عدنان اللبان
الحوار المتمدن-العدد: 4228 - 2013 / 9 / 27 - 14:12
المحور:
الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية
تقول نادية : كنا مع الجميع , آلاف العوائل الكوردية النازحة من قراها وبيوتها , الى اين ؟ لا احد يعرف , كنا نسير باتجاه الجبل المقابل لجبل قنديل . الطريق الذي يربط بين دوكان وقنديل يبدو في الوادي مثل الافعى , وبجانبه روبار ( مجرى مائي ) صغير ينزل باتجاه بحيرة دوكان . كان الجميع يعتقد انه يهرب الى اعالي الجبال لكي يتخلص من بطش النظام , والنظام هذه المرّة اكثر قسوة من المرات السابقات , فلقد انهى حربه مع ايران وأبواق اعلامه تصرخ ليل نهار بالانتصار , ولم تبق له غير كونة ( معركة ) واحدة كما قال صدام , والمقصود هذه الحملة العسكرية على المعارضة المسلحة في كردستان , وسحق الشعب الكردي الذي احتضن هذه المعارضة لكي لا تقوم له قائمة مرة اخرى . وجيشه الذي فاق المليون عسكري لم يسرح منه احد بانتهاء الحرب الا بعد انهاء هذه ( الكونه ) التي تلت ايقاف الحرب بأيام .
كان الجميع مرعوبا , وشبح الكيمياوي سيطر على اذهان الجميع , فبعد حلبجة كانت ضربة الشيخ وسان في اربيل , وتبعها بزيوة في دهوك وقد قصفها مرتين الاولى بغاز الخردل والثانية بغاز الاعصاب الذي لم يبق على بشر او حيوان. الاشاعات التي نشرها وكلائه وجحوشه قبل ايام من الحملة اثارت جنون الرعب , والجميع لا يفكر الا بخلاصه . تركوا كل ما يملكون , بيوتهم , حيواناتهم , قدورهم على النار , ومحظوظا من كان منهم يمتلك بغلا او حمارا يشد عليه بعض من عزيز حوائجه . تقول نادية : كانت المفرزة بحدود الاربعين نصيرا شيوعيا وأنا النصيرة الوحيدة بينهم وبقيادة الرفيق كانه بي . كنا نسير متراصين مع هذا الحشد الجبار في تلك الدروب الجبلية الضيقة , وقرص الشمس اخذ يميل الى الغرب , الى الجبل الذي نسير باتجاهه والمقابل لقنديل , وماذا سيوفر هذا الجبل من حماية لكل هذه الحشود ؟! ومن الذي اطلق اشاعة ضرورة التوجه في هذا الاتجاه ؟! اخذنا نرى ازدياد تقدم الآليات العسكرية والمدفعية على الطريق الوحيد في الوادي , وهو ما زاد الرعب وشحن العوائل بطاقة جديدة لكي تندفع اكثر في هروبها , وفي هذه اللحظة بالذات اصدر كانه بي امرا بتوقف المفرزة وعدم مواصلة المسير . فاضطر الرفيق بولا زوج نادية الذي يسير بجانبها للركض بفتاة لا تتجاوز الخمس سنوات لإيصالها الى امها , بعد ان عجزت الفتاة من مواصلة السير وتوسلت امها بكل الموجودين لمساعدتها في حمل طفلتها ولم يساعدها احد , كانت قد تخلفت عن ابناء قريتها , اضطر بولا لحملها رغم كل ما يحمله من سلاح وعتاد وحقيبة شخصية , ونامت الفتاة على كتفيه , وبعد قليل شعر بدفء بولها يطوق رقبته , مما دفع نادية لتحسده بالحصول على قولونيا وفي هذه الظروف ؟ فضحك بولا وأثار حفيظة الذين حوله , فالتفتوا اليه ودردم شيخ طاعن في السن بمسبة وبصق في الارض , وسحل رجليه لمواصلة الطريق .
