|
القضية الوطنية فى مصر الحديثة
رياض حسن محرم
الحوار المتمدن-العدد: 4202 - 2013 / 9 / 1 - 20:12
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
1-عصر محمد على ( 1805- 1849) مصطلح القضية الوطنية "كأهم مكون فى البرنامج الوطنى الإجتماعى لأى حزب" بدأ تداوله مع بداية تاريخ مصر الحديث الذى يؤرخ له عادة بنهاية الحملة الفرنسية ( 1798- 1801) وبروز إسم محمد على كمرشح لحكم مصر باختيارمن الوطنيين المصريين "ممثلى الطبقة الوسطى والطبقة الأرستقراطية من شيوخ الأزهر والأشراف والتجار"، فقد تحدى المصريين الوالى الذى إختاره السلطان العثمانى ممثلا فى خورشيد باشا وأصّروا على تنصيب محمد على واليا على مصر، وقد نجحوا فى تحقيق مطلبهم بعد حصار الوالى المعين من قبل الباب العالى فى القلعة لمدة شهر. لا شك أن محمد على كان شديد الذكاء وداهية على المستوى العسكرى والإستراتيجى ، ويذكر أن "كارل ماركس" قال عنه ( تحت هذه العمامة رأس حقيقى)، والدليل على ذلك أن الرجل لم يكن مصريا لكنه نجح فى أن يكسب ود الشعب المصرى لدرجة أن يقاتلوا لتنصيبه حاكما عليهم، ورغم أنه لم يكن يعرف العربية وكانت لغته التركية الاّ أنه إستطاع التواصل بسهولة وعمق مع الشعب المصرى، ورغم أنه كما قيل عنه كان أميا لا يقرأ ولا يكتب إلاّ أنه إستوعب معطيات عصره وأدرك وضع الخطط التكتيكية والإستراتيجية بحنكة ومقدرة، لقد نجح ذلك العسكرى الألبانى فيما فشل فيه الآخرين من توطيد دعائم حكمه وتحقيق الاستقرار وإقامة دولة وطنية حديثة على ضفاف النيل، وبناء نظام عصرى حديث معتمدا على تأسيسه لأول جيش وطنى من المصريين منذ أحمس والقتال به بعد تشكيله مباشرة فى الجزيرة العربية والسودان واليونان والشام وصولا الى جبال طوروس على حدود تركيا. توجد نماذج عديدة على وعى محمد على بأهمية القضية الوطنية والتى تعنى فى حينها التمسك بالاستقلال الوطنى ورفض التدخل الأجنبى والندّية فى التعامل مع القوى العظمى من أمثلتها: 1- بناء دولة عصرية حديثة: إستطاع محمد على باشا خلال عقدين من السنوات تقريبا أن يقوم ببناء دولة عصرية حديثة بعد توطيد حكمه وقضائه على المماليك والمعارضة الشعبية التى قادها علماء الأزهر وإنفراده بالحكم، فقد قام بإستقدام كولينيل فرنسى متقاعد هو "جوزيف سيف" الذى عرف فيما بعد ب"سليمان باشا الفرنساوى" وطلب منه إنشاء جيش وطنى من الفلاحين للمرة الاولى فى تاريخ مصر، وإستطاع هذا الجنرال الفرنسى أن يختار ويدّرب هؤلاء الفلاحين فى معسكر على الحدود الجنوبية لمصر وإستطاع فى مدة وجيزة أن يحقق إنتصارات باهرة فى كثير من بقاع العالم، ولخدمة بناء الجيش أنشأ الباشا كثير من الصناعات الحربية لصناعة السلاح والترسانة البحرية لصنع السفن الحربية وأرسل البعثات المختلفة من الضباط الى الدول الأوروبية للتعليم والتدريب، كما يذكر للرجل أيضا إنشاؤه للدواووين الحكومية وإهتمامه البالغ بالتعليم من خلال إنشاء المدارس الحربية ومدارس للطب