أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أماني فؤاد - الصمت الصاخب بالموسيقي في -تانجو وموال- للروائية -مي خالد-















المزيد.....


الصمت الصاخب بالموسيقي في -تانجو وموال- للروائية -مي خالد-


أماني فؤاد

الحوار المتمدن-العدد: 4205 - 2013 / 9 / 4 - 01:49
المحور: الادب والفن
    


الصمت الصاخب بالموسيقى فى تانجو وموال

تصدح تقنية السرد فى هذا النص الروائى بالأنغام المضفورة بالكلمات، الموسيقى التى تعزف لحنها الخاص بين المفردات اللغوية، فى مزيج فنى يشهر التحدى الفني الناعم، التحدى للصمت الظاهرى الذى تختاره الساردة الرئيسية ذات الاسمين "فيولا أو رباب"، التحدى للواقع، للقلق والحيرة من ازدواج الثقافة، الرفض للفقد، ولعدم اكتمال التجارب فى حياتها، قدرية البتر الذى تصاب به فى علاقاتها بالآخرين.
سيمفونيات الرواية ، أعلام مبدعى الألحان والأغنيات، بعض القصائد. كما يتداخل بالنص فى مواضع كثيرة العديد من المواويل الشعبية الموروثة فى التراث الشعبى والفلكلور المصرى .
تعيش الشخصية في الصمت، نعم ... لكنه صمت صاخب بالأصوات الفنية، حكى مضفور بالموسيقى والشعر، كأن أصوات العالم جميعها بتنويعاتها وإيقاعاتها المتباينة حديثها، ما ترتضى أن تقوله، لكنها تضيق أن يخرج لهذا العالم الذى لم يهبها ما تحلم به.
يُعلن التحدى الداخلى فى أول مستوياته حين تصبح الساردة الرئيسية بالعمل هى ذاتها فيولا أو رباب،الساردة التى تختار الصمت لتعبر عن رفضها، ويتمثل المستوى الثانى من التحدى حين تتخير الروائية أن يتشكل السرد من خلال ضفر المحتوى والكلمات بعالم الموسيقى، أنغامها ومقاماتها وآلاتها، التحدى حين تواجه الساردة الصراع الرئيسى فى حياتها، ازدواج الثقافة والتكوين والجينات باستخدامها لازدواج الموسيقى الغربية والشعر الغربي و التانجو، فى مواجهه مع الموال وأغانى الزار، والرباعيات والأغنيات العربية والنوبية.
نصل إلى مستوى ثالث من امرأة مصابة بالخرس الاختيارى، فشلت كل المحاولات لدفعها للحديث، نزيلة مصحة نفسية نتيجة: موت أمها، وفشل عدد من التجارب العاطفية بحياتها، ورفضها النسبى لها فهى علاقات غير مناسبة لم تكتملا، كأنها تفصح عن صراعها بهذه التوليفة المتنافرة ظاهرياً، مزيج مضطرب وقلق، لكنه متعايش بداخلها.
ومن خصوصية هذا الصراع فى نص "تانجو وموال" نتقدم خطوة بعد أعمال روائية رائدة عالجت الصراع الناتج من التقاء الحضارة الشرقية بالغربية، من خلال نماذج إنسانية واجهت هذا الصدام القدرى، مثل: "عصفور من الشرق" "لتوفيق الحكيم"، "أديب" "لطه حسين"، "موسم الهجرة إلى الشمال" "للطيب صالح"، "الخيط الرفيع" "لمحمد مفيد الشوباشى"، "الحى اللاتينى" "لسهيل إدريس".
أعنى بالخطوة المتقدمة أن الصراع لم يعد بين طرفين ممثلين للحضارتين المختلفتين، بل أصبح صراعاً داخلياً يعترك ويتعايش بداخل نتاج هذا التزاوج الأولى، نتاج التلاقى بين الغربى والشرقى، وتظل القضية بداخل هذا النتاج المشترك إلى أى الأطراف ينتمى، وكيف تتنازعه طبيعة ومكونات كلا من هذه الثقافات.
