أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - توبي أ. هاف - الأجواء الثقافية وروح العلم















المزيد.....



الأجواء الثقافية وروح العلم


توبي أ. هاف

الحوار المتمدن-العدد: 1207 - 2005 / 5 / 24 - 08:28
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


الفصل الأول -ج2- من كتاب فجر العلم الحديث، الإسلام-الصين-الغرب
تأليف: توبي أ. هاف
ترجمة: د. أحمد محمود صبحي
إصدار: سلسلة عالم المعرفة-الكويت، العدد220



* توقف العلم العربي
* العوامل الداخلية
* العوامل الخارجية: المعوقات الثقافية والهيئات


توقف العلم العربي

حتى القرنين الثالث عشر والرابع عشر كان العلم العربي باعثاً على الأمل في التطور إلى أقصى ما وصل إليه العالم من تقدم، وفي حالة الفلك من الواضح أن هذه السيادة قد ظلت حتى منتصف القرن السادس عشر حين تجاوزت النماذج الفلكية لكوبرنيكوس فأبلغته نماذج ابن الشاطر ومدرسة مراغة، حتى في الرياضيات- كما أشار أ.س. كنيدي- كانت الإحتكارات العلمية الكبيرة قائمة في الحضارة الإسلامية حتى أواخر القرن الخامس عشر.

هناك إتجاه إلى تفسير توقف العلم العربي بالإشارة الى تطورات الجغرافية السياسية، مثل غزو المغول لشرق البلاد الإسلامية وإستعادة الإسبان لبلدهم بدءاً من القرن الحادي عشر، ولكن هذا التفسير يهمل مسار التطور العلمي في العالم العربي الإسلامي، وبصدد حالة اسبانيا فإنه يشوه أهمية اسبانيا في الحضارة الإسلامية، ثم إنه أخفق أيضاً في تصور الطبيعة الفعلية لمؤسسات الدولة العربية الإسلامية بصدد حرية البحث والتفكير.

ولوضع اسبانيا في منظورها الصحيح علينا بمقارنة قد تفيد، لو أن الروس قد طالبوا باستعادة ولاية ألاسكا، ولو حدث ذلك ففيه دلالة على ضعف سياسي وعسكري من الولايات المتحدة، كذلك فإن استعادة الإسبان لبلدهم، من حوالي 1045 ولغاية 1492، إنما يشير الى الضعف السياسي الداخلي للنظام الإسلامي في شبه جزيرة إيبريا، ويتفق المؤرخون على ذكر عوامل الهدم الداخلية التي أدت الى التدهور السياسي الإسلامي في إسبانيا، وقد صاحب ذلك ازدياد التعصب الديني ضد الإسبان، ومن ثم الى رد فعل سلبي من جانبهم أدى الى إجبار الكثير من اليهود والمسلمين الى الهجرة خارج اسبانيا بعد انتهاء الحروب.

فلو أن اسبانيا ظلت حتى القرون الأخيرة - مثلا الى عهد نابليون- تحت السيطرة الإسلامية لإحتفظت بكل المساوئ الأيديولوجية والقانونية للحضارة الإسلامية، فإسبانيا التي تهيمن عليها الشريعة الإسلامية ما كان يمكنها أن تقيم جامعات حديثة قائمة على نموذج أوربي لها استقلالها الذاتي. ويشير مختلف المؤرخين العرب الى أنه لم تقم كليات أو مدارس في اسبانيا قبل القرن الرابع عشر باستثناء واحدة في غرناطة في عام 1249، بينما شهدت المناطق التي كانت خارج السيطرة الإسلامية تأسيس العديد من الجامعات في القرن الثالث عشر، مثل جامعة بالينسيا وفالادوليد وسلامانسا (1227-1228)، والتي تأسس معظمها على نمط جامعتي باريس وبولونيا.

فضلاً عن الشخصيات الفكرية البارزة في اسبانيا: ابن ماجة وابن رشد وابن ميمون ممن لهم أهميتهم بالنسبة للغرب بأكثر مما كانت لهم بالنسبة للحضارة الإسلامية، ولقد أُضطهد كل هؤلاء من قبل رجال الدين والفقهاء والعوام. فبالرغم من مكانة ابن الرشد كقاضي، إلا أنه نفي حتى نهاية حياته وأحرقت كتبه وأكره على الهجرة الى مراكش (سنة 1195) الى أن توفي فيها عام 1198، ولم تجد كتاباته إلا أذاناً صماً في الحضارة الإسلامية.

حقيقة لقد خرب التتار بغداد عام 1258، ولكن بقيت الحضارة الإسلامية صامدة حيث أعيد إحياء الثقافة والمؤسسات وبقي هذا الجزء من العالم إسلامياً، بل الأكثر من ذلك فإن هؤلاء الغزاة بقيادة هولاكو هم الذين شجعوا بناء مرصد مراغة ، ومن ثم غذوا النماذج الفلكية غير البطلمية للكون. إنه يمكن القول إن أواخر القرنين الثالث عشر والرابع عشر، وبخاصة في دمشق والقاهرة، تمثل ذروة التطور العلمي في الفلك والطب. ويمثل حجر الزاوية في الفلك ابن الشاطر في دمشق عام 1375، ومع أن خمسة وخمسين فلكياً بارزا على الأقل قد عاشوا بعد ابن الشاطر تحت حكم المماليك، فإن أحداً منهم لم يستطع أن يستثمر أو يستفيد من إسهامات ابن الشاطر.

أما في الطب فهناك شواهد على أن دمشق والقاهرة كانتا مركز تجمع أطباء مشهورين من الدرجة الأولى في القرن الثالث عشر، وهنا نشير الى اكتشافات ابن القفد (1233) وابن النفيس (1210-1288)، وقد أشرنا إليهما في الفصل الخامس من الجزء الأول.