والهندسة والصيدلة والزراعة والمدارس الإبتدائية والتجهيزية وإرسال البعثات وإستقدام المعلمين وتأسيس المطابع الحديثة لطباعة الكتب المدرسية وغيرها ، وفى مجال الزراعة ألغى نظام الإلتزام الجائر ومصادرة ملكيات الملتزمين وأنجز المسح الشامل للأراضى الزراعية وتحديد الزمامات وشق العديد من الترع ومنها ترعة المحمودية والخطاطبة لرى البحيرة والأسكندرية وقام ببناء القناطر الخيرية لتحويل أرض الدلتا الى الرى الدائم وإستحدث أنواع جديدة من الزراعات كالقطن وقصب السكر، وفى المجال الصناعى بالإضافة للصناعات الحربية المختلفة أنشأ محمد علي المصانع في مجالات عديدة، منها 18 معملاً لنسج و غزل القطن و الكتان و الحرير، و معامل السكر في الصعيد، و المصابغ و معامل السباكة و غيرها. 2- رفض مشروع حفر قناة السويس: ظهرت فكرة حفر قناة تربط بين البحر الأحمر و البحر المتوسط لأول مرة أثناء وجود الحملة الفرنسية في مصر (1798-1801م)، و لكن بسبب خطأ في الحسابات الهندسية قرر مهندس الحملة الفرنسية لوبير أن البحر الأحمر أكثر ارتفاعاً من البحر المتوسط، و إذا تم تنفيذ الربط سوف تغرق مياه المتوسط المدن الواقعة عليه، و ظل هذا الاعتقاد قائم حتي جاءت جماعة السان سيمونيين إلي مصر ( نسبة إلي هنري سان سيمون الفرنسي) و أعادت دراسة المشروع و أثبتت أن البحرين في مستوي واحد و أنه يمكن شق قناة بينهما، وبعد عرض الفكرة على محمد على رفضها لأن ها المشروع يفتح الباب علي مصراعيه لتدخل القوي الأجنبية في مصر للسيطرة علي هذا الطريق الذي سيصبح أقصر الطرق البحرية لربط أوروبا بمستعمراتها في آسيا، و الحقيقة أن محمد علي لم يكن معارضاً للمشروع في حد ذاته، و إنما في منح شركة أجنبية امتياز الحفر و الانتفاع به. و هو ما عبر عنه القنصل الفرنسي في القاهرة مسيو بارو بقوله إن محمد علي لن يرضي أبداً بمنح شركة أجنبية امتياز حفر هذه القناة و بالتالي لن يسمح مهما كان الثمن لهذه الشركة بالانتفاع بالقناة بإعتبار أن لك سيكون إنتهاكا للسيادة المصرية على أراضيها. 3- رفض القروض الأجنبية: إعتمد محمد على فى مشروعه الطموح على التمويل الذاتى لخطته لبناء مصر، وبسبب حاجته للمال عمل على أن تملك جميع مصادر الدخل الزراعى والصناعى والتجارى فقام بإلغاء نظام الإلتزام وإستولى على جميع الأراضى من الملتزمين، وضم أموال وملكيات الأوقاف له، وفرض العديد من الضرائب على جميع الأنشطة، وإعتمد على الزراعة الكثيفة لمحاصيل غير تقليدية كالقطن تدر عائد كبير من تصديرها (سنة 1845 مثلاً صدرت مصر لأوروبا 345 الف قنطار قطن مقابل إستبقاء 80 ألف قنطار للمصانع المصريه)، وأنشأ صناعات حديثة عالمية الجودة تقوم فى معظمها على الإنتاج الزراعى، وسعى الى دمج الإقتصاد المصرى فى التجارة العالمية، وكان محمد على حريصا طول الوقت على الإعتماد لما تحت يديه من مصادر داخلية ورفض بشدة عروض القروض الأجنبية عليه من روتشيلد ودرزائيلى والمصارف الأوروبية وغيرها، وكان رأيه أن الديون الأجنبية أنها باب واسع للتدخل الخارجى وظل طول حياته حريصا على عدم الاستدانة من الخارج بل كان يدفع الجزية بانتظام للخليفة العثمانى ويدفع أكثر منها براطيل للكثيرين من رجال الباب العالى لإستمالتهم. 