أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - محمود جابر - الإنسان في القرآن الكريم و منهج عرض السنن الاجتماعية















المزيد.....



الإنسان في القرآن الكريم و منهج عرض السنن الاجتماعية


محمود جابر

الحوار المتمدن-العدد: 4203 - 2013 / 9 / 2 - 18:14
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


الإنسان في القرآن الكريم
و منهج
عرض السنن الاجتماعية


مقدمة

كان ولا يزال الدين، أحد أهم المظاهر التي رافقت مسيرة الإنسانية عبر مختلف محطاتها، واستمرت في مواكبتها لتطور المجتمع الإنساني، تصوغ لهذا الكائن الإطار النظري والمعرفي والعقدي، الذي سيشكل بشكل أو بآخر إطاره الوجودي، ضمن نسق الحياة والكون والطبيعة.
وانطلاقا من الأهمية القصوى التي يتبوؤها الدين في الفكر الإنساني، وحركة وجود الكائن البشري، عرفت بقاع الأرض على اختلاف مناطقها وتصوراتها ظاهرة الدين، باعتبارها جزءا لا يتجزأ من التركيب الإنساني، وموجها أساسيا من قريب أو من بعيد لمسار التاريخ والكون والطبيعة.
فالدين جزء لا يتجزأ من التركيب الإنساني، وموجه أساسي لمسار تاريخه، نحو البناء الحضاري، وعمارة الأرض والاستخلاف فيها:( هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها ) هود : 61.
هذه الجدلية بين الإنسان والدين، هي علاقة دائبة نحو المطلق، ونحو استشراف المستقبل الإنساني، المتعارف والمنسجم في بوتقة التآلف والمحبة والإخاء.
إلا أنه بالرغم من الدور الذي يضطلع به الدين في البناء الحضاري والإنساني، فإن هناك مجموعة من الإشكالات والخلافات، في فهم النصوص الدينية، وحول الآليات التي يمكن من خلالها مقاربة النص الديني، حتى يستجيب لمطالب وطموحات العالم المعاصر، في ظل شبح العولمة المخيف، وفي ظل النظريات والفلسفات الرامية إلى إحداث الصدام بين الحضارات والثقافات، والمتنبئة بنهاية التاريخ المتجسد في عصر الهيمنة الأمريكية.
كل هذه الاختلافات والإشكالات المرتبطة بالنص الديني، أنتجها العقل البشري من خلال تعامله مع الظاهرة الدينية. فكل قراءة للنص الديني هي قراءة نسبية إنسانية، لا تعدو أن تكون مظهرا من مظاهر الجدلية القائمة بين الكائن البشري في أي زمان ومكان، وبين النص الديني المؤطر لهذا التفاعل الإيجابي.
وانطلاقا من هذه الإشكالية المتعلقة بمقاربة النص الديني" القرآن الكريم"، يأتي بحثنا ليطرح النقاش من جديد حول العلاقة بين الإنسان والدين من خلال النص الديني، وحين نشير إلى هذا النص فإنما لا نشير إليه في ذاته بل في الدلالات هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها لمجمل ما اصطلح عليه ب" بعلوم التفسير والتأويل" .
ومن هنا يحق لنا أن نتساءل: هل هذه العلوم تجاوزت ماهو نسبي بشري إلى أفق يجعلها بعيدا عن المساءلة والنقد؟ وهل يمكن أن نتحدث الآن عن موت هذه العلوم وعدم نجاعتها في مقاربة النص الديني؟.ألا يمكن أن نضيف الى هذه العلوم طورا آخر من العلوم الإنسانية وفق ما وصل إليه تطور العلوم في العالم المعاصر وفق إعادة قراءة للنص الاصلى؟. وما هي معيقات تطبيق العلوم الإنسانية على النص الديني. هل يمكن أسلمة العلوم كما يحلو للبعض أن يقول؟. وكيف يمكن تطبيق العلوم الإنسانية على النص الديني؟.
كل هذه التساؤلات المشروعة في البحث العلمي النزيه، المتعالي على إكراهات الفكر الديني الجامد،- الذي يرى البحث في هذه المواضيع خروجا عن الدين، وهرطقة يستحق صاحبها اللعنة الأبدية- تدفع بنا إلى خوض التجربة من جديد، من أجل تعبيد الطريق أمام الإصلاح، ليخطو بجسارة في ظل ما هو نسبي إنساني.
من أجل ذلك نحاول تسليط الضوء على بعض جوانب هذا الموضوع الحساس .
الباحث

أولا:العلوم الإنسانية

العلوم الإنسانية – كما هو الظاهر من اسمها – إنما تعالج قضايا الإنسان الفرد منه والجماعة وتتدخل في بناء شخصيته الإنسانية والاجتماعية، وتساهم في رفع مستواه، وتذليل العقبات أمامه، وحل المشكلات التي تعترض طريقه في مسيرته الحياتية التكاملية.
فإذا كان مصدر المعرفة في هذه العلوم هو الوحي الذي ينتهي إلى الله سبحانه، خالق كل شيء ومدبره، والمطلع على حقيقة الإنسان، ثم على كل الحقائق والدقائق في هذا الكون المحيط به وهو أعرف من كل أحد بخصوصياته، ومزاياه، وبكل علاقاته وارتباطاته بما ومن في الوجود إذا كان كذلك، فإن هذه العلوم الإنسانية الصادرة منه وعنه تصبح هي قادرة على تقديم التفسيرات الحقيقية لكل ظاهرة، ولكل حالة، ثم تقديم الحلول والضوابط الدقيقة والصحيحة لكل مشكلة، ولكل حركة مهما كانت .
بيد أن هذا المصطلح لم يظهر كتجلي للثقافة والمعرفة الإسلامية، وإنما ظهر كعلم إبان عصر الأنوار في أوروبا. هذا العصر الذي شهد ثورة علمية منقطعة النظير، كان لها الأثر الكبير في تغيير مسار التاريخ الأوربي حتى وقتنا المعاصر. والمصطلح كان وليد ظروف تاريخية، مزرية عاشت في كنفها أوربا تحت الضغط الذي مارسته الكنيسة ورجالاتها، على الإنسان الأوربي حتى شمل التسلط الميادين كلها بما في ذلك العلمية منها.
لقد شكلت الثورة العلمية التي قاد مسيرتها كبار العلماء مثل "كوبرنيك" و"جاليلو"، نقطة تحول في تاريخ الفكر الديني الأوربي، إذ أصبحت الكثير من المسلمات الدينية آيلة للسقوط، نتيجة تصادمها مع مقررات العلم، وأصبح كيان الكنيسة مهددا بعدما كانت لها الكلمة الفصل في مختلف المجالات .
في ظل هذا الانتقال الخطير في الفكر الإنساني عموما، كان ميلاد العلوم الإنسانية إيذانا بميلاد مرحلة يتحول فيها الإنسان من ذات ومصدر للمعرفة إلى ذات موضوع لها وهو ما تم الإشارة إليه بمصطلح " الأنسنة".
وعليه فإن العلوم الإنسانية هى مجموعة من العلوم التي تتخذ الإنسان كموضوع للدراسة بهدف الكشف عن أبعاده المختلفة (نفسية - اجتماعية - اقتصادية ..)، أو التي تشكل الظواهر الإنسانية مجال بحثها، وهي حديثة العهد مقارنة مع علوم الطبيعة...فإذا كان ما يعبر عنه باستقلال العلوم عن الفلسفة قد تجسد - ما بين ق16 و 18- في تأسيس العلوم الطبيعية كتعبير عن نقل الظواهر الطبيعية إلى دائرة الاهتمام العلمي وتحريرها من التصورات الميتافيزيقية ، فإن الظواهر الإنسانية لم تعرف بدايتها العلمية إلا في مرحلة متأخرة (ق19/20) بعد فترة طويلة ظلت فيها موضوعا للتأمل الفلسفي...وقد ساهم هذا التأخر التاريخي، الذي حتمه منطق التطور العلمي، في جعل نشأة العلوم الإنسانية ذات طبيعة إشكالية نظرا لما سيترتب عنها من قضايا نظرية ومنهجية خصوصا في ظل تأثير النموذج الفيزيائي/التجريبي الذي تبلور في سياق تطور العلوم الطبيعية، احتمال الخطأ والصواب، وتتأثر بالعوامل المختلفة التي تشكل عقل الإنسان من زمان ومكان وثقافة. فتغييب هذا الجانب المحوري عن الدين قد تكون له انعكاسات خطيرة قد تنسف بجهود البشر في ترسيخ مبادئ العدل والسلام والإخاء، وتقضي بشكل نهائي على أمل التواصل الحضاري مع الآخر .
وذلك لأن الفكر مهما كان انتماؤه أو انتسابه هو إفراز لواقع متأثر به، ونزع الإيديولوجية على الفكر الديني أمر يكذبه الواقع التاريخي، إذ الموضوعية مفهوم جدلي يقوم على فكرة الصراع، أي أن الفكر الديني يظل متأثرا بواقعه النفسي والاجتماعي والثقافي.
والسؤال الواجب في هذا المبحث :هل يمكن أسلمة العلوم ؟ وهذا سؤال ما زالت الكثير من الأقلام تسيل بالحديث عنه، وتدافع عن أطروحته، ويعرف سجالا واسعا بين مؤيد للفكرة ومعارض لها. وطرحنا له في هذا المقام كان من أجل تسليط الأضواء عن بعض ما يكتنف هذا الموضوع من التباس يساهم فيه كثير من الباحثين في هذا الشأن. ولهذا يحق لنا أن نتساءل: ما معنى أسلمة العلوم؟ هل العلوم كافرة حتى تحتاج إلى أسلمة؟ وإذا كانت العلوم هي معرفة الأشياء على حقيقتها فما معنى أسلمتها أو تنصيرها أو تهويدها؟.
إن مثل هذه التساؤلات لتقود بالضرورة، إلى ما أسماه البعض أدلجة العلوم أو تديين العلوم، فالدين لم يأت في ميدان العلوم بنظريات بل أوردها وفق سياق معرفى ، و ترك المجال للإنسان، ليبدع في شتى الحقول المعرفية ليحقق الرفاه والسعادة في بقاع الأرض .
وللخروج من هذا المنزلق الحضاري، ينبغي القيام بعملية تفكيكية لمجموعة من المسلمات التي ألبست ثوب الدين، وذلك من خلال القيام بعملية نقدية موضوعية هدفها تشكيل نزعة إنسانية كونية ينعم فيها الإنسان بالحرية والكرامة على قدم المساواة. وهذا لن يتأتى إلا ب:
- دراسة الفكر الديني دراسة إبستمولوجية.
- دراسة الفكر الديني دراسة موضوعية بعيدا عن التحيز والذاتية.
- دراسة الفكر الديني في أبعاده المتكاملة.

