أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أنطونيوس نبيل - انتحار منفضة سجائر














المزيد.....

انتحار منفضة سجائر


أنطونيوس نبيل

الحوار المتمدن-العدد: 4188 - 2013 / 8 / 18 - 02:35
المحور: الادب والفن
    


1.

أتعجب كثيراً وأنا أسترق النظر إلى الشروخ المتناثرة على الجدران: كيف لا ينسال منها الدمُ.. يتصببُ ظلي عرقاً، يكبو، يسقط أرضاً على ركبتيه الراجفتين، بينما أتظاهر بأنني لستُ في حاجةٍ إلى التخلص من تماسكي.. يدي الهزيلة المعروقة ترقد على موضع قلبي، متوسلةً منه ألا يستمر في الخفقان.. إن كانت خفقاته لم تعُد تؤرق أياً من البشر، فلابد وأنها قد تصيبكِ بالصداع..

حتى وإن أوصدت جميع النوافذ، تأتيني كل ليلة، لترتمي بجواري.. حتماً هناك طريقة ما تستطيعين بها الدخول إلى غرفتي.. عيناكِ الناعستان تدوران -بنعومة ودعة- في محجريهما وتفيضان تحناناً، وعندها لا أملك حيالهما إلا أن أُمرر سبابتي بين جسدكِ الدافئ وجناحكِ الأيمن الصغير، الذي من فرطِ طفولته يرتعش تحرقاً للطيران لا ارتياعاً من الفخاخ المنصوبة.. تلك الفخاخ التي كنت أراقبهم وهم يدفنونها بعناية بين ثنايا وجوههم المتغضنة، ويخفونها بين بتلات الأزهار التي يرسمها الأطفال على شواهد القبور..

تفتحين منقاركِ الدقيق، وكأنك تدعونني لأُعيركِ ما بجوفي من أغنيات.. لسانُكِ الشاحب لحمٌ ينتظر مني أن أحيله صوتاً، وليس في قدرتي سوى أن أضيفَ إلى الخرسِ مزيداً من العصافير..

2.

عصفورتي.. في بدء الزمان، بدأت الأشجار في التذمر، إذ أنها لا تملك أقداماً تستطيع بها الترحال لتلتقطَ ما تبعثر عبر الطرقات من شظايا الأغنيات.. في بدء الزمان، نقّبت الأشجار بين أغصانها لتنتقي لها عكازاً متيناً يُعينها على السير قُدماً، فباء بحثها المحموم بالفشل.. لحظتئذ، تعرفت الأشجار على عجزها.. أدركت أن الجذور التي تمدها بالنسغ اللازم للحياة، ماهي إلا قيود تشدها إلى المزيد من الصمت..

وحيدةً كانت الأشجار..وبرغم أوراقها الناضرة المرصعة بالرحيق، وبرغم الريح الحنون التي تهدهد سباتها، وبرغم معاطف اللحاء التي تقيها شراسة الصقيع، ظلت تحلم بأقدام.. كانت الأقدام هي الحلم المستديم الذي تتخلله فتراتٌ من يقظة لا تحمل لها سوى مذاق الأرض المُر.. في بدء الزمان، وعلى مشارف أحد الشتاءات المكرورة، استفاقت إحدى الأشجار على وخزة ألم.. ظنت أنها تلك الوخزة المعتادة التي يُخلّفها الحلم وراءه.. طفقت تتذكر كل الليال الطويلة التي قضتها محدقةً صوب السماء، وهي تكاد تُقسم بيأسها أنها تلتقط من بين خيوط الضياء الخافت همساتِ النجوم وهي تغني.. طفقت تتذكر لتتناسى، لكن لم تزدها الذكريات سوى مزيداً من لدغات الألم.. فجأة، تشقق اللحاء وانبثق رأسُكِ الصغير.. آه، يا عصفورتي.. يا أقدام الأشجار التي طالما تمنَّتها، يا عكازها الحي، يا جذرها الذي لم تلطخه الأرض بخرسها..

3.

لِمَ تأتيني كل ليلة؟.. أنا موتٌ أكثر مما يكفي جسداً واحداً.. بصمةٌ على طلاء لم يجف بعد.. أنا أبرصٌ يجول في حقول عطشه وجُل ما يخشاه أن يصادفه أحدهم ويقبّله فيبرأ.. الأبرص يبرر وحدته بقبحه، برائحة النتن العابقة بأنفاسه، بأطرافه المتقيحة، لكن كيف سيتمكن من تعليل ما سيلاقيه مجدداً من نبذٍ وازدراء بعد أن يبرأ..