وخلاصة القول إن بعض أهم التطورات العلمية في الحضارة العربية الإسلامية قد حدثت في أثناء أو بعد الفترة التي كان يفترض فيها أن تؤدي العوامل الجغروسياسية الى الإنهيار، ومن ثم فعلينا أن ندرس العوامل الداخلية والثقافية التي أدت الى توقف مسيرة العلم في الحضارة الإسلامية.

العوامل الداخلية

لقد كان النشاط العلمي في الحضارة الإسلامية ثرياً بأفكاره التجريبية في البصريات والفلك والطب، فلم تكن المشكلة إفتقاراً الى تطور أو استخدام المنهج التجريبي ولا النظرية الرياضية، وفضلاً عن ذلك فلا شك في أنه حتى القرنين الثاني عشر والثالث عشر كان التوازن بين معرفة متكاملة وبين وجود من لديهم المواهب العلمية المدربة تدريباً جيداً يرجح العالم الإسلامي على أوربا، ويدل على ذلك أنه لم يكن في الغرب في تلك الفترة أي باحثين ممن لهم وزنهم في الفلك والأبحاث الكونية، بينما كان في المغرب الإسلامي ابن ماجة (ت1338) وابن طفيل (ت1185) وابن رشد (ت1198) والبتروجي (ت 1198) وموسى ابن ميمون (ت1204)، ثم في المشرق الإسلامي الأردي (ت1266) والطوسي (ت1266) وكمال الدين الفارسي (ت1320) وقطب الدين الشيرازي (ت1311)، ولا يعني ذلك أنه لم يكن هناك فلكيون أدوا إنجازات مهمة في الغرب خلال هذه الفترة، وإنما كان في العالم الإسلامي من سبق الغرب في الكثير من الإنجازات العلمية، وبالتالي كان من المعقول بل من المتوقع لهذه الإنجازات العلمية والفكرية أن تتجاوز الغرب في المستقبل آنذاك، ولكن ذلك ما لم يحدث، ولم تكن المشكلة علمية ولكنها كانت سوسيولوجية وثقافية، إنها تتعلق بالمؤسسات، إنه إذ امتد للفكر العلمي والابتكار الفكري أن يحيا على المدى البعيد في مجالات متعددة من الحرية فما عسى أن نسمي المناطق المحايدة، حيث تحيا مجموعة كبيرة من الناس لتتابع عبقرياتها بمنأى عن السلطات السياسية والدينية، وفضلا عن أنه لابد أن تواكب هذه الحرية قضايا معينة ميتافيزيقية وفلسفية، فطالما تعلق الأمر بالعلم فإنه يجب أن يعتمد الأفراد العقل، وأن ينظر الى العالم على أنه معقول متسق فضلا عن مستويات مختلفة من التصور العالمي والمشاركة، كما يجب أن يكون الحوار ميسراً. هذه هي بالضبط كانت نقطة الضعف في الحضارة الإسلامية التي حالت دون إنجاب العلم الحديث.

المعوقات الثقافية والهيئات

لنركز انتباهنا على مشكلات تطور الهيئات، وأقترح المسودة الآتية المتعلقة ببعض المعوقات التي حالت دون تطور الحضارة الإسلامية الى العلم الحديث، ولمعرفة هذه العوامل التي حالت دون هذا التطور، فلا شك في أنها معوقات مانعة، ومن المفيد النظر الى هذه العناصر في ضوء مقولة ((مرتون)) عن روح العلم، فكما لاحظنا من قبل: ’’ إذا كانت الوصفات والمحظورات والتصريحات لروح العلم قائمة، فإنها يجب أن تكون كامنة في جهاز الهيئات في المجتمع والحضارة، فإن سارت النظرة العالمية بما في ذلك مكوناتها من الشمولية والشيوع والشك المنهجي والنزاهة الى حد أن تصبح كأنها شعارات في البنية الموجهة السائدة في المجتمع فقد توافرت روح العلم ‘‘. إن مفتاحاً أساسياً عن سبب إخفاق العلم العربي في أن ينجب العلم الحديث يمكن أن نلتمسه في أن المعايير المذكورة لم تكن سائدة في البنيات الموجهة للحضارة الإسلامية، ويتلخص توقف الولوج الذي يمكن أن يكون في صميم بنية الروح المعيارية للعلم فيما سيأتي ذكره، وسأغير قليلا من تعبيرات مرتون حتى نستطيع أن نستوعب مباشرة السياق الحضاري والمجتمعي الأوسع والذي يضفي المشروعية على كل أنماط السلوك.

الإخفاق في التطور نحو العالمية

يعني معيار العالمية لدى مرتون أن تكون هناك معايير موحدة مسبقة غير ذاتية من الحكم على الإنجازات الفردية ، وأرى أن هذه النزعة غير الشخصية ملازمة للمعايير الثقافية التي تقيم العالمية، وهي أيضاً الشعارات التي تسود القيم القانونية، وهنا يجب أن نلحظ المفارقة الخطيرة في السلوك المثالي في الحضارتين، نلاحظ مثلا المقاومة العنيفة لإيجاد مجموعة من المعايير القانونية ذات الطابع العقلاني، ومن ثم كان الإخفاق لتوليد معايير علمية جامعة لمجتمع علمي.

فإن ساد معيار العالمية، فإن كل المشتركين في التفاعل الإجتماعي ينبغي أن يكونوا على قدم المساواة، ويتم ذلك بإيجاد مجموعة من المستويات غير الشخصية تنطبق على كل الممثلين بصرف النظر عن وضعهم الإجتماعي أو الحياتي أو أصلهم الجنسي أو العرقي، هنا يحكم على الأفراد والأفعال وفقاً لمستويات عالمية كالمستويات الداخلية للنشاط والنظام، وللعقل كذلك دوره في الممارسة العملية كأنه ممارس مسؤول ولكي تتوافر هذه الشروط فإنه يجب الحكم على من يتوقع أن يصبحوا مشاركين على نحو حيادي لا تشوبه شائبة يمكن أن تلحق العضوية في مجتمع متنوع عرقياً ودينياً أو أي خصوصية أخرى.

