لله عوالم كما قال الإمام علي. والعوالم في هذا المعنى هي الأكوان. وضمن الكون المحدد فالمادة تتحول من شكل إلى آخر: البلازما (والأثير) الكتلة، الطاقة. وللكون الواحد مراحل. كل مرحلة لابد ويحتوي بعضا من سابقتها، مثلما تنبيء بصفات لاحقتها.
وعلى منوال وعيينا البشري، المرتبط حتما بمعاييرنا الحياتية وخياتنا، فمرحلة الحاضر المحسوس - الدنيا، لابد ويحتوي الكثير من جوهر مرحلة الرحم، وتحتوي بعضا من صفات أو ملامح المرحلة القادمة - السرمد.
ومعلوم أن لكل جسم موجة مصاحبة، بما فيها جسم الإنسان. وبإنفصال الموجة عن جسم الحي، يحدث الموت (المؤقت أو الدائم) وبإقترانها به، تحدث الحياة فيعود الوعي وإدراك المحيط.
ونحن خقيقة، وإن نعرف الكثير عن مرحلة الرحم كمواعيده وتحولاته وساعته البيولوجية وهورموناته، لكن هذا الكثير يبقى محدودا ومحدودا جدا، أزاء ما يفترض أن نعرفه عنه. على سبيل المثال: ماهي معاييره الأخلاقية، ما هي معاييره الزمكانية، ما هي مثله وما هي أساطيره؟؟ الخ من الأسئلة المبهمة.
وربما قيل أن هذه مرحلة بدائية لا تحتمل هذا التعقيد الإدراكي. لكن هذا غير صحيح. بدليل أسطورة حي بن يقضان، أو أسطورة (ماوكلي). فالطفل حي، وإن تربى بأحضان ذئبة، لكنه، رغم ذاك بحث عبر المعايير البشرية عن إله وبحث عن أم وبحث في الوجود وإستحصل الكثير من ردود الفعل البشرية، التي ما كان ليجد إجاباتها لولا وعييه الجمعي الكامن في ذاكرته التي إستحصلها من الرحم. ناهيك عن إن الطفل وهو في الرحم يستجيب للربت عليه (عبر بطن أمه) ويستجيب أيضا للمؤثرات الصوتية، مثلما يشعر كل الشعور بما يحدث في عائلته من مشاكل أو أفراح.
وربما يتسنى لنا يوما ونتيجة للتطور العلمي الكشف عن الكثير من مكانين مرحلة الرحم، خصوصا وهو يقع ضمن عالم الكتلة المحسوس.
لكن الأمر أكثر تعقيدا بالنسبة لمرحلة السرمد.
فمرحلة السرمد أصلا مرهونة بتحول الكتلة (تبددها) إلى طاقة. والسرمد يعمل خارج إطار المحسوس، لأن جوهره هو الطاقة بأشكالها الكمية والموجية. لذا فالحالة الطاقية هي الوحيدة التي يمكنها الوصول إلى جوهره وكشف أسراره. والإنسان مثلا، يستطيع الوصول إلى السرمد عبر حالته الموجية. وحالة الإنسان الموجية مأسورة بكتلتها - الجسد. وهي لا تنفصل عنه إلا في الموت - حيث تنطلق الموجة نهائيا، أو في الرؤيا (الطيف والحلم) حيث تنطلق الموجة مؤقتا وتعود إلى الجسد لتتكون الحياة المصاحبة للوعي.
والرؤيا هي المصدر المتاح للإنسان العادي لمعرفة السرمد. لكن مصدرا آخر لمعرفته متاحا وهو الإستنباء الباراسيكولوجي. والإستنباء الباراسيكولوجي هو إمكانية التماهي مع العلل الكونية والرحيل معها تواتريا حتى مصدرها الأول. والإستنباء مرهون بحالة روحية عرفانية وللعقول الجبارة فقط. وضمن هذه العقول الجبارة ومن التاريخ المعروف يمكن إدراج (على سبيل المثال وليس الحصر) النبي محمد (ص) والمسيح عيسى (ع) ويحيى بن زكريا (ع) وزرادشت والكاهن نوريا الذي كتب الكثير من أشعار اللاهوت البابلي القديم.
وأشد الرؤيا قوة وتعبيرا كما يقول إبن سيرين، هي الرؤيا وقت الضحى والقيلولة. وأنا أضيف لها، رؤيا صحوة الموت. وهذه الرؤيا بنظري هي الأشد تعبيرا وصدقا.
وحين تنطلق الموجة لتسبح في رحبة السرمد وتستقي من معاييره ومعلوماته، وحين تعود لتتحد بالجسد، وهي تحمل شفرات ورموز لغوية وصورية، بعضها يقترب جدا من معناه الدنيوي، وبعضها يحاج إلى تعبير.
فإن صدقنا إبن سيرين، وإن أخذنا بما نقوله عن المعلومات التي تستقيها الموجة المنطلقة في السرمد والعائدة إلى الجسد، فلابد وتتعد الرؤى التي حكت عن مواصفات السرمد بعضها فهمناه وبعضها أهمل لتعقيد رموزه.
لكن رؤيا من عصرنا الحديث، غيّبت، نتيجة لما يمكن أن أفترضه العجالة.
فقبل سنين معدودة وحسب، قال السيد آية الله الخميني، وبعد إغفاءة عابرة، صحا إثرها صحوته الأخيرة - صحوة الموت، فقال قصيدة ترجمتها:
وأنا مشدود لذلك الخال على شفتيك
رأيت الألم في عينيك فأصابني المرض
حزن الحبيب أوقد نارا في جسدي
وكل من في السوق يدركون كم أنا معذّب
إفتحوا لي أبواب الخمارة ليل نهار
فأنا أكره المدرسة والمسجد
خلعت ثياب العفة والرياء
وإرتديت الثياب التي تميز رواد الحانات المسنين
فإستعدت السكينة والصفاء
واعظ المدينة يزعجني بمواعظه
دعوني أذهب إلى معبد معشوقتي
لقد أيقضتني يد هذه المعشوقة
فهل هذه، هي قصيدة خلاعة كما فهمها الملالي، فعتموا عليها بإعتبارها خارجة عن ما تعرفه العامة عن هذا القائد،، أم هي قصيدة إستنباء وصف فيها الخميني عالمه القادم؟؟!
قبل كل شيء، ما من إنسان ولم تأخذه غصة حزن وهو يفارق ما إعتاده، وخصوصا ونحن نتحدث بمعاييرنا الدنيوية، التي حتما سيصعب فراقها. وقد حزنت روح يحيى بن زكيريا حين شاهدت جسدها ملقى على الشاطئ لا حراك به، وقد حزن المسيح وهو على المشنقة فصاح (إيلي إيلي لمّا شبقتني) أي: (يا إلهي يا إلهي لم تركتني) كما طاف أنكيدو صديقه جلجامش يحكيه عن حزنه على موت جسده. علما بأننا لا نعلم حقا، هل يبكي الوليد لطعام أم حزنا على حياته السعيدة الرغيدة في رحم أمه.
ما أريد قوله، أن كلمات تنطق على عتبة الموت، لا ولن تؤثر على مقام قائلها، حتى وإن إحتوت ما يشوه هالة بطولته. لكن قصيدة الخميني هذه لم تكن حزنا فيسامح عليه، إنما هي رؤيا غفوة عابرة، تهيّات له دقائق وعي وفي صحوة موته فقصها لنا. والإنسان في صحوة الموت لا يكذب ولا يخاتل، وليس له وقت للشطط وهو على عتبة الرحيل. فلنحلل رموز ما ورد في قصيدة هذا الرجل، بناءً على ما ورد في تفاسير إبن سيرين ومقدمة إبن خلدون وعبدالغني النابلسي وغيرهم.
الخال (الشامة) والخال (أخو الأم) والخالة (أخت الأم) هذه جميعا رمز عن المرام والقصد والهدف الذي ينشده المرء. وأقوى التعابير وأكثرها تحقيقا، هو أن تظهر الخالة عارية فينالها الحالم جسديا، شريطة أن لا يستمني فيها.
اللون الأسود هو الرمز الحلمي للسؤدد والسيادة.
والخال (الشامة) يدمج السؤدد والقصد في رمز واحد لكونه أسود.
والخال (الشامة) صغير الحجم نسبة إلى محيط رؤيا الحالم، كدليل على أنه مجرد عنصرا من عناصر حسن الحال القادمة أو هي نقطة سؤدد في محيط عالم من السؤدد.
الثغر هو رمز لمدخل البهو أو عتبته. وحال الثغر يُعلم بحال البهو. إذا كان جميلا فالبهو وما يليه جميل، وإن على العكس فالبهو سيئ منكود. وحين قال الراحل ((شفتيك )) فلابد وعنى جمالهما ضمنا.
والنار هي نور وطاقة حياة وإمكانية لتعديل الأمور ما لم تحرق الحالم.
المسجد والمدرسة، أشياء عينية لا توجد إلا في الدنيا، التي يرمز إليها السوق.
والخمارة مكان راحة النفس،
والمعشوقة، جل ما يتمناه المرء.
وهنا، فالمحتضر - الخميني، رأى معالم سرمده حيث السؤدد ونيل المبتغى والخلود. لكنه رآه صغيرا. وهو حقا صغير مهما كبر نسبة إلى رحبة السرمد الذي لا تحده مقاييس ولا أزمنة. وحين رأي الراحل هذا السرمد وحالته، إلتفت إلى الدنيا، فرأى الألم في عيون عوّده حوله. وحزن عوده وألمهم عليه أحزنه قليلا. فصحيح أن الدنيا قاتمة يضطر المرء فيها للعبادة القاسية ليرضي ربه، ويضطر فيها للبس ما لم يخلقه الرب عليه وما لم يعتده في الرحم، ويكدح فيها ويذهب إلى السوق لسد الرمق وإلى المدرسة للتعلّم وإلى المسجد لسماع الوعظ وإثبات الورع،، صحيح أن هذه الدنيا صعبة كدوح، لكن فراقها ليس بالسهل. وكل فراق مؤلم. وعلى هذا الفراق بكى. لكنه سرعان ما أردف متحدثا عن سرمده القادم، فهناك لن يشغله شاغل حيث الحور والورف والخمر الرباني الزلال وحيث الفردوس والنعيم الأزلي، وحيث كنف المعشوق المطلق، السيد الأعلى - الرب. هناك، لا عبادة ولا كدح ولا سماع مواعظ. وهو ما أيقض فيه شوقا عارما وهياجا كبيرا لأسراع إلى هناك، دار معشوقته الجديدة - الآخرة!