- فهم النصوص الدينية على ضوء العلم المعاصر:

وهذا شرط أساسي من شروط الفهم الصحيح، إذ أن القرآن الكريم لم يكن حكرا على طائفة من الطوائف، ولا جنس من الأجناس، بل أعلن عالميته للناس أجمعين:( وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا ) الإسراء: 105. وبهذه العالمية يصبح الحق لكل الناس في فهم النص الديني، حسب معارفهم وعلومهم، حتى يتبين لهم من خلال القرآن الكريم مدى شمولية النص على المستوى المعرفي والإنساني :( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) فصلت : 53.
إذن فالطريق نحو إنشاء منظومة معرفية تتلاءم مع الواقع المعاصر تتطلب الانخراط في المنظومة الكونية، التي أصبح جزء منها شاءنا أم أبينا،.وذلك لن يتأتى إلا بتغيير منظومته السلفية، التي ترى في القديم الملجأ و المأوى، الذي يتم الاحتماء به عندما تعجز الإيديولوجية الدينية، عن تحقيق رغبات ومطالب فئات اجتماعية نمت وتطورت، في قلب التحولات التي شهدها العالم المعاصر.
والعالم المعاصر هو نتيجة تفاعل الإنسان مع المنظومة الكونية، ويجب أن تكون لنا مشاركة في هذا البناء الإنساني بالاستفادة من التجارب الإنسانية سواء كانت إسلامية أو غير إسلامية، وذلك من أجل الرقي الحضاري عن طريق الإبداع العلمي والمعرفي والجمالي.
وعود على بدء.... إن إصلاح الفكر الديني عموما، وإصلاح المقاربات والآليات المستعملة في مقاربة النص الديني على وجه الخصوص، ضرورة آنية وواجب يفرضه الواقع الحالي للأمة الإسلامية، وما وصلت إليه من تفرق وتشرذم على المستويات كلها. ومن هنا نؤكد أنه إذا ظل الإطار النظري ثابتا مطلقا، بلا تجديد أو تطوير في آلياته، أصبح السعي وراء الإصلاح سعيا وراء سراب. فكل رؤية للدين هي في جوهرها رؤية إنسانية، تخضع لعوامل الزمان والمكان، وتلعب فيها الثقافة دورا بارزا. وإذا كان الأمر كذلك وجب فسح المجال أمام الإصلاح ليأخذ مكانه في ظل ما هو نسبي إنساني.
بيد أن الإنسان فى المعرفة الإسلامية هو أكثر قيمة من الإنسان فى المفاهيم الغربية المادية ، فموضوع الإنسان من القضايا الهامة نظرا لان المدنية الحديثة أقامت بناءها الفكري على نظرية الإنسية humanisme وهي فلسفة ظهرت في عصر النهضة كرد فعل على الأديان القديمة و خاصة المسيحية في القرون الوسطى التي أفرغت ذاتية الإنسان من كل معانيها ليصبح ذاتا لغيره عاجزا دون إرادة و قربانا يقدم للآلهة ،وهذه المنزلة الدونية للإنسان التي خصته بها الأديان القديمة والفلسفات وفى المقابل نقول ما هي نظرة الإسلام للإنسان " .
تبرز أهمية هذا السؤال ليس فقط من حيث الإشكال بل من حيث معطيات المعرفة التي تقوم على التساؤل حول القضايا و الإشكاليات و أراء و مواقف بقية الأديان من الإنسان في مقابل الإسلام. وهذا ما يفترض إطلاعا واسعا على النظريات و الأطروحات الأخرى و استفادة معمقة من مناهجها وقد ندرك ذلك على سبيل المثال من خلال تحليله وتعامله مع ما ورد في القران من آيات في هذا الموضوع.
فلتحليل الإشكالية المطروحة – نظرة الإسلام إلى الإنسان- على دراسة فلسفة الخلقة عند الأديان القديمة و الإسلام مؤكدا أن لغة الأديان هي لغة رمزية، معتبرا ذلك عاملا من عوامل خلودها و بقائها وقد استعملت قصة الخلق في القرآن بدورها هذه اللغة تجسدت ملامحها في الآيات التالية:
- (إني جاعل في الأرض خليفة) البقرة: 30. ميزة الإنسان انه خليفة الله وهي ميزة تبرز أن مكانة الإنسان في الإسلام تفوق المكانة التي منحتها له الإنسية الأوروبية.
-(من صلصال كالفخار) ــ (من حمإ مسنون) ــ (وخلق الإنسان من طين): هذه المواضع الثلاث التي تحدثت في القرآن عن مصدر الخلق تبرز أن الله خلق الإنسان الذي هو خليفته من الأرض أو بالتحديد من تراب الأرض المتعفن و ليس من أفضل مادة و أفضل عنصر ولعل ذلك ما يجسد لغة الرمز في قصة الخلق وإذا كان الرمز دالا عن مدلول غائب بلغة الألسنية الحديثة فان مصدر الخلق هنا يجعل الإنسان بين قطبين متناقضين هما الطين / منحط والروح / سمو .
هنا ندرك أن الإنسان في الإسلام مخلوق يتجاذبه بعدان فهو من ناحية يتجه نحو الرسوب و من ناحية أخرى يتجه نحو السمو وقد يفضي بنا الأمر هنا لنتساءل إلى أي منحى ينحو الإنسان ذو البعدين؟ إلى الأعلى أم إلى الأسفل إلى السمو أم إلى الانحطاط؟ وفي ذلك نلمس صراعا بين اتجاهين متناقضين تكون الإرادة هي الفاعل المحدد لمسار هذا الصراع.
- (علم ادم الأسماء كلها) ــ (فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا انك العليم الحكيم): رمزية هذه المعاني تفضي للقول ان الإنسان بهذه الصورة له ميزة أخرى تفضيلية وهي العلم و المعرفة، فالملائكة لا تعلم و لكن الإنسان كان يعلم أي انه متفوق عليها بذلك .
- (اسجدوا لأدم): دلالة أخرى على عظمة الإنسان رغم أن الملائكة من نور و الإنسان من طين وهذا ما يعني ان الملائكة و الشيطان أفضل من الإنسان على مستوى "العنصر" و متفوقان عليه لكنه يتفوق عليهما ب"العلم" وهذه المقارنة تجعلنا نجزم ان " قيمة الكائن و أصالته هما بمقدار عمله و معرفته وليس بعنصره " .
فخصوصية هذه الأفضلية تختزل بين جوانبها ردا على كل الأطروحات التي تمجد عنصرا أو عرقا عن آخر.
على ضوء هذه القاعدة التي تحدد الأبعاد المكونة للإنسان و مكانته في القرآن والمتمثلة في بداية خلق الإنسان ندرك جملة من الخلاصات الهامة تتمثل في أن الناس كلهم إخوة و ليسوا متساوين فحسب وهو تجاوز لمقولة المساواة كاصطلاح "حقوقي" إلى مقولة "الأخوة" كتعبير عن الطبيعة المشتركة بين الناس جميعهم إضافة إلى أفضلية الإنسان بالعلم ومسؤوليته في الإسلام عن مصيره و أداء رسالة الله في هذا العالم معتبرا أن الصراع بين الله و الشيطان ليس صراعا في الطبيعة بل هو صراع داخل الإنسان.
في هذا المقام التأويلي لقصة الخلق نتجاوز أيضا ماهية الأنسية الأوروبية التي رأت تناقضا بين قطبي اللاهوت و الأنسية وأقرت أنه لا تحقيق للثانية إلا بتجاوز الأولى. مؤكدين أن القرآن أكثر أصالة وعلمية فى النظر إلى الإنسان من نظرية الانسنة ، حيث أن القرآن منح الإنسان - معرفيا - أبعادا متكاملة .
ولعل دور الديني / المثقف هو الذي تكون له القدرة على الاختيار بين ما هو مفروض من الأخر و بين ما هو موروث من الذات وذلك عبر آليات محددة تتمثل في استقراء العناصر و المواد الموجودة في ثقافة المجتمع ودينه واكتشاف عناصرها الدافعة و الواعية من اجل الإبداع والتجديد .
