المرأة بين الذات المقيدة والذات المحررة

حميد التوزاني

الحوار المتمدن-العدد: 4203 - 2013 / 9 / 2 - 09:02
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    

إن ذات الإنسان هي خليط من القيم المتوافقة والمتناقضة، والقناعات المقدسة والمدنسة، هذا إذا قيمنا "الذات الذكورية" بمنهج منطقي عقلاني لا يقبل أي تطفل شعبوي أو تنميط ثقافي وذلك عبر التحليل الدقيق لثقافة الدهماء واستخلاص للعبر والحلول للراهن المأزوم.
وهنا يجب أن ننتبه فللوهلة الأولى يمكن أن يذهب القارئ إلى الاعتقاد بارتباك معرفي، حيث أننا بصدد الحديث عن المرأة كـ"ذات" لكن باعتماد تقييم الذات الذكورية كمدخل لتحليل ذات المرأة، وهنا يجب أن نتغيي الشرط المفاهيمي، فالذكورية معطى تابث حتى وإن أحالتنا اللفظة عن جنس محدد وهو "الذكر" والذي يقابل "الأنثى"، وقولنا أنه معطى تابث هو لطغيانه على كلا الجنسين، فالذكورية بمفهومها الثقافي تعتبر مكون لصيق بالرجل حيث أنه مفهوم غني بترميزاته ودلالته في المخيال الشعبي، وإذا كان هذا الترميز يضع الرجل على مقعد من حرير نظرا لما يوفره من حماية وحصانة وحيز للحرية المبهمة، فإنه بالمقابل يحاصر المرأة ويجلسها على مقعد من أشواك ويقيدها ويجعل ذاتها كذات تابعة وكامتداد للذات الأولى وهي ذات الرجل.
وهنا لا تفوتنا الإشارة إلى أننا نتحدث عن المرأة التي لم تتحرر بعد ذاتيا ولازالت تبحث في إمكانات الإنعتاق بواسطة النقل لا العقل عبر استيراد أدوات التحرر الصورية التي يمكن نعتها بأدوات ترسيخ ومأسسة الذكورية، هذا ويمكن أن نشبه حالة المرأة - الذات المقيدة هته بمريض "الوسواس القهري" الذي يظل يشتكي مرضا هو نفسه صانعه من خلال طلق العنان لبنات أفكاره تصول وتجول في عالم الأحزان فينتكس ويكتئب ولا يعلم أنه مريض ذاته، هذا هو بالضبط الخيط الرفيع الذي يربط ذات المرأة بمريض الوسواس القهري، فالمرأة كذلك تشتكي من التمييز وتتخدق في بوثقة المدافع والمنتظر للهجوم والمتظلم، ولا تدري أنها ضمنيا تستلهم قيمة التمييز وتتطلع بذلك لمارس الطقوس الذكورية إن صح التعبير، حيث أنها تتشبع بشكل لا واعي بالأفكار والترميزات والتوصيفات المسيئة لذاتها عبر المجتمع الذي تتقاذفه أمواج الذكورية، ولتقريب هذا المعطى نورد ظاهرة ربما هي حاضرة بشدة بالدول التي تعريف تمييزا ضد المرأة، وهي ظاهرة إعلامية حيث كثيرا ما نجد برامج إعلامية خاصة بالنساء كالذي يبث بقناة "نسمة" المغاربية، أو مهرجان "أصوات نسائية" الذي انتهت فعالياته مؤخرا بمدينة تطوان المغربية، وكثيرة هي الأمثلة من هذا القبيل، "إلا أننا لا يمكن أن نقتصر في تحليلنا على الذات المحاصرة، فيكن أن نعزي هذه الإنغلاقية "النحن النسائية" إلي طبيعة الجنس اللطيف الذي يختزل عالمه بنية ثقافية يصعب على الرجل فهم تفاصيلها لذلك يتم إقصائه" ، كما نضيف مسألة "المحاصصة" التي كثيرا ما تختارها الحكومات ببلداننا كحل لرد الاعتبار للمرأة في منأى عن مبادئ ومتطلبات الحكامة الجيدة، لأن القول بتخصيص حصة معية للمرأة في حكومة أو هيئة أو غيرهما يحيل على إعلان نية التواطأ مع الذكورية، لأن من يمنح هذا الحق المشروع لن يسمح له بالمرور عبر قنواته المشروعة وسيختار مسالمة النخبة النسائية التي تتوهم أن ذلك إنجاز يستحق التطبيل والتصفيق، من هنا تظهر الذات المقيدة مرة أخرى، الذات التي تنتظر "مكرمة" الرجل، لا الذات الواعية المحررة التي تبحث في التجديد والتجويد، وهذه الذات التقليدية الحديثة تحاول محاكاة النخبة النسائية بالدول المتقدمة ومجاراتها من خلال القفز على مراحل التحرر الذاتي والمشاركة في التدبير، فتسقط في خندق الذات المقيدة المبهمة غير المدركة.
