|
من يومياتي في انقلاب 8 شباط الأسود عام 1963
حافظ شكر التكمجي
الحوار المتمدن-العدد: 4224 - 2013 / 9 / 23 - 20:07
المحور:
الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية
في نهاية عام 1962، كنت أقيم في بيتي الواقع في محلة الحارثية في بغداد – حي المحامين. وفي اليوم الذي سبق الانقلاب الذي لقي الدعم من قبل جمال عبد الناصر، إضافة إلى دعم عربي، وركب الجميع في قطار أمريكي، زارني في البيت الرفيق الشهيد عبد الرحيم شريف الذي كان يسكن في الحارثية أيضاً في الشهيد عبد الرحيم شريف بيت متواضع غير بعيد عن محل سكناي، وقال إنه ذهب إلى البيت ولكنه لم يدخله لأنه لمح وجوهاً تحوم حول الدار. وبقي الشهيد معي عدة ساعات. وخلال ذلك أطلعني الشهيد عبد الرحيم شريف على منشور مختصر صادر من اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي وموجهة إلى كافة منظمات الحزب. وعلى ما أتذكر، فقد احتوى المنشور على معلومات تؤكد بأن حزب البعث سيقدم على تدبير انقلاب في اليوم التالي، أي يوم الجمعة. ويطلب الحزب في هذا المنشور من أعضائه الاستعداد للمقاومة. وهنا سألت الشهيد عبد الرحيم هل حقيقة أنهم مستعدون للمقاومة، وإن الحكومة على استعداد للقضاء على هذا التمرد؟؟. فطمأنني الشهيد بطريقته الصريحة والواثقة بأن جميع المنظمات الحزبية على استعداد لدحر أي تمرد ضد النظام. لقد ألقي القبض فيما بعد على الشهيد عبد الرحيم شريف، وجرى قتله بطريقة بشعة جداً في معتقل "قصر النهاية" وبدون محاكمة من قبل أوباش البعث البرابرة وبناءاً على توجيهات كانت تبث من محطة أمريكية انشأت في الكويت، وكانت تذيع اسماء الشيوعيين والقاسميين من أجل إلقاء القبض عليهم وابادتهم بدون تحقيق ومحاكمة عادلتين. لقد جرت في 8 شباط مجازر بشعة نفذها قادة البعث وأزلامهم المتوحشين في معتقلات قصر النهاية وسجن رقم 1 في معسكر الرشيد ومعتقل المثقفين ومديرية الأمن العامة وغيرها. لقد أظهر الحكم البعثي الفاشي خلال تسلطه على الحكم في العراق أحط سماته اللانسانية عندما بادر إلى إبادة كل معارض وصاحب رأي، بمن فيهم بعض البعثيين وأقرب الناس له عندما أجهز على عدنان الحمداني ومجموعته في عام 1979 كمثال على ذلك. وسعى البعث إلى زرع الرعب والخوف بين أفراد الشعب، وكم أفواه أي معارض له. واستمر حزب البعث على هذا النهج حتى أواخر حكمه في عام 2003. لقد كان أحد أساليبه تتراوح بين اعدام الابرياء بحجج مختلفة ومفتعلة وإثارة الرعب في قلوب أبناء الشعب كي يشعروا بأنهم عرضة في أي وقت للمساءلة والموت. ولم يقم حزب البعث بإعدام المجرمين الحقيقيين لانهم كانوا في خدمة أهدافه. ولذا تم اطلاق سراح الآلاف من عتاة المجرمين العاديين قبل أشهر من سقوط نظامهم في عام 2003، واستعانت فلول النظام بهؤلاء المجرمين لخوض حرب عصابات بأمل عودة حزب البعث إلى السلطة. عندما علمت ببدء الانقلاب في صبيحة 8 شباط عام 1963، خرجت للتأكد من أقوال عبد الرحيم شريف حول الاستعداد لمواجهة الانقلاب. ولم التق إلاّ بصديق يساري واحد، قال لي بأننا سنحمل السلاح ونذهب للمقاومة داخل بغداد. بقيت قلقاً، وكانت زوجتي في البيت تستمع إلى البيانات من الاذاعة بعد أن جرى احتلالها من قبل الانقلابيين. وكان الأطفال قد ذهبوا إلى بيت جدهم في اليوم السابق كعادتهم في كل يوم خميس من الاسبوع. ومع تقدم ساعات ذلك النهار الأسود، ظهر لنا بأن الانقلابيين قد حققوا تقدماً وإن الحكومة والجيش مخترقان وإن المقاومة محدودة. وكان الدعم العربي، الناصري على وجه الخصوص، والخليجي ومن ورائهما الاستعمار الغربي للانقلابيين سخياً، حيث وفروا لهم إمكانيات اعلامية ومالية وعسكرية بحيث استطاع الانقلابيون أن يحققوا الانتصار على النظام الجمهوري الوطني. لقد كان الجوار العربي والاسلامي يخشى من استقرار ونجاح النظام الجمهوري في العراق لما له من انعكسات سلبية على هذه الانظمة. العائلة وفي خاتمة نهار ذلك اليوم، فضلنا أنا وزوجتي مغادرة المنزل والالتجاء إلى بيت أحد أصدقائنا القريبين وهو الدكتور نوري السعدي الذي رحب بنا. ولكن بعد التفكير في احتمالات الموقف، ولأن بيت نوري السعدي معرض للمداهمة أيضاً، وبعد المداولة تم اللجوء إلى بيت الصديق القديم المحامي عبدالله عباس بعد أن أن اقترح الأخير الانتقال إلى بيتهم، وهذا ما حصل. كانت زوجته ووالدتها في منتهى الطيبة والكرم، حيث رحبوا بنا واحتضنونا لمدة أسبوع أمضيناه في كنفهم. كنت أتصور أن بيت المحامي عبدالله عباس يتمتع بالحصانة وليس هناك احتمال لمداهمته بسبب انتمائه إلى مجموعة كامل الجادرجي، التي تعاون رئيسها كامل الجادرجي وتواطأ مع الانقلابيين. وكانت صحيفتهم "المواطن" تعارض حكم عبد الكريم قاسم. ولكن تصوراتي خابت عندما جرى اقتحام البيت مرتين. لقد جرى اقتحام بيت المحامي عبدالله عباس في الساعة الثانية بعد منتصف الليل من ليلة 8 – 9 شباط من قبل عشرات الاشخاص الملثمين بحثاً عن عبد الرزاق البارح رئيس تحرير احدى الصحف الموالية للزعيم عبد الكريم قاسم، وهو نسيب وزوج أخت عبد الله عباس. وكانت الأخت وأبنائها يقطنون معنا في نفس الدار ذلك المساء. وقد أعلن أحد المداهمين نيته في تفتيش الدار. وهنا لعبت والدة زوجة عبدالله عباس دوراً مأثوراً في انقاذنا من هذا الموقف العصيب. فقد هلهلت بأعلى صوتها وباركت لهم خطوة القضاء على عبد الكريم قاسم!!!. وقالت لهم لا يمكن تصور قدوم المجرم عبد الرزاق البارح الى بيتنا، لأنه لو جاء إلى البيت لبادرنا إلى قتله قبل مجيئكم. ومن باب الصدفة الحسنة إنها تعرفت على أحد المهاجمين وسلمت عليه وعلى والدته، وطلبت منهم الجلوس لتناول "السحور" وهي وجبة منتصف الليل في شهر رمضان. وبذلك خففت الوالدة من جنوح المداهمين إلى الشر. وقرروا عدم التفتيش بشرط أن يرافقهم عبدالله عباس إلى مركز شرطة المأمون. واسرع صديقنا بارتداء ملابسه والذهاب معهم للتوقيع على المحضر في مركز الشرطة، وبعد عودته علمنا منه بما يلي: - جرى اعدام المناضل الكبير متي الشيخ، العضو البارز في نقابة المعلمين. - يجري تعذيب الموقوفين وهم من المثقفين للحصول على اعترافات، وإلا سيتعرضوا للقتل.