نخلص من ذلك للقول أن ماهية الإنسان هي ماهية نسبية ترتبط بعاملي المكان و الزمان وهي رؤية تجعل من هذا المفهوم مفهوما حركيا متطورا في حالة صيرورة علتها البحث عن الكمال من أجل تجسيد أنسية في أرقى تجلياتها .
فالعولمة الأمريكية المفروضة علينا بفعل آلة الحرب الأمريكية، وقولنا بعالمية الإسلام يفرض علينا دراسة متأنية للنص القرآني في البيئات الاجتماعية المختلفة ، فلا شك في أن موقع النص القرآني يختلف ما بين إيران الإسلامية وتركيا العلمانية ، وبين أقلية مسلمي الألبان في الصرب . وبين الأقلية المسلمة في الفلبين والهند . ففى إحياء منظومة البحوث الإنسانية وفقا للنص القرآنى وللتطور المعلوماتى الجديد سنحتاج إلى أساليب أخرى للمحاجاة ، دفاعا عن القرآن والعقيدة . ويتطلب ذلك منا تجديد أساليبنا في البرهان والإلمام بمبادىء هندسة الحوار . سيطرح المتغير المعلوماتى العديد من القضايا التي تتطلب تحليلا معرفيا ، ومعظم هذه القضايا مستجدة غير مسبوقة ، يصعب إن نعثر بشأنها في التراث الماضي على ما يمكن لنا إن نقتبس عليه ، وهو ما يستوجب استحداث أدوات جديدة للقياس ، وتتجاوز تلك القائمة على التحليل اللغوي المباشر ، باستخدام طرق الإثبات العلمي ، والسند الاحصائى والتاريخي والرمزي . لقد أصبح للقناع واثبات البرهان فرعه المتخصص في تكنولوجيا المعلومات ، هو ما يطلق عليه مصطلح CAPTOLOGY: computer- assisted – persuasivd- technology.
هل يكفى هذا لحث أهل المنطق لدينا على دخول هذا المجال الجديد ؟ وهذا يرتبط ارتباطا وثيقا باجتماع علم المعرفة ، الذي يتناول علاقة الارتباط بين ثقافة المجتمع والظروف السائدة والنماذج المعرفية العليا التي يمكن لها إن يولدها . وكذلك العلاقة ما بين المعتقد الديني ونظام القيم. ومناهج التفكير السائدة في المجتمع ، ودور نظام المعتقدات في عمليات انتشار الثقافة . وانحلالها داخل المجتمعات .وخذا بدوره يتداخل مع علم نفس المعرفة كفرع – حديث – من فروع علم النص ؛ فبينما يدرس علم النفس السلوكي العلاقة بين المؤثرات الخارجية وسلوك الأفراد ، يدرس علم النفس المعرفي أثر البني المعرفية ، الكامنة داخل المخ ، في سلوك الأفراد ورؤاهم الاجتماعية ، ونظرتهم إلى أنفسهم والى العالم ، وخير مقولة تعبر عن هذا المفهوم – بصورة تقريبية – " أعرف الحق تعرف أهله " .
وعودة إلى علم النفس المعرفي والقرآن ، فان هناك العديد من المعاني القرآنية تدرك وتستشعر ، ولا يمكن وصفها على وجه الدقة ، من خلال الكلمات ، وعلم النفس المعرفي يمكن إن يحدد لنا من أين تنبثق هذه المعاني من متن النص القرآني .
كما يساهم علم النفس المعرفي في إماطة اللثام عن الكيفية التي يتلقى بها الإنسان المسلم نصه القرآنى ، وكيف ينمو لديه هذا الشعور النفسي بتقديس الرموز الدينية وتبجيل القيم السامية المتعالية ، وفى المقابل كيف يرفض القيم المتدنية ورموزها، وما الذي يبقى من النص القرآنى في ذاكرة الإنسان بعد تكرار الإنصات له ، وعلاقة خلفيته العلمية بمدى استيعابه لمضمون النص .
ونحن هنا ننطلق من إيماننا العميق بأن القرآن يحتوى هذه المعارف وأكثر ، فالآفاق القرآنية آفاقا غير متناهية كما عبر عن ذلك خاتم الأنبياء بقوله :"ظاهره أنيق، وباطنه عميق، له تخوم، وعلى تخومه تخوم،لا تحصى عجابئه ، ولا تبلى غرائبه" . وقد عبر عنه سيد الأوصياء (عليه السلام) بقوله :" .. سراجا لا يخبو توقده، وبحرا لا يدرك قعره – إلى إن قال – " وبحر لا ينزفه المستنزفون، وعيون لا ينضبها الماتحون ، ومناهل لا يغيضها الواردون " .
ثانيا : العلوم الاجتماعية
تُعرف العلوم الاجتماعية بأنها المناهج العلمية التي تدرس أصول نشأة المجتمعات البشرية والمؤسسات ومختلف العلاقات والروابط الاجتماعية وكذا المبادئ المؤسسة للحياة الاجتماعية. ويشكل علم الاجتماع واحدا من هذه العلوم.
والمتأمل في القرآن الكريم يجد مساحة واسعة ذات صلة منهجية بهذا العلم، وإلى هذا المعنى يشير عماد الدين خليل في حديثه عن التاريخ مثلا من بين العلوم الاجتماعية، فيقول: "إن ثمة حقيقة أساسية تبرز واضحة في القرآن الكريم، تلك هي أن مساحة كبيرة في سوره وآياته قد خصصت المسألة التاريخية التي تأخذ أبعادا واتجاهات مختلفة وتتدرج بين العرض المباشر والسرد القصصي الواقعي لتجارب عدد من المجتمعات البشرية وبين استخلاص يتميز بالتركيز والكثافة للسنن التاريخية التي تحكم حركة الجماعات عبر الزمان والمكان مرورا بمواقف الإنسان المغايرة من الطبيعة والعالم وبالصيغ الحضارية التي لا حصر لها" .
وموضوع السنن الاجتماعية هو موضوع قرآني في الأساس، أي أنه يستمد أصله من القرآن، فهو مصدره ومرجعه الأول، فإن الفكر البشري مهما أبدع في العلوم الاجتماعية واكتشف من النظريات والأفكار سيبقى مدينا للقرآن بهذا التفرد والسبق، ومهما يكن من أمر تنكر علم الاجتماع المعاصر لهذا المفهوم أو الأخذ به، فإن السنن الاجتماعية تبقى مفهوما يفرض نفسه بحيث لا يمكن للاتجاه الإسلامي في علم الاجتماع أن يتجاهله أو يتغافل عنه.
وإذا كان الغرب قد اكتشف كثيرا من السنن الطبيعية وأبدع فيها، ووظفها لعمارة الأرض في المجالات العسكرية والمدنية المختلفة، مما مكنه من التحكم في ثروات الأمم ورقاب الشعوب المستضعفة، فإنه قد ذهل عن هذه السنن الاجتماعية، ولم يدرك إلى الآن كيف تعمل هذه السنن في واقع المجتمعات البشرية، لأنه قطع صلته بالوحي نظرا لاسرافه في الانسنة، ولذلك فهو غير قادر على فهم حقيقة النفس البشرية وطبيعتها ومشاكلها ووسائل علاجها، وهذا من شأنه ألا يسهم في حل كثير من المشكلات التي تعاني منها البشرية في العصر الحاضر، إن لم يعجل بتغيرات كبرى وتحولات في البنيات السياسية والمنظومات الاجتماعية، تحولات تكون سببا في مزيد من الشقاء والتعاسة للبشر.
وفي هذه المبحث، سوف نحاول رصد المفاهيم السننية في القرآن الكريم، باحثين في خصائصها وأهميتها، محاولين الوقوف على منهج سليم لمقاربتها ودراستها وأهميتها في الحياة العملية للإنسان.
السنة والسنن الكونية:
السنة في اللغة تعني السيرة، حسنة كانت أو قبيحة، والأصل في هذا اللفظ – السنة – الطريقة والسيرة. وفي حديث المجوس (سنّوا بهم سنة أهل الكتاب) أي خذوهم على طريقتهم وأجروهم في قبول الجزية منهم مجراها .