نمرٌ سقط بحفرةٍ عميقة.. مراراً تسلق جوانبها الزلقة.. عبثاً أنشب مخالبه واثباً لأعلى.. والآن كفَّ عن المحاولة.. الآن يلعق جلده بلسانه الخَشِن.. والبقعة التي سيلعقها دون أن تزول –إلى أن يُكمل احتضارُه- ما هي إلا أنا..

عصفورتي.. الظلام ثقيل، آلاف من الأيدي تعاف ملامستي، تنفذ ظلالها عبر أضلعي لتعتصر ما برئتيَّ من أنين.. الظلام ثقيل، وليس أمامي في مجابهته إلا أن أدخن.. آملاً أن دُخاني سيصبح ذات يوم غيمةً في الأفق، يرشقونها بالسهام فتنزف من المطر ما يكفي لغسل وجه رضيعٍ يغفو مبتسماً على ذراع أمه..

4.

عصفورتي.. سيجارتي قاربت الانتهاء، وعوضاً عن كلمات الوداع التي لا أجيدها، سأكافئكِ بمعجزة.. نعم، سأدعكِ تشاهدين معجزتي المحبوبة الوحيدة، التي أقترفها خلسةً بمنأىً عن الأعين، بعيداً حتى عن عينيكِ الورديتين.. فلتنتبهي جيداً، لأنني لن أُعيدها..

ها هو عُقب السيجارة مازال مشتعلاً، مستسلماً بين أناملي.. واحد.. المعجزة على وشك الحدوث.. اثنان.. المعجزة ستمزق كافة الحُجب التي تكتنفها.. ثلاثة.. ها أنذا بطيئاً أطفأته في ذراعي.. أعرف أنك لن تبخسي معجزتي حقها في الدهشة: أنتِ الآن تعلمين أنني لست لاشيء، أنا أحياناً منفضة سجائر..

لن أطرح عليكِ مزيداً من الأسئلة.. لن أسألكِ مجدداً عن الطريقة التي تتمكنين بها من اقتحام غرفتي.. لأنني الآن في ليلتي الأخيرة، أعلم الجواب.. الآن سأنام وحيداً.. وغداً حين يتعثر أحدهم في جثتي على أحد الأرصفة، لن يلثم وجهي البارد.. فقط، ضغطة بأطراف أصابعه على عنقي تُنبئه بأنني لم أعد أخجل من إعلان موتي.. لستُ متيقناً إن كان سيلحظ ما بذراعي من ندوب، ولا إن كان سيسترعي انتباهه ذاك الحرق الضئيل –الطازج- الذي بساعدي.. لكنني أثقُ تمام الثقة أنه سيصرخ ويهرول مبتعداً، عندما يتشقق صدري ويبزغ رأسُكِ الصغير مبللاً بالدماء..



#أنطونيوس_نبيل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رأس المخلص
- الإنجيل كما لم يكتبه المسيح
- المسيح يبصق من جديد
- شذرات بنكهة الفشل المقدس
- على هامش الفشل المقدس
- حُبسة إلهية
- المطرقة أكثر دفئاً من البَرص
- آخر صلوات -إسماعيل أدهم-
- قوة اللامبالاة


المزيد.....




- عائشة القذافي تخص روسيا بفعالية فنية -تجعل القلوب تنبض بشكل ...
- بوتين يتحدث عن أهمية السينما الهندية
- افتتاح مهرجان الموسيقى الروسية السادس في هنغاريا
- صور| بيت المدى ومعهد غوتا يقيمان جلسة فن المصغرات للفنان طلا ...
- -القلم أقوى من المدافع-.. رسالة ناشرين لبنانيين من معرض كتاب ...
- ما الذي كشف عنه التشريح الأولي لجثة ليام باين؟
- زيمبابوي.. قصة روائيي الواتساب وقرائهم الكثر
- مصر.. عرض قطع أثرية تعود لـ700 ألف سنة بالمتحف الكبير (صور) ...
- إعلان الفائزين بجائزة كتارا للرواية العربية في دورتها العاشر ...
- روسيا.. العثور على آثار كنائس كاثوليكية في القرم تعود إلى ال ...


المزيد.....

- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / أحمد محمود أحمد سعيد
- إيقاعات متفردة على هامش روايات الكاتب السيد حافظ / منى عارف
- الخلاص - يا زمن الكلمة... الخوف الكلمة... الموت يا زمن ال ... / السيد حافظ
- والله زمان يامصر من المسرح السياسي تأليف السيد حافظ / السيد حافظ
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل مسرحية "سندريلا و ال ... / مفيدةبودهوس - ريما بلفريطس
- المهاجـــر إلــى الــغــد السيد حافظ خمسون عاما من التجر ... / أحمد محمد الشريف
- مختارات أنخيل غونزاليس مونييز الشعرية / أكد الجبوري


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أنطونيوس نبيل - انتحار منفضة سجائر