تجمعنا على جهة اليمين ونزلنا الى مجموعة اشجار لا تبعد كثير عن سير الحشد , طلب منا كانه بي الجلوس وظل هو واقفا يدير بعينيه بين امتداد مسير هذا الحشد الذي لا ترى بدايته ولا نهايته , وبين جبل قنديل المقابل لنا وقد غطت سحابات الغيم قمته ونحن في نهاية شهر آب , وبين الجيش الذي تسارع انتشاره على طول الطريق اسفلنا . تفرس في وجوهنا , ونظرته تخترق كل واحد فينا , لم يركز على احد , كان يمسح بنظرته الجميع وترتد لتحتوي اللوحة التي امامنا , اخذ العرق يتصبب من جبهته , والشمس تميل الى الغروب . قال بحزم لا يقبل اي تأويل : رفاق ( ورفع يده باتجاه الحشود ) تشوفون ذوله الناس المساكين , ذوله رايحين لموتهم , وكلهم راح ينبادون . قالها في الكردي والعربي حتى لا يبقى مجال للتأويل رغم ان الجميع يعرفون العربي والكردي . وأضاف : الطريق الوحيد الذي امامنا هو ان ننتظر الغروب , وبعدها نتحرك باتجاه الشارع وسنعبره مخترقين العجلات العسكرية الى اليمين من القنطرة التي نعبر عليها الروبار , نعبر بسرعة , ولكن بهدوء , حتما معهم مجاميع من الجحوش او قريبين منهم ولن يفرقونا عنهم وهم في هذه الحركة . نسحب اقسام الامان ولن تكون الايادي قريبة من الزناد , ولا يمكن ان تطلق النار ما لم تحدث المواجهة او ان تكون قد يئست بالكامل من الخلاص . كانت الكلمات الاخيرة قد انحفرت في ذهن الرفاق , وسيطر الصمت على الجميع . اكمل كانه بي : وهو الطريق الوحيد للخلاص , ( رفع يده ومد سبابته باتجاه بقعة داكنة خلف قطعات العسكر ) سنجتمع هناك ( وهي مجموعة احراش وأشجار صغيرة ) , ومن هناك سنعبر قنديل باتجاه الحدود مع ايران .
كان بيننا اطباء ومهندسين ومدرسين وطلاب جامعة , ويمكن ان يكون كانه بي الوحيد الذي لا يملك مؤهل دراسي وقد تعلم القراءة والكتابة في الحزب , ولكن كانه بي الوحيد الذي يمتلك القدرة على توجيه كل هذه المجموعة حتى ولو الى حتفها , ولو كان غيره لاعترض البعض واعتبروها خطوة مجنونة . الا ان هيبته التي اكتسبها من كونه مخلوق لحسم اصعب اللحظات في حياة الانصار جعل الجميع تحت تأثير فكرته ( المجنونة ) :" يجب ان نخترق العسكر , وهو الطريق الوحيد لخلاصنا ". لم يشك احدا في هذا القول , واجزم ان الجميع قد غاب وعيه وانشّد للتفكير في كيفية الاختراق التي لم تمر عليه حتى في افلام السينما .
انفصلت مجموعة من الانصار عن الحشد , وسرعان ما تجمع معها آخرون واتجهوا نحونا , احد الرفاق شخصهم كونهم مفرزة من اليكتي ( الاتحاد الوطني الكردستاني ) . ورغم ان العلاقة معهم لم تعد بعد الى وضعها الطبيعي , الا اننا كنا نعرف بعضنا البعض , وفي هذا الظرف الصعب يجب تجاوز الكثير . وحال وصولهم وتبادل التحايا , توجه مسؤولهم الى كانه بي الذي يبدو انه يعرفه جيدا , وبعد حرارة التحية انفرد به وسأله عن الوجهة التي يجب التحرك بها . اخبره كانه بي : من الخطأ السير مع الجموع التي اتوقع انها ستباد , ويبدو ان الخطة الحكومية هي التطويق الكامل , والجيش من الصباح انتشر على الطريق لمنع العبور الى قنديل ومنه الى ايران , وليس مثل السابق حيث كان الجيش يأتي من الداخل وتخرج الناس باتجاه قنديل او اي طريق آخر الى الخارج , ونحن قررنا ان نجد ثغرة نعبر بها الشارع الى قنديل .
فسأله الضيف : رفيق كانه بي ما تشوفها صعبة ؟!
كانه بي : حتى لو النجاح خمسة بالمية افضل من ان نروح برجلينه للموت .
استأذن لكي يناقش مفرزته , كانت المفرزة بحدود الثلاثين نصيرا وجميعهم من الشباب , ويبدوا انهم تفاجئوا بسرعة انتشار القطعات العسكرية وقطع اغلب الطرق قبل ان يعرفوا الى اين يتوجهون , ولم نشاهد معهم جهاز لاسلكي لكي يعرفوا من خلاله توجيهات قيادتهم .