ويختلف مفهوم السنة في الاصطلاح تبعا للعلم الذي يستعمله، فهو عند علماء الحديث، ما أثر عن النبي (ص) من قول أو فعل أو تقرير، وهي عند الفقهاء ما طلب الشارع من المكلف فعله طلبا غير جازم، أما عند علماء الأصول المصدر الثاني للتشريع ممثلة في الأحاديث المنطوية على أحكام شرعية.
ويبدو أن المسلمين المتقدمين اختاروا لفظ السنة للدلالة على هذه الاصطلاحات اقتباسا من كتاب الله و حديث النبي (ص)،
التعرف إلى سنة الله في الكون يحتاج إلى استخدام أدوات النظر والمعرفة العقلية وقراءة التاريخ الإنساني المكتوب (أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ * ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِءُونَ) الروم :9-10.
المعنى الذي يتعين علينا استخلاصه أن الفصل بين الإلهي والبشري هو أمر مستحيل ولا يحقق الغرض المزعوم أو الشعار الذي يرفعه البعض من العودة المباشرة إلى النص ونبذ ما أدخله البشر في دين الله.
لأن مجال تطبيق النص الشرعي على الواقع المتجدد مجال متغير ومتجدد فالحاجة مستمرة ودائمة لقيام هذه الطبقة الوسيطة بدورها ضمانا لبقاء الارتباط بين الأرض والسماء حيا ومتواصلا.
الوجه الآخر من وجوه التعامل مع القرآن هو تجدد عطائه ومن ثم تجدد تطبيقاته مع تغير الزمان واختلاف العصور والأوقات (وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ يَقُولُ ما فَرَّطْنا فِي اَلْكِتابِ مِنْ شَيْ‏ءٍ وَقَالَ فِيهِ تِبْيَانُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وَذَكَرَ أَنَّ اَلْكِتَابَ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضاً وَأَنَّهُ لاَ اِخْتِلاَفَ فِيهِ فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اَللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اِخْتِلافاً كَثِيراً وَإِنَّ اَلْقُرْآنَ ظَاهِرُهُ أَنِيقٌ وَبَاطِنُهُ عَمِيقٌ لاَ تَفْنَى عَجَائِبُهُ وَلاَ تَنْقَضِي غَرَائِبُهُ وَلاَ تُكْشَفُ اَلظُّلُمَاتُ إِلاَّ بِهِ) .
(وَاعْلَمُوا أَنَّ هذَا الْقُرْآنَ هُوَ النَّاصِحُ الَّذِي لاَ يَغُشُّ، وَالْهَادِي الَّذِي لاَ يُضِلُّ، وَالمحدث الَّذِي لاَ يَكْذِبُ، وَمَا جَالَسَ هذَا الْقُرْآنَ أَحَدٌ إِلاَّ قَامَ عَنْهُ بِزِيَادَة أَوْ نُقْصَان: زِيَادَة فِي هُدىً، أَوْ نُقْصَان مِنْ عَمىً. وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى أَحَد بَعْدَ الْقُرْآنِ مِنْ فَاقَة، وَلاَ لأحَد قَبْلَ الْقُرْآنِ مِنْ غِنىً--;-- فَاسْتَشْفُوهُ مِنْ أَدْوَائِكُمْ، وَاسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى لاوائكم، فَإنَّ فِيهِ شِفَاءً مِنْ أَكْبَرِ الدَّاءِ، وَهُوَ الْكُفْرُ وَالنِّفَاقُ، وَالْغَيُّ وَالضَّلاَلُ، فَاسْأَلُوا اللهَ بِهِ، وَتَوَجَّهُوا إِلَيْهِ بِحُبِّهِ، وَلاَ تَسْأَلُوا بِهِ خَلْقَهُ، إنَّهُ مَا تَوَجَّهَ الْعِبَادُ إلَى اللهِ بِمِثْلِهِ) .
تجدد العطاء القرآني الإلهي على مدى الأزمان والدهور والأيام يعني أن بوسع قارئ القرآن أن يتوجه مباشرة إلى الله عز وجل طالبا المعرفة الآن كما كان الحال يوم نزوله قبل أربعة عشر قرن من الزمان.
المعنى أن الأدوات اللازمة لفهم القرآن مباشرة أو من خلال العلماء الذين هم ورثة الأنبياء واستنزال الهداية الإلهية وطلب شفاء من أمراضها الاجتماعية لا بد أن تبقى وتتواجد وتستمر حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
بهذه الطريقة نفهم الحديث النبوي الشريف الذي يوصي باتباع الثقلين كتاب الله والعترة الطاهرة والارتباط الدائم المتواصل بينهما وهو ما رواه النسائي في خصائص الإمام علي بن أبي طالب:
عن زيد بن أرقم قال لما رجع رسول الله عن حجة الوداع ونزل غدير خم أمر بدوحات فقممن ثم قال كأني قد دعيت فأجبت وإني قد تركت فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر كتاب الله وعترتي أهل بيتي فأنظروا كيف تخلفوني فيهما فإنهما لن يتفرقا حتى يردا على الحوض ثم قال إن الله مولاي وأنا ولي كل مؤمن ثم أخذ بيد علي فقال من كنت وليه فهذا وليه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه فقلت لزيد سمعته من رسول الله فقال ما كان في الدوحات أحد إلا رآه بعينيه وسمعه بأذنيه.
يقول تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلاَ تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناًّ قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ)المائدة :44.
الآية تؤكد على المسئولية الملقاة على عاتق الربانيين والأحبار في حفظ كتاب الله والشهادة على تطبيقه تطبيقا صحيحا وهي مهمة تحتاج إلى رجال من طراز خاص لا يخافون في الله لومة لائم ولا يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا وهي واحدة من السنن الإلهية الحاكمة لمسار الدعوات والرسالات السماوية.
وفي كل هذه الحالات يمكننا القول كما قال الإمام علي بن أبي طالب: "إِنَّا لَمْ نُحَكِّمِ الرِّجَالَ، وَإِنَّمَا حَكَّمْنَا الْقُرْآنَ" لأن التناقض بين النص القرآني الإلهي والربانيين والأحبار لدى السابقين وأئمة أهل البيت لدى الأمة الإسلامية هو تناقض مصطنع وموهوم!!.
الوصية النبوية التي تلقي بعبء الحفاظ على نهج النبوة وإدامته على عاتق أئمة أهل البيت عليهم السلام ليست بدعا وليست خروجا على السنن الإلهية ولا تضيف مصدرا تشريعيا مستقلا قائما بذاته كما زعم الخوارج من قبل وكما يزعم الذين يسمون أنفسهم قرآنيون الآن.
يقول الرازي: "السنة هي الطريقة المستقيمة والمثال المتبع" .
وبرغم وجود هذه الإشارات إلى معنى السنة عند المتقدمين، فإن هذا المفهوم لم يتبلور أكثر إلا في الفكر الإسلامي المعاصر مع بروز الاتجاه الاجتماعي في التفسير. وهكذا يمكن أن نجد تعريفا للسنن الاجتماعية عند محمد عبده، حيث قال: "السنن.. الطرائق الثابتة التي تجري عليها الشؤون وعلى حسبها تكون الآثار، وهي التي تسمى شرائع أو نواميس ويعبر عنها قوم بالقوانين" .
