|
الاسود يليق بك
رائد الحواري
الحوار المتمدن-العدد: 4181 - 2013 / 8 / 11 - 19:57
المحور:
الادب والفن
أحلام مستغانمي كاتبة رواية محترفة، استطاعت أن تصنع من خلال كلماتها الجميلة عالما قابلا للبحث والتمعن فيه، الرواية كانت محفزا للقارئ العربي لكي يرفع من معدل القراءة لديه، أولا، قدمت روايتها بلغة أدبية تجعل المتلقي يستمتع بالنص، ويتوقف عند العديد من الجمل التي صاغتها الكاتبة بطريقة فنية، ثانيا، استخدامها أسلوبا أدبيا وبلغة اقرب إلى الفلسفة، كانت تحث القارئ على التفكير، إضافة إلى الاستمتاع بما ينهل منها، ومن ثم تكون قد تجاوزت تقديم الأفكار الجاهزة والمباشرة، التي تجعل المتلقي مجرد (تلميذ) يتلقى المعلومات، ثالثا، الأفكار التي طرحتها أحلام في الرواية "الأسود يليق بك" أفكار لم يتم الاتفاق والإجماع عليها من المجتمع، فهي ما زالت في مدار البحث بين المؤيد والرافض لها، وهنا تكمن أهمية الرواية، رابعا، سرد الرواية لأحداث تاريخية معاصرة ـ الجزائر، فترة انتشار الإرهاب، احتلال العراق، المقاومة في لبنان، أحداث حماه عام 1981، تجعل الرواية تتجاوز موضوع الحب الذي يثير المواطن العربي المحروم منه، ومن ثم هي تقدم عمل روائي شامل يتحدث عن العديد من القضايا التي تشكل الهم العربي، فهي رواية عربية بامتياز شكلا ومضمونا، خامسا، تضمنت الرواية العديد من الحكم والأمثال والكلمات التي تشكل تجربة حياة أو تحفز القارئ على التمتع والتوقف عندها، وهذا يجعل من الرواية تتجاوز العربية إلى العالمية لما فيها من أفكار تؤرق الإنسان أينما كان، كما أن أحداثها التي تجري في العديد من البلدان ـ فرنسا النمسا الجزائر سوريا العراق لبنان مصرـ تجعلها عمل أدبي اقرب إلى العالمية من الإقليمية، سادسا، الرواية أعطت المرأة العربية دورا ومكانة رفيعة تنافس فيها المجتمع ألذكوري، من هنا تكون أحلام في عملها ـ كامرأة ـ قد قدمت لنا أنموذج فاعل وحيوي لهذا الجزء من المجتمع، سابعا. ضمن هذه العناصر تستحق أحلام مستغانمي منا أن نتوقف عند روايتها "الأسود يلق بك" لنستكشف عالمها المضطرب.
المرأة في المجتمع ألذكوري
المجتمع العربي مجتمع قامع للمرأة ومحدد لدورها، فمهما وصلت من مركز أو دور، ومهما كانت قدراتها الفكرية والعقلية تبقى أسيرة الفكر ألذكوري، الذي يعتبرها (حرمة) يجب أن تحافظ وان يحفظ شرفها ـ نقطة الدم ـ وهنا لا بد من التذكير بمسألة صراع المرأة العربية والشرف ـ بالمفهوم المجتمع ألذكوري ـ والواجب الإنساني والوطني والاجتماعي، فقد تم طرحها في رواية ليانة بدر في رواية "بوصلة من اجل عباد الشمس" ورواية حميدة نعناع "الوطن في العينين" حيث قدمت كلا منهما أنموذج لأدب الرافض لمسألة (شرف المرأة) التي يختزلها المجتمع بنقطة الدم الأولى فقط، وهنا أكدت أحلام هذا التوجه عند المرأة العربية في روايتها "لقد غير تهديد الأقارب سلم مخاوفي. إن امرأة لا تخشى القتلة، تخاف مجتمعا يتحكم حماة الشرف قي رقابه، ثمة إرهاب معنوي يفوق جرائم الإرهابيين." ص16، هذا الكلمات التي تشكل حقيقة واقع المرأة العربية، فهي مهما تجاوزت الرجال في قوتها وشجاعتها، يعود المجتمع ليضعها في قالب (الحرمة)، المرأة العربية التي تطرح قضيتها وليس الرجل، وهنا تدفعنا الكاتبة التي التوقف عند مطلبها والتفكير فيه، هل فكرة (الحرمة) هي المناسبة لها في واقعنا؟ أم لا بد من تغير هذه النظرة؟. فهي تتجاوز الرجل في الشجاعة ومواجهة الأخطار، فهل هذا الأمر يستوجب علينا تغير موقفنا منها؟. المرأة التي تحارب القتلة والإرهاب لا تقوى على مواجهة المجتمع!، فرغم شراسة وشدة البطش عند هؤلاء القوم اتخذت المرأة موقفا يصعب على الرجال اتخاذه، لكن في المجتمع ألذكوري لا مكان لها فيه. هناك حديث لبطل الرواية (طلال) يقول فيه "ـ الجرأة ليست أن تواجهي الإرهابيين، بل في أن تحاربي نزعتك لقمع نفسك، وإخراس جسدك، وتفخيخ كل الأشياء الجميلة بحروف النهي والرفض" ص134، دعوة صريحة من الرجل ـ الذي يهدف إلى اقتناص فرصته ـ لكي تتحرر المرأة من كل ما يحد من تمتعها بالحياة، الدعوة هنا غير بريئة وغير حيادية، فهي تهدف إلى تحقيق مكاسب شخصية ليس أكثر، ورغم أنها جاءت بشكل مؤيد ومنحاز لتحرر المرأة ألا إنها دعوة ليست في مكانها، من حيث البراءة والتجرد لصالح المرأة. ضمن واقع مجتمع مشبع بفكرة (الحرمة) كان لا بد للمقموع أن يتحدى ويواجه الواقع "وثمة إرهاب آخر كان ينتظرها، مقنعا بالشفقة وبروح الإنسانية. وكل من حاورها من الصحافة الأجنبية أرادها ضحية التقاليد الإسلامية، لا الإرهابيين. خرجت للغناء لكسر القيود التي يكبل بها الرجل العربي المرأة، لا لتتحدى القتلة." ص78، ردت فعل منطقية ومنسجمة مع الواقع، هنا أهمية الفعل، ليس في شكله المجرد ـ غناء ـ الذي هو في نظر المجتمع فعل (غير مناسب للمرأة) فهو رغم ما يشكل من تحدي واختراق لمفاهيم المجتمع، يأتي مضمون ودوافع وحيثيات الفعل ـ الغناء ـ لتجعل منه فعل منسجم مع ما تطمح به المرأة، ولا تجعلنا نقف إلى جانبها في هذا الفعل وحسب بل تدفع بنا لتفهم ظروفها ومن ثم نكون معا على طريق الحالة الجديدة التي تسعى لها المرأة. ولكي تقنعا الكاتبة بموقفها أكثر، تعمدت أن تضمن خطوتها بتحليل سياسي اجتماعي لما يحدث في الجزائر"... ثم ماذا لو كان الجيش هو الذي يقتل الأبرياء.. ثم يقدم نفسه كطوق نجاة فيفضل الناس الطاعون على الكوليرا؟؟! فليكن! الشجاعة هي أن تجازف بقول ما لا يعجب الآخرين. وهي هنا ليست لنشر غسيل الوطن على حبال صوتها. في الجزائر، أدركت على حسابها أن في الحروب لا توجد حقيقة واحدة ولا إرهاب واحد. الإعلام الرسمي الذي راح بداية يبارك تمردها، ويروج لها كنموذج لجزائر الصمود والشجاعة، كان في الواقع يصفي من خلالها حساباته مع الإسلاميين، وسرعان ما تحول إلى تصفية حساباته معها. ... جزائر للقلوب وأخرى للجيوب، وإرهابا سافرا وآخر ملثما، وان كبار اللصوص هم من أنجبوا للوطن القتلة، فاللذين حملوا السلاح ما كانوا يطالبون بالديمقراطية بل بديمقراطية الاختلاس وبحقهم في النهب ما دام لا سارق اقتيد إلى السجن" ص78و79، ما قدمته لنا الكاتبة من تحليل لحالة الإرهاب في الجزائر، يمكننا أن نستخلص