|
كابل
عبد الله عنتار
كاتب وباحث مغربي، من مواليد سنة 1991 . باحث دكتوراه في علم الاجتماع .
الحوار المتمدن-العدد: 4219 - 2013 / 9 / 18 - 23:12
المحور:
الادب والفن
-1-
بين عروش السدر المتدلية التي تطفح نبقا، هناك كان يجلس طفل صغير قرب حائط المدرسة، كان يجلس القرفصاء، وعلى صدره كتاب الأمل، تمر بجانبه قرويات شائخات يقدن حميرا تحمل على ظهورها تبنا، كن يتهامسن مع بعضهن، فتقول واحدة للأخرى : " هاذا هو ولد حميدة قاري تبارك الله ، في حين ترد عليهن امرأة تقبع في مؤخرة القافلة : " القراية آش دارو بيها، اللي قراو طفروه " ؛ يستمر هو في تصفح الكتاب، والجولان عبر العالم، فجأة يتوقف، ويفتح فمه، ويطلق أذنيه تسرح متتبعا أصوات القافلة، و على إيقاع حوافر الحمير يسمع صدى يتردد من بعيد بين النسوة : " لواه أ المليحية اللي قاري كيف اللي مقريش " .
-2-
بينما هو يغوص في الكتاب ؛ يتجمع حوله أطفال من كل الدواوير ؛ هذا المهدي من دوار " البيض "، وذاك عبد الرحيم من دوار " ولاد شطان " ؛ ثم سعيد من دوار " بني كرزاز "، وعبد الرحمان من دوار " ولاد البهلول "، إنها تشكيلة من الأطفال اجتمعت من أجل الدراسة، يسأله عبد الرحيم : " ماذا تفعل يا كابون "، يكتفي بالصمت، ويرتكن إلى الهدوء، فهو لا يحس أنه قريب منهم، فالكتاب جعله مواطنا كونيا يطفح بالتجارب الإنسانية المتعددة، ينتظر عبد الرحيم الجواب، لكنه يستولي عليه الضحك، أما سعيد، فيقول : " كل ما أعلمه أن الدراسة في المدرسة فقط، أما أن تقرأ كتابا لا علاقة له بالمدرسة هو نوع من " العياقة "، وزيادة على هذا، لن تفهم فيه شيئا، وإذا كنت " قرايا " كما تدعي، فلتقرأ لنا الكتاب كله، إنك مجرد مدعي، ستفشل كما فشل إخوانك، " كانوا كيقراوها في السما " " " " ؛ يكتفي عبد الرحمان بتلويك العلك ؛ لم يقل شيئا، بل فقط كان يطلق أذنيه لتترصد ما يدور ؛ عبد الرحمان كان يرى المدرسة مجالا للعب، والتخلص من جبروت الوالدين، فمن منظورهما، عدم الدراسة هو التوجه مباشرة نحو " الكرفي "، أو الرعي، لكن عبد الرحمان كان يعتبر هذا سوطا يسلط عليه من فوق، فما فتىء يوهم والديه بالدراسة، فيتوجه منذ الصباح إلى المدرسة، ولا يعود إلى المنزل إلا في الليل . ظل كابل منغمسا في كتابه، فجأة يتلقى صفعة من المهدي، ثم يخطف منه الكتاب، في حين يبقى هو جالسا في مكانه ؛ يركل المهدي الكتاب، ويقول للثلاثة الآخرين : " هيا لنلعب " حابة "، فهذه اللعبة أفضل من الجلوس قرب هذا الأخرس " .
-3-
يصفق الحارس ؛ يتجمع الأطفال ؛ العرق يتصبب على وجوههم ؛ يدخلون إلى القسم ؛ يجدون الأستاذ جالسا على المكتب، وبعد أن يدخل الجميع يقول : - من أعد الموضوع الإنشائي المتعلق بقضايا الأمة العربية ؟ يرمق الجميع بعضهم البعض ؛ لا أحد أعد هذا الموضوع سوى " كابل "، فيقول الأستاذ : - كابل تقدم نحو السبورة، وأريدك أن تلقنهم درسا لن ينسوه، فهؤلاء لا يعرفون حتى أنفسهم، بل حتى ماذا أكلوا البارحة . ينزل " كابل " نحو السبورة، ويشرع في القراءة، وفي نفس الوقت يشرح : - وجد الإنسان على هذه الأرض، فانتمى إلى مجتمع، وتأطر داخل دولة، فانهجس بما ينهجس به الناس الذين ينتمون لهذا المجتمع، وهذه الدولة ؛ إن المجتمع هو المجتمع العربي، مجتمع ناضلت فئاته وطبقاته من أجل النهضة، لكن الحملة الاستعمارية – الامبريالية حطمت أمانيها، فعاش الشعب العربي مستلبا – ضائعا لعقود من الزمن، غير أن استفاقة الكادحين فيه، ونضالهم المستميت حتم على الامبرياليين الرحيل، لكنه رحيل مؤقت، فما إن غادروا حتى تركوا زبانيتهم، وتتمثل هذه الزبانية في كيان اسرائيل والمشايخ والعائلات التي استولت على الدولة العربية القطرية المعاصرة، واغتيل المفكرون، وبيعت صحائف التدجيل بأثمنة زهيدة بدعم من الريع البترولي، فهذا الريع نوم العقول، ودجن الشباب، وكبح النساء، والنتيجة هزيمة العرب في 67، واحتلال الجولان ومزارع شبعة، وموت القضية الفلسطينية، واغتيال الفكر النقدي، والزج بالمفكرين في السجون، وهجرة الطاقات نحو الخارج (...كان هذا سنة 2001...أما الآن ...فقد تحالف السلفيون والخوانجية والامبريالية – الصهيونية على وأد الثورة العربية ) ؛ هذه هي قضايا الأمة العربية الإستراتيجية، إنها أمة تراهن على النهضة منذ قرنين من الزمن، حققت بعضا منها، وفشلت في بعض آخر، لكن الغائب الجوهري هو الإنسان، فأمتنا مازالت جائعة إلى الإنسان ؛ الإنسان المتعدد الأبعاد ؛ لا الإنسان المختزل " .