الشهيد متي الشيخ - جرى السؤال منه أثناء الطريق عن بيت حافظ التكمجي في الحارثية باعتباره أحد المطلوبين. فأجابهم عبد الله عباس بأن انتقل حديثاً إلى المحلة ولا يعرف هوية القاطنين فيها. لقد خدمتني الصدف وتصرف المرأة العراقية الشريفة في انقاذي من الاعتقال والموت المحقق. في يوم الاثنين الذي تلا الانقلاب، هاجمت مجموعة مشابهة البيت لالقاء القبض على عبد الله عباس باعتباره رئيس تحرير جريدة "المواطن". فقد كان قرار الاعتقال يشمل جميع محرري الصحف في عهد عبد الكريم قاسم. في تلك اللحظة كان عبد الله عباس جالساً خلف مقود السيارة ويهم بمغادرة البيت لزيارة كامل الجادرجي. وكنت على قاب وقوسين من اعتقالي. فلو قدم المداهمون بعد مغادرة عبد الله عباس لقاموا بتفتيش البيت وتم اعتقالي. تم حجز عبد الله عباس وبقي في الحجز طوال النهار إلى أن أطلق سراحه بعد تدخلات عديدة من كامل الجادرجي وآخرين. وهنا أكرر مرة ثانية إن الصدف أو الحظ أو ما شاء تسميته انقذني من اعتقال مؤكد ونهاية لا تحمد عقباها. في يوم الخميس اللاحق، أصدر النظام البعثي قرار رقم 13 سيء الصيت الذي هدد بموجبه كل من يأوي شيوعياً بالإعدام. وبما إنني أعرف الأخ عبدالله عباس وإمكانياته في مثل هذه الظروف، وبعد تدارس الوضع مع نفسي قررت أن أشكر عبد الله عباس وعائلته على ما قدماه من دعم ومساندة، واعتذرت منهم وأبلغتهم بقراري الانتقال إلى محل آخر بعد الاتفاق مع العائلة. وأبلغت عبد الله عباس وعائلته بقرارنا، وكان محط موافقة فورية من قبلهم. وطلب عبد الله عباس أن نأخذ أحد الباصات ونذهب إلى بيت والدي. وهنا اعترضت زوجته ووالدتها بعنف، وضما صوتهما إلى صوتي وهو مهاتفة الأهل لأخذ التدابير المناسبة. وقد جرى بالفعل إرسال سيارة العم الحاج خضر والأطقال، وانتقلت معهم إلى بيت العم في شارع "هويدي" في الكرادة، مقابل بيت الوالد. لم أشعر بالراحة في بيت العم، وفكرت طويلاً بالموضوع، وشعرت بمعاناة الوالد والعائلة، حيث كانت تجري مداهمة البيت من قبل عصابات البعث للبحث والسؤال عني. وبحكم طبيعتي المسالمة وحبي للناس وثقتي بهم وتقديم المساعدة لهم، فلم يخطر ببالي أن تبلغ قسوة الانسان البعثي إلى الحد الذي اكتشفته فيما بعد. وقلت لنفسي بأنني اذا قدمت للمحاكمة مثلاً، فستظهر براءتي. فإنني لم ألحق أية أضرار لا بالصالح العام ولا بأي أحد من الناس. فالعكس هو الصحيح. وبدأت تختمر في ذهني فكرة أن أسلم نفسي وأتحمل مدة التوقيف وهو أفضل من البقاء وعائلتي في حالة من القلق الدائم. فلم يخطر ببالي على الإطلاق ما كان يجري من تعذيب واهانات وممارسة أشكال جديدة من التعذيب كل يوم من أجل انتزاع الاعترافات في المعتقلات، وما يتعرض له المعتقلون من انتهاكات لأبسط حقوق الإنسان والقيام بإعدام المعتقلين. كما لم يخطر ببالي أبداً أن كل ما يجري في السجون والمعتقلات يتم تحت إشراف مباشر من قادة حزب البعث ليلاً ونهاراً، وملاحقة كل من لديه رأي أو فكر أو إرادة ونزعة لمعارضة ممارسات البعث وحكمه الإرهابي والوحشي الذي لم يكن له نظير على حد علمنا. ولو تبادر إلى ذهني جزء مما يحصل في المعتقلات لبقيت مختفياً عن الأنظار. ولكن حصل ما حصل. وجرت المداولة حول أن تتم عملية الاستسلام عن طريق مدير شرطة محافظة بغداد صبحي جميل، وهو إنسان فاضل سبق لي التعرف عليه في بيت صديقه عديل أخي حمدي، كريم القطان مدير عام المصرف التجاري سابقاً. كان سكرتير مدير الشرطة المدعو "ذاري" هو ابن أخت الحاج عباس الديك المصارع المعروف الذي كان من أصدقاء العائلة ويسكن في محلة قريبة من محل سكننا. وقد جاء ذاري إلى بيت العم، واصطحبني بسيارة العم إلى مديرية شرطة بغداد بالقرب من القشلة. وطلب مدير الشرطة أن انتظر في غرفة السكرتارية لحين إكمال معاملة إلقاء القبض. وأعلمني المدير إن أسلم مكان لاعتقالي هو معتقل خلف السدة. كنت جالساً في غرفة السكرتارية عندما دخل أحد ضباط الأمن وتعرّف علي، وقال لي "حافظ التكمجي...نحن نبحث عنك...انتظر هنا وسآخذك إلى قصر النهاية!!". وخرج الضابط وأخبرت فوراً مدير الشرطة، وطلب مني أن أذهب فوراً إلى سيارتنا، وأكمل بسرعة كتاب التوقيف واصطحبني ذاري إلى معتقل خلف السدة. لقد عرفت أن ضابط الأمن الذي كان ينوي اصطحابي إلى قصر النهاية، كان يدعى طارق العزاوي. وهنا أقول إن الحظ كان إلى جانبي ونجوت من قبضته الدامية. إنها أحد تحديات القدر. في معتقل خلف السدة، استقبلنا آمر المعتقل وكان من ضباط الشرطة، وهو إنسان طيب وفاضل ويعرف عائلتي لأنه كان من هواة الفروسية. وكان على معرفة بوالدي عن هذا الطريق. استقبلنا الضابط استقبالاً ودياً.. وأرسلني إلى أحد قاعات الاعتقال الكبيرة. ووجدت فيها أكثر من 400 معتقل من كبار الموظفين والمثقفين والعمال والكسبة وغيرهم. وساد في القاعة جو من التعاطف والمودة، ولم تتسرب إليهم في ذلك الوقت مشاعر الخوف والرعب من الإرهاب الأسود الذي كان سائداً في المعتقلات الأخرى. وضم المعتقل قاعات عديدة كبيرة وصغيرة، وهي مخصصة بالأصل لأيواء منتسبي الشرطة. وجرى الاتفاق بين المعتقلين على تنظيم أمورهم وعلاقتهم مع أدارة المعتقل عبر مسؤولي القواطع. وتم أنتخابي والمرحوم عبد الرحمن علاّم المدون القانوني لمسؤولية القاعة التي كنت فيها. وكانت حصة كل واحد من المعتقلين مساحة من الأرض لا تكاد تكفي للمعتقل أن يمد رجليه ويستلقي للنوم. وكان إلى جواري الشهيد محمد سليم الصفار، إلى جانب أعداد كثيرة من المناضلين الشرفاء. وكنا نتلقى الحد الأدنى من الخدمات المقدمة من قبل إدارة المعتقل. فقد كانت تقدم لنا وجبة غذاء واحدة في الظهيرة، وهي عبارة عن رغيف من الخبز وشيش كباب واحد. وكانت إدارة السجن تتعامل بقدر من الإنسانية وتسمح لأهالي المعتقلين بجلب الغذاء لأبنائهم، ويتم تقاسمه بين الجميع. ولكن بعض المعتقلين دعوا إلى القيام بإضراب عن الطعام احتجاجاً على رداءة الغذاء المقدم. ولما علم آمر المعتقل الطيب القلب بذلك، دعاني إلى مكتبه وقال:" هؤلاء مجانين...حافظ انتم لا تعرفون ما يحصل في المعتقلات الأخرى من اهانات وتعذيب وقتل...إنكم تعيشون في الجنة مقارنة بما يحصل في أماكن أخرى...فأنتم بحكم المنسيين، وإن أية حركة تقومون بها ستجلب الانتباه إليكم، وستتعرضون إلى ما ستندمون عليه، خاصة وإنكم تستلمون كميات كبيرة من الغذاء من عوائلكم ...الخ". عدت إلى القاطع، وبمساعدة عدد من العناصر الواعية استطعنا أقناع المعتقلين بالتخلي عن قرارهم بالاضراب عن الطعام. وكانت هذه الخطوة بمثابة محاولة لانقاذنا من مصير في غاية السوء. مرّ عليّ ثلاثة أسابيع في هذا المعتقل، وكانت أيام هادئة تخللتها أجواء من الحوارات الثقافية الجيدة مع مجموعة واعية من الناس. وفي المساء كنا نمارس لعبة "المحيبس" على غرار ما جرت عليه العادة في شهر رمضان. وقد جرى الالحاح عليّ في أحدى الليالي كي أترأس أحدى المجموعتين، ونجحت عن طريق الصدفة في اكتشاف اليد التي تخفي الخاتم "المحبس". وتصور الجميع بأنني خبير في اللعبة وأتقنها. وبصعوبة تملصت من الاستمرار باللعبة التي لا أجيدها. إن بقائي خلال هذه المدة في المعسكر بعيداً عن المعتقلات الأخرى وعن الاشخاص الذين كانت تربطني بهم علاقات صداقة وعمل، والذين تعرضوا للتعذيب حتى الموت والحصول على اعترافات عن زملائهم في النضال، أقول إن وجودي في هذا الوقت بالذات في هذا المعتقل ربما قد انقذني من احتمالات سيئة. إنها نقطة أخرى من تحديات العمر. لقد كان بقاؤنا في هذا المعتقل في قطيعة تامة مع الحياة والعالم وبدون صحف ولا مذياع، ولا نعرف بما يجري خارج المعتقل. بالنسبة لي شخصياً كنت ألتقي أطفالي الصغار الذين كانوا يعبرون الاسلاك الشائكة، ويدخلون إلى المعتقل واتبادل الرسائل مع الأهل عن طريقهم. في السابع من آذار 1963، جرى إبلاغنا بقرار الحاكم العسكري بنقل جميع المدراء العامين والوزراء ومن هم بدرجتهم إلى سجن رقم 1 في معسكر الرشيد. تجمعنا أمام مكتب آمر المعسكر، وقد لاحظت حضور عدد من الموظفين من الذين يشغلون وظيفة مدير عام بالوكالة. فأخذتهم على جنب وطلبت منهم الرجوع إلى قاعاتهم لأنهم غير مشمولين بالقرار، فمن المحتمل أن لا يكون الانتقال في صالحهم. فحسب معلوماتي فإن سجن رقم واحد سيء للغاية. ولحسن الحظ اقتنعوا وعادوا إلى أماكنهم وانقذتهم من مصير مجهول. عند الوصول إلى سجن 1، استُقبِلنا استقبالاً ارهابياً. فجرى ضرب المدراء العامين. وأتذكر أن الأخ يوسف العاني تعرض للضرب وجرى شق أذنه جراء ذلك. وعندما وصل دوري.. قرأ الضابط اسمي..الدكتور حافظ..وسأل إن كنت طبيباً، فلم أجب وحركت رأسي قليلاً إلى الأسفل. وبهذه الحركة انقذت نفسي من الضرب المبرح. واصطُحبت إلى القاووش رقم 5، غرفة 8 التي تبلغ مساحتها 4×4 متر مربع وتحتضن أكثر من 80 معتقلاً. كان جميع المعتقلين في حالة وقوف، وكنت أحمل فراشاً ووسائد وبطانيات. رجاني المعتقلون أن أترك العفش خارج الغرفة لضيق المكان. حُشرت في الغرفة وقلت للضابط... "لا مكان لي في هذه الغرفة". فأجابني "يوجد مكان ونحن نحقق العدالة في توزيع السجناء". ولكن عاد الضابط من جديد واصطحبني إلى الغرفة رقم 7 وهي أصغر مساحة، 3×4 متر مربع وتضم 18 معتقلاً. وكان جميعهم في حالة وقوف ولا مجال لجلوسهم. لمحت في زاوية من زوايا الغرفة أحد المعتلين وهو في حالة يرثى لها ويئن من الألم. سألت عنه فقيل أنه "اللواء ...العلي".... وقد حاول الانتحار وأخذوه إلى المستشفى وأجريت له خياطة الجروح وأعيد إلى الغرفة. تذكرت هذا الإنسان وقد سمعت عنه، فهو من المناضلين الشرفاء المعروف بوطنيته وبشجاعته وبسمعته الطيبة في الجيش. ولهذا اقتربت منه وقبلته وواسيته، ولكنني وجهت له عتاباً شديداً، وقلت له كيف تقدم على هذا العمل غير السليم الذي يسبب الإحباط للضباط الشباب الموجودين معنا. وأعتذر بخجل عند توجيهي العتاب، وقال..... يا أخي لو تعرف قساوة التعذيب والضرب والتنكيل والاهانات التي كنت أتعرض لها كل ليلة من لجنة التحقيق التي يرأسها طه الشكرجي وجلاوزته لما وجهت لي هذا العتاب!!. أمضيت الليلة الأولى واقفاً على قدمي، ونام المعتقلين من ضباط القوة الجوية الواحد فوق الآخر. أتذكر أن أحدى ساقي أصابها الخدر وحاولت أن أرفعها كي أحركها ولكنني فقدت موطئ القدم. أنهيت "السهرة" واقفاً على قدم واحدة، في حين راحت القدم الأخرى تبحث عن مكان ترتاح فيه دون جدوى. لقد كانت ليلة فظيعة جداً. وفي اليوم التالي 8/3/ 1963، سمعنا مكبرات الصوت تنقل عزفاً للموسيقى وأغاني صاخبة، وعرفنا عن حدوث انقلاب أسود آخر في سوريه. وتم في نفس اليوم نقل أعداد كبيرة من المعتقلين الذين أنتهى التحقيق معهم إلى سجن بعقوبة والحلة والكوت. وجرى إعادتي إلى الغرفة رقم 8. وتقلص عدد المعتقلين في كل غرفة. وتعرفت في هذه الغرفة على أصدقاء لي مثل المرحوم حسين عبد العال مدير الاستيراد العام والدكتور محمد فاضل سليم وحامد قاسم شقيق عبد الكريم قاسم والاستاذ الجامعي الدكتور نوري جعفر ومحمد البريفكاني رئيس تحرير الدكتور الجامعي نوري جعفر حامد قاسم ششقيق عبد الكريم قاسم أحدى الصحف. ورغم التقلص في عدد المعتقلين، إلاّ أن العدد كان مازال كبيراً في الغرفة، إذ كان من الصعوبة بمكان أن يجد الفرد فسحة له كي يسترخي جسمه. وأتذكر كيف جرى نزاع عنيف بين بعض المعتقلين حول المكان وواجهنا صعوبة في فض النزاع. وهكذا تجري في الحياة لحظات ومشاكل يصعب فهمها. إن الوضع النفسي المتوتر يؤدي إلى تحطيم الأعصاب أحياناً ويجعل من الصعب التفاهم وحل المشاكل بشكل ودي وسلمي. كانت أجواء سجن رقم 1 في معسكر الرشيد رهيبة، حيث كنا لا نسمع إلاّ أحاديث التعذيب والقتل الذي يجري أثناء التحقيق في كل ليلة. وكان يتم استدعاء المعتقلين في ساعات متأخرة من الليل، ونبقى لساعات وأعصابنا متوترة ونعيش فترة رعب شديد. وكان الحرس يقومون باستدعاء المعتقلين وغالبيتهم من خيرة ضباط الجيش العراقي. كنا ننتظرهم عند إعادتهم إلى غرفهم وهم محمولين بالبطانيات وفي حالة يرثى لها. ويهرع المعتقلون الآخرون في الغرفة إلى إسعافهم. وبعد أن يعودوا إلى وعيهم وتملك أعصابهم، يشرعون بالحديث الدرامي عما لاقوه على أيدي المحققين العسكريين العتاة العاملين تحت أمرة طه الشكرجي وغيره. وكان الضحايايروون قصصاً مرعبة عن جلدهم بالصوندات (الأنابيب المطاطية) وتعليقم من أيديهم تارة ومن أرجلهم تارة أخرى بالمراوح السقفية تحت وابل من الشتائم والسخرية الهستيرية وفي حالة من الإفراط في تناول الخمر. لاحظت في أحد المرات أحد ضحايا التعذيب وهو مستلقي على الأرض، وبعد استراحة عقب "حفلة " التعذيب وفي أجواء من السكون الرهيب في الليل، شرع بترديد أغنية لأم كلثوم. كنا لا ندري ماذا نفعل... هل نطرب ونستمتع بصوته العذب، أم نبكي معاناته وما يتنظرنا من أهوال. أتذكر في اليوم التالي لدخولنا سجن رقم 1، وبمناسبة الفرح الذي انتاب الجلاوزة جراء نجاح الانقلاب في سوريه، شرع الحرس بتوزيع سلال وقدور الغذاء الذي جلبه أهالي المعتقلين على الغرفة. وقبل أن يبدأ المعتقلون بالتهام الأكل حذرتهم وقلت لهم بأنني قبل أن أدخل الغرفة رأيت هذه الأغذية مكدسة أمام الباب وقد تجمع الذباب حولها، وهناك احتمال أكيد بأن هذا الغذاء غير صالح للأكل وربما قد فسد. ولكن الشباب وبسبب الجوع لم يأبهوا بنصيحتي، وحدث ما توقعته وأصيب المعتقلون باسهال فظيع. ومن المعروف أنه لا يسمح للمعتقلين إلا لمدة نصف ساعة في اليوم للذهاب إلى الحمامات وتحت وطأة السياط. شرع الضباط المعتقلون الصراخ بصوت عال من أجل السماح لهم بالذهاب إلى الحمامات دون أن يستجيب أحد من الحرس. وكانت في الغرفة صفيحة نفط (تنكه)، وعملنا حول الصفيحة حاجزاً من البطانيات. وقد امتلأت الصفيحة بسبب كثرة من تعرض للتسمم. وكنت أنا الوحيد الذي نجا من هذه الحادثة الأليمة. لقد اضطر أحد المعتقلين، وهو من الضباط الأكراد، إلى قرع الباب الحديدية لجلب انتباه الحرس. وقدم عدد من الضباط وفتحوا باب الغرفة وسألوا عن الشخص الذي كان يقرع الباب...