وقد عرفها الشهيد مرتضى المطهرى بقوله: " السنن الاجتماعية هي تلك المنظومة التي تجعل الفرد يحترم قانون الجماعة ، والاعتبار بالعدالة كأمر مقدس ، مع وجود التعاطف والتحاب بينهم إضافة إلى توفر الثقة ، مع احترام القيم الأخلاقية، وأن إشعاعات الناس الإنسانية التي تشع كالكواكب في سماء التاريخ الإنسانى الملىء بالحوادث هي تلك التي تنبع من المشاعر الدينية " .
إن المتأمل في هذه الآيات، يجد أن هذا مجالا جديدا للبحث والمعرفة، لم تصل إليه بعد عقول المتقدمين ولا المتأخرين من غير المسلمين، من أصحاب النظريات والرؤى في الاجتماع البشري، أما المسلمون المتقدمون، فبرغم مرورهم على آيات القرآن الكريم، وإحصائها والتدقيق في مدلولاتها، فإن الحديث عن السنن فيه لم يفرد بمبحث منفصل، وحري به أن يكون علما قائما بذاته مستويا على سوقه.
ورغم كل هذا فإن النظرة الفاحصة في التفاسير التي ألفت قبل القرن الرابع عشر يعرب عن أن الطابع العام لها هو تفسير الآيات القرآنية، وتبيين مفرداتها ، وتوضيح جملها ، وكشف مفاهيمها بمعزل عن المجتمع ومسائله ومشاكله ، من دون إن يستنطقوا القرآن من أجل وضع الحلول المناسبة لمعاناتهم مع أن الواجب على المسلمين الرجوع إلى القرآن لمعالجة دائهم ، كما يقول الإمام على عليه السلام: " ذلك القرآن فاستنطقوه ، ولن ينطق، ولكن أُخبركم عنه: ألا إن فيه علم ما يأتي ، والحديث عن الماضي ، ودواء دائكم، ونظم ما بينكم " .
والمتأمل للآيات القرآنية سيجد لفظ "سنة" إما:
1- مجردا عن الإضافة كما في قوله تعالى: (قد خلت من قبلكم سنن)، وهذا ما يحيل على كل السنن الكونية والاجتماعية والتاريخية التي جعلها الله في الكون على مر الزمان والعصور، ودعا القرآن الكريم إلى البحث عنها واكتشافها والاعتبار بها.
2- كما ورد مضافا إلى اسم الجلالة أو الضمير الذي يعود عليه تعالى، كما في قوله تعالى:(ولن تجد لسنتنا تحويلا)، وهو ما يحيل على مصطلح السنن الإلهية، باعتبار أن الله سبحانه هو واضع هذه السنن بإرادته وحكمته.
3- ويرد مضافا إلى السابقين من الأمم والمرسلين، وهذا ما يحيل على السنن الاجتماعية والتاريخية، باعتبار أن ترتب الجزاء على الفعل الاجتماعي البشري ترتب مطرد وثابت في الزمان.
ومن هنا أمكن الحديث عن السنن الإلهية أو الاجتماعية أو التاريخية ويكون المدلول واحدا لا يكاد يختلف في هذه العبارات كلها، ويمكن تسميتها "قوانين" أو "نواميس" ويكون المعنى واحدا لا يتعدد.
ويمكن تعريف السنن الاجتماعية بكونها: "القوانين المطردة والثابتة التي تشكل إلى حد كبير ميكانيكية الحركة الاجتماعية وتعين على فهمها" . وهي حكم الله الذي قضى ويقضي به في عباده، سواء كان حكما تشريعيا أو حكما قضائيا (من قضاء الله في العباد)، وهذا الحكم المقضي به في الناس يمكن فهم أسبابه وتوقع نزوله، فقد جرت عادة الله بإنزال أمره في عباده بناء على أعمالهم الاختيارية ، التي استمرؤوها ولم يتحولوا عنها ، ثواباً لمن وافقوا منهج الله ، أو عقاباً لمن كفروا وشاقوا الله ودعاته ، أو ابتلاء للمؤمنين ، أو استدراجا وإملاء للطغاة ، وكذا ما وضع الله لعباده من شرائع .
وتنبع نظرية السنن الاجتماعية في القرآن الكريم من منطلق أن الكون بما فيه من مظاهر مادية وإنسانية دقيقة وهائلة لا يمكن أن يكون من محض صدفة واتفاق، وإنما هو من تدبير قوة عظمة وهو "الله الأحد"، وما يصدر عن العليم الحكيم كله تصرفات حكيمة متناسقة خاضعة لقوانين محكمة.
وإذا كان الإنسان قد استطاع أن يكتشف كثيرا من القوانين المادية التي تحكم الكون وتتحكم في عناصره، مما يمكن الاصطلاح عليه بالقوانين المادية أو الطبيعية أو الكونية، كما استطاع أن يخضع كثيرا من هذه القوانين إلى المنهج العلمي التجريبي، فإنه لا يمكن أن يكون على معرفة صحيحة بالقوانين التي تحكم البشر والعمران والحضارات والأمم إلا عبر الوحي الذي يمثل القرآن الكريم أرفع صوره وأحدث بياناته، يقول الله في القرآن الكريم: (يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون).
وبدون الوحي لم يكن ممكنا للإنسان أن يعرف هذه السنن الإلهية في النفس والمجتمعات البشرية، فقد كان الإنسان قديما يخضع للنظرة العفوية أو النظرة الخرافية الاستسلامية في تفسير الأحداث التاريخية وحركة المجتمع بوصفها كومة متراكمة من الأحداث والوقائع، فيفسرها تارة على أساس الصدفة، وتارة على أساس القضاء والقدر(بالمعنى الجبري)، وبدون التمييز بين أمر الله القدري الكوني، وأمره القدري الشرعي. كما أن التفسير اللاهوتي للتاريخ والمجتمع يتناول الحادثة نفسها ويربطها بإرادة الله سبحانه وتعالى قاطعا صلتها بقانون الأسباب .
خصائص السنن الاجتماعية من خلال القرآن الكريم
من خلال الآيات التي تتحدث عن سنن الله في خلقه، نستطيع تجميع خصائص هذه السنن ومميزاتها التي تنضبط إليها ولا تخرج عنها:
1- ربانية المصدر: لا شك أن السنن والقوانين الموجودة في الكون، سواء كانت طبيعية أو تاريخية واجتماعية هي من أصل إلهي، فكما أن البشر لا يستطيعون أن يكونوا قانونا طبيعيا فكذلك لا يمكن تصور وجود قانون سنني بشري من وضع البشر، كل ما يمكن للإنسان فعله في الحالتين معا، إنما هو اكتشاف هذه القوانين وتسخيرها من أجل الانتفاع بمزاياه وتجنب مضادتها وتحديها.
وفي الآيات المؤصلة لوجود السنن، نجد النص على نسبة السنن إلى الله تعالى واضحا، كما في قوله تعالى: (سنة الله التي قد خلت من قبل) وقوله عز وجل: (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا).
إن ربانية الوضع السنني يقتضي أن الله قادر على صرفها ووتبديلها، لكنه سبحانه لا يفعل عادة وغالبا، وإنما يجري سننه كما سطرها ووضعها ودعا إلى اكتشافها. ولو كان تعطيل السنن من قبل الله سبحانه هو الغالب لما أمر الناس أن يسيروا في الأرض من أجل اكتشافها وتسخيرها.
2- الدقة والتنظيم: ولما كان الله تعالى هو واضع السنن الاجتماعية، وأن ما خلق الله تعالى يمتاز بالدقة والتنظيم والتناسق، من الذرة إلى المجرة، فإن القوانين الاجتماعية لا تخرج عن هذه القاعدة، ولا يمكن أن يترك الله أهم كائن خلقه في هذا الكون عاريا عن التنظيم والضبط القدري والشرعي، ولذلك شرع له الشرائع ليسير عليها ويضبط وفقها حياته الاجتماعية، كما أرصد له قوانين وسننا تضمن السير السليم للبشرية على المستوى البعيد، فتثبت الخير والصلاح، وتنفي الشر والدخن.