وفي حالة الثقافة العربية الإسلامية فإن من المستحيل تحقيق هذا المستوى من الحياد الخلقي والمسلكي في التفكير، ويرجع ذلك الى الطبيعة الخصوصية للشريعة الإسلامية.

وترتب على هذا أن كل تطورات الشريعة كانت تعزيزاً للخصوصية بدلا من عالمية الخطاب. فإلى جانب القانون القرآني المقدس توجد خمس مدارس تشريعية: الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية والجعفرية. وإلى جانب هذه المدارس الخمسة توجد مئات من المدارس الخاصة، ولكنها اندثرت ولم تبق غير هذه الخمسة. وتدور المدارس الخمس حول شخصيات قوية سمحت مواهبهم الدينية والشرعية أن يكتسبوا اتباعاً وأن يطوروا وجهات نظر شرعية متميزة كمذهب فقهي مستقل، ومن ثم استمرت هذه الفردية لتتفاعل اجتماعياً على كل المستويات.

فعلى سبيل المثال، حينما انتشرت حركة تأسيس المدارس في العالم الإسلامي في القرن الحادي عشر فإن كل مدرسة عينت أستاذاً ينتسب الى مذهب فقهي، وذلك يعني أن المدرسة قد أصبحت معهداً لتدريس وجهات نظر شرعية، وكما رأينا في الفصول السابقة حينما كان في المدرسة أكثر من مذهب فإن الفقيه ينتقل من مجموعة من الطلاب الى أخرى ليتجنب اختلاط الطلاب المنتسبين الى مذاهب مخالفة. لقد قام النمط إذن على أساس أن لا تتكامل المدارس الشرعية للتفكير للتغلب على تنافر النصوص المختلفة، ولإيجاد علم شرعي واحد في صورة مطردة ومن ثم فإنه على المستوى الأساسي للخطاب الفكري فإن خصوصية المذهب حالت دون الحوار المباشر والمناقشة.

وتقيم الشريعة أكثر من ذلك تحيزاً شخصياً عميقاً تتجلى في مستويات كثيرة، فإن طلب شخص فتوى فإنه يجد عدة فقهاء من القضاة والمفتين وغيرهم، حتى يصل الى الحكم الديني الذي يوافق أهواءه، فإن لم يجده في مذهبه الفقهي تحول الى مذهب آخر، ويرجع هذا الموقف الى الإفتقار الى الأساس الذي يقوم عليه التشريع من سيادة مطلقة للمشروعية. أما في الغرب فقد نشأ هذا التصور من الخلاف والفصل القانوني بين العالمين المقدس والعلماني، غير أنه من دون تصور واضح في مدى المشروعية في الفعل الإجتماعي لا يصبح هناك يقين من الحياد الذي يسود فيه الإتفاق.

ولقد لاحظ بعض الدارسين النزعة المفرطة في الشخصية والفردية في طبيعة القانون الإسلامي حين يطبق على ممارسات الأفراد، فإن أراد شخص مثلاً أن يقيم عملا خيريا (وقف) ، فإنه يضع شروط الوقف والموارد التي خصصها والتي لها قوة القانون. ويعلن المؤسس عن نواياه وأهدافه، ثم يسلم نسخة من المستندات الى القاضي الذي يحفظها في ملف، وقد يرفض القاضي بعض البنود إذا تعارضت مع تعاليم الإسلام، ولكنها وثيقة شرعية حتى لو لم تتخذ صيغة قانونية مقننة.

وفي مجال آخر نلاحظ في القانون الجنائي أن جرائم القتل تعامل على أنها شؤون شخصية يسمح فيها للضحية بأن ينتقم، فلا تعامل على أنها مسائل تتعلق بالمصالح العامة التي يكون للدولة فيها حق، فالجرائم التي تستحق القصاص يكون فيها الإنتقام، وحق الإنتقام للجانب الذي وقع عليه الضرر، وقد ينتقم الضحية أو أسرته بطريقة لا يمكن التنبؤ بها، وإنما يهتم الإسلام بالجرائم المتصلة بالدين أو الجرائم ضد الله وهي جرائم تستحق الحدود، ولقد تناقض الاهتمام بمجال الأضرار الشخصية ما دامت الشريعة لا تعرف معنى الإهمال وفي ذلك مرة أخرى لم تكن هناك تقنينات عالمية محددة.

وخلاصة القول لقد قدمت الشريعة مثلا على معاملة العام حسب الخاص، ومن ثم لم تتمكن من إقامة مبادئ عامة للمساواة والعدالة، وكما قال جوزيف شاخت: تهدف الشريعة الى وضع مستويات عينية ومادية لا أن تضع قوانين صورية مجردة، وذلك هدف القانون العلماني، هذا التركيز على الجوانب الخاصة في العلاقات البشرية يؤدي الى نتيجة مثيرة الى حد ما، ألا وهي اعتبارات الإيمان الصحيح والمساواة والعدالة تؤدي دورا ثانويا في النسق.

وعلى خلاف ذلك فإن مشرعي الغرب الرومانيين والقانونيين سعوا الى تحقيق بنية مطردة في القانون حيث المبادئ العامة والصورية تنتج معاملة متماثلة، والى جانب هذه الأفكار مثل الإيمان الصحيح والعدالة، وهكذا فإنهم ناقشوا مدى معقولية القانون أو العادة بما في ذلك أثرها بين مختلف الجماعات: ديمومتها، مدى مساواتها، وذلك في صياغة القانون، حتى إذا تمت صياغته فإنه يطبق عالميا وبالتساوي بين الجميع بما في ذلك الملوك ولا يوقفه الحكام المحليون. كذلك أقام القانونيون الأوربيون تفاضلاً بين القوانين حتى تعرف الحدود النظرية لكل مدّونة قانونية وحدودها ومجال سيادتها، بل حتى القانون المقدس والقانون الكنسي والقانون الملكي والقانون الحضري وهكذا، وليس هناك تفاضل في الأولوية بشأن الأنظمة.