فى الأعمال الروائية المتقدمة كانت النصوص تدور بين المنتمى للحضارة الشرقية والغربية وكانت المواجهات مباشرة، حتى وإن بدت قدرية إلا أنها تقع فى منطقة الاختيار، فشخصيات النصوص التى تدور بداخلها الصراع هى من تحب ومن تكره، من تعترض على بعض المظاهر الحضارية وتمتلئ بالتخوفات، من تنبهر وتقارن بين الحضارتين، فى النهاية بذواتها تملك الاختيار.
فى نص "تانجو وموال" الشخصية هى نتاج تلاق حضارتين لا اختيار لها، هكذا شُكِّلت.
ووُجدت جيناتها المختلطة المتجاورة غير المنصهرة جنبا إلي جنب ، ولذا يظهر بالنص كل هذه المتجاورات المتداخلة والمحيرة، التانجو بجانب الموال، والموال يزاحم التانجو، والثنائية تشمل "رباب أوفيولا" و"تغريد أو راندا"؛ ولذا يتبدي هذا التكوين مرحلة تالية لمرحلة الالتقاء الأولى بين الحضارتين الشرقية والغربية.
تقول فيولا معلقة على طرق علاجها بالمصحة: الأمر الوحيد الذى ربما يكونوا محقين فيه هو النغمات والمواويل التى تلح على رأسي ولا تهدأ، حتى أثناء النوم، فيأتينى الزار والمولد والسيمفونية والطقطوقة والكونشرتو، على هيئة أحلام صاخبة تتداخل فيها القوالب الموسيقية بلا تناغم أو تآلف، لكن لم يتنصت أحدهم على رأسي؛ ليدركوا كل هذا النشاز. ليتهم يدركون أننى أحتاج أن أفصل كل نغمة عن الأخرى ثم أجمع الكوردات المتآلفة لأستمتع بالهارمونى. ص17.
ألنا أن نتساءل الآن ما هو العالم الواقع خلف هاذين الدالين التانجو والموال، ما هى أبعاد الصراع الكامن وراء هذه الثنائية المجتمعة والمختلفة فى ذات الوقت؟.
فى ظنى علينا أن نستهل الحكاية من جذورها، من الأم "إريا"، أرجنتينية الجنسية والثقافة، والأب "رفعت سرحان" شرقى الحضارة، الرجل الموزع بين التراث والتحديث، معتل الصحة، ومادى الإحساس، والأم التى جاءت إلى مصر لدراسة عنصر من عناصر خصوصية التراث الفلكلورى المصرى "الزار"، شابة منطلقة ذات ثقة بنفسها، لديها قدراً عالياً من تحدد ووضوح المفاهيم لكثير من معانى الحياة، تفقد فى حادثة مروعة خطيبها التى كانت تحبه فى بلدها.
تلتقي بابن العمدة الريفي فى أحد الموالد، وفى رقصة مصاحبة لأحد المدائح والأناشيد الصوفية، يشتبه عليها الأمر بين ملامحه وملامح حبيبها الذى رحل، فتزوجه نفسها.
تتمثل المواجهة لديها لاحقاً بين الرجولة الحقيقية متجسدة فى "راقص التانجو" الذى يسمو بالمرأة، ويجعلها شريكاً متجاوباً فاعلاً، فهو كما تقول: "... ليس مجرد ذكر إنه الإنسان النبيل الشهم الواثق من ذاته، الراسم البارع لخطواته، وليس ابن العمدة المدلل الحائر بين الجلباب والبدلة الشاركسين البيضاء.. راقص التانجو يقود دفة الحياة بفرحة، وعليه أن يضمن السعادة لشريكته" 178.
فى مواجهة هذا المفهوم تحيا مع زوجها المصري رجولة لم تفارق القيد والتقاليد، رجولة تطرح إنسانية المرأة جانباً، تتعامل معها وكأنها فريسة أو أداة متعة.
ألنا أن نرتفع رويداً لنتحدث عن المفارقة بين الحلم المتعالى والواقع المتدنى، ألنا أن نقترب من التجريد لنتحدث عن الانطلاق والثقة والحرية، فى مواجهة مع الخرافة والقيد والركود.
الغريب فى الأمر كله أن الصراع يبدو ثنائيات، بالرغم من كونها ليست ثنائيات حدية، بين كل طرفى تناقض تقع جينات الطرف الضد أو المقابل، فبداخل الموال هناك حكمة وفن وموسيقى وخبرات وتجارب تتضمن الجميل فى الذات البشرية، ربما الجميل الذى لم يتهيأ له أن يكتمل جماله، ولم تزل تعرقله موروثات وثقافات وبيئات رجعية.
وربما أيضاً لا يوجد فى التانجو أية ضمانات سوى اللحظة المعاشة فقط، توقيت الرقصة ليس إلا.
تلك الثنائيات التى تهيكل نص "تانجو وموال" على مستوى: الرؤية، وبناء الشخصيات، والثقافة، والأساليب واللغة، من شأنها أن تقدم عالماً إنسانياً مختلفاً له خصوصية ثقافته وتكوينه البيئى، كما من شأنها أن تتسع بأفق التراث والواقع السردى وتضفرهما بآفاق حداثية، وثقافات غربية تسهم فى توسيع الأفق الإنسانى وآماد تذوقه.
كما أنها تقدم نصاً ثرياً يتكاتف فى تشكيله فن الحكى، وفنون الموسيقى الغربية، والزجل والأشعار والأغانى، فهو عابر للتقنيات الأدبية فقط ، وتوظف فيه آليات متعددة لتعبر عن رؤية خاصة لشخصية العمل وعالمها.
عادة ما نتعامل مع تعدد الأنواع الأدبية داخل النصوص الروائية أو الفنية بالإشارة إلي الظاهرة و بأحكام عامة، ونتحدث عن التناص مع أعمال إبداعية أخرى، أو أنواع فنية أخرى دون أن نلتفت إلى مدى إحكام نسيج النص ذاته، هل حدث ديالكتيك حقيقى؟ جدل ومزج لهذه الأنواع الفنية الأخرى داخل النص الروائى، أكان هناك امتزاج وانصهار متوازن ومنسجم لهذه الأنواع فى هارمونية تشكيل النص؟ أم أنه جرياً وراء التقاليع الأدبية وسعياً إلى مواكبة الحداثة وما بعدها بأحدث تقنياتها.
فى نص "مى خالد" "تانجو وموال" هناك دأب حثيث وموفق؛ لصنع هذه الحالة من جدل وانصهار الأنواع الفنية والأدبية داخل العمل، هناك تعمد لمزج عالم الموسيقى والألحان، والمواويل والأغانى، وبعض القصائد داخل سردية الرواية، حتى وإن شعر القارئ فى بعض المواضع أن هناك بعض المسميات أو المصطلحات التى كان ينبغى أن تكون لها هوامش لتوضيح بعض هذه المفردات الموسيقية، لكن هذه التقنية اتسقت مع طبيعة الصراع الذى يمثل محتوى العمل ولذا حدث هذا الانصهار الملحوظ.
* مستويات اللغة وعالم النص:
تتوزع لغة النص ما بين مصطلحات عالم الموسيقى، ومفردات عالم الإذاعة، وبعض المصطلحات والتفسيرات للعديد من المشاكل النفسية، التى يعانى منها شخوص الرواية، وهو ما ينقل الجو العام والطقس الخاص الذى تدور فيه أحداث حياة البطلة، تقول وهى تصف أجواء عملها فى الإذاعة: "الموجات النهارية ليس لها أرقام وترددات مثل كيلو هرتز وميجا هرتز مثل موجات شفتات المساء. هى فقط ذبذبات من الطنين المتواصل، إن حاولت الأذن تفكيك مفرداته ستسمع حروفاً وجملاً عن مشكلات عمل روتينية" ص40.
تصف فيولاً لحظة اكتشافها لخيانة رياض لها مع وردة سكرتيرته تقول "خطأ الغازف الماهر هو ألا يدقق فى اختيار النغمة، وأن يفقد شعوره المرهف وحكمه الصائب، نتيجة غروره أو علمه الزائف. وفى هذه الحالة تفسد الموسيقى!" ص128.
تقول وهى تراسل "مروان" أستاذ الطب النفسى فى جامعة ناشينل وصديق طفولتها، وتعويذة حبها السحرية غير المتحققة:
نحنا والقمر جيـــــــــــــــران .... بيته خلف تلالنــــــــــــــا
يطلع من قابلنـــــــــــــــــــــــــــــــــا .... يسمــــع الألحـــــــــــــــــــان
تلك النغمات الحريرية الزائفة تصلح كخلفية لحديثك عن الـ Morita Therapy التى حكيت لى أنك قد صرت عالماً ببواطنها، بعدما طُبقت عليك، وعرجت بك من عالم الظاهر إلى عالم الحقيقة، فقد تركك معلمك وأستاذك لأسبوع فى غرفتك لكى تصفِّى الوحدة قلبك، وتتجلى أمامك مخاوفك وأوهامك الماضية فترتقى بذاتك، شريطة أن تمر بدرجاتها الأربعة" ص60، 61.
تتبدى لغة النص فصحى رصينة ناعمة، تتناسب مع الأجواء النفسية وعالم الموسيقى الذى تتمثله الروائية فى نصها، ولذا وجدت الكثير من التعبيرات والتركيب المجازية والتشبيهية، والكنايات؛ لمزج هذه العوالم فى نسيج النص.
تخاطب مهجة فيولا في داخلها، تقول: "نعم أحببتنى كشخصية تداعب طفولتك المختزنة بداخلك، وحين فاجأتك بأننى لست مجرد حفنة من الجلاجل المفرحة، بل أنثى تفتقد الكلمات الحانية.. فأتيتك وأتيتهم بعار كلاسيكى مثل عار "هنادى" ولم أجد سواك لتغيثينى بحل، غير أن تلجئى للخال الذى سيرمينى إلى الوبا" ص167.
تقدم الروائية فى نسيج النص التناص مع كثير من المكونات الفنية والثقافية التى تشكل مخزون الذاكرة الدافق بعلامات مميزة فى تاريخ الفنون المصرية الأدبية و السمعية والبصرية.
هناك أيضاً تراسل صفات لنقل هذا المزيج الصوتى والشعري، والعالم الذى تحدده الإيقاعات والنغمات، تخاطب مهجة فيولا تقول لها قولى: ".. أصنف البشر مثل أمى وفقاً لأصواتهم، فالنبرات الجديرة بأن تفوت فى ميكروفون، يجب إما أن تكون مبحوحة مغوية، أو ناعسة فاتنة، أو حيوية متدفقة، أما الجلاجل فلا تصلح سوى أن تكون حلية فى كورس للأطفال" ص168.
فى فقرات محدودة بالنص تنحصر فى الجمل الحوارية بين "فيولا" و"ريدا" أختها الكبرى تتحول اللغة إلى لهجة عامية، بل وتميل إلى حس السخرية والتهكم، واستخدام مفردات من قبيل: "ريدا تقول: ما تفقعيش مرارة أمى، خلينى أقولك الكلمتين دول ولو رن الجرس عندكو قوليلى علشان أحط الطرحة" ص53.
الشخوص والآلات الموسيقية:
تتبدى الشخوص فى نص "تانجو وموال" كأنهم فاقدى الجاذبية الأرضية، ليس لهم وجود ثابت ومتكئ على أرض صلبة، هائمون، لكل منهم عالمه الحلمى الذى يحققه بصورة من الصور، لكنها تبقي صورة مجتزئة، يمارس تمزيقها وتشويه ملامحها واقع محبط، واقع نفسي أو بيئى أو وظيفى معوق، أو ناتج عن تصارع و اختلاف فى الثقافات، فتظل المسافة الشاسعة التى تُظهر المفارقة بين الحلم والواقع،بين الأنا والآخر.
أول هذه الشخوص شخصية "رباب أو فيولا" التى اختارت الروائية اسمين لتشير منذ البداية لهذه الازدواجية الثقافية وتعايشهما فيها.
تعيش "فيولا" مع أمها الأرجنتينية "أريا" وأختها "تغريد" أو "ريدا" وعمتها "هدى" فى شقة بحى الزمالك بعد أن مات أبوها وهى فى سن الطفولة، منذ صغرها يتبدى الواقع شرقياً، لكن الثقافة والتعليم والعمل فيما بعد غربى المحتوى، يتمتع بقدر من الحرية اكتسبته من هيمنة الأم على دفع الحياة. منذ طفولتها تتعلق بصورة غير واضحة للعالم برفيق طفولتها "مروان" لكن تحكم أمها عليه بأنه: "لا يصلح سوى للعب مع القطط" ص47، يظل مروان رغم مرور السنوات وتعليمه فى الخارج وزواجه، رجل فيولا الأول، حتى أنها تتخيله مستمعاً منصتاً لها، ومعها، تحكى له قصتها مع الحياة، وعلاقاتها بالآخرين.
يتبدى مروان بيانو أو جيتار كلاسيكى، نغماته بدت متناغمة مع "فيولا" لكنها ما لبثت وتناثرت مع سفره إلى الخارج للدراسة.
تبقى شخصية "إريا" الأكبر تأثيراً فى حياة شخصية العمل "فيولا"، وفيها اجتمعت الإرادة والحرية، وتذوق الموسيقى والحياة.
النموذج الذي جمع بين ثقافة أمريكا اللاتينية والثقافية العربية، بل والجانب الفلكلوري الخاص بالموالد والزار وحفلات الإنشاد وطرق التصوف، "إريا" هى السيمفونية التى أبحرت فيها "فيولا" لتصبح هذا النتاج الممتزج فى بوتقة الشرق مع الغرب، وتعد نهاية "إريا" الصرخة الطويلة الممتدة التى أودت بفيولا إلى غيبوبة وصمت متعمد، دخلت على إثره المصحة النفسية، تقول فيولاً عن أمها:" إريا ستبهجكم وتفرحكم فى الموالد وحلقات الذكر، وتسليكم عند سميحة السودانية فى حفلات الزار، وتجهد أباكم عشقاً حتى يموت، أماً خالصة ربما تجدون لديها بعض القصاصات الغرامية، وكلمات الغزل من رجال لا تعرفونهم، لكن لا يهم ما دامت ستوفر لكم عيشة رغدة، وتضمن لكم تعليماً ستختاره بعناية وفقا لذوقها وخبرتها، وستهديكم عملاً تحبه هى ولن تزعجكم بعدها "بكخ" أو "دح" ص171.
تتشكل شخصية "فيولاً"بالنص أكثر هشاشة وسيولة من شخصية شقيقتها تغريد، تبدو تغريد أكثر مرحاً، وذات إرادة رغم تكوينها الجسدى غير الجذاب، الذى لا يتناسب مع صوتها، عنيدة وصعبة المراس، قادرة على صنع تحولات جذرية فى حياتها، وإن ندمت عليها فى النهاية، تغريد المذيعة اللامعة لموسيقى الجاز التى تسافر لإعداد الدكتوراه فتعود بنقاب وعدد من الأطفال، بعد زواجها من زوج متشدد له أكثر من زوجة، ومريض نفسياً، تبقى "تغريد" أو "ريدا" موزعة أيضاً بين ثقافتها التى اكتسبتها من أمها، و واقع اختارته، وتتسم قراراتها بالتحدى الصريح لسلطة الأم وجميع رؤاها بالحياة، تحد غير مستند علي فكر ناضج متوازن؛ ولذا تبقى النهايات دائماً صادمة ومحبطة لشخوص العمل.
تتوالى سنوات فيولا وكأنها تسير بقوة الدفع العائلى دائماً، ويأتى الفعل أو الحدث من خارجها، وتبقى هى سطحا يتلقى الصدمات؛ ليخزنها فى بئر عميق مايلبث أن يمتلئ عن آخره مع توالي السنين والتجارب المحبطة، تصاب بتلعثم فى النطق بعد وفاة والدها ما تلبث أن تعالجه، وتلتحق بالإذاعة، تعمل مذيعة بالبرنامج الموسيقى، وتنخرط بعالم الأنغام بتنويعاتها المختلفة.
تتلاقى بعض الذبذبات المحورية بين "فيولا" وشخصية الكاتبة ذاتها، فالروائية تعمل مذيعة بإحدى الإذاعات الغربية، ويتبدى بالنص إحاطتها بالمفردات الدقيقة الشاملة بفن الموسيقى وأعلامها وألحانها والفروق بينها، وهو ما يشير أيضا إلى الجهد البحثى والمعلوماتى التى بذلته الكاتبة فى مراحل إعداد هذا النص، والذى يتفق مع مشروعها الإبداعى فى الأعمال السابقة عليه، مثل خوضها لعالم الألوان والفنون البصرية فى "سحر التركواز"، وعالم الموسيقى والفكر فى "مقعد أخير فى قاعة إيوارت".
تصل فيولا إلى سن الثلاثين وهى لا تملك حياة عاطفية خاصة، ثم تبدأ رحلة علاقات مضطربة، فتدخل فى قصص حب غير متكافئة مع كل من "رياض" زوج ابنة عمتها سوسن المتوفاة، والذى يكبرها بسنوات كثيرة، ثم مع "حسين" المخرج المسرحى وكلاهما تنتهى علاقتها بهما بعد أن تكتشف خيانتهما.
تقترن كل شخصية لدى فيولا بآلة من الآلات الموسيقية، فتتشابه مع صوتها ووقعها على الأذن والحياة، أو تقترن بقدرتها على التأثير بما تتركه بداخلنا من مشاعر وانطباعات.
تصف فيولا علاقتها بحسين خلال بضعة شهور تقول: "منذ أن وطئت قدماى شقة الأرت نوفو الكائنة بأبى النمرس، لم أعد أشهد شوارع القاهرة برفقة حسين فى سيارته على صوت جيتار "بانديراس". ولم أحضر معه عروضاً مسرحية كامرأة الرجل الأولى فى المكان.. فكل ما نلته كان مشاهدة المنحنيات التى تداعب البصر من كل جانب بالشقة واسطوانة الساكسفون المغوية ولهاثى وفحيح حسين.. شهور تمضى ومذهب الأغنية ذاتها يعاد.... الروندو نفسه. كل شئ من رياض يحملنى إلى حسين، حتى يعود بى حسين إلى حالتى مع رياض. كتم الفوهة التى تصدر الصوت.الأول بتقريعه وصياحه. والثانى بمكافآته وصمته." ص148، 149.
يظل حسين فى ذهن "فيولا" هو الساكسفون المغوى، ورياض طبلة المسحراتى، وتصف فيولا "الدكتور شامل" خال "مروان" الطبيب النفسى بصوت النفير، وتصف دكتور معتز بسيمفونية كلاسيكية عالمية بنغمات شرقية.
ترتبط علاقات "فيولا" أيضاً بالمكان، ويعد عنصراً أساسياً فى تفسيرها لنوع العلاقة وتطورها، وكأنه خلفية حركية تسجل لوحات تشكيلية إنطباعية مكملة للمشاهد الداخلية بذاتها، تدلل درجات السلم واللعب فوقها مع مروان على البيانو الصغير، تشير إلي ما لم يتضح أو يكتمل. و دقات كعبها الرفيع فوق رصيف شقة وسط البلد مع رياض على إيقاع منظم يعلن عن سر داخلى، ينبأ بخطر. و "أبو النمرس" الرقعة المسكونة بالعفاريت فى المأثور الشعبى، وتعنى مكان العشق والغرام" بالهيروغليفية، مكان شقة حسين، عن علاقة مسكونة بالمغادرة، علاقة شيطانية.
ويبقى أثر العلاقات العابرة بداخلها متطاير منثور فوق إعلانات المسارح، أو مع مطالع الكبارى فى شوارع القاهرة، فى تجويف الهرم أو محكى القلعة، أو غيرها من أماكن تأبى أن تحتوى شخوصها، وتطبع مشاعر فيولا بطابعها المخزون فى مكوناتها وطبيعتها غير الحميمية أو المستقرة.
تجمل فيولا علاقتها برياض تقول: ".. هو النقرزان الذى أشعرنى بحيوية الطبلة، فلقد كنت من قبله مثل جلد مشدود لحيوان منتفخ لم يحاول أحد طرقه، ثلاثون عاماً مرت بلا قصة حقيقية.."
تختلط العلاقة التى تربط فيولا برياض فهى تؤكد فى القص مراراً أنه لم يكن بديلاً عن أبيها وأنها لم تعشقه من منطلق عقدة إليكترا، إلا أنها فى بعض الأحيان تشعر أنه بديل لأبيها، خاصة عندما لم تكن تدرك أهى تغار من احتمال نشأة علاقة بينه وبين أمها "أريا" أو أنها تغار عليه هو وتريده لذاتها ص107.