وانطلاقا مما سلف نخلص لأزمة الذات النسائية في صيغتها المثقفة، والتي تتأرجح بين التقليد والتجديد وتدور في فلك الذكورية تارة تنسلخ عنه وتظهر كذات محررة وتارة تحن إليه بشكل غير مدرك وتعود لكنفه مسالمة إياه وداعمة له.
وإذا كان الحديث عن المرأة المثقفة قد تطلب منا استدلالا معقدا ودقيقا، فالحديث عن المرأة العامية أو شبه المثقفة لا يتطلب ذلك الجهد الكبير، لأن المرأة العامية يمكن نعتها مفاهميا "ذات الأنثى الذكر" حيث أنها تكتسب منذ نعومة أظافرها محددات الهيمنة الذكورية والدونية الأنثوية، تتلقن من خلال التنشئة الاجتماعية ثقافة المقدس والمدنس، وتستهلك الخطاب الديماغوجي المنقع بالفكر الديني المغلوط، فتنشأ الفتاة على فكرة الأنثى الجسد أو الأنثى الأداة التابعة والخانعة، ترتبط في المخيال الشعبي بالشيطان الذي لا يشبع جنسا ولا يمل ثرثرة ولا يكل شكاية، كما يرتبط وجودها بالشرف ويحدد بالزواج فهي بذلك بين الموجود والعدم، الموجود في حالة اعتبارها أداة جنسانية وآلة إنجاب ولعل المثل الشعبي المغربي التالي يصور جزءا مما ذكرناه والذي يقول "المرأة بلا ولاد بحال الخيمة بلا وتاد" ، ومعروف أن مآل خيمة بلا أوتاد السقوط والزوال فكذلك مآل المرأة فهي دون أولاد تنتهي أسريا واجتماعيا، أما العدم فيجثم على صدرها حين تعيش حالة عنوسة أو طلاق أو ترمل ولو بدرجة أقل إلى عار يلاحق أقربائها، فكيف لهته المقيدة فكريا والمسجونة سوسيوثقافيا أن تتحرر في منأى عن التعليم وفي جو يطبعه اجترارا ثقافة السائد والمعتاد، هنا نصل لحلقة الوصل بين المجتمع كمصرف للقيم أو كبيئة يتبادل فيها الأشخاص قناعاتهم وسلوكاتهم، وبين المرأة كطرف في هذا التبادل فهي كغيرها تعبر عن قناعاتها وقيمها التي استقتها واقتبستها أولا من مؤسسة الأسرة وثانيا من الإطار الاجتماعي الفسيح والضيق في الآن نفسه.
هكذا تظهر المرأة كشريك مبهم في جرائم الذكورية، فنراها تربي بناتها على الطاعة المطلقة للأزواج وقبلهم الإخوة وتميل كفة أولادها الذكور على الإناث ولو في أتفه الأشياء كـ "قسمة اللحم أو توزيع الحلوى" وتارة نراها تتمنى مولودا ذكرا لإرضاء زوجها، كما نجدها تثقف بناتها على أن مدرسة الحياة تتوزع بين فصلين، فصل الداخلية وهو عمل المنزل الخاص بالأنثى وفصل الخارجية وهو تدبير لقمة العيش الخاص بالرجل، كما نجدها كثيرا ما تحاول تسميم الخطاب الذكوري بشكل أكبر مما هو عليه، كحالة لاحظناها كثيرا حيث ترفض المرأة أن تكون شريكا في تدبير الأسرة لاعتقادها الراسخ أنها دون ذلك وأن رأيها لا قيمة له، بل تزكي الأطاريح الدينية الزائفة والمزعومة في هذا الشأن والتي تؤكد أن تفكير المرأة في مستويات دنيا وأرائها مقلوبة.
إلا أن الأخطر من هذا وكما مررنا سابقا هو تمثلاتها الجنسية، حيث تعتقد أنها طرف خارج العملية الجنسية، مجرد أداة لتفريغ المكبوت وتصريف الشهوة الذكورية، فتحدد وجودها برغبة الرجل فيها ومغازلتها وتختصر مهمتها الزوجية والحياتية في إسعاد الرجل فقط، إذ تحرم على نفسها البوح بمشاعرها الجنسية أو اشتراط الممارسات الجنسية التي تريحها على غرار ما يفعله الرجل من رفض لرغباته ونزواته.
هكذا يتضح بجلاء أن ذات المرأة عبارة عن تركيبة تمزج بين التقليد والتجديد، وتوليفة قيمية يصعب فك لفيفتها واقتفاء أثارها، فهذه الذات المقيدة توصم المرأة العامية، وتحاصر كل ما يبدل من مجهودات لتخويلها حقوقها الوجودية المشروعة، أما المرأة المثقفة فهي كما ذكرنا هي ذات متحررة لكن كثرة فلتاتها اللامدركة تسقطها من جديد فخ في الذكورية بإيعاز من العدو الحبيب "الرجل".

#حميد_التوزاني (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات