|
سلسلة أغلى اللوحات الفنية في العالم - 2 -: - صبي مع غليون - لبابلو بيكاسو التي بيعت بـ - 104.1 $ - مليون دولار أمريكي
عدنان حسين أحمد
الحوار المتمدن-العدد: 1205 - 2005 / 5 / 22 - 11:42
المحور:
الادب والفن
ثمة سؤال بسيط قد يتبادر إلى ذهن القارئ مفاده: ما الذي يمنح العمل الفني قيمته المادية التي قد تتجاوز الحدود المعقولة بحيث تصل إلى عشرات الملايين من الدولارات؟ هل هي الثيمة، أم الشكل، أم الألوان؟ هل هو الموضوع الصريح الكامن في اللوحة، أم الموضوع الإستعاري الذي يكمن خلف الثيمة الحقيقية للعمل الفني؟ هل هي جرأة الفنان الذي يتعاطى مع موضوعات محرّمة عامة، أم هي الشجاعة في أن يعرّي الفنان نفسه، وأعماقه أمام الملأ من دون خشية أو حرج كما فعل بابلو بيكاسو؟ هل ثمة بعد فلسفي يقدّمه لنا الفنان في الكشف عن الكينونة البشرية المعقدة التي تخرج عن إطار الفرد لتتعامل مع الهواجس الجمعية كما فعل فنسنت فان كوخ في لوحة " بورتريه للدكتور غاشيه "؟ هل أن الموضوعات الدرامية هي التي تضفي على الأثر الفني قيمة فكرية وجمالية بسبب ما تنطوي عليه من حس تراجيدي كما في لوحة " مجزرة الأبرياء " لبيتر بول روبنز أو " الجورنيكا " لبيكاسو أو سواها من الأعمال الفنية الخالدة مثل " الموناليزا " لدافنشي؟ ولو عدنا إلى النصف الثاني من ثمانينات القرن الماضي، وتحديداً منذ 1987، وهو العام الذي بيعت فيه لوحة " السوسن " لفان كوخ بمبلغ كبير قدرة 49 $ مليون دولار أمريكي، وحتى عام 2004 حيث بيعت لوحة " صبي مع غليون " لبابلو بيكاسو بمبلغ خرافي وصل إلى 104.1$ مليون دولار أمريكي محطماً الرقم القياسي للوحة فان كوخ الشهيرة " بورتريه للدكتور غاشية " والتي بيعت بمبلغ 82.5 $ مليون دولار، وقد سبق لكل من بيكاسو وفان كوخ أن باعا لوحات فنية بعشرات الملايين من الدولارات. لو عدنا إلى تلك الحقبة من الزمن مفتشين في طياتها، ومنقبين في أدراجها، لوجدنا بعض الحقائق التي تدلنا على أسرار هذه الأعمال الفنية، وأسباب ذيوعها وانتشارها. فما هو سر لوحة " صبي مع غليون "؟ ولماذا حصدت كل هذه الشهرة الواسعة التي طبقت الآفاق؟ وما الذي حفّز مقتنيها لأن يدفع هذا المبلغ الضخم؟ كما يمتد هذا التساؤل ليشمل لوحات فنية أخر لفنانين بارزين أمثال بيير أوغست رينوار، وبيتر بول روبنز، وبول سيزان وغيرهم من الفنانين الكبار الذين سجلوا أرقاماً قياسية لا تغادر الذاكرة بسهولة. التكوين التشكيلي قد تبدو هذه اللوحة للناظر بشكل سريع أنها لا تحتوي إلا على " صبي " يرتدي بذلة زرقاء، ويحمل بيده اليسرى " غليوناً " يكاد يلاصق الحافة اليمنى من صدره، ويعتمر " إكليلاً من الزهور "، وفي المشهد الخلفي هناك " باقتان من الزهور " تسبحان في مناخ وردي. قد يبدو هذا السرد للتكوين الإنشائي عادياً، وليس فيه ما يثير الشهية أو الغرابة أو التفرّد. فهذه اللوحة هي امتداد لسلسلة طويلة من الأعمال الفنية التي شكلت " مرحلته الوردية "، ولكن لو تأملنا هذا العمل الفني جيداً لوجدنا فيه الكثير مما يثير الاهتمام. فقبل كل شيء تنبغي الإشارة إلى أن بيكاسو قد أنجز هذه " التحفة الفنية " في حي مونمارتر في باريس عام 1905 وهو في سن " الرابعة والعشرين! ". وقبل أن يشرع في تنفيذ هذا العمل على الكانفاس بقياس " 100 × 81.3 " كان قد أنجز العديد من " التخطيطات التمهيدية " للصبي