|
المقابر الجماعية
عبد الستار نورعلي
شاعر وكاتب وناقد ومترجم
(Abdulsattar Noorali)
الحوار المتمدن-العدد: 4202 - 2013 / 9 / 1 - 11:59
المحور:
الادب والفن
المقابر الجماعية عبد الستار نورعلي
في هذا الزمن المشحون المتأجّج بالحماقات يقفز السنجابُ الأحمق سريعاً فوق شعر الثعلب ليسكنَ في خلايا الرأس.
الرياح المارقة من بين فوهات الصواريخ تتساقط على اسفلت الشوارع الهشة المعبأة برائحة الفقر والخمول، وأسمال الأرغفة المحترقة بنار الحروب، والمعجونة بالغبار وشروى نقير وأجساد المذبوحين.
في هذا الوقت يستمر الصراخُ المحمَّل بالليزر والصواريخ العابرة للقارات، ليقذفَ حِممَ الموت والخراب فوق المنائر ، ويستبيحَ الحمامات والعمامات في وضح النهار.
الأخوة الأعزاء، ذوو النشامة والكرامة والنخوة والقهوة العربية المطبوخة بالهيل المعتّق، يتسارعون متزاحمين في أزقة النعيق ورفع العقائر على مصاريعها .... وآخرون يلطمون على الصدور العاطلة العارية أمواجاً ...... أمواجاً ...... السيوفُ الحادة ذات النصال المسنونة جيداً بمبرد القصاب تهبط سرايا فوق الرؤوس الحليقة مثل طائرات F16 المغيرة على الفلوجة.
الدماء تتفجّر فوق العيون والخدود الشاحبة، ثمناً لشراء الراحة وطرد الروح القلقة. القاماتُ القصيرة والطويلة تتشح بالسواد فيهرب الغربان هلعاً.
السواد ..... السواد ...... في كلِّ مكان، على الوجوه والحيطان، ومن قمة الرأس حتى أخمص القدمين، وعلى الأبواب والجدران المتهالكة.
الخدودُ الشاحبة الغائرة في عظامها، من أثر الجوع والحرمان والدخان والخوف، والغبار الذي يملأ الشوارع المليئة بالمطبات، ومن الغرف المغلقة دون نوافذ، كلُّـها تنذر بموت أكثر درامية من زعيق الديناصورات التي رحلت، وأخرى تنتظر على الأبواب والشبابيك لتتسلّلَ عبر الأعتاب والقضبان إلى غرف النوم الخاوية الباردة .
الأشقاء الكبار مشغولون بالتنقل بالطائرات المكوكية المكيفة بالدفء وبالتبريد، وعلى الفضائيات المولولة الناعقة، وصفحات الصحف المولية أدبارها ، والابتسامات العنقودية على مسرح الكلام المنمّق، من أجل نصب مائدة الوليمة، ليطلق كلُّ واحد قذائفَ اللسان في وجه الآخر بدلَ الملاعق !
كلٌّ يبكي على ليلاه، وليلانا تبكي عليهم.
المدنُ، التي ولولتْ في حضرة المقابر الجماعية وشقّت الصدور، مشغولةٌ بالتحضير لحفر مقابر جديدة، على أرصفة الشوارع والأسواق وأزقة الفقر وأبواب المساجد المحاصرة التي أُنتُـهكتْ زمناً ، واستعادت انتهاكها في نشيج الرايات المرفرفة وسط لهيب الحناجر.
الراياتُ الحُمر والخضر والسود مزوقةٌ بالكلاشينكوفات و"بالعنتريات التي ما قتلت ذبابة"!*
عاشقو الموت الخالد الدائم يتصدرون مواسم الصراخ، في الأزقة التي ألفت واستلذّتْ بمنظر الطيور، وهي تذبح فوق أسلاك الكهرباء، والعصافير التي تشوى على مواقد الشاربين في الأقبية السرية التي لم تكتشف بعد. المشاهدون يستلذون بقرقعة عظامها الرخوة تحت الأسنان المدجّجة بقذائف الرعب .
النسانيسُ الأنيقةُ في الصالات الفخمة خلف محيطات الغزو والدم ترقص طرباً من غناء القذائف، فوق الأعشاش المليئة بأعواد الأشجار الرقيقة الجافة العارية عن الغصون.
أذانُ الفجر يصرخ عالياً.... فلا المصلون وصلوا، ولاالمنارة باقية، ولا الأشقاء قادمون .