من خصائص السنن الاجتماعية بحسب القرآن الكريم الدقة والانتظام، ولا يمكن تصور أنها فضفاضة أو عائمة بحيث تغيب حقيقتها عن النفوس فلا تدركها، لأن الله عز وجل ما كان ليدعو الناس إلى النظر في شيء ما لم يكن هذا الشيء قابلا للنظر فيه والقياس عليه، وذلك بأن يكون أولا دقيقا ومنتظما تعرفه العقول وتدركه الأفهام.
3- ثبات السنن الاجتماعية في الزمان والمكان والناس:
إن السنن الاجتماعية هي حكم الله الذي لا يتخلف ولا يتبدل، قال الله تعالى: (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا) سورة فاطر: 4، وقال تعالى: (سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا) الفتح: 23، وإذ قلنا إن السنن هي القوانين فإن القوانين من شأنها أن تكون مطردة لا تتخلف، لذلك فالسنن الاجتماعية لا تتخلف إلا في قضايا السنن الخارقة "المعجزات" وإن كان هذا الاطراد في الحياة البشرية لا يرى واضحا كما هو عليه الأمر في قوانين المادة .
ومما يدل على ثبات السنن الاجتماعية، وأنها تعمل في المجتمعات الإنسانية كافة، كون القرآن الكريم أمر بالسير في الأرض والنظر في تواريخ الأمم السابقة وآثارها، ولا معنى لهذا الأمر الإلهي إلا إذا كانت السنن الإلهية عامة، وأن ما لحق بكل منها لحق بالآخرين، وأنه لا بد أن يلحق بنا، وبمن بعدنا، وبكل من يتلبس بنفس الأسباب التي بها لحق الأولين.
ومع أن الواقع البشري ليس منضبطا كانضباط الكون المادي، وذلك لأن الإنسان غير منضبط السلوك فهو دائم التقلبات، تتجاذبه مسؤوليته في هذه الحياة بموجب التكليف والإحساس بالمسئولية، وقصة بداية التاريخ البشري بصورتها الرمزية والنموذجية خير شاهد على ذلك . فإذا كان ادم يمثل النموذج لنوع الإنسان فان قابيل و هابيل يمثلان النموذج لبدء التاريخ البشري حيث انجرت من خلالهما الوحدة الإنسانية إلى التضاد و الصراع لتعطي دلالة على انقسام المجتمع إلى قسمين .
فإن السبب الذي أدى إلى قابيل لهابيل ووجه الاختلاف بين الاثنين ليصل إلى القول إن الاختلاف بينهما هي طبيعة العمل، وهكذا يقص علينا القرآن مرحلة الوحدة الإنسانية ثم مرحلة التمييز الإنساني ومن مرحلة أصالة النوع البشري إلى مرحلة أصالة الفرد البشري و حب الانفرادية للنوع البشري .
امتداد لهذه الرؤية الفلسفية يتموضع قابيل كرمز يحمل ثلاث أبعاد يطلق تتمثل في السياسة و الاقتصاد و الدين المنحرف وهي أبعاد حددت النظام السائد في المجتمع بصفة خاصة و الكون بصفة عامة لتتبدل بذلك الرؤية التوحيدية للكون إلى رؤية تثليثية له .
ومن هنا فإننا نرى أن المادية تمثل رؤية كونية خاصة بالطبقة الحاكمة المستكبرة والتي تمثلها البورجوازية التي قامت في جوهرها على المادية و الحرية الفردية لتقلب كل المعادلة حيث جعلت من الإنسان ذي بعد واحد فهي أفقدته أبعاد فطرته الأساسية كحب الهدف وحب الكمال و القيم والمعاني الروحية لينقلب هذا الإنسان من خلافة الله إلى أقوى حيوان للطبيعة .على العكس من الرؤية التوحيدية للكون التي تقوم على نفي التضاد بين المجتمع و العنصر البشري وبين الطبيعة وما وراء الطبيعة والإنسان كما أنها تنفي تفاهة العالم وعبثه .
ولذلك فإنه لابد من فهم هذه السنن فهما دقيقا، وذلك بتعريفها وبيان العلاقة بين الأسباب والمسببات فيها، وتحديد الموانع في كل سنة من السنن الاجتماعية التي تحدث عنها القرآن الكريم نصا أو إشارة أو مما يمكن معرفته بالسير في الأرض والنظر والتفكر في المجتمعات البشرية في السابق والحاضر.
والحقيقة أن السنن قد لا تظهر حتميتها على المدى القريب أو المتوسط، وقد يستوجب الأمر في الغالب عقودا أو قرونا حتى تستعيد الحياة دورتها، وتقيم السنن ما اعوج وانحرف من في السير البشري، ولذلك فإن السنن قد تقبل التحدي على الأمد القريب، لكنها لا تقبله أبدا على الأمد البعيد.
منهجية تناول السنن الاجتماعية في القرآن الكريم
كأي موضوع من مواضيع القرآن الكريم، لا بد من منهج محدد المعالم لتناوله والإحاطة به وربطه بواقع الإنسان. ذلك أن القرآن ما أنزل إلا للفعل والتأثير في الحياة البشرية العملية، يصلح أحوالها ويقوم اعوجاجها ويسددها سيرها.
فبعد استقراء المواضع التي ورد فيها ذكر موضوع السنن تصريحا أو إشارة، يأتي دور المنهج العلمي لتناول السنن بهدف فهمها وفقه تنزيلها.
والتفسير الموضوعي مصطلح في التفسير ذاع في العصر الحديث، وتداوله الباحثون في الدراسات القرآنية في أكثر من معنى، تتوحّد هذه المعاني في جمع المفسر للآيات في موضوع معين، ثم استخلاص رؤية القرآن حيال هذا الموضوع منها.
وقد تناول أمين الخولي هذه المسألة في معالجته لضوابط التفسير الأدبي الذي كان يدعوا إليه، وأوضح أن ترتيب القرآن في المصحف لم يلتزم بوحدة الموضوع، كما لم يلتزم بالترتيب الزمني لظهور الآيات، وإنما تحدث عن الموضوع الواحد في سياقات متعددة، ومناسبات متنوعة. وهذا يقتضي أن يفسر القرآن موضوعاً موضوعاً لا قطعة قطعة ولا سورة سورة، وأن تجمع الآيات الخاصة بالموضوع الواحد، ويعرف ترتيبها الزمني، ومناسباتها وملابساتها الحافة بها .
وفي تقديري أن منهجية التفسير الموضوعي صالحة لتناول كل المفاهيم التي نروم البحث عنها وتأصيلها من خلال القرآن، لا بل هذه المفاهيم والموضوعات هي مجال بحث هذا الاتجاه من التفسير.
إن التفسير الموضوعي لا يهدف إلى إجراء تبسيطي يتمثل بتحشيد كمي لطائفة من الآيات في موضوع واحد، واستظهار المدلولات التفصيلية لها، ثم القيام بعملية دمج مبسط بين تلك المدلولات، وإنما هو محاولة لاستخلاص المركب النظري، والتوصل إلى ما وراء المدلول اللغوي واللفظي التفصيلي، بغية استلهام "أوجه الارتباط بين هذه المدلولات التفصيلية، والوصول إلى مركب نظري قرآني، وهذا المركب النظري يحتل في إطاره كل واحد من تلك المدلولات التفصيلية موقعه المناسب، وهذا ما نسميه بلغة اليوم بالنظرية، يصل إلى نظرية قرآنية عن النبوة، نظرية قرآنية عن المذهب الاقتصادي، نظرية قرآنية عن سنن التاريخ، وهكذا" .
ويشكل القصص القرآني أبرز مساحة تارخية اجتماعية يشبهه بالمختبرات البشرية ،حيث إن ما ورد في القصص القرآني، يشكل مختبرات بشرية خالدة مجردة عن حدود الزمان والمكان من الناحية الاجتماعية كما يشكل منجما لاغتراف الثقافة الاجتماعية و العلوم الاجتماعية .