4- إقامة الدولة العربية المركزية: إختلط الحلم الشخصى لمحمد على بالمشروع القومى لإقامة إمبراطورية عربية، حدث بعض ذلك بدون تخطيط مسبق له ولكنه لاقى هوى فى نفسه، فقد تم تكليفه من قبل الباب العالى "رجل أوروبا المريض" بتاديب بعض الخصوم والثوار وإسترداد ما إستولوا عليه من أراضى، فقام محمد على بذلك بعزم وقوة ضد الوهابيين فى الجزيرة العربية وضد الثورة المهدية فى السودان، وفى الحالتين إتخذ قرارا بضمهما الى مصر " الجزيرة العربية والسودان" لتكّونا مع مصر بداية بناء إمبراطوريته، ومع تصاعد الخلاف بينه وبين السلطان العثمانى قرر محمد على أن يخوض حربه الجديدة فى مواجهة السلطان نفسه، وتحرك الجيش المصرى بقيادة إبراهيم باشا "ذى الميول القومية" الابن الأكبر لمحمد على للإستيلاء على الشام وضمه لمصر، وينقل عن ابراهيم باشا قوله ( إن الدفاع عن مصر يبدأ من جبال طوروس). 5- الصراع من أجل تحرير الإقتصاد: حاولت الدول الاستعمارية الضغط على الباشا فى مصر لفتح أسواقه كاملا تجاه الغزو الإقتصادى الغربى بحجة منع الإحتكار وتحرير التجارة، وحاولت الدول الإستعمارية الضغط على الباب العالى أكثر من مرّة لفرض فتح الأسواق فى مصر، لكن محمد على كان يقاوم هذه الضغوط بشدة، وعندما نجح الغرب فى إستمالة السلطان العثمانى لتوقيع اتفاقية تجارة حرة معه تشمل مصر والشام (بعد ضمها لمصر) ولكن محمد على رفض تنفيذ هذه الإتفاقية وأعلن أنه إذا لزم الامر فسيعلن إنفصاله عن تركيا، وظل الرجل يمتنع عن تنفيذ ما يريده الاستعمار لفتح الاسواق حتى توقيع إتفاقية لندن فى 1940. 6- مقاومة التدخل والمؤامرات الأجنبية: منذ تولّى محمد على الحكم وهو فى صراع ضد المؤامرات الداخلية والخارجية، وذلك فى محاولته الإستقلال بحكم مصر ووقوف الأستانة فى وجه تلك الرغبة، أول تلك المؤامرات هى أصدار السلطان (بضغط من إنجلترا) فرماناً بنقل محمد علي إلى الحجاز ، لكن هذا الفرمان لم ينفذ بسبب تمسك الشعب به والياً، ويعد هذا الموقف انتصاراً للشعب وأدى فى الحقيقة الى تثبيته على حكم مصر، التحدى الثانى لحكمه تم بواسطة الغزو المباشر فى "حملة فريزر 1807" التى قام بها الإنجليز لإحتلال مصر وقاومها الشعب المصرى وإستطاع دحرها. على أن الصراع الحقيقى لم يكن مع الأطراف الخارجية منفردة بل إقترن هذا الصراع بتحالف القوى الخارجية ممثلة فى الدول الأوروبية ( انجلترا وفرنسا وروسيا) ودولة الإحتلال التركية، فقد أثارت انتصارات محمد على وتهديده للسلطان العثماني الدول الأوروبية خشية ازدياد نفوذ محمد على وقوته وما يمثله ذلك من خطر على التوازن الدولي، لذا تدخلت الدول الأوروبية في مفاوضات مع السلطان العثماني لفرض ما تراه من شروط على محمد على التي أثمرت ما يعرف بمعاهدة لندن الدولية عام (1840م ) والتي وضعت شروطا مجحفة على محمد على و كانت شروطها كالآتي: أن يعطي محمد علي و خلفاؤه حكم مصر وراثياً. 