ويمكن القول إن نموذج العالمية في الغرب إنما يلتمس في نسقها القانوني، بينما يلتمس نموذج التجزؤ في الحضارة الإسلامية وقانونها. فبينما يتجه القانون الغربي في تأسيس مستويات عالمية تنسق مع القانون الطبيعي والعقل الطبيعي، فإن الثقافة الإسلامية أبقت على القانون المقدس بالرغم من فكرة الإجماع، التي تبحث عن العدالة بين المدارس المختلفة للشريعة، وذلك لأنه لا يوجد نسق منظم من القوانين والمبادئ تناظر المدونات الأوربية التي أقامها جراتيان في القرن الثاني عشر.

وخلاصة القول أن الشريعة، سواء في روحها أو في تطبيقها، قد ركزت على التجزؤ والمدخل الشخصي في كل المسائل الإنسانية، ومن ثم يتعذر إقامة منطقة محايدة من البحث العلمي حيث المستويات العامة المتحررة من القانون الديني يمكن أن تطبق دون تدخل.

الإخفاق في تطوير هيئات اتحادية مستقلة

لقد دُرست أساليب الدخول الى العصر الحديث، إذ أشار علماء الإجتماع والمؤرخون الى استقلال العلم، ولكنهم فعلوا ذلك في سياق حديث، حيث استقلال الإتحادات والإستقلال القانوني أمر مسّلم به، إنه مجال عبر عنه إميل دوركايم (( تأسيس العقود السابقة على التعاقد )) ولكنه لم يناقش الموضوع، وكذلك لم يعترف روبرت مرتون في مشروعه المفيد بهذا المجال الدقيق، أما مؤرخو العلم فهم على وعي بأن استقلال العلم غالباً ما تعرض للتحدي في بداية العصر الحديث، ومن ثم ينظرون الى المجتمعات العلمية وحتى الى (( الكليات الخفية )) على أنها أماكن تفريخ العلم الحديث، ولكن هذا المنظور لا يجد الآن نصيراً وبخاصة في ضوء إعادة تقييم مؤرخي العلم للعلم في العصر الوسيط، ذلك أن وجود جماعات علمية يفترض استقلالا قانونيا لا نجده في الإسلام ولا في الغرب قبل القرنين الثاني عشر والثالث عشر.

إن إخفاق وجود هيئات إتحادية مستقلة في العالم الإسلامي قبل اقتباس مدونات القانون المدني الغربية، هو نتاج الشخصية الفريدة التي انفردت بها الشريعة، ويرجع ذلك الى الإلتزامات الدينية والميتافيزيقية بشأن وحدة الأمة الإسلامية، ولما كان القرآن قد حدد قواعد السلوك المطلوب من المسلم إتباعه فهذه القواعد تطبق دوما على كل فرد، فضلاً عن أن الشريعة أو القانون الإلهي يقال عنها إنها تامة وكاملة للمجتمع، ومن ثم لا يسمح بإنفصال جماعة من المؤمنين، وإنه أمر لا يمكن تصوره أن توجد هيئات شرعية متعددة سوى المتعلقة بالقرابة بين الزوج والزوجة والأبناء، ومن ثم فإن تاريخ الشريعة يطلعنا على أن فكرة الكيانات المستقلة أو إنفصال الديني عن العلماني هي فكرة غريبة عن الشريعة. إن هذا الإنفصال بين الديني والعلماني من الأساسيات التي قامت وكانت مطلوبة لتطور علم القانون ونشأة العلم الحديث ذاته.

ولم تظهر في القانون الإسلامي فكرة المحلفين، فكما قال يوسف شاخت، ترد السلطات العامة الى حقوق وواجبات شخصية، فمثلا حق منح شهادة حسن سلوك، وواجب دفع الزكاة، حقوق وواجبات الأشخاص الذين يعينون شخصياً كإمام أو خليفة، إذ ليست الشريعة مخوّلة لمنح استقلال الجماعات كالاتحادات أو النقابات أو السلطة المحلية للمدن والجامعات، ولا يوجد ذلك في الشريعة الإسلامية، فكما لاحظ شاخت: ’’ أن التصور العام عن هيئة غائب، وكانت فكرة الشخصية القضائية على وشك أن تقوم ولكنها لم تحقق على النحو الذي نتوقعه، لا بصدد المؤسسة الخيرية للوقف ولكن بصدد الملكية الخاصة للعبد الذي لا يتم بيعه كفرد وإنما مع عمله كصفقة تجارية.

وفي قانون العقوبات لم يفصل القانون الإسلامي بين الحقوق والواجبات وبين الالتزامات أو الامتيازات الممنوحة لبعض الهيئات، وكما قال يوسف شاخت، بين حقوق الله وحقوق الناس. فبصدد حقوق الله فالقانون يفرض جزاءات عقابية على المذنب حيث تسيطر فكرة حق الله كما لو كانت هناك مطالبة من جانب إنسان متضرر.

وخلاصة القول أن المصدر الرئيسي لمجال استقلال القانون معارض لفكرة أحكام قضائية لإدارة شرعية ومعارض لفكرة منح حقوق خاصة لجماعات معينة، ومن ثم فإن أي صورة لتجمعات حرفية أو مهنية كنقابة أو إتحاد أو جامعة أو مجتمع علمي إنما يحكمها فقط التصور الإسلامي للقانون المقدس الذي يحول دون قيام معاهد تعليمية مستقلة لها حقوق وإمتيازات كما كان قائماً في أوربا اللاتينية في القرنين الثاني عشر والثالث عشر.