وأشبعوه ضرباً بالأيادي وركلاً بأحذيتهم. ولكنهم أبقوا على الباب مفتوحاً لفترة من الزمن للسماح للمعتقلين بالوصول إلى الحمامات. وقد جرى بعد أيام إبلاغ هذا الضابط بالذات باحتمال إطلاق سراحه، لأنه كردي وحسب اتفاق بين قيادة الحركة القومية الكردية والحكومة. وقد سارعنا نحن المعتقلين الثمانية عشر إلى إعطاء أرقام هواتف بيوتنا من أجل الاتصال بذوينا. كان من دواعي دهشتنا أن هذا الضابط لم يدون هذه الأرقام على ورقة، وانما حفظها عن ظهر قلب بمجرد سماعه لها. ولم نصدق ذلك وحاولنا اختباره مراراً قبل مغادرته، ولكنه لم يخطأ بأي اسم أو رقم. لقد كان ذكاءه وقدرته على الحفظ مفخرة من مفاخر الكفاءات العراقية التي للأسف الشديد جرى تحطيمها وابادتها من قبل نفر من عديمي الثقافة والأخلاق من الذين أرادوا الانتقام من الشعب العراقي ومن خيرة رموزه من ذوي الكفاءات ليحكموا البلاد بالحديد والنار والقمع والتصفيات الجسدية والمعنوية. كانت أحدى وسائل قضاء الوقت في المعتقل هي لعبة الورق (البوكر). فقد صنع العتقلون من علب السجائر شدات الورق، ومن أعواد الكبريت المبالغ الصورية للرهان. وعلمني المعتقلون تفاصيل اللعبة. وفي أثناء اللعب كان ينتاب المعتقلين الحماس وترتفع أصواتهم مطالبين بحصتهم من الرهان...أعواد الكبريت. وقد سمع بعض الحراس جدلنا وهاجمونا بالسلاح، وطالبونا بالخروج من الغرفة مع كامل ما عندنا من أعواد الكبريت. وكما قام الحرس بتفتيش علب الكبريت متوقعين إخفاء رسائل في علب الكبريت. وكان أمام أحدنا عدد كبير من علب الكبريت، علماً أنه كان باهظ السعر. وسأله الضابط عن عمله.. فأجابه مقدم في الجيش. وعندما اقترب مني سألني عن عملي، وكان أمامي عدد قليل من أعواد الكبريت...فكدت أن أجيبه إنني نائب ضابط!!!. ومن حسن الحظ لم أمارس هذه المزحة التي ربما كانت ستكلفني غالياً. تركنا الحرس وحذرونا من ممارسة اللعبة مرة ثانية. من الذكريات التي أحملها عن السجن رقم 1، هي ذكرى ذلك الإنسان الفاضل والشهم والنبيل الذي قدم المساعدة للمعتقلين بهدوء وبلا ضجيج وبتجرد. هذا الرجل هو الملازم محمد المختار الذي كان مدير سجن رقم 1 من الناحية الرسمية، ولكن من يدير السجن فعلياً كان ضابط شرس ربما كان أسمه "طه الأحمر" الذي سام المعتقلين شر عذاب. لقد قدم محمد المختار المساعدة لي وللمعتقلين الآخرين في نقل الرسائل لطمأنه الأهل وبالعكس. كما نقلني هذا الإنسان الشهم من غرفتي إلى غرفة أخرى ضمت مجموعة من المثقفين واساتذة الجامعة ومنهم الدكتور عبد الجبار عبدالله وابراهيم عطوف كبه ومهدي الدكتور ابراهيم كبه الدكتور العالم عبد الجبار عبدالله الدكتور مهدي المخزومي الفنان يوسف العاني الفنان خالد الجادر الصحفي لطفي بكر صدقي المخزومي ويوسف العاني وخالد الجادر ورئيس تحرير جريد صوت الأحرار لطفي بكر صدقي والعسكري الوحيد مجاهد العبايجي وآخرين لا تحضرني أسمائهم. لقد قضيت أياماً رائعة بعشرة هذه الكوكبة النادرة من عمالقة العلم والثقافة والفكر. ولا أستثني منهم الأخ مجاهد العبايجي الذي كان إنساناً رائعاً في ذكائه وخلقه وبما كان يحفظه من نوادر وقصص مسلية. لقد تم إعدام مجاهد العبايجي بعد عودة البعث إلى السلطة في عام 1968، وأرسل الطغاة مبلغ 500 ديناراً كتعويض إلى أهله بواسطة المرحوم عزيز شريف بدعوى أن إعدامه أو قتله تحت التعذيب جرى عن طريق الخطأ. كان الدكتور عبد الجبار عبد الله ينام مبكراً، وكان يطلب من يوسف العاني أن يروي له قصة كي يسترخي وينام كالأطفال الأبرياء. كنت أتمنى في ذلك الوقت أن يكون معي جهاز تسجيل لأسجل ما كان يدور من حوار ونقاشات وأفكار علمية وسياسية واقتصادية، وما كانت تتضمنها من توجيهات مفيدة وانتقادات بناءة لأخطاء نظام عبد الكريم قاسم. وأتذكر أن الغرفة المجاورة احتضنت عدداً من السجناء الاكراد الذين حكم عليهم بالاعدام بسبب أحداث كركوك. ولا أريد أن أتطرق إلى الظلم الذي تعرضوا له في كل مراحل الاعتقال والمحاكمة في عهد عبد الكريم قاسم، وعن آمالهم في احتمال إطلاق سراحهم. لقد جرى إخراجهم من الغرفة في أحد الأيام وتم تنفيذ حكم الإعدام بهم جميعاً. كان أحد المعتقلين الأكراد مواطن اسمه محمد. وكان يشكو على الدوام من آلام في معدته ويطلب من السجانين وأسمه محمد أيضاً السماح له بالذهاب إلى المرافق..." كاكه محمد ...لخاطر محمد...