العيونُ الحادة، التي تخفي خلفها شجرَ الحماقة والزقوم، نذرتْ نفسَها للموت من أجل المقابر الجماعية الماضية والمقابر اللاحقة والفوضى الضاربة أطنابها في العواصم الكبرى! مدنٌ يستبيحها مَنْ هبَّ ودبَّ، قادماً من زوايا المدن المستباحة الهاربة، والمدن الفاتحة أشداقها لتبتلعَ الأخضر واليابس.
في هذا الزمن الموتور المتلاطم المتقلّب الواقف على قرنٍ واحد للثور الهائج المائج الأعمى، تترنّحُ الأشجارُ تحت وطأة الكلام يميناً وشمالاً ، وتنزلق الطرقاتُ في شعاب الضياع. العروشُ تخفي رؤوسَها، خشيةَ أنْ تتطايرَ تيجانُها من هول حمم البركان وصدوع الزلزالِ العميقة.
"لا يُصلحُ الناسُ فوضى لا سراةَ لهم ولاسراةَ إذا جُهّـالُـهم سادوا" ** فهم يتصادمون بالمناكب العريضة والهزيلة وبالصراخ والعويل ..... المناكبُ العريضة والصاخبة الصوت اختبأتْ تحت جلد الهزال. فتحَتْ أبوابَـها مشرعةً أمام النسر ذي الأسنان الحديدية والألكترونية، وتعرَّتْ دفعةً واحدةً. فلا حجةَ بعد الآن للذي يتعرّى قطعةً..... قطعةً .....
البيوتُ تتفجّر. الشوارع تُحفَـر. المنائرُ تتهاوى. العمائمُ تتطايرُ عن الرؤوس مضمخةً بالدم. ولا من سميع ولا من مجيب ..!
الجلودُ التي تُشوى، والوجوهُ التي تحترق، والسقوفُ والحياطينُ التي تُدكُّ فوق رؤوس أصحابها، هي خمرةٌ في كؤوس القبائل التي ساومتْ في أسواق البيع والشراء .... باعت، ولم تشترِ، ولنْ تشتري !
أما البكاءُ فإرثُ القبيلة التاريخيّ، مثلما المقابرُ الجماعية، والصراخ المدوي، واللطم والتطبير .....
* تضمين من قصيدة نزار قباني: "هوامش على دفتر النكسة" ** تضمين لبيت منْ دالية الشاعر الجاهلي الأفوه الأودي
عبد الستار نورعلي الخميس 2004.04.08
#عبد_الستار_نورعلي (هاشتاغ)
Abdulsattar_Noorali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
غضب
-
يوميات مدينة (4)
-
مونولوج
-
Windows 2000
-
مقاطع شعرية مختارة
-
قصيدة للشاعرة بوديل مالمستن
-
الشاعر ماي تشنغ
-
قصائد لتوماس تيدهولم
-
الشاعر الغجري لايوس رافي
-
يوهانس آنيورو
-
رفقاً بالعظام !
-
من سيرة رفيق الدرب
-
يوميات مدينة/الجزء الثالث
-
سقوط الكلمات المسروقة
-
قرأتُ كثيراً
-
الميناء
-
الزحف
-
آني أمك يا شاكر
-
سيدتي بغداد
-
الساحات ملأى بالخيل وأزهار الشوق
المزيد.....
-
وفاة بطلة مسلسل -لعبة الحبار- Squid Game بعد معاناة مع المرض
...
-
الفلسفة في خدمة الدراما.. استلهام أسطورة سيزيف بين كامو والس
...
-
رابطة المؤلفين الأميركية تطلق مبادرة لحماية الأصالة الأدبية
...
-
توجه حكومي لإطلاق مشروع المدينة الثقافية في عكركوف التاريخية
...
-
السينما والأدب.. فضاءات العلاقة والتأثير والتلقي
-
ملك بريطانيا يتعاون مع -أمازون- لإنتاج فيلم وثائقي
-
مسقط.. برنامج المواسم الثقافية الروسية
-
الملك تشارلز يخرج عن التقاليد بفيلم وثائقي جديد ينقل رسالته
...
-
موسكو ومسقط توقعان بيان إطلاق مهرجان -المواسم الروسية- في سل
...
-
-أجمل كلمة في القاموس-.. -تعريفة- ترامب وتجارة الكلمات بين ل
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|