التشبث بالتجزؤ في مؤسسات التعليم العالي

هناك بعد آخر للطبيعة الشخصية للتعلم في مؤسسات التعليم في الإسلام في نظام ((الإجازة))، فالإصرار على صورة التلمذة حيث يرتبط طالب بأستاذ، وفي هذا تحول بين العلم القديم والحديث، إذ كما لاحظ جوزيف ديفد، حيث يتصف العلم القديم بالجمود وعدم إسهامه في تطور العلم الحديث. فحتى في المعاهد الرسمية للتعليم العالي لم يكن هناك نسق عام للتعليم أو نظام للامتحانات يؤدي الى شهادة تمنحها المؤسسة، فبتتبع الصور المختلفة لعبارة " رخصة التدريس" فإنها تعني رخصة نقل الأحاديث ثم أصبحت في الشريعة رخصة تدريس الشريعة وإصدار الفتاوى من سلطات الفقيه المتمكن في الفقه.

فأما منح الفقيه طالباً رخصة تعليم الشريعة فذلك باسمه كفرد وليس من هيئة أساتذة في كلية، لأنه لا توجد كلية. فمن الواضح أن نظام "الليسانس" الذي ساد في الجامعات الأوربية يمثل اختلافاً بيناً عن نظام التعليم الفردي في العالم الإسلامي، حيث يختار الطالب استاذه الذي يوافق بدوره على الطالب، ومع أن لهذا النظام مزاياه بالنسبة للطالب، فإن عيبه في أنه ليست هناك مستويات موضوعية للتعليم أو التقييم الذي يمكن أن يتخذ كمرجع في تقدم المعرفة، وبسبب هذا العامل الفردي والخاص وجدنا مئات من دارسي الشريعة عبر القرون كل تلقى العلم على يد فقيه، بفكره وسحر شخصيته اقام مدرسة خاصة في الشريعة قادرة على إصدار فتاوي غير مقيدة بمبادئ شرعية شاملة، ومن ثم فلقد أقام القانون والشريعة من حيث طبيعة المعرفة نموذجاً للبحث معارضاً لما يتطلب العلم الحديث، فالفقه نسق قائم على السلطة الشخصية لا على مستوى الكليات اللاشخصي.

وعلى العكس أقامت الجامعات الأوربية نظام الإمتحانات داخل وبين الجامعات، حيث يؤدي الطالب امتحانا شفويا أمام أعضاء الكلية في موضوعات مقننة، وإن ثار الشك في مقدرة الطالب فعليه أن يعيد الامتحان، وفي حالة الطب كان هذا الإجراء مقترن بممارسته، مما أدى الى تطور في ممارسة الطب وتعلمه، هذا والموافقة الجماعية من هيئة التدريس في الجامعة لها استقلالها الذاتي أمر مهم، بل إنه مطلوب في النقابات المهنية مع استبعاد أي رقابة دينية.

وكما لاحظنا في الفصل الخامس من الجزء الأول، فإن المحتسب وهو مراقب السوق وليس هيئة من الأطباء هو المفوض بتنظيم الممارسة الطبية في العالم الإسلامي، وكذلك دراسة الفلك كانت في المسجد حيث الوظيفة الدينية للميقاتي ليست في المدرسة وربما لفترات قصيرة في المرصد.

العلم للصفوة وليس للجميع

لدى كل من الثقافتين الإسلامية واليهودية تحيز قوي ضد إتاحة المعرفة للجماهير، وذلك لازم عن تصور ديني عن أثر ذلك، أنه إذا كان الشخص متديناً حقاً فيجب أن يعلم أن مناقشة الأمور الدينية محظورة، وينطبق هذا بخاصة على إصدارات الفلسفة والدين وعلم الكلام، والمثال الواضح لهذا الموقف الثقافي هو الفيلسوف ابن رشد (1126-1198). فبالرغم من التزام ابن رشد باستخدام العقل والأساليب الفلسفية لأرسطو لتفسير النصوص المقدسة، فقد التزم الصمت تجاه الأمور المحيرة وبخاصة تلك المعبرة عن الآيات الصعبة في القرآن. بينما يمكن للفيلسوف -في نظره- أن يصل الى المعنى الصحيح للقرآن، فإنه أوضح أن هذا النوع من الجرأة في التفسير مقصور على الصفوة الممتازة، وحكم على كل من الجمهور والجدليين - ويقصد المتكلمين- بقصورهم عن استيعاب هذه المسائل، ومن ثم لا يوجه لهم الخطاب في هذه الأمور، فلا يجوز للتفسيرات المجازية -كما يرى- أن توجه الى الجماهير، ولا أن تعرض في مؤلفات خطابية أو جدلية. وكذلك - قبل ابن رشد- نجد ابن حزم والغزالي يعلنان في مؤلفاتهما أن نشر العلم بين الأغبياء والرعاع هو مضيعة للوقت ومضر، لأن الضرر الأكبر إنما يعود على هذه العلوم من هؤلاء الدخلاء الذين يتظاهرون بأنهم من أهل العلم ولكنهم جهلاء.

والنتيجة العملية لعدم الثقة في الجماهير -حتى المتعلمة منها- هو الرفض التام لآلة الطباعة بعد أن عرفتها أوربا في القرن الخامس عشر. هنا نجد الحملة المباشرة لمعيار مرتون عن الشيوع، ففي صياغته الأصلية لهذا الأمر كان يهدف الى بيان أهمية شيوع المعرفة العلمية والاتجاه بها الى العلانية، أما السرية فإنها تعارض قيمة الشيوع.

لقد حرمت عملية طباعة الكتب من المسلمين في كافة البلاد الإسلامية لغاية القرن التاسع عشر، وكانت أسباب هذا التحريم هي التالية:

1- الخشية من تلويث اسم ((الله)) الموجود في كافة الكتب الدينية بواسطة أسنان المطبعة.
2- الخشية أن تقع الكتب الدينية المطبوعة بأيدي ضالة.
3- الخشية من حصول تغيير أو تحرييف للكتب الدينية أثناء عملية الطبع.
4- الخشية من إلقاء الأوراق التي تحوي نصوصاً دينية مع القمامة والمهملات.