على أن المقصود بالسنن الاجتماعية من خلال القرآن الكريم، ما يمكن أن نستخلصه من أقوال النبي (ص) وتشريعاته، لأن الحديث مفسر للكتاب ومبين له، وأيضا ما يمكن أن نستفيده من المعرفة البشرية المتراكمة عبر الزمن، ما دامت منسجمة مع المعرفة القرآنية الأصلية والمنهج العلمي القويم.
ويمكن استخلاص ضوابط التفسير الموضوعي وتلخيصها فيما يلي:
- استقراء كل ما يتصل بالموضوع في القرآن الكريم من آيات، سواء ذكرت فيها المادة موضوع الدرس أو لم تذكر. وفي مثالنا نستقرئ كل الآيات التي ذكرت فيها (سنة) بجميع مشتقاتها، (سنة) بمعنى الطريقة والتي تجمع على (سنن)، لأن (سنة) بالتخفيف التي جمعها (سنون) خارج عن موضوع بحثها، واستعمالها كثير في القرآن، لكنه هو غير استعمال (السنن). كما نستقرئ أيضا كل الآيات التي تتصل من قريب أو بعيد بالموضوع.
- استيعاب ما أثارته تجارب الفكر الإنساني حول ذلك الموضوع من مشاكل، وما قدمه الفكر الإنساني من حلول، وما طرحه التطبيق التاريخي من أسئلة، ومن نقاط فراغ. أي البدء من واقع الحياة البشرية، وحمل التجربة البشرية إلى القرآن، والتوحيد بينهما، لا بمعنى تحميل هذه التجربة على القرآن، وتأويل النص طبقاً لها، وإنما بمعنى أن المفسر يقوم بعملية يوحّد فيها بين التجربة والنص في سياق بحث واحد، لكي يستخرج نتيجة هذا السياق ويستنطق موقف القرآن تجاه هذه التجربة .
- استخلاص أوجه الارتباط بين المدلولات التفصيلية للآيات، وتحليل ودمج وتركيب المدلولات، بغية الوصول إلى مركب نظري قرآني، تنتظم في إطاره المدلولات التفصيلية باتساق متناغم .
ومن الكتب التي لامست الجانب الاجتماعي في القرآن، نذكر كتاب "الدستور القرآني في شؤون الحياة " لمحمد عزة دروزة، و "المجتمع الإسلامي كما تنظمه سورة النساء" لمحمد محمد المدني، و "القرآن والمجتمع " لمحمود شلتوت. كما أن تفاسير العصر الحديث قد أثرت موضوع السنن في القرآن الكريم وزادت مفهوم السنة تحديدا وبيانا بما استفادته من العلوم الإنسانية في عصرها وبخاصة علم الاجتماع .
المفسرون والسنن الاجتماعية في القرآن
تناول المفسرون في العصر الحديث مشكلات الحضارة، والانحطاط والتخلف، وتفشي الأمية، والجهل، والمرض، والفقر، ومصادرة الحريات، والظلم والاستبداد، وغياب الدور الاجتماعي للمرأة، وغيرها من الأبعاد الغائبة في معظم آثار السابقين. واقترن ذلك بالدعوة لتحرير التفسير من الاستغراق في المباحث اللغوية، وسرد آراء الفرق، والافتراضات البعيدة عن روح القرآن.
وقد استفاق وعي نخبة من العلماء على أفكار جمال الدين الأفغاني ومقالاته، في مجلة العروة الوثقى، التي تعالج قضايا الأمة وهمومها، كقضية التخلف والانحطاط الحضاري، وغلبة الاستعمار وهيمنته على ديار الإسلام، والعجز النفسي وضعف العزيمة، والانبهار وعقدة الحقارة حيال الآخر. لقد حلل هذه القضايا من مسترشدا بالقرآن الكريم ناظرا في الآيات من منظور اجتماعي، وحرص على استجلاء معالجات القرآن وتدبيراته وسننه في الاجتماع البشري.
وهكذا نجد مثلا موضوعاً بعنوان "سنن الله في الأمم وتطبيقها على المسلمين" يكشف فيه عن قوانين النهوض والانحطاط في الاجتماع البشري، ويحث فيه على ضرورة إدراك الأمة ووعيها الدقيق لهذه القوانين، إذا ما أرادت المساهمة في صناعة التاريخ .
لقد كانت فكرة السنن الكونية ببعدها الاجتماعي تنضج في فكر تلميذه محمد عبده، فيأتي تفسيره للقرآن الكريم متوسعا في بيان جذور السنن، ولم يقتصر محمد عبده على ذلك، بل دعا لتدوين علم جديد يعنى بفقه السُّنن. ووجد أن تخلف المسلمين اليوم يبرر تدوين مثل هذا العلم، فمثلما بررت حاجات الأمة في الماضي تدوين علوم أصول الدين والفقه وغيرهما، فإن المتطلبات الجديدة تقضي ببناء علم السُّنن .
واستمرت الدعوة التجديدية الإصلاحية في العالم الإسلامي، منطلقة من آلام التخلف الحضاري الذي ترزح تحته الأمة الإسلامية، ملقية نظرة تقييمية لحضارة الغرب التي تتألق يوما بعد يوم في عالم المادة والرفاهية، انطلقت تشق طريقها نحو النموذج الحضاري الإسلامي، المستهدي بروح القرآن، فلا تجد أمامها إلا آيات السنن الكونية، تستنبط منها طريق الاستنهاض والنهوض.
وقد وجد فقه السنن تطبيقات ناضجة له في أعمال مالك بن نبي، التي عالجت مشكلات الحضارة والعوامل النفسية والاجتماعية لتطور الأمم وانحطاطها. وكذالك في تفسير الطباطبائى الذي أعطى للجانب الاجتماعي السنني حقه في التحليل والدراسة، وهو يمر بالآيات التي تتناول هذا الجانب، غير أن السيد قد حرر التصور الإسلامي للسنن الاجتماعية من البناء الوهمى. ويبقى أن أول عمل يمكن أن تفضي إليه أي منهجية لتناول السنن الاجتماعية في القرآن الكريم، هي محاولة تصنيف هذه السنن، وإن كانت هي المطلب الأول التي تتوسل المنهجية إلى تحقيقه، فإنه يعد أيضا أول عقبة تعترض الباحث في موضوع السنن.
محاولة تصنيف السنن في القرآن الكريم
السنن الاجتماعية كثيرة جدا ومتشعبة، ولا بد للباحث من أن يعمد إلى تصنيف هذه السنن بهدف تيسير دراستها وإحكام فهمها. ولقد حاول بعض الباحثين إجراء تصنيف مناسب وجرد أنواع السنن الاجتماعية من خلال القرآن الكريم.
إن تأمل السياق التفسيري لموضوع السنن في التفاسير، يقضي بعرضها اعتبارا لموضوعها ومجال تحكمها في ثلاث مجالات: من جهة كونها تأسيسا وبناء لواقع جديد، ومن جهة كونها تحصينا لهذا الواقع إذا هو تأسس، ومن جهة كونها تحذيرا للطرف الفاعل في هذا الواقع من مغبة السقوط والانهيار تبعا للمقصد الذي تدل عليه السنن بالنص أو الإشارة أو الإرشاد، استنهاضا وتكليفا، أو تصحيحا وتقويما، أو تنبيها وتحذيرا .
وفيما يلي محاولة لجرد السنن الاجتماعية وفقا لهذا التصنيف، مع الاستفادة من علم القواعد الفقهية في صياغتها قدر الإمكان، على أن اللائحة تبقى أولية غير تامة غرضها التمثيل لا الحصر.
محاولة صياغة السنن الاجتماعية صياغة قواعدية
1- سنن التأسيس والبناء لواقع جديد: سنن النشوء والبناء، سنن الابتلاء والامتحان، سنن التدافع الحضاري، سنن التغيير والتحويل.إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.أن المصائب والشدائد والفتن والنوازل تبيِّن معادن الناس
2- سنن التحصين للواقع، سنن الصلاح والإصلاح أن البلاء ما نزل إلا بذنب وما رفع إلا بتوبة
3- سنن السقوط والانهيار: سنن السقوط، سنن الظلم والفساد والإفساد في الأرض، والتبديل وأن الله ما رفع شيئًا ثم هدمه، وإن الدنيا ما رفعت شىء إلا فعادت لتهدمه.