الذي كان يُعرف بـ " بتيت لوي " والذي كان يتردد كثيراً على محترف الفنان بيكاسو، وفي بعض الأحيان كان يبقى طوال النهار وهو يراقب بيكاسو المنغمس في عمله، ويجد في هذه المراقبة نوعاً من المتعة الداخلية الدفينة التي تنطوي على سر ما لم يسعَ الكثيرون إلى كشفه وتعريته بالرغم من علاقته الوطيدة بطبيعة العمل الفني، وسبب ذيوعه، وشهرته، ونجاحه. وذات ليلة كان بيكاسو يسهر مع أصدقائه خارج المنزل، وصادف أحدهم أن قرأ على سمعهم قصيدة جميلة للشاعر بول فرلين " Crimen Amoris " والتي كانت تتمحور حول صبي عمره 16 " ملاك الشر "، وكان يضع على رأسه إكليلاً من الزهور. . فجأة شطحت في مخيلة بيكاسو هذه الصورة التي كانت غائبة عنه، أو ربما ضائعة تماماً، ولم يعرف بيكاسو في حينه، من شدة قلقه واضطرابه ماذا عليه أن يفعل، فاختلق عذراً، وغادرهم مسرعاً إلى محترفة حيث رسم " طوق الزهور " على رأس بتيت لوي ليكمل المشهد الذي كان ناقصاً من وجهة نظره في الأقل. وبالرغم من أن بعض النقاد الفنيين الذين تناولوا هذه اللوحة بالدراسة والتحليل والنقد قد أشاروا على استحياء من أن هذا العمل الفني لا يخلو من مسحة رومانسية تجلت في مرحلته الوردية، غير أن واقع الحال هو أعمق من اللمسة الرومانسية الشفيفة. إن هذا العمل الفني الذي بيع بـ " 104.1" مليون دولار أمريكي هو عمل إيروسي بامتياز يكشف عن النزعة المثلية لبيكاسو. وكما يؤكد جون ريجاردسون كاتب السيرة الذاتية للفنان بأن " بيكاسو كان مفتوناً بفكرة الشباب الخنثويين " التي سحرته في تلك الحقبة الزمنية من حياته، بل أنه كان مُنشداً إلى علاقة الحب المثلية التي كانت تربط بين الشاعرين بول فرلين وآرثر رامبو، إذ كان فرلين متعلقاً جداً برامبو الذي لم يكن قد بلغ سن الرشد بعد. وكان المجتمع الفرنسي يحترم هذا النوع من العلاقات " الإيحائية " المثالية التي تربط بين المبدعين الكبار. وبحسب ريجاردسون فإن بيكاسو قد استوحى هذا العمل الفني " صبي مع غليون " من القصيدة الإيروسية التي كتبها بول فرلين بحق رامبو والتي تتحدث عن " ملاك شرير " يعتمر إكليلاً من الزهور. إن ما أضفاه بيكاسو على هذا " الصبي " الذي يحمل غليوناً من دلالات جديدة هو أكثر مما يتخيله المتلقي غير الملِّم بهذه التفاصيل الإشارية المهمة. فالصبي يبدو للوهلة الأولى مدمناً على المخدرات من خلال الغليون الذي يحمله. كما أن ملابسه الزرقاء تشير بوضوح إلى أنه ينتمي إلى الطبقة العاملة، وأكثر من ذلك فهو لا يمتلك عملاً ثابتاً بدليل أن يتردد كثيراً إلى هذا المرسم، ويتسكع في حي الفنانين. ولو دققنا في جلسة الصبي ووضعيته لاكتشفنا أن ساقيه المفتوحين توحيان بهذا البعد الإيروسي، كما أن مسْكَته للغليون تعزز هذا المذهب الذي ينطوي على غموض كبير. ويمكن للناقد الحصيف أن يحلل المناخ الغامض، والأسطوري لهذا العمل الفني، فمجرد وضع طوق الزهور على رأس الصبي قد نقله من مصاف البشر العاديين إلى مصاف آلهة الحب والعشق المستديم. يعتقد بعض مؤرخي الفن بأن بيكاسو قد أضاف إكليل الزهور على رأس الصبي، وباقتي الورد في خلفية المشهد لكي يغيّر صورة المراهق الكئيب الغارق في اللون الأزرق إلى شبح إله يتردد على هذا المكان. وكما ذهب ديفيد نورمان، وهو نائب لرئيس دار سوثبي الأقدم " بأن هذه اللوحة تشبه الموناليزا، ففيها تعبير لا يمكن أن تحدده بمعنى واحد."