فى حكى يعتمد على ثلاثة مشاهد فاصلة مختارة ص 108، 109 تكثف فيولا حكايتها مع رياض في مشاهد تتميز بالتوتر الذى يعلو بالعلاقة إلى أن وصلت إلى أعلى ذبذباتها، منذ طفولة فيولا إلى بداية الانجذاب الجسدى، وصولاً إلى ذروة العلاقة.
وهذا ما يدعونى إلى الإشارة إلى أن الإيقاع الزمنى بالرواية يتراوح ما بين السرعة فى بعض الفقرات، وخاصة تلك التى تتقافز فى الزمن وتعود فلاش باك إلى حياة فيولا وعلاقتها العاطفية قبل مرضها، وفقرات أخرى تتسم بالإيقاع المتهادى البطئ، فيما يتعلق بحكيها لمروان وعنه، علاقة عمرها التى تقول عنها: ".. حتى أننى اختزلت التعبير عن الحب فيما بعد، فى أى لحن مرفق بنظرة عميقة أو كلمات منثورة ومرسلة فى الهواء، ومع ذلك ظلت كل الألحان التى جاءت بعدك ناقصة" ص48.
يبدو الإيقاع الزمنى بالرواية أشبه بالإيقاع المتغير فى المقطوعات الموسيقية، كأنها فرقة موسيقية يقودها المايسترو: "فيولا"، تتغير فيها درجات علو الألحان أو خفوتها بحسب تفاوت المشاعر وتغيرها.
كما عبر سرد الأصوات المتنوعة النسبى فى آخر النص ــــــ عندما استنطقت الراوية تغريد ورياض ومهجة، وسميحة السودانية التى تتحدث عن صديقتها إريا ــــــ عن مكانة فيولا بالسرد، المايسترو الذى يعطى لكل آلة على حده فترة زمنية تعزف فيها منفردة، ويبدو هذا العزف أو هذا البوح الخاص بالأصوات، ممثلاً لوجهات نظر وتفسيرات هؤلاء الشخوص البعيدة، أو المكملة لنظرات فيولا عن القصة الجماعية، قصة حياتهم معاً.
تميزت هذه الفقرات ذات العزف المنفرد بدرجة كبيرة من شفافية البوح وتعريته لداخل كل شخصية أو آلة على حده.
أتصور أن للنظر النقدى المنصف عدم حسبان هذه الصولوهات المنفردة نسقا بولوفينيا ناضجا ومكتملا، فهو ليس حكى تعدد أصوات تأخذ مساحاتها المتوازنة لتعرض للصراع من وجهات نظرها، هى فقط كما ذكرت سابقاً عزفاً منفرداً لتبيان خصوصية الصوت، تقوم المايسترو "فيولا" باستنطاقه لتنويع وتوزيع صوت الآلات، وإلا اعتبرنا أن الكاتبة لديها وعياً بتعدد الأصوات نعم..، لكنه وعى غير مكتمل.
يتجلى بالنص بعض السمات التى تجعل الكتابة نسوية بامتياز، محملة بموروث مجتمعى خانق، بتراث من القيود المتنوعة، ويظهر ذلك على محورين: الأول فى مسار السرد ذاته، تنطلق الساردة فيولا فى الحكى أو ملاحظة ما حولها، ثم ما تلبث أن تعود لتعلق على ما قالته، تفسره، أو تبرره، أو تعتذر عنه، كأن هناك رقيب داخلى بداخل الساردة الأنثى، هناك حالة من المناقشة الدائمة بينها وبين مروان الذى تتوجه إليه بالخطاب، أو بينها وبين ذاتها، أو بينها وبين متلقى مفترض.
تقول بعض أن تصف هيئة رياض: "أكاد أجزم بما يدور فى رأسك الآن، فأول ما سيخطر على بال أى محلل نفسى ويسقطه على حالتى هى الشهيرة إلكترا، وعقدتها المعروفة وحبها المرضى لوالدها المفتقد. قلت لك سابقاً إن كل ما فى الحدوتة يحمل الشئ وضده.." 88، 89 .
كما أنها وهى بصدد تقييم ما حولها فى المستشفى تعلق على عيوب النطق، ثم تعود لتقول: من يعلق؟ المريضة النفسية هى من تقيَّم ما حولها وتلتقط أخطائهم؟ وربما تكون هذه الطبيعة التي تعرف بالصوت الثاني، وإعادة النظر المستمر صفة لصيقة بالروائية ذاتها؛ ولذا تنعكس على السرد.