1. أن تكون لمحمد علي مدة حياته فقط حكم جنوب سوريا ( فلسطين) ، و إخلاء جزيرة كريت و الحجاز و أدنة و إعادة الأسطول العثماني. 2. إذا لم يقبل القرار في مدة عشرة أيام ، يحرم من ولاية عكا (فلسطين) ، فإذا استمر رفضه مدة عشرة أيام أخري يصبح السلطان في حل من حرمانه من ولاية مصر. 3. يدفع محمد علي الجزية السنوية للسلطان. 4. أن يلتزم محمد علي بتطبيق كافة المعاهدات التي يبرمها السلطان العثماني و في مقدمتها معاهدة حرية التجارة. 5. أن تعد قوات محمد علي البرية و البحرية جزء من قوات السلطنة و تكون في خدمة السلطان. 6. إذا رفض محمد علي هذه الشروط يلجأ الحلفاء الموقعون علي المعاهدة إلي استخدام القوة ضده مع التزامهم بحماية عرش السلطان العثماني. ومع إستمرار رفض محمد على للإتفاقية وتسرب أخبار عن قرب إتفاق بينه وبين الباب العالى قامت الدول الغربية بافتعال تمرد فى لبنان، وقامت بريطانيا بارسال قطعها البحرية لقطع خطوط الملاحة بين مصر و الشام، فتساقطت مدن الشام الواحدة تلو الأخري و انقطعت خطوط الإمداد بين مصر و الشام، مما إضطر محمد على للموافقة على المعاهدة. نعلم يقينا أن محمد على كان حاكما مستبدا وإستخدم العنف المفرط لإقامة إمبراطوريته، ولكن نعلم أيضا أن هذا الرجل كان وطنيا صميما وإستطاع من خلال إستنهاضه للشعب المصرى أن يصنع من هذا الوطن دولة عصرية تأخذ بأساليب الحداثة والتطور لتلحق بركب الحضارة وتتفوق على الكثير من الدول الأوروبية خلال عقدين أو ثلاثة من الزمان، وأستحضر هنا قول المؤرخ الكبير "عبد الرحمن الجبرتى" (فلو وفقه الله لشىء من العدالة على ما فيه من العزم والرياسة والشهامة والتدبير والمطاولة لكان اعجوبة زمانه وفريد أوانه)... يتبع
#رياض_حسن_محرم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كوم أمبو .. مستوطنة صهيونية على أرض مصر
-
الدكتور خالد مساعد ..مؤسس أول تنظيم جهادى فى سيناء
-
جين شارب .. الإمبريالية فى أحدث أشكالها
-
المرشد السرى
-
الإخوان والعنف .. صراع وجود
-
السلفية الجهادية فى سيناء
-
إشكالية المادة الثانية
-
متلازمة الإخوان -Ekhwan Syndrome-
-
القطبيون الجدد
-
عن الحسن بن على ..وحقن الدماء
-
لماذا تبدل موقف المصريين من القضية الفلسطينية؟
-
الإخوان وأوهام دولة الخلافة ..(العثمانيون نموذجا)
-
إخوان مصر ..وتكرار النموذج الجزائرى
-
30 يونيو ...صراع بين رأسماليتين
-
اليوم التالى .. Next day--
-
هانى عمار ...ذلك المقاتل العنيد
-
فكرة ربط نهرى النيل والكونغو بين الحقيقة والخيال العلمى
-
جوزيف روزنتال..ذلك الشيوعى التائه
-
تجربة اليسار فى أمريكا اللاتينية
-
من التاريخ الفضائحى للإخوان.. عبد الحكيم عابدين ونساء الجماع
...
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|