خلي محمد يروح للحمام!!". وقد وعد الفنان يوسف العاني أن يدرج هذا الحادث في أحد مسرحياته في المستقبل. وصلتني إلى السجن رسالة قصيرة بواسطة الأهل مرسلة من الدكتور محمد سلمان حسن، يشير فيها إلى أنه في أثناء التحقيق معه ذكروا له بأنه جرى الاعتراف على اجتماعات للمدراء العامين، وقد أنكر محمد سلمان حسن ذلك. وطلب مني أن أنكر ذلك أيضاً. كان بعض الجنود الحراس طيبين ويتعاونون معنا، فأرسلت رسالة قصيرة إلى نعيم بدوي المدير العام السابق للاستيراد وطلبت منه الحضور إلى مستوصف السجن في البوم والساعة المحددتين، باعتباره أحد الشخصيات التي كانت اجتماعات بعض المدراء العامين بعد ثورة 14 تموز. وحضر نعيم بدوي في الوقت المحدد وأبلغته بما نبهني إليه الدكتور محمد سلمان حسن حول ضرورة إنكار حدوث هذ الاجتماعات. وفي الحقيقة كانت الاجتماعات عامة ومعدودة وعقدت بمشاركة مجموعة من العناصر التقدمية من أجل تقدم عجلة الثورة. وقد وعد بدوي خيراً، ولكنني اكتشفت إن الشخص الذي اعترف هو الأخ نعيم بدوي. وعندما عاتبته وقلت له بأننا واجهنا صعوبات في عقد اللقاء، لكنك اعترفت على الآخرين ولم تذكر لي ذلك. عندها اعتذر وقال كنت أتعرض لحالة من التعذيب الوحشي، وكنت أرى الأيادي والأصابع المقطوعة، ولم يكن أمامي من مخرج لتفادي التعذيب إلاَ أن أشير إلى هذه المعلومة. في الحقيقة لقد أصابني الاحباط من هذا الجواب، وأنا أقف أمام مناضل قديم وبارز في الحركة الوطنية. ويبدو أن التقديرات المثالية للبشر شيء والقدرات المعنوية والجسدية على تحمل الإهانة والتعذيب شيء آخر. إن الحادث الكبير الذي حدث أثناء مكوثنا في سجن رقم 1 هو اندلاع حركة أو انتفاضة الجنود والضباط والمدنيين في 3 تموز عام 1963 ضد النظام في معسكر الرشيد وحول سجن رقم 1. وسوف لا أخوض في تفاصيل هذه الحركة التحررية الشجاعة. فقد صدر العديد من الكتب والبحوث حولها. وسأحاول أن أحصر اهتمامي بما يتعلق بنا نحن المعتقلون في سجن رقم 1. فقد جرى إبلاغنا من قبل بعض الضباط المعتقلين في السجن عن قرب حدوث الحركة وعلى ضرورة ارتداء ملابسنا والاستعداد للذهاب إلى بيوتنا. وعندما تشارورنا في الغرفة ، لم يلق هذا الخبر التصديق والتجاوب إلاّ من قبل الدكتور عبد الجبار عبد الله. وهكذا فعندما بدأت الحركة صباحاً كنا سعداء لاحتمال نجاح هذه الحركة والتحرر من السجن ومن نظام البعث الفاشي البغيض. كنت أراقب ما بجري في السجن من الفجوة الصغيرة في الباب الحديدي. وقد جاء بعض الجنود وسألوا فيما إذا كنا نريد أن تفتح الأبواب، ولكن الضباط رفضوا ذلك. وبالتالي لم يبادروا إلى الاشتراك في الانتفاضة وتعزيزها بكفاءاتهم وخبرتهم العسكرية والمساهمة في نجاحها. واعتقد إن هذا الموقف كانت أحدى نقاط الضعف التي أدت إلى فشل الحركة. لقد بقينا طوال النهار وحتى فجر اليوم التالي دون أن يقدم لنا الطعام أو أن تفتح لنا الأبواب للذهاب إلى المرافق. وفي الساعات الأولى من صباح اليوم التالي، جاءت قوة مكونة من العسكريين ومن أفراد الشرطة وعلى رأسهم مسؤولون من حزب البعث، وأخرجوا معظم المعتقلين من الغرف باستثناء عدد قليل من الوزراء وكبار العسكريين. وتم صف الجميع في طوابير طويلة، وجرى تقييد أياديهم بحبال إلى الخلف، وبقينا في حالة وقوف لمدة بانتظار المجهول. وهنا حدث لي التحدي الكبير للقدر. فقط ظهر أمامي الملازم محمد المختار الذي أشرت إليه آنفاً، وقام بإلقاء نظرة على المعتقلين وصاح بأعلى صوته :"على جميع الوزراء والمدراء العامين الخروج من الصف، حيث تجري غداً محاكمتهم". وخرجت من الطابور مع عدد من المدراء العامين وأعادونا إلى إحدى الغرف في القاطع الأول وفكت الحبال من أيادينا. وهكذ نجوت من "قطار الموت" الذي خطط له لقتل المعتقلين وهم في طريقهم إلى سجن نقرة السلمان في صحراء جنوب العراق. ولا أود الاستطراد في الحديث عن العمل الخسيس والجبان الذي دُبّر لقتل معتقلي سجن رقم 1 وحشرهم في عربات قطار حديدية مخصصة لنقل البضائع. لقد جرى الطلب من سائق القطار، الذي كان يجهل ما تم حشره في العربات، أن يسير ببطئ في أجواء حرارة الجو التموزي القائض. ومن حسن الصدف والتحديات للقدر، وصل إلى علم سائق القطار الشهم عبد العباس المفرجي محتوى الحمولة الموجودة داخل العربات، والغرض الشرير من وراء الطلب منه السير ببطأ. وأثارت مشاعر النبل والوطنية لدى هذا السائق الشهم وقام بالسير بماكنة القطار بأقصى سرعتها، وأنقذ المعتقلين من مجزرة حقيقية باستثناء وفاة أحدهم. وشارك في انقاذ المعتقلين مناضلون أبطال من أمثال الدكتور رافد بابان وهو أحد المعتقلين، والذي أشرف على إعادتهم إلى حالتهم الطبيعية عندما وصلوا إلى محطة السماوة. ولا أود الإطالة حول جريمة قطار الموت التي جرى الكتابة عنها في كتب ومقالات. عندما عدت إلى القاطع الأول، وجدت هناك عدداً من الوزراء وكبار المسؤولين المدنيين والعسكريين في عهد عبد الكريم قاسم. وقد تم نقلنا في اليوم التالي إلى الموقف العام في باب المعظم. وخصصت لنا قاعة كبيرة تضم عدداً من الغرف والمرافق. وتوزعنا كل أربعة معتقلين في غرفة وتحسنت أوضاعنا المعاشية حيث كان باستطاعنا أن نحصل على ما يرسله الأهل من مؤن. عندها ارتفعت معنوياتنا وتحسنت الحالة النفسية واستطعنا الحصول على تراخيص لزيارة الأهل واستلام الصحف والكتب والمذياع. كانت المجموعة تضم وزراء ووكلاء وزراء ومدراء عامين في حكومة عبد الكريم قاسم، إضافة إلى عدد من الصحفيين. وساد جو ودي وتضامني تخللته أحاديث مفيدة وأخوية. وتوثقت العلاقات بين بعضنا البعض. وجرى تشكيل لجان تحقيقية للنظر في التهم الموجهة لنا. كانت اللجنة التحقيقية التي تنظر في اضبارتي برئاسة العسكري علي الكسار، الذي سبق وأن تعرفت عليه قبل انقلاب شباط، لأنه كان متزوجاً من أخت أحد أصدقائي في ذلك الوقت. وعند حضوري إلى جلسة التحقيق، اعتذر علي الكسار عن القيام بالمهمة يذريعة وجود علاقة سابقة معي. كان التحقيق روتينياً. وقد أجبت على كل التهم الكاذبة والملفقة التي جمعت من عدد من الموظفين ضعاف النفوس داعماً أجوبتي بالوثائق والاحصائيات. وخرجت من التحقيق وأنا على ثقة مئة بالمئة من أن تقرير اللجنة الموجه إلى المحكمة سيكون لصالحي. وقد وكلت أحد المحامين الأصدقاء وهو عواد طه النجم لمتابعة القضية وإبلاغي بنتائجها. وبذل المحامي جهوداً صادقة وكبيرة واستنسخ إفادات جميع الشهود، وقد قرأتها عدة مرات ولم تصدق عيناي ما قرأته من أكاذيب لئيمة ونكران للجميل لعدد من الموظفين العاملين معي من الذين قدمت لهم خدمات كبيرة أثناء عملهم معي سوية في جميع المعاملات. ومن دواعي الأسف أن تأخذ لجنة التحقيق المنحازة بجميع التهم التي أثارتها هذه العناصر الشاذة. ومن الجدير بالذكر أن أحداً لم ينل من كفاءتي بالعمل ونزاهتي واخلاصي. وكانت جميع التهم أما سياسية أو الاتهام بتحيزي في الوزارة للشيوعيين وضد القوميين وتحيزي إلى الدول الاشتراكية الوالد شكر التكمجي مع الأولاد والأحفاد ضمن إطار العلاقات الاقتصادية والتجارية مع الدول الأجنبية. وقبل أن أتوجه إلى المحاكمة في تشرين الأول من عام 1963، اتيحت لي الفرصة بالخروج من المعتقل لمدة اسبوع بكفالة. وكان الفضل في ذلك يعود إلى الوالد وجهوده الجبارة الذي استعان بالاصدقاء والمعارف للوصول إلى الحاكم العسكري الذي منحني هذه الفرصة الذهبية. وقد استفدت من هذه الفرصة في تلك الأيام بالمرور على كافة الموظفين الذين أدلوا بشهاداتهم ضدي في لجنة التحقيق. وعلا على وجوه غالبيتهم الخجل، وبرروا ذلك بالتهديد والضغوط التي تعرضوا لها من قبل البعثيين في الوزارة، وخوفاً من تصفيتهم جسدياً!!!. كان هؤلاء مذعورين من حضورهم إلى المحكمة وقول الحقيقة تجنباً للاعتداء عليهم وتوقيفهم كما جرى لآخرين في محاكمات سابقة، وقد أشارت إليها الصحف دون خجل. لقد وعدتهم بالحماية بقدر ما استطيع من قبل الحكام أثناء شهادتهم في المحكمة. كان هناك شاهد سبق وأن لعبت دوراً أساسياً في تعيينه مديراً عاماً وبدرجة خاصة وبراتب مرتفع في لجنة تنظيم تجارة الحبوب. ولكن بدا لي بعد ذلك وبشكل مفاجئ أنه عديم الوفاء والأخلاق وقدم إفادة سياسية كاذبة، ثم هرب إلى خارج العراق بعد تكشف فساده في إدارة عمله. كما كان هناك شاهدان آخران هما كمال حسين ومهدي العبيدي، اللذان أصرا على الشهادة ضدي لأسياب تتعلق بتربيتهما وحساباتهما الشخصية الأنانية. لقد قدم الأخ والصديق الوفي المحامي عبد المحامي عبد اللطيف الشواف اللطيف الشواف العون بزيارة رئيس المحمكمة، وكان اللقاء قصيراً، وطلبت منه أن يتسامح مع الشهود الذين انتابهم الشعور بتأنيب الضمير جراء إكراههم على الشهادة ضدي بدون حق، واستعدادهم للحضور والشهادة بصدق هذه المرة بضمان عدم تعرضهم للاعتداء أثناء سير جلسات المحكمة. وقد وعدنا خيراً. باختصار كانت التهم الرئيسية الموجهة ضدي هي التالية: 1 – شيوعي...ولم يُقدم أي دليل يثبت ذلك. 2 – رئيس لجنة صيانة الجمهورية في وزارة الاقتصاد، وقد ثبُت عدم معرفتي بذلك التعيين، حيث كنت خارج العراق. وقد ألغى الحاكم العسكري آنذاك هذه اللجنة دون أن تمارس أي نشاط. 3 – محاربة القوميين..وقد عُرضت حالة واحدة تخص أحد الموظفين واسمه حامد الأسود، الذي حضر إلى المحكمة وتراجع عن إفادته. وقد أوضحت أنني اقترحت عليه أن يتعلم اللغة الانجليزية كي يتم ترفيعه في الوظيفة التي يشغلها والتي تتطلب أن يجيد الموظف اللغة الانجليزية. 