|
عندما يصبح -الشعب- خطراً على الديموقراطية والعالم
فيصل القاسم
الحوار المتمدن-العدد: 1207 - 2005 / 5 / 24 - 08:14
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
صحيح أن الديموقراطية تعني حسب تعريفها اليوناني حكم الشعب بالشعب، أي أن الشعب هو صاحب الرأي الأول والأخير في اختيار حكامه. وصحيح أيضاً أن علينا احترام خيارات الشعوب مهما كانت إذا كنا نؤمن بالديموقراطية. لكن الديموقراطية ذاتها قد تحمل في طياتها أحياناً مخاطر جمة ربما تكون وبالاً عليها وعلى العالم معاً. ولعل أخطر آفات الديموقراطية، كما ظهرت عقب الانتخابات الأمريكية الأخيرة التي فاز بها الرئيس جورج بوش بولاية رئاسية ثانية، أن الاعتماد فقط على رأي الشعوب في اختيار الحكومات قد لا يكون دائماً قراراً صائباً خاصة عندما تكون تلك الحكومات لا تهيمن فقط على بلدانها بل تتحكم أيضاً بمصير العالم وشعوبه كما هو الحال بالنسبة للحكومة الأمريكية.
لقد أظهرت نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة أن واحداً وخمسين بالمائة من الناخبين الأمريكيين الذين يحق لهم التصويت هم الذين أوصلوا الرئيس جورج بوش مرة ثانية إلى البيت الأبيض ليكون قيصرالعالم بامتياز على الطريقة الرومانية. وحسب الإحصائيات فإن عدد الذين انتخبوا بوش من الشعب الأمريكي لا يزيد على ستين مليون شخص أي أقل من ربع السكان. بعبارة أخرى فإن هذا العدد القليل هو الذي أناب عن شعوب الدنيا جمعاء في اختيار حاكم أمريكا ومن بعدها العالم. وإذا أخذنا بعين الاعتبار طبيعة هؤلاء الذين صوتوا لبوش ستزيد الأمور خطورة وتعقيداً. فهم لا يمثلون المليارات من شعوب المعمورة الذين كانوا ينتظرون اللحظة التي يسقط فيها بوش، بل يمثلون أنفسهم فقط كما تظهر بعض الدراسات الأمريكية، إذ إن جلهم يمثل "قطاعاً واسعاً رجعياً، متديناً، أصولياً، محافظاً، ذكورياً، جاهلاً، فاحش الثراء، أبيض، انعزاليا وعدوانياً في الوقت نفسه". ويغلب على السواد الأعظم من مؤيدي بوش النزعة الدينية المتطرفة المائلة إلى المسيحية الصهيونية التي تؤمن بأساطير وخرافات دينية مرعبة تهدد العالم أجمع. وإذا سيطر الحقد الشوفيني أو الديني على العقول حينذاك تصبح الديمقراطية وسيلة للإضطهاد والإستغلال والدمار والخراب. فالذين صوتوا لبوش لا يهمهم أن يجتاح رئيسهم العالم ويدمر دولاً ويحارب أتباع الديانات الأخرى تحت حجج خرافية، وربما لا يمانعون أيضاً في استخدام السلاح النووي إذا اقتضى الأمر لفرض أجنداتهم ونزواتهم المغلفة بلباس روحي. هل يُعقل أن ينوب هؤلاء عن أكثر من ستة مليارات نسمة وهم سكان المعمورة في انتخاب حاكم العالم الأوحد؟ هل يُعقل أن يتحدى هؤلاء رغبة العالم الخائف جداً من الإدارة البوشية؟
وبالطبع ليس سكان العالم وحكوماته وحدهم هم الذين يتذمرون من اختزال الانتخابات الأمريكية في أقل من ربع الأمريكيين المتشددين. فهناك أكثر من ثمانية وأربعين بالمائة من الأمريكيين أنفسهم قالوا (لا) لبوش، لا بل إن بعضهم قرر هجرة الولايات المتحدة لعدم قدرته على العيش فيها في ظل الإدارة الجديدة. وقد أظهر مركز الهجرة في أمريكا أن عدد الذين قرروا ترك البلاد قد تضاعف ستة مرات بعد يوم واحد من فوز الرئيس بوش بولاية ثانية. وبالتالي لا يمكن لأحد أن يحمـّل كل الأمريكيين مسؤلية اختيار الرئيس. وفي هذا السياق "اقتبس دافيد كلارك، في صحيفة الغارديان البريطانية، فقرة مدهشة من كلام قاله السناتور الأمريكي الليبرالي الشهير وليام فولبرايت قبل أربعة عقود أثناء حرب فييتنام، عن وجود أمريكيتين وليس أمريكا واحدة: الأولى كريمة إنسانية، والثانية أنانية ضيّقة، واحدة ناقدة لذاتها، وأخرى ممتدحة لصواب ذاتها، واحدة متعقلة، وأخرى رومانسية، واحدة طيبة المزاج، وأخرى كظيمة، واحدة تتساءل، وأخرى تتكلم كالأساقفة، واحدة معتدلة، وأخـــرى طافحة بالكثافة العاطفية، واحدة حكيمة، وأخرى متغطرسة في استخدام القوّة العظمي". وبالطبع، كان كلارك قد اقتبس كلام فولبرايت لكي يذكّر بأنّ قوله ذاك ينطبق أشدّ الإنطباق علي حال أمريكا الراهنة، وأنّ تصويت أيّ من هاتين الأمريكيتين أمرُ يخصّ العالم أيضاً، ولا يخصّ الولايات المتحدة وحدها كما يرى المراقبون. إن التجربة الديموقراطية الأمريكية الأخيرة تعيد إلى الأذهان التحفظات الكثيرة التي كان قد أبداها فلاسفة كبار في الماضي حول ترك الحبل على الغارب للشعوب لاختيار حكوماتها.
كان المفكر سبينوزا يرى أن عيب الديموقراطية هو في ميلها الى وضع طبقة العامة في السلطة حين توضع مقاليد الأختيار والإنتخاب في أيديهم. لأن الحكمة ليست في كثرة الناس. وقد ينتخب الشعب أكثر الناس بلاهة وبلادة ويضعهم في أعظم مناصب الدولة, لا لشيء إلا لمقدرتهم على تملق الشعب ومداهنتهم له والتلاعب بعواطفه ونزواته. كما أن الجماهير متقلبة في ميولها وأهوائها لأن الجماهير تسوقها العواطف وتحكمها الأهواء لا العقل. وهكذا تصبح الحكومات الديموقراطية في يد المشعوذين والدجالين والمنافقين الذين يسايرون أهواء الشعب ويطوعونها لمصلحتهم الخاصة. وبالتالي لا بد من إعادة النظر في هذا الجانب الخطير من الديموقراطية إذا كنا نريد إغلاق باب المناصب الكبيرة في الدولة أمام الدجالين والمنافقين والجهلاء والأغنياء وغيرهم" كما يرى بعض المفكرين. ولو كان سبينوزا حياً حتى الآن لأثبت نظريته آنفة الذكر بالبرهنة عليها بالتجربة النازية، فمن المعلوم أن هتلر لم يغتصب السلطة ولم يصل إلى منصب (الفوهرر) عن طريق الانقلابات بل بواسطة الشعب الألماني الذي صوت له بالملايين. بعبارة أخرى لقد كان هتلر مفوضاً من الشعب في كل ما فعله فيما بعد من أفعال عنصرية همجية وغزو للبلاد المجاورة وتوريط العالم في حرب أتت على الأخضر واليابس وحصدت أرواح أكثر من ستين مليوناً من البشر. لم يكن بمقدور أحد في ثلاثينات القرن الماضي أن يعيّر النظام النازي بأنه لم يكن ديموقراطياً. ولم يكن أيضاً بمقدور أحد أن يعيّر الزعيم الفاشي موسيليني بأنه لم يكن ديموقراطياً. لقد كان هو وصديقه هتلر منتخبين بأغلبية ساحقة من قبل الجماهير التي قد تفشل في أحيان كثيرة في اختيار النظام أو الزعيم المناسب لقيادة البلد أو ربما قد تختاره عن قصد لأنه يمثل تطلعاتها وتوجهاتها "المنحرفة والخطيرة" ويصبح الشعب والقائد كلاً لا يتجزأ كما كان الحال مع الألمان والإيطاليين في ثلاثينات القرن الماضي.