وترتب على هذا أن أول كتب مطبوعة بالعربية إنما طبعت في أوربا بواسطة المسيحيين في أوائل القرن السادس عشر، ولم يتوقف المنع تماماً حتى أوائل القرن التاسع عشر.

وخلاصة القول أنه في الحضارة الإسلامية قد ضعفت الثقة بالإنسان العادي، حيث بذلت جهود كبيرة لمنع حصوله على مادة مطبوعة، وكما يقول يوهان بدرسن: لم تصبح الطباعة عملا تجاريا إلا عام 1834، حين قامت البعثات التبشيرية البروتستانتية الأمريكية بنقل آلة الطباعة من مالطا الى بيروت، وافتتحوا بذلك عهداً جديداً بطبع سلسلة طويلة من الكتب، وبذلك دخلت الثقافة الأوربية الى العالم الإسلامي.

النزاهة والشك المنهجي

يمثل هذان العنصران من الروح العلمية قيماً حديثة أساسية، ومن ثم فإننا يمكن أن نفترض أنه من العقم والعبث التاريخي أن نشير إليها في هذه الفترة المبكرة، على أنه من ناحية أخرى فإنه لأمر غير تاريخي التصور أن ينتظر البحث القائم على الشك والنزاهة حتى عصر العقل في القرن السابع عشر، ويجب أن نتذكر أن النصوص الفلسفية والعلمية في العصور الوسطى - سواء في الإسلام أو أوربا- كانت تسيطر عليها التصورات الدينية، وكان رفض القصور التقليدي للكون ابتكارا أو نقدا أو صياغة، والانتقال الى قوانين الحركة يعد جرأة في العصر الوسيط.

وحسبما رأى روبرت مرتون فإن معيار النزاهة إنما يعني نمطا متميزا من الضبط على مدى واسع من الضوابط، وما أن تمارس هيئة نشاطا مجردا عن المصلحة حتى يجب على العلماء أن يقيموا بعض الضوابط، ولا بد أن ينشأ صراع نفسي حينما تتعلق هذه المعايير بأمور داخلية، وأشد الوسائل مغالاة لتحقيق الممارسة العملية -كما يقول مرتون- هو إخضاع العلماء للمسئولية أمام أندادهم العلميين، ومن ناحية أخرى فإن معيار الشك المنظم إنما هو معيار منهجي وطلب مشروع، أما المنهجية فتكون بالتوقف المؤقت عن الحكم والتوقف الدقيق للمعتقدات بوضعها في معايير تجريبية ومنطقية، وذلك طلب مشروع، وإن كان مصدراً لصراع مع هيئات أخرى، أو بتعبير آخر إن الدقة في استبعاد كل مجالات الخبرة بما في ذلك الابستمولوجية والميتافيزيقية والأسس الاجتماعية لعالم الطبيعة ولعالم الإنسان والتي تجعل منها خبرة مشوشة متأثرة بتلك العناصر، والذين أخذوا على عاتقهم السير النزيه في البحث كانوا مدفوعين الى صراع مع هيئات اجتماعية أخرى، على أنه -كما يرى مرتون- إذا كانت القوة الدافعة للبحث فعالة فإنها تغدو من قيم الهيئات وليست مجرد دافع شخصي.

فما أن تنشط هذه المبادئ ودينامياتها حتى نجدها قد امتزجت في جامعات القرنين الثاني عشر والثالث عشر في أوربا، وطلب الاستقلال الذاتي وكيانات الحكم الذاتي في أوربا الغربية حادثة لها أهميتها الفريدة في التطور الفكري والديني والاجتماعي والسياسي في الحضارة الغربية، وجامعات أوربا مثال واحد على ذلك النحو من تجمعات الحكم الذاتي حيث يجد المرء في فترة العصر الوسيط، أنها واكبت ظهور النقابات التجارية في أوربا، ويرى البعض أن هناك توازنا بين نظم الالتحاق والتدريب ومنح الشهادات في الجامعات مع طريق التقديم في النقابات الحرفية، فمثلا كي يحصل الطالب على درجة البكالوريوس وذلك بعد استكمال موفق لمجموعة تدريبات فكرية، كالنقاش والحوار والدفاع عن رسالته، فذلك يوازي نظم النقابات في تدريب المعلمين (رؤساء الحرف)، فهذا التوازي بين مراحل الترقي في الحرفة من صبي الى حرفي وأخيرا الى معلم وذلك بعد اتقان تام لعمله، حتى لو كان صناعة حذاء أو صندوق. وليس الإختلاف بين استاذ في العلم وبين معلم حرفة في أن هذا عمل فكري وذاك عمل يدوي، وإنما في أن أساتذة الجامعات قد منحوا امتيازات خاصة، ليس بمعنى التسلط على الآخرين، وإنما بمعنى إعفاء خاص من بعض الإلتزامات والواجبات، مما جعل ذلك نوع من الفروسية الفكرية، على خلاف الأمر في الحضارة الإسلامية فهم في أوربا محميون من الحنق، ثم أن لهم إمتيازات خاصة كالإعفاء من الجندية، وكذلك الإعفاء المدني من نظام المحلفين فب المدينة التي تقع فيها الجامعة، ويجب أن لا نبخس من قيمة الخطوة التي اتخذت من تقليد قديم من الإباحة العلنية لدراسة الفلسفة وكل مظاهر العالم الطبيعي، وإن بدا ذلك أمرا دنيويا فإنه يرجع الى المركزية الأوربية التي تتجاهل أن دراسة العلوم الطبيعية والفلسفة كانت ممنوعة في المدارس الإسلامية في العصر الوسيط. كذلك الأمر في الصين حيث لا توجد هيئات للتعليم مستقلة عن النظام الحكومي، فالمدارس القائمة كانت تتبع الدولة المركزية، كما لم يكن للفلاسفة حرية أن يقيموا لأنفسهم هيئات التعليم كما حدث في أوربا.