خاتمة
ثم أما بعد، إن هذه الورقات يمكن أن تشكل مدخلا لتناول العلوم الإنسانية بشكل عام و السنن الاجتماعية في الواقع كما يفهمها ويؤصل لها القرآن الكريم، ولا شك أن أي بناء حضاري هو متوقف في الأساس على فهم بنية الحضارة وخصائص النفوس والمجتمعات، وهذا لا يمكن أن يكون على شكله الأمثل والأقوم إلا بالرجوع إلى النهل من القانون الإلهي الموضوع للكون وللبشر، والذي يمثل القرآن الكريم المنهل الالهى لكل البشر، الصالحة لكل الأزمنة والعصور.

والله اعلم



#محمود_جابر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الوهابية فى مصر من محمد على إلى حسنى مبارك ..... الجزء الثام ...
- لعنة مصر ... و -الانبعاث السعودى الجديد- 3
- إلى شعب العراق العظيم ... نحن شعية الهوى ... حضاريو الطابع
- رسالة إلى سماحة السيد نصر الله : نحن شعب المقاومة
- الى السيد الخامنئى : نحن حلف المستضعفين
- درس اسمه - العراق-
- استقيموا يرحمكم الله
- الوهابية فى مصر من محمد على إلى مبارك .......... الجزءالسابع ...
- -..... خد منه قالب -....
- الوهابية فى مصر من محمد على إلى مبارك .......... الجزء الساد ...
- السلفية الشيعية
- لعنة مصر (2)
- لعنة مصر
- الوهابية فى مصر من محمد على إلى مبارك .......... الجزء الخام ...
- حزب الله ...... سبع سنوات من كسر عدوان تموز
- مصر ... والاقليم بين محورين
- ... الشيخ حسن شحاته ... -دروس من رحم الأزمة- ...
- متى تعتذر إيران ولماذا ؟!!
- الوهابية فى مصر من محمد على إلى مبارك .......... الجزء الراب ...
- الوهابية تدق طبول الحرب الصهيونية المقدسة .. ضد الاسلام


المزيد.....




- لثاني مرة خلال 4 سنوات.. مصر تغلظ العقوبات على سرقة الكهرباء ...
- خلافات تعصف بمحادثات -كوب 29-.. مسودة غامضة وفجوات تمويلية ت ...
- # اسأل - اطرحوا أسئلتكم على -المستقبل الان-
- بيستوريوس يمهد الطريق أمام شولتس للترشح لفترة ثانية
- لندن.. صمت إزاء صواريخ ستورم شادو
- واشنطن تعرب عن قلقها إزاء إطلاق روسيا صاروخا فرط صوتي ضد أوك ...
- البنتاغون: واشنطن لم تغير نهجها إزاء نشر الأسلحة النووية بعد ...
- ماذا نعرف عن الصاروخ الروسي الجديد -أوريشنيك-؟
- الجزائر: توقيف الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال
- المغرب: الحكومة تعلن تفعيل قانون العقوبات البديلة في غضون 5 ...


المزيد.....

- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام
- سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري - / الحسن علاج


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - محمود جابر - الإنسان في القرآن الكريم و منهج عرض السنن الاجتماعية