لم تمض اكثر من ربع ساعة رجع مسؤول المفرزة الى كانه بي بطلب ان يكون الجميع مفرزة واحدة بقيادة الرفيق كانه بي . اجتمعت مفرزتنا لكي يوضح لنا كانه بي طلب توحيد المفرزتين . احد الرفاق كان اسيرا في بشتاشان ولا تزال صورة اعدام الرفاق لكونهم عرب اسرى ماثلة امام عينيه , اعترض , وتساءل : قد يكون من بينهم من ساهم في الهجوم علينا واعدم اسرانا ؟
كانه بي : صحيح رفيق , غدروا بنا عندما كان رفاقنا اسرى عندهم , اليوم الوضع يختلف والجميع في قارب واحد , وإنهم طلبوا ان يضعوا حياتهم تحت مسؤوليتنا وحمايتنا .
تحرك الجميع باتجاه عدة بيوت تركت من قبل اصحابها قريبة من الروبار , والروبار يبعد مسافة لا بأس بها عن الشارع العام الذي اخذ يمتلئ بالآليات العسكرية . اختفت الشمس خلف الجبل الذي خلفنا ولم تبق من اشعتها الا ما ينير اعالي جبل قنديل امامنا , توزعنا على البيوت , وعرفنا ان ثمانية من انصار الاتحاد الوطني تركوا المفرزة وذهبوا مع الحشد بعد ان عرفوا ان المفرزة ستخترق القطعات العسكرية , اثنان منهم هربا بسلاحيهما والآخرون تركوا اسلحتهم مما دفع مسؤول المفرزة واثنان آخران الى لف الاسلحة المتروكة بقطعة نايلون كبيرة ودفنها في حفرة معلومة لهم . كنا جائعين ومرهقين , فتشنا عن الطعام ووجدنا صحيفتي عسل جبلي اصلي تزن الواحدة اكثر من خمسة عشر كيلوغراما , وحصلنا على خبز متروك ايضا , وكانت غذاء جيدا سيمدنا بطاقة كبيرة . اكل الجميع من صحيفة واحدة ولم نستطع اكمالها . اخذ بولا الصحيفة الثانية وذهب بها خارج البيوت , وقد قدر حسب ما اخبرنا به بعد ان خبئها في مغارة صغيرة بين الاشجار , هو للاحتفاظ بها خوفا من عدم تمكننا من العبور وسيكون علينا البقاء لفترة لا نعرف كم ستطول , ومن الضروري تأمينها في مكان معروف لنا .
الفترة التي تلي غياب الشمس مباشرة عن قمة حرير تكون الاسرع لانتشار الظلام في الوادي , وهذا الوقت الذي حدده كانه بي للعبور , اي قبل انتشار الظلام . طلب من نادية ان تكون في وسط المجموعة , وأكد : ان الرفيقة نادية هي هويتنا , ولا احد غيرنا يمتلك النصيرات . وقد طلب من الجميع في آخر توجيهاته ان لا يتكلم احد بالعربية ان حدث وتحدث احد الجنود معهم , وشخّص اربعة انصار اكراد كان اثنان منهم جحوش ويعرفان تفاصيل واقع افواج الفرسان (الجحوش) في المنطقة وأسماء امراءهم , وكانت لغتهم العربية مكسرة وسيسيرون بمحاذاة المفرزة للتحدث مع الجنود ان حدث ذلك . والاهم ان المسير يجب ان يكون بمجموعة بعكس مسير الانصار الحذر اثنان اثنان , وهو ما يناسب ايضا حاجة العبور السريع .
تقدم كانه بي بقامته الضخمة ومعه اثنان من الانصار بحدود العشرين مترا عنا , كان منتصب القامة , وخطواته الثابتة رغم العرج الذي يعاني منه ازاحت عنا كل توجسات قلق المجازفة , كان يدك بعصاه الغليظة ( عكازة ) الارض دكا , وعند وصوله للعجلات العسكرية ناداه ( باتفاق ) احد الانصار من الخلف , التفت , ولم افهم كل ما رد به بالكردية , ولكني استغربت نبرته المتسلطة التي لم نتعود عليها - كانه بي عندما يوجه امرا عسكريا نخجل جميعا من طريقة كلامه المؤدبة – الا انه الان فعلا آمر جحوش , رفع يده وأشار للمواصلة . تقول نادية : كنت اسير بين الرفاق , امتلئ بزهو النجاح , وهو ما دفعني ان ارفع رأسي وأتفرس الجنود عسى ان اشاهد شقيقي الذي تركته منذ عشر سنوات , او احد معارفي , كان بعضهم يتحلق حول مطبخ سفري ينشدون الحصول على طعام متبقي مثلما نسميه في الانصار (عوازة ) كانت لحظات تمنيت ان تطول اكثر .
لم نكن مصدقين , لم يتجاوز عبورنا الربع ساعة , وصلنا الى اطراف الاشجار الصغيرة , كنا نتفرس بوجوه بعضنا البعض رغم هبوط الظلام , غير مصدقين بنجاتنا , ركبتنا موجة مشاعر عالية من الثقة بالنفس , عشرات الاحتمالات كنا نضعها عندما نصطدم بالجحوش او بالقطعات العسكرية , سنوات طويلة لم يكن حذرنا وخوفنا الا من احتمال السقوط في ايديهم , كنا بينهم , لا يبعدون عنا الا امتار , يروننا , ونتفحصهم , وبدون اي كلام , انهم يحتقروننا لاعتقادهم اننا جحوش , وهو ما دفع بعض الجنود ان يدير وجهه ولا ينظر الينا . عبور اقرب الى الخيال , ولن تجد في بساطته التي اذهلتنا ما يختلقه المنتجون من صعوبات في افلامهم السينمائية .
اجتمعنا عند الطرف الآخر من الاشجار , والرفيق مسؤول مفرزة الاتحاد اخبر كانه بي بأنه على علاقة بمسؤول فوج الجحوش في هذه المنطقة وقريته قريبة , ودعانا للانتظار لغرض الاتصال به وتأمين عبورنا الى الجانب الثاني من قنديل باتجاه ايران . عرفنا بعد قليل انه لم يجده وكان مع فوجه في اعالي الجبل لقطع الطريق على من يحاول العبور الى الجهة الاخرى , وان العملية العسكرية ستبدأ عند الفجر في تمام الساعة الخامسة , الجحوش قد طوقوا القمم والجيش بمدفعيته وراجماته وسلاحه الثقيل من الاسفل , والطائرات ستحوم على من سيبقى على قيد الحياة . اي حقد اسود على هذا الشعب المنكوب ؟! ولكن آمر مفرزة الاتحاد جاء بأخ آمر الفوج ومعه دليل للطريق . كنا منهكين, وأصبح علينا عبور قنديل بدون تأخير , كانت معنويات بعضنا اخذت تهبط بعد ان اعتقدوا ان عبور الجيش هو اهم ما في النجاة , والآن عليهم عبور قنديل . لا احدا يعرف ماذا يعني العبور سيرا على الاقدام ما لم يشاهد - مجرد مشاهدة – كيف ينتصب قنديل . وفي الطريق الموحش كان الصعود ينهش بأنيابه آخر ما تبقى من طاقة في كل خطوة نخطوها لأكثر من ثمانية ساعات , نفذ الماء , والإنهاك بلغ اشده , وأية استراحة ستؤدي الى كارثة , قبل اول خيط للفجر يجب تجاوز الجحوش , يجب الابتعاد عن الجحوش , وطريقنا كما قال الدليل هو الالتفاف حول مناطق تواجدهم . هبطت معنويات البعض , وقال احد رفاق الاتحاد : افضل الموت على ان لا اسير خطوة اخرى . فانبرى له رفيق أخرمن مفرزتهم : عيب عليك , الرفيقة نادية تواصل المسير وهي امرأة , ولم يبق لنا الا القليل . كان لوجود نادية وقدرتها الغير طبيعية في السير وتحمل المشاق اثر كبير على بعض الرفاق في مفرزتنا او مفرزة الاتحاد للتماسك وتحمل المسير .
وفي الصباح الباكر ونحن ننزل الى الجهة الثانية بعد ان ودعنا شقيق آمر فوج الجحوش والدليل , وبعد نزولنا لمنطقة آمنة سمعنا اصوات المدفعية والقاذفات وأصوات الطائرات والهليكوبتر , وكأنها حرب بين جيشين . وعرفنا بعدها ان اسمها " الانفال ".
#عدنان_اللبان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