لقد أوجد أوربيو العصر الوسيط هيئات مستقلة تحكم نفسها بنفسها من المعاهد العليا ثم قرروا فيها علوما كونية ثرية ميتافيزيقياً، قوية منهجياً، تحدت مباشرة وتناقضت في نواح كثيرة مع النظرة المسيحية التقليدية للعالم، وبدلا من أن يحملوا العلوم القديمة على أذرعهم جعلوا منها جزءا مكملا للخطاب العلني والرسمي للتعليم العالي، وبجلب المؤلفات الكاملة لأرسطو ومناهجها القوية الى الحوار والبحث، فإن صفوة المثقفين في العصر الوسيط أقاموا مفكرة فكرية، موضوعية الهدف منها وصف وشرح العالم في مجمله، مستخدمين مصطلحات ((العلمية والآلية))، هذه الأجهزة الموضوعية لم تعد خاصة ولا فردية ولا لهدف خفي، وإنما مجموعة من النصوص والأسئلة والتعليقات، وأحياناً عرضاً لأسئلة قديمة ميتافيزيقية وفيزيقية، وبذلك أقيمت مستويات عليا من البحث الفكري، وبإدراج كتب أرسطو في الطبيعة في مقررات جامعات القرون الوسطى فإن مفكرة موضوعية من البحث في الطبيعيات قد أصبح نسقاً، بإعتبارها مقررا وموضوع دراسة حيث تعلم المنطق والعلوم الطبيعية وبخاصة في جامعتي باريس واكسفورد، فقد أعلن هيج أوف فيكتور -مثلا- أنه يجب أن يكون المنطق أول الفنون السبعة الحرة، مادام يميز بين أنواع النقاش، ويقدم تدريبات على الاستدلال، ويعلم طبيعة الألفاظ والتصورات التي بدونها لا يمكن الشرح العقلي لأي كتاب في الفلسفة.

ومن هذه الوجهة من النظر فإن الشك المنهجي الذي نقرنه بالعصر الحاضر كان له تاريخ طويل في الغرب، وقد بدأت في تاريخ ليس بعد القرنين الثاني عشر والثالث عشر حين سيطر التفكير العقلاني على أدبيات الإنجيل بعد تحديث المدارس والجامعات. إن أكثر العمليات الفكرية جرأة في ذلك الوقت هو ما قام به بعض الأساتذة مثل وليم أوف كونشيس وادليار أوف باث، وقد كتبوا في النصف الأول من القرن الثاني عشر، وكلهم اهتموا بالتطبيق الدقيق للفكر التحليلي النقدي لكل جوانب الظواهر الطبيعية سواء في الفلك أو الفيسيولوجيا، واستنادا الى إيمانهم بالسببية الطبيعية والبنية الذرية للكون، ولقد افترضوا وحاولوا صياغة منهجية عقلانية للبحث في الطبيعة، وابتكروا لأنفسهم نظاما للعلم الطبيعي. ولا شك أن أرسطو في صورته الجديدة قد شكل تحدياً للاهوت المسيحي، سيما وإنه اصبح في صميم المقررات الجديدة، وكما رأينا من قبل فإن أرسطو بعد أن قدم في شكل جديد كّون صرحاً من التعلم العلماني العلمي وكان مقرونا بالتعليقات الغربية، ومن ثم فإن هذين التيارين العقليين - أفلاطونية القرن الثاني عشر وأرسطو الجديد- دعما أساسا غير متناه من المفكرة المحايدة للبحث تسللت الى مقررات الجامعات الأوربية، فلم تكن كتب أرسطو في الطبيعيات - كما كانت في العالم الإسلامي- حبيسة البيوت الخاصة ومقيدة لدى مجموعات النقاش، وإنما أعطيت مسرحاً مركزياً، وكما قال البروفسور جرانت، لأول مرة في تاريخ المسيحية اللاتينية ترى هيكلا شاملا من التعلم العلماني، ثري في الميتافيزيقيا والمناهج والنقاش العقلاني شكل تحدياً للاهوت وتفسيره التقليدي.

ولقد أوجدت هذه الميتافيزيقيا الجديدة في الغرب مجالا فكريا يستطيع الناس من خلاله أن يمارسوا كل أنواع التساؤلات عن تكوين العالم، وهذا ما فعله رجال العصر الوسيط، فقد تساءلوا: هل للعالم بداية أو أنه أزلي؟، وهل هناك عوامل أخرى؟ وإن وجدت فهل تخضع لنفس القوانين الطبيعية؟ ثم تأملات نظرية حول الزمان والمكان والحركة، وأسئلة حول وجود الخلاء وخصائصه، وهل يستطيع الإله أن يجعل الأرض تتمدد في خط مستقيم؟ فإن قدر وفعل، فهل يلزم عن هذا خلاء؟ وهل يمكن للأجرام السماوية حولنا أن تسقط في خلاء فجأة؟

إذا كانت الطبيعة تأبى الفراغ، فهل الشيء الفارغ تماماً أو العدم يشكل خلاء؟ وهل يمكن لموضوع في هذا الخلاء أن يتحرك حركة مستقيمة؟ وهل يقدر الناس إن وضعوا في خلاء على الرؤية أو السمع؟ هذه وغيرها من الأسئلة قد سألوها، ومن الصعب أن نتخيل ما تحويه المفكرة المزدحمة بالتساؤلات الثرية عن البحث والشك المنهجي بين المفكرين في الطبيعة في أي فترة من الزمن في أي حضارة، ولا شك أن هذا الانبثاق للبحث المحايد وحرية الفكر في الأكاديمية لم يمر دون اعتراض من التقليديين من رجال الدين، فظهرت إدانة لتلك المناقشات التي تتحدى قدرة الله، أدعاها للملاحظة إدانة أسقف باريس عام 1277م، ولكن رد الفعل هذا كان وقتياً ومتأخراً وبالتالي لم يكن له تأثير مهم، بل لقد شجعت ردود الأفعال تلك الفلاسفة وعلماء الطبيعة على أن يضاعفوا جهودهم لتأكيد استقلالية أبحاثهم، كما حثتهم ايضاً على العمل من أجل التوفيق بين أرسطو واللاهوت المسيحي، وهذا يعني تخيل إمكانيات لا أرسطية بكل ما أدت إليه من أفكار من تمهيد الطريق الى استبعاد التصور الأرسطي عن العالم في القرنين السادس عشر والسابع عشر.