4 – تحويل الاستيرادات والتجارة إلى العالم الاشتراكي. وقدمت أولاً احصائية رسمية تؤكد عدم تجاوز حجم التجارة مع هذه الدول نسبة لا تزيد على 2 – 3 % من حجم تجارة العراق الخارجية خلال السنوات السابقة، والتي تنتهي في عام 1962. ثانياً، كتاب صادر من غرفة تجارة بغداد يؤكد ويشهد بأنني لم أطلب من أي تاجر أن يستورد ويتعامل مع الدول الاشتراكية. 5 – تهمة العمل ضد مشروع "الوحدة الاقتصادية العربية"، وقد أوضحت موقفي بالدفاع عن التكامل الاقتصادي العربي التدريجي الذي يصب في صالح العراق والدول العربية الأخرى. أثناء الخدمة لإعلاء شأن العراق وجرى التطرق إلى تهم أخرى أقل أهمية أثناء المحاكمة، وقدمت دفاعاً طويلاً معززاً بالوثائق والحجج الدامغة، مما دعى المحكمة إلى الاستغناء عن سماع دفاع المحامي. صادف أن جرت المحاكمة في أجواء عامة مناسبة حيث اشتد الصراع بين أطراف متعددة من البعثيين والقوميين. وصرف النظر عن إجراء المحاكمات العسكرية الاستثنائية التي حكمت بأحكام قاسية على الوطنيين الأحرار. وكان قرار المحكمة هو الحكم بالبراءة والتقدير لما قدمته من خدمات أثناء عملي في الوزارة. وبهذا اختتمت صفحة من حياتي كانت مليئة بالعذاب والتحديات المريرة، والتي كانت بمعظمها لصالحي. وتلخيصاً لعذابات السجون، أشير إلى أنني مررت بأيام عصيبة ومريرة، خاصة وإنني كنت أرى بأم عيني عذابات الآخرين التي كانت أشد وأقسى في ظل صمود المعتقلين. كان هذا موقفي الذي يعكس التمسك بالفكر والقناعات والثقة بالإنسان وبالتقدم والتطور المقبل للبلاد والتي كانت تغمر وجداني وحياتي. لقد كنت ألمس آلام وعذابات الأهل والأطفال، وخاصة الوالد الذي انهكته الآلام والمعاناة والمراجعات لتخفيف العبء والاعتداءات وأنا أقبع في المعتقلات. كما كنت ألمس فزع الزوجة الحبيبة أم سعد التي هزها الرعب حول مصيري ومصير العائلة والأولاد ومستقبلهم. وأعتقد إن هذه الهزة، ومعاناة أم سعد القاسية على مصيري ومصير الأولاد وهم في عمر الورود، شكلت أحدى أسباب مرضها العضال المفاجئ. لقد كان لانقلاب شباط المشؤوم دور تدميري للمجتمع وللإنسان العراقي.. وبالنسبة لي، فقد حصل تغيير مفاجئ شمل حياتي ومستقبل عائلتي. ونظراً لأن المصيبة كانت شاملة لكل المجتمع العراقي، فكان تحملها ممكنناً بالنسبة للفرد. وشرع من يستطيع التكيف مع الأوضاع الجديدة في الداخل طريقه إلى ذلك. في حين بادر آخرون ممن لا يستطيعون التكيف من المثقفين إلى حمل متاعه وعدته الثقافية وتجاربه ورأسماله الفكري وهاجر العراق كي يتجنب البطالة والمهانة في بلده. وشكل ذلك خسارة هائلة وكارثة بالنسبة لحاضر العراق ومستقبله، وسوف تعاني من وطأتها أجيال عديدة. فهذه الكوادر الكفوءة خسرها المجتمع والاقتصاد العراقي. وقد تأقلمت هذه النخب والخبرات هي وعوائلها في بلدان المهجر وبقيت خارج العراق.
#حافظ_شكر_التكمجي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الحرية والديمقراطية
المزيد.....
-
هولندا: اليمين المتطرف يدين مذكرتي المحكمة الجنائية لاعتقال
...
-
الاتحاد الأوروبي بين مطرقة نقص العمالة وسندان اليمين المتطرف
...
-
السيناتور بيرني ساندرز:اتهامات الجنائية الدولية لنتنياهو وغا
...
-
بيرني ساندرز: اذا لم يحترم العالم القانون الدولي فسننحدر نحو
...
-
حسن العبودي// دفاعا عن الجدال... دفاعا عن الجدل (ملحق الجزء
...
-
الحراك الشعبي بفجيج ينير طريق المقاومة من أجل حق السكان في ا
...
-
جورج عبد الله.. الماروني الذي لم يندم على 40 عاما في سجون فر
...
-
بيان للمكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية
-
«الديمقراطية» ترحب بقرار الجنائية الدولية، وتدعو المجتمع الد
...
-
الوزير يفتتح «المونوريل» بدماء «عمال المطرية»
المزيد.....
-
سلام عادل- سيرة مناضل - الجزء الاول
/ ثمينة ناجي يوسف & نزار خالد
-
سلام عادل -سیرة مناضل-
/ ثمینة یوسف
-
سلام عادل- سيرة مناضل
/ ثمينة ناجي يوسف
-
قناديل مندائية
/ فائز الحيدر
-
قناديل شيوعية عراقية / الجزءالثاني
/ خالد حسين سلطان
-
الحرب الأهلية الإسبانية والمصير الغامض للمتطوعين الفلسطينيين
...
/ نعيم ناصر
-
حياة شرارة الثائرة الصامتة
/ خالد حسين سلطان
-
ملف صور الشهداء الجزء الاول 250 صورة لشهداء الحركة اليساري
...
/ خالد حسين سلطان
-
قناديل شيوعية عراقية / الجزء الاول
/ خالد حسين سلطان
-
نظرات حول مفهوم مابعد الامبريالية - هارى ماكدوف
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|