منه حقيقة ما يجري في الدول العربية بمسمى (الربيع العربي) فهو في الحقيقة لا يتعدى ما حدث في الجزائر، فهو صورة منسوخة ومكررة ليس أكثر، هذا الفهم والتحليل يضع السلطة والإرهاب في قفص الاتهام، فكلاهما يعمل على مص دماء الوطن والمواطن معا، وهما وجهين لعملة واحدة، الإرهاب نتيجة استحواذ فئة محدودة على مقدرات الوطن، والدولة المتنفذين من خلال (فكرة محاربة الإرهاب) تستمر في قمع واضطهاد الناس وسرقة ثروات الوطن. أن تواجه ـ منفردا وحيدا ـ عدوين يفوقانك عددا وقوةً وفي آناً واحد، من الصعب جدا تحقيق النصر عليهما، لكن مواجهة من هذا النوع تبين الشجاعة الكبيرة والقدرة الخارقة التي يتمتع بها المواجه، هذا ما أقدمت عليه المرأة (الحرمة) " ... منهم من يدعي أن السلطة تهده وآخر أن الإرهاب يطارده. وأنت يطاردك كلاهما.." ص86، الموقف المبدئي يفرض على متخذه ضريبة مضاعفة وباضطراد، سيكون عرضة لكن الأخطار ـ جسدية ومادية ومعنوية ـ هذا إن كان رجلا، فما بالنا إذا تم اتخاذ هذا الموقف من المرأة!، الكاتبة تعطينا صورة البسالة التي تتمتع لها المرأة (الحرمة) فهي إذن تستحق منا أن نعيد النظر في موقفنا منها، لأنها أكثر شجاعة وجرأة، وتتقدمنا في معركة، الموت فيها "اقرب من حبل الوريد". الدعوة لتغير موقف المجتمع العربي من المرأة والمستترة خلف الأحداث الروائية تمثل أهم مسالة فكرية في الرواية، فهنا تم تجاوز المباشرة وأيضا جعلنا نقتنع بضرورة التغير.
المرأة والتماثل مع الواقع العربي
في المجتمع ألذكوري العربي، واقع المرأة، والعلاقة القائمة بين السلطة الأبوية القمعية والمجتمع متماثلة، فهما ـ المرأة والمجتمع ـ يعانيان من مرض المازوشية ويستلذان بحالة التعذيب والألم الذي يمارس من قبل الرجل والسلطة، فكلا منهما أصبح يغرق في لذة الألم بحيث يصعب عليه معرفة عدم سوية حالته، لان الكثرة العددية التي يمارس عليها فعل (الاضطهاد) والزمن الطويل لهذا الفعل جعلا منه حالة عادية لا تستوجب الاستغراب، ومن ثم المقاومة والسعي لتغيره "... كما يحب القط خانقه، وكما تحب الشعوب جلاديها ... إنها في النهاية كالشعوب العربية، حتى وهي تطمح للتحرر، تحن لجلادها، مثلها، تتآمر على نفسها، تخلق أصنامها، تقبل يد خانقها، وتغفر لقاتلها، تواصل تلميع التماثيل بعد سقوطها، تغسلها بالدموع من دم جرائمها" ص308، التناقض في الواقع العربي وواقع المرأة يجعلنا نعي كيفية وحيثية هذا الاستمرار الطويل والثابت لحكم الاستبداد، وأيضا بقاء المرأة ـ رغم الثورة المعرفية والتكنولوجية ـ أسيرة الفكر ألذكوري العربي. فهما متشابهان، يفكران بالتغير والتحرر، ويعيشان في لذة الألم والاضطهاد، هنا نجد حركة متعاكسة ومتناقضة في ذات الوقت، الفكرة التحررية التي تتوق إلى الخروج من الواقع والتمرد عليه، والخوف من الجديد القادم، وكأن الكاتبة تضع القارئ أمام صورته الحقيقية، صورة الواقع الذي تربى عليه فيه، دائما هناك هاجس من الخوف يواكب العقل العربي عند الحديث عن التغير أو حتى نقد الواقع، فأصبح حاله كمن يتلذذ بما يتعاطاه من أفيون ولا يستