزاع يعكس في العمق صراع ثقافتين مختلفتين ، ومنظورين متباعدين للمجتمع والتاريخ . فالتكنولوجية السياسية الغربية الحديثة مبنية على ثقافة عصرية تبلورت مع الاحداث الكبرى المؤسسة للحداثة الاوربية ( النهضة ، الاصلاح الديني ، الاكتشافات الجغرافية ، الثورات العملية ، غاليلو ) والثورات الاقتصادية ( انجلترا ) والسياسية ( فرنسا وأمريكا ) والأنوار .. الخ التكنولوجية السياسية الغربية ترتكز على ارضية ثقافية حداثية تجد نفسها في نزاع مع الثقافة التقليدية المتوارثة . وعملية الملائمة والتكييف تقتضي ممارسة الاجتهاد والتأويل والنقد على كل من المنظومتين الثقافيتين بهدف التقريب بينهما والتقليل من فرص الاصطدام والتنافي . ولعل المطلوب من الثقافة المستقبلية ، جهودا اكبر في استيعاب وتبيئة هذه التكنولوجية ، حتى لا تتحول الى ثقافة ترفض الجديد والحديث ، بسبب عدم قدرتها على فهمهما واستيعابهما . ان التعارض بين الجديد والعصري ، بين الحديث والتقليدي دليل على وجود منظورين وتحليلين يتفاعلان في الساحة السياسية والاجتماعية ، من خلال ترويج خطابات وإصدار اشارات تنتصر لوجهة النظر الخاصة التي لا تتواني عند استفرادها بالحكم من التصرف ضد ما كان ينشر او يوزع كخطابات ، وهو ما يفسر انتصار البراغماتية على الطوباوية الدغماتيكية بشكليها اللاهوتي المتزمت الرجعي الاخواني السلفي ، والليبرالية والعلمانية بشكلها المتطرف الإقصائي . لقد جاء عبدالرحمان اليوسفي الى الحكومة وليس الى الحكم ، وجاء بعده عبدالاله بنكيران كذلك الى الحكومة وليس الى الحكم . لكن لا حزب اليوسفي ، حزب زمان وليس حزب الآن ، ولا حزب بنكيران حزب الآن وليس حزب زمان ، قد تمكنا من التوفيق بين الشعارات والمتطلبات ، وكلاهما ارجع سبب النكسة الى قوى الظل المتحكمة في المقود . لقد تشكى اليوسفي من جيوب المقاومة ( وزارة الداخلية ايام ادريس البصري ) وتشكى بنكيران من ( التماسيح والعفاريت ) المعروفة ، لكن نسيا ان سبب النكسة هو لا هذا ولا ذاك ، بل سببها الخلط والضبابية في المزاوجة بين ما تم استيراده من قيم مشوهة عرجاء لا تنطق بلغة المكان ولا الزمان ، وبين التمسك بقوالب جامدة باسم المحافظة على القيم التي خدشوها بمبررات الصراع بين التقليد والحداثة ، العصري والقروسطوي ، فكان الضائع المغرب والمغاربة الذين وجدوا انفسهم ينساقون وراء شعارات فضفاضة لا تمثل حقيقة واقع اصحابها المنقسمين بين تغريبيين متطفلين انتهازيين ووصوليين ، وبين لاهوتيين تقليدانيين رجعيين عملتهم المتاجرة بالدين ما دام يسهل بساط المنافع والتسلط بدل السلطة لفقيههم وشلتهم التي تضرب اسداسا في اخماس في طريق الوصول الى الخلافة الراشدة . فهل ما استوردته البلاد العربية من الغرب البغيض اللاّخلاقي منذ حصولها على استقلالها السياسي هو الحل ، ام ان الاسلام في صورته الرجعية المتزمتة هو الحل ؟ في نظرنا لا هذا ولا ذاك مادام الواقع الشعبي ينطق بلغة غير لغة المنبهرين بالآخر ولا بلغة ( المتمسكين ) بلغة السيد قطب " الاسلام هو الحل " . اذن لابد من البحث عن اطار جديد يوحد بين العصرنة في صورتها الانسانية والتقليدانية في صورتها السمحة ، اي الجمع بين الاصالة والمعاصرة التي تأخذ بعين الاعتبار التاريخ ، الواقع ، الجغرافية ، الاصل والموروث الايديولوجي الذي عمر لأكثر من الف وخمسمائة سنة . فبدون هذه الحقيقة الصادمة لن تنجح هناك تنمية بشرية وإنسانية مستدامة ، ولن يكون هناك تطور لخدمة الاجيال اللاحقة ، وسنبقى نجتر دائما لغة الصراع العقيم بين التغربيين والتقليدانيين ، في الوقت الذي تكون فيه المجتمعات الاخرى قد قطعت من المسافات ما يجعل الفرق بيننا وبينها هو الفرق بين الارض والسماء .
#سعيد_الوجاني (هاشتاغ)
Oujjani_Said#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المدرسة والمسألة المعرفية
-
نحو المحافظة على الهوية الثقافية والاصالة الحضارية
-
تنزيل الماركسية
-
تذليل المفهوم القروسطوي للدين
-
فشل اردوغان والاخوان في محاولة بعث الفاشية العثمانية
-
المثقف الماركسي والوعي الطبقي
-
دفاعا عن سورية وليس عن الأسد
-
الإتجار بالديمقراطية البرلمانية
-
الديمقراطية وترويض القدرة السياسية في المجتمع
-
الاخوان الفاشيون
-
الإستعارة في اللغة السياسية
-
- امرأة عند نقطة الصفر -
-
الطب والامبريالية في المغرب
-
حين يصبح الانقلاب والتزوير مشروعا
-
منظمة -- حزب -- تيار
-
ادوات اشتغال المخزن
-
دراسة تحليلية لماهية المخزن -- المخزن عقيدة وليس مؤسسة .
-
جدل عن غياب العاهل محمد السادس خارج المغرب
-
الطريق الاستراتيجي الثوري للدولة الفلسطينية
-
المسار الاعرج لمنظمة ( التحرير ) الفلسطينية
المزيد.....
-
اتهمت جيفري إبستين باستغلالها جنسيًا.. رواية فيرجينيا جوفري
...
-
فيديو: انهيار ناطحة سحاب في بانكوك جراء الزلزال يثير تساؤلات
...
-
إسرائيل تعلن توسيع نطاق عمليتها العسكرية في غزة مع إخلاء -وا
...
-
عملية أمنية أوروبية تطيح بشبكة ضخمة لاستغلال الأطفال جنسيا و
...
-
اتهام موظف رفيع في وزارة أمريكية بالقرصنة الإلكترونية
-
مستشار ترامب: الرئيس قادر على إيجاد طريقة للترشح لولاية ثالث
...
-
مشروبات الجمال والصحة
-
-ما حدث في غرينلاند يمكن تكراره في إسرائيل- - هآرتس
-
ترامب يستعد لـ -أم المعارك- التجارية: العالم على شفير هاوية؟
...
-
مناورات صينية بالذخيرة الحية حول تايوان تحاكي ضرب موانئ ومنش
...
المزيد.....
-
أمريكا وأوروبا: ملامح علاقات جديدة في عالم متحوّل (النص الكا
...
/ جيلاني الهمامي
-
قراءة جديدة للتاريخ المبكر للاسلام
/ شريف عبد الرزاق
-
الفاشية الجديدة وصعود اليمين المتطرف
/ هاشم نعمة
-
كتاب: هل الربيع العربي ثورة؟
/ محمد علي مقلد
-
أحزاب اللّه - بحث في إيديولوجيات الأحزاب الشمولية
/ محمد علي مقلد
-
النص الكامل لمقابلة سيرغي لافروف مع ثلاثة مدونين أمريكان
/ زياد الزبيدي
-
العولمة المتوحشة
/ فلاح أمين الرهيمي
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
الخروج للنهار (كتاب الموتى)
/ شريف الصيفي
-
قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا
...
/ صلاح محمد عبد العاطي
المزيد.....
|