تتبدى نسوية النص أيضاً فى نعومة السرد وطقوسه، خاصة وهى تحكى لمروان حب الطفولة عن تجاربها مع الرجال، فتهيئه للسماع من خلال طقس استرخائى تمارس له فيه تدليكاً جسدياً متخيلا تقول: ".. لا بد أن أعدل لك موضع الوسادة التى خلف رقبتك، وأصب مزيداً من زيت الورد العطرى على أصابعى، ثم أمررها من تحت أذنيك حتى كتفيك على جانبى عنقك.." ص89 وقد بدت هذه الفقرات وكأنها تبعث بإشارات إلى خجل أنثى من رغبات دفينة.
ثانياً هناك لمسات أنثوية شفيفة فى الفقرات الوصفية تهب حالة من الرومانسية، وتوظفها الروائية مدخلاً لتبرير كيفية بداية علاقتها مع رياض أو حسين، الوصف يحمل الطابع الأنثوى فى رؤية التفاصيل وإدراك الفوارق بينها، كما يحمل البعد التبريرى بما يقدمه من تهيئة، تقترب من التهيئة التى وقع فيها الحدث الفيصلى فى حياة رباب أو فيولا، حين استسلمت لأيدى وتدليك رياض، فصار من بعدها رجلها لفترة، تقول بعد فقرات وصفية مطولة: "..ماذا لو حدث إقناعك بأى شئ، وأنت فى هذه الوضعية هل ستنهرنى أو تجادلنى؟ غالباً لا!.." 86.
للنص أيضاً عالمه الداخلى المعني بالهم الفردى أو الذاتى، لم تشتبك فيه شخصية الرواية بالشأن العام سوى فى إشارات عابرة، وظهر فيها تعرضها للخديعة، أو التأثير فيما يختص بتعاطفها مع الموقف الأمريكى فى العراق، ثم مراجعة هذا الموقف ثانية ومعرفة التأثير الذى كانت واقعة تحت ضغطه.
تجلى أيضاً الشأن العام فى وصفها للمكان فى أبي النمرس، والمناخ الإنسانى والأخلاقى الذى تصنعه العشوائيات.
فى النهاية تبقى رواية "تانجو وموال" أيقونة سردية موسيقية تتعامل مع السرد بمنطق الإيقاع المتناغم والمتنافر معا، إيقاع ينبأ عن صراع أنثى في عالمها الداخلي الموزع بين الشرق والغرب.



#أماني_فؤاد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بعيدا عن إطلاق الرصاص..
- سُحقاَ للتبعية
- الفانتازيا الذهنية بين روايتين صانع المفاتيح وعالم المندل
- المرأة والقهر المضاعف
- الإله في كتاب النحات
- الإعاقة بين الواقعية والفانتازيا
- صانع المفاتيح...سارق نار الفانتازيا الذهنية
- فطر عنيد
- كن اختيارك
- قراءة نقدية لحفيدات شهرزاد
- كلنا صرعي هذا الضريح..
- رجال بلون الحرباء
- لا للرفق بالقوارير
- دعونا نستولد منها ... الثورات
- الفن.. وخلخلة الضريح
- القهر والزمن فى الزينى بركات
- مهجة.. وهنادي
- نحو عقد ثقافى جديد
- وكلاء الله..والمراهقة السياسية
- التنازلات تبدأ تباعا..


المزيد.....




- -الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر- ...
- بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص ...
- عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
- بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر ...
- كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
- المتحف الوطني بسلطنة عمان يستضيف فعاليات ثقافية لنشر اللغة ا ...
- الكاتب والشاعر عيسى الشيخ حسن.. الرواية لعبة انتقال ولهذا جا ...
- “تعالوا شوفوا سوسو أم المشاكل” استقبل الآن تردد قناة كراميش ...
- بإشارة قوية الأفلام الأجنبية والهندية الآن على تردد قناة برو ...
- سوريا.. فنانون ومنتجون يدعون إلى وقف العمل بقوانين نقابة الف ...


المزيد.....

- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أماني فؤاد - الصمت الصاخب بالموسيقي في -تانجو وموال- للروائية -مي خالد-