-4-
صفق الأستاذ، ثم قال للتلاميذ :
- صفقوا على كابل .
ثم أضاف :
- أعدك أمام زملائك التلاميذ، بأنني سأشتري لك كل يوم جريدة .
وراح هو يضحك، فأعجبه الأمر كثيرا، لأنه سيصبح مواطنا كونيا، فيتعدى مجاله القروي الذي يضيق عليه كل يوم .
-5-
لقد سماه الأستاذ " كابل "، وحينما نطقها أول مرة ظن أحد التلاميذ الذي يدعى " كريفة " بأنها " الكامبو "، لأن " كريفة " لم يسبق أن سمع ب " كابل "، فهو لم يتجاوز حدود قطعان الماعز، وتدخين السجائر قرب الحانوت .
-6-
كانت " كابل " وقت ذاك عاصمة طالبان، وكانت تتعرض للقصف الأمريكي، وبحكم متابعة التلميذ القروي لآخر التطورات عبر أمواج الإذاعة، ومناقشة ذلك في القسم، لقبه الأستاذ بذلك الإسم، فافتخر به، وجعله متميزا كما كان يتمنى دائما، فهذا اللقب جعله متحفزا للمثابرة، وعدم التقوقع داخل القسم، بل جعله مواطنا كونيا يناقش قضايا المواطن العالمي، وما يتعرض له من حروب، وقتل، وسفك للدماء . وتعلم كذلك فن الإنصات والمشاهدة والحوار، والكتابة وإبداء موقف إزاء قضايا الأمة العربية .
-7-
ذات يوم من الأيام، وبينما كان يسير رفقة أخيه عبر الشارع الكبير بمدينته الصغيرة ؛ لفته رجل ضالع في السن ؛ شعره يفيض شيبا، ووجهه تكتنفه التجاعيد ؛ نظر إليه، ثم عاود النظر، إنه ذلك الأستاذ الذي كان يفيض علما و معرفة بين حجرات المدرسة القروية ؛ لقد أتى من أرض بعيدة تدعى " واد زم " وقت ذاك ؛ اقترب منه " كابل " ؛ لم يعرفه الأستاذ، فالتلميذ القروي أصبح شابا طويلا ؛ تغيرت ملامحه وصفاته، لقد تغور عميقا في الدراسة، فحفرت في نفسه أخدودا، وحولته كالنهر الشائخ يتجرع الأفكار والنظريات، ومشاكل المجتمع .
-8-
نظر إليه ، ثم قال :
- أنا " كابل " درست عندك في الموسم الدراسي 2001-2002، هل تذكرني ؟
- أين درست عندي ؟
- في مدرستنا القروية التي تدعى ( ....)، وكنت وقتها تناديني ب " كابل "، هل تذكرني ؟
تجمد الأستاذ في مكانه، وعصر ذاكرته، فتراءت له أشباح متناثرة، فالصور تتدفق كالموج العاثي، لكنه ما فتىء يرتبها، وفي الأخير قال :
- لم تكن هكذا، أين الشعر الطويل ؟ أ لا تذكر عندما قصيته لك في القسم ؟ آه لقد كنت عنيدا ومربكا، ولا تفتر إلا عندما تقول فكرتك ؛ أذكرك صغيرا، ونبيها، ومتنورا، ومنصتا جيدا، ومهووسا بالقرية والإذاعة .
سكت قليلا إلى حد أنه عجز عن الكلام، اختلطت الدموع والذكريات، والزمن السفاك، غير أن الأستاذ تحكم في نفسه، ثم واصل :
- لقد تواريت كثيرا يا صغيري، ما وضعيتك الآن، أ مازلت تقرأ بذلك النهم ؟
- أنا أستاذ في مدينتك التي نبعت منها، وها أنا أصب فيها الآن .
آه على هذا القدر، جئت إلى قرية لم يعرف أهلها العلم، وها هم أولادها يدرسون في مدينتنا، أنا مبتهج كثيرا . فجهودي لم تذهب هدرا .
عبد الله عنتار - واد زم - المغرب / 17 شتنبر 2013
#عبد_الله_عنتار (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المواطن - شعيبة - ( 2 )
-
المواطن شعيبة
-
منزلنا الريفي ( 12 ) / ( بني كرزاز...مواقع - أسماء - ملاحم -
...
-
منزلنا الريفي ( 11 )
-
منزلنا الريفي ( 10 )
-
دروس في الرقص
-
منزلنا الريفي (( 9 ))
-
لا مبالاة
-
منزلنا الريفي ( 8 )
-
منزلنا الريفي ( 7 )
-
أدوار النخبة عند الباحث الأنثروبولوجي عبد الله حمودي
-
أدوار النخبة عند عبد الله حمودي
-
في طريقي إلى الكلية
-
طريقي إلى الكلية
-
الطريق المتربة
-
عائد من سوس
-
علمتني الأيام
-
جولة سوسية
-
التضامن الأعظم
-
رحلة إلى إنزكان
المزيد.....
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
-
مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
-
إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
-
معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا
...
-
نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد
...
-
مايكروسوفت تطلق تطبيقا جديدا للترجمة الفورية
-
مصر.. اقتحام مكتب المخرج الشهير خالد يوسف ومطالبته بفيلم عن
...
-
محامي -الطلياني- يؤكد القبض عليه في مصر بسبب أفلام إباحية
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|