وإذا عدنا الى الحضارة الإسلامية فإن مثل هذه القيم، مثل البحث النزيه والشك المنهجي، كانت قد وجدت ولكن في نطاق ضيق لدى الأطباء والفلاسفة، وقد كانت خارج نطاق دوائر العلم في الحضارة الإسلامية، نظراً لأنها لم تلق ترحيباً من صفوة المتعلمين في الإسلام. فالمدرسة كانت مغلقة عن تعليم العلم والفلسفة، كما أن الشريعة والفقه أنكرا أن لكل إنسان عقلا بالمعنى اليوناني الأفلاطوني، ولا كان في الشريعة أي فكرة عن الضمير، ذلك الوازع الداخلي الذي يوجه السلوك في الأزمات أو أي مجال للشك المنهجي في الفكر الإسلامي. فالمؤمن الحق يجد الآراء الصحيحة في القرآن والسنة فقط، ويتجلى هذا في معارضة تدريس الفلسفة في المدارس، والفكرة منتشرة الى حد أن دراسة الفلسفة تجعل الشخص غير متدين، والذين درسوها وروجوا لأفكارها كانوا دائماً متهمين في دينهم، ولم تشفع لهم محاولتهم التوفيق بينها وبين الشريعة.

وكما بين غولد تسيهر، فقد كان كل من الفلسفة والتنجيم يدرسان سراً في اسبانيا، ومن يدرسهما كان يوصف بأنه زنديق ويتعرض للإضطهاد. لهذه الأسباب لم يكن التدريس العلمي للعلوم الطبيعية متاحاً، ولم يكن مسموحاً بهذه المدارس حسب مفهوم الإحسان في قانون الوقف، والإستثناءات في خرق هذه القاعدة كانت قصيرة الأمد، فضلا عن أن فكرة الإبتداع كانت تتضمن معنى الهرطقة، وتدعم بنيات كثيرة مع متابعة البحث، وحينما يتخطاها مفكرون جريئون فلا توجد آليات تتيح لهذه الثغرات المبعثرة أن تتخذ صورا مشروعة من البحث، وعلى العكس فهؤلاء بإيجادهم طرقاً إبداعية من البحث كانوا يثيرون غضب الدوائر الدينية التقليدية، وكان ذلك داعياً الى تجنب العلانية. ثمة حديث نبوي يقول: ’’ شر الأمور مستحدثاتها، وكل مستحدث بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار‘‘، وفي الصورة المتطرفة لهذا المبدأ كان ذلك يعني رفض أي فكرة ليست معروفة في شبه الجزيرة العربية في زمن النبي محمد (ص) وأصحابه، واستخدم هذا الحديث لدى الأجيال التالية من الدوائر المسرفة في المحافظة لتبرير معارضة تناول الطعام على المناضد أوالتعامل مع آلة الطباعة والتلفزيون أو إعطاء النساء حق التصويت أو غيرها من مقتضيات المعاصرة، فالعالم إذن مبتدع غير مسموح به ولا متسامح معه في الحضارة الإسلامية خلال تلك الفترة.


المؤلف في سطور

توبي أ. هاف

* عضو هيئة التدريس بقسم الأنثروبولوجيا بجامعة ماساشيوتس بالولايات المتحدة.

* مهتم بحكم تخصصه بسوسيولوجية العلم، أو العوامل الإجتماعية المؤدية الى تقدم أو تدهور العلم في حضارة ما، ويركز على بيان أثر الأنظمة القانونية أو الشرعية في العلم.

* تلقى محاضرات عن العلم العربي في جامعة هارفرد من الدكتور عبدالحميد صبرة، مما أتاح له معرفة جيدة بالحضارة الإسلامية والعلوم عند العرب.

المترجم في سطور

د. أحمد محمود صبحي

* أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية الآداب- جامعة الإسكندرية.

* قام بالتدريس في عدة جامعات عربية: بنغازي-صنعاء-الكويت.

* من أهم مؤلفاته:

1- نظرية الإمامة لدى الشيعة الإثني عشرية.
2- في علم الكلام: (3 أجزاء) المعتزلة- الأشاعرة-الزيدية.
3- في فلسفة الحضارة (الحضارة اليونانية)
4- في فلسفة الطب (بالإشتراك مع المرحوم د. محمود زيدان).














#توبي_أ._هاف (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العقل والعقلانية بين الإسلام والغرب


المزيد.....




- التهمت النيران كل شيء.. شاهد لحظة اشتعال بلدة بأكملها في الف ...
- جزيرة خاصة في نهر النيل.. ملاذ معزول عن العالم لتجربة أقصى ا ...
- قلق في لبنان.. قلعة بعلبك الرومانية مهددة بالضربات الإسرائيل ...
- مصر.. غرق لانش سياحي على متنه 45 شخصًا ومحافظ البحر الأحمر ي ...
- مصدر يعلن موافقة نتنياهو -مبدئيًا- على اتفاق وقف إطلاق النار ...
- السيسي يعين رئيسا جديدا للمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام
- ثلاثة متهمين من أوزبكستان.. الإمارات تكشف عن قتلة الحاخام ال ...
- واشنطن تخطط لإنشاء قواعد عسكرية ونشر وحدات صاروخية في الفلبي ...
- هايتي: الأطفال في قبضة العصابات مع زيادة 70% في تجنيدهم
- تحطّم طائرة شحن في ليتوانيا ومقتل شخص واحد على الأقل


المزيد.....

- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام
- سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري - / الحسن علاج


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - توبي أ. هاف - الأجواء الثقافية وروح العلم