، وهذا هو سر عبقرية بيكاسو المبكرة التي تضع المتلقي في دائرة الغموض، والريبة، والتساؤل الدائم. من هنا فقد توقع نورمان أن يكون بيكاسو واحداً من أعظم الرسامين في العالم. وقد صدقت نبوءته المبكرة. وجدير ذكره أن لوحة " صبي مع غليون " قد حطمت الرقم القياسي لأغلى لوحة في العالم وهي " بورتريه للدكتور غاشيه " التي بيعت بـ " 82.5 " مليون دولار عام 1990 في دار كريستي للمزاد العلني للتحف والآثار الفنية. وقبل المزاد كانت هذه اللوحة هي إحدى الأعمال الفنية التي تضمها مجموعة جون هاي ويتني وزوجته، والتي أراد الزوجان بيع هذه اللوحة، وتخصيص ثمنها لتمويل أنشطة منظمة الشجرة الخضراء " التي تعنى بقضايا السلام العالمي في العالم. وعلى الصعيد النقدي تنتمي هذه اللوحة للمرحلة "الوردية " وهي من المراحل الفنية المهمة في تجربة بيكاسو، والتي امتدت بين عامي 1904- 1906. وقد تميزت بالاستخدام المكثف للون الوردي في مجمل أعماله الفنية، كما اتسمت بالحس الرومانسي، وبتعبير أدق بالهاجس الإيروسي الذي تلمسناه في لوحة " صبي مع غليون ". ومن الناحية التقنية فإن إخراج هذه اللوحة، وإنشاءها اللوني يبدو ضعيفاً قياساً بأغلب الأعمال الفنية التي أنجزها بيكاسو في تلك المرحلة. ومع ذلك فقد حطمت الرقم القياسي، وحازت على رتبة أغلى لوحة فنية في العالم.
#عدنان_حسين_أحمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سلسلة أغلى اللوحات الفنية في العالم: - بورتريه د. غاشيه - لف
...
-
المخرج السينمائي سعد سلمان ﻟ - الحوار المتمدن -: الشع
...
-
المخرج خيري بشارة لـ - الحوار المتمدن -: في الفيلم التسجيلي
...
-
المخرج السينمائي قاسم حَوَلْ لـ - الحوار المتمدن -:عندما تسق
...
-
المخرجة الأمريكية - مصرية الأصل - جيهان نُجيم: أشعر أن هناك
...
-
لماذا لم تندلع الثورة الذهبية في أوزبكستان، البلد الذي يسلق
...
-
الأصولية والإرهاب: قراءة في مستقبل الإسلام والمسلمين في هولن
...
-
المخرج فرات سلام لـ - الحوار المتمدن -:أتوقع اقتراب الولادة
...
-
موسوعة المناوئين للإسلام - السلفي - والجاليات الإسلامية - ال
...
-
التراسل الذهني بين فيلمي (ان تنام بهدوء) و(معالي الوزير) الك
...
-
الرئيس الجيورجي ميخائيل ساكاشفيلي والثورة الوردية: حليف أمري
...
-
فرايبيرغا، رئيسة لاتفيا الحديدية: تتخلص من تبعية الصوت الواح
...
-
-المخرج فرات سلام في شريطه التسجيلي الجديد - نساء فقط
-
صمت القصور - فيلم من صنع امرأة: كشف المُقنّع وتعرّية المسكوت
...
-
في زيارته الثالثة لأوروبا خلال هذا العام جورج بوش يحتفل باند
...
-
سمفونية اللون - للمخرج قاسم حول: شريط يجمع بين تقنيات الفيلم
...
-
الروائي بختيار علي لـ - الحوار المتمدن -: النص لا يخضع لسلطة
...
-
في جولته الجديدة لكل من لاتيفيا وهولندا وروسيا وجيورجيا جورج
...
-
التشكيلي سعد علي في معرضه الجديد - المحبة في مدينة الليمون -
...
-
الملكة بياتريكس في يبويلها الفضي: لا نيّة لها للتخلي عن العر
...
المزيد.....
-
عن فلسفة النبوغ الشعري وأسباب التردي.. كيف نعرف أصناف الشعرا
...
-
-أجواء كانت مشحونة بالحيوية-.. صعود وهبوط السينما في المغرب
...
-
الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى
...
-
رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|