وإذا كان سبينوزا قد حذر من ترك اختيار الحكام والحكومات للشعوب، فإن الفيلسوف الفرنسي الشهير غوستاف لوبون كان قد برع في تحليل نفسية الشعوب المتقلبة كالزئبق في كتابه المعروف "سيكولوجية الجماهير"، وكأنه كان، كسبينوزا، يحذر من مغبة الاعتماد على الغوغاء في تنصيب الزعماء. يقول لوبون:" إن الجماهير تتحرك بغرائز عاطفية، لا مكان فيها للهدوء والتروي، تريد كل شيء في نفس اللحظة، وهي سهلة الانقياد إذا وجدت من يحسن العزف على أوتارها، أو من يخيفها، ويمدحها في نفس الوقت، لا يهمّ أن تكذبَ على الجمهور، لأنه لا يطلب الحقيقة أصلا، المهم هو أن تعرف كيف تحرّكه، كيف تسخّر هذا الوحش الرهيب لتحقيق أهدافك السياسية. الجماهير ليست دائمة على حق ولا على باطل، كما السياسي تماماً، لأن المحركات هنا تشتغل بطاقة أخرى، هي طاقة العاطفة والخيال بالنسبة للجمهور، وطاقة المصلحة والمنفعة بالنسبة للسياسي، لا مكان للعقل أو للمحاكمات المنطقية الدقيقة". إن الجماهير قوة هائلة لا تستجيب إلا لمن يعرف كيف يخاطبها، ويهمس في أعماقها السحيقة باللحن الذي تريد.
لقد كانت معرفة السبل التي يستطيع بها السياسي اقتياد الجماهير إلى حيث يريد، من أهم الشواغل التي سيطرت على الحكام الديكتاتوريين على مر التاريخ. وإذا كانت سيكولوجية الجماهير تستجيب للمثيرات العاطفية أكثر من الأسانيد المنطقية، فقد كان الزعماء الجماهيريون يتقنون اللعب على هذه المحرضات، يعدون جماهيرهم بالأشياء العظيمة ويشعرونهم بأن لا حائل بينهم وبين هذه الغاية إلا هذه الفئة من المعارضين أو الأعداء، "لخططي ومشاريعي". وكان الحكام دائماً يخوفون جماهيرهم "بالأعداء الداخليين والخارجيين الذين يقفون بينكم وبين تحقيق أهدافكم الكبرى". وعندها يتحول الجمهور الهائل إلى ذات واحدة تتحدث بلسان واحد وتتحرك بجسم واحد لتحطيم كل العقبات المنتصبة أمام الزعيم السياسي! وهذا للأسف نجده هذه الأيام في بعض الديموقراطيات الكبيرة. هتلر نموذج مثالي لهذه المعادلة بين الزعيم والجمهور، إذ ما زال السؤال الكبير مطروحاً حسب بعض المحللين: "كيف استطاع أن يحول الألمان، صفوة المجتمع الأوروبي، إلى وحش كاسر يتحرك وفق إشارته؟ كيف استطاع أن يقنعهم بأكاذيبه وأوهامه عن التفوق الجرماني، وصيّرهم في النهاية وحشا نازيّاً؟ حرّك كل ما يمكن تحريكه من العواطف الراكدة في أعماق الشعور الجمعي للألمان، ووظف لذلك جميع قدراته الخطابية، بدءاً بحركات يديه وتعابير وجهه، وانتهاء بالتحية النازية الشهيرة".
القائد الشهير نابليون بونابرت، كان أيضاً واعياً تماما بهذا المنطق، ولذلك لم يجد غضاضة في التلوّن والكذب على الجمهور وإعطائه ما يريد من الأوهام في سبيل أن يعطيه الجمهور ما يريد من الطاعة. وإذا نظرنا حولنا هذه الأيام نجد أن الأمثلة القديمة تتكرر أمام أعيننا في منظر مخيف تحت يافطة الديموقراطية والخيار الشعبي. لقد كان من يسمون أنفسهم "بالليبراليين العرب الجدد" يطلقون وصف "شعبوي" على الشعوب العربية التي تصوت للإسلاميين أو القوميين على اعتبار أنها غير مصيبة في اختيارها. هل يستطيع "ليبراليونا" الأكارم هذه المرة أن يطلقوا صفة "شعبوي" على الشريحة الأمريكية المتشددة التي تحدت العالم وصوتت للرئيس بوش؟
لقد نجح الضغط الأوروبي في إبطال مفعول الديموقراطية في النمسا قبل سنوات بحجة أنها أوصلت إلى الحكم زعيماً شعبياً عنصرياً متطرفاً مثل يورغ هايدر . وقد تمكنوا بالتعاون مع أمريكا واللوبيات اليهودية في العالم من إزاحة هايدر عن سدة القيادة بالرغم من أن نظامه لا يشكل خطراً كبيراً على العالم لكون بلاده صغيرة الحجم ولا تمتلك قوة عسكرية أو اقتصادية مؤثرة. أليس حرياً بدول المعمورة وشعوبها إذن أن تنتبه إلى النماذج "الديموقراطية" المشابهة التي يمكن لها في الحاضر والمستقبل أن تهدد العالم أجمع من خلال احتمائها المزعوم "بخيارات الشعوب الحرة"؟
#فيصل_القاسم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تنازل أكثر تحكم أطول!
-
كم أنتِ ناكرة للجميل أيتها الصهيونية!
-
الانطفاش الإعلاماواتي الحنكليشي
-
الحرس القديم .... يادادا
-
الحاكم العربي وعُقدة كوريولانوس
-
تدويل العرب!
-
بلادي وإن جارت علي لئيمة!
-
فيفا أوكرانيا...فيفا أوكرانيا!
-
الصفر الوطني والصفر الاستعماري
-
باي باي إصلاحات
-
متى نتخلص من عقدة القائد التاريخي
المزيد.....
-
في ظل حكم طالبان..مراهقات أفغانيات تحتفلن بأعياد ميلادهن سرً
...
-
مرشحة ترامب لوزارة التعليم تواجه دعوى قضائية تزعم أنها -مكّن
...
-
مقتل 87 شخصا على الأقل بـ24 ساعة شمال ووسط غزة لتتجاوز حصيلة
...
-
ترامب يرشح بام بوندي لتولي وزارة العدل بعد انسحاب غايتس من ا
...
-
كان محليا وأضحى أجنبيا.. الأرز في سيراليون أصبح عملة نادرة..
...
-
لو كنت تعانين من تقصف الشعر ـ فهذا كل ما تحتاجين لمعرفته!
-
صحيفة أمريكية: الجيش الأمريكي يختبر صاروخا باليستيا سيحل محل
...
-
الجيش الإسرائيلي يوجه إنذارا إلى سكان مدينة صور في جنوب لبنا
...
-
العمل السري: سجلنا قصفا صاروخيا على ميدان تدريب عسكري في منط
...
-
الكويت تسحب الجنسية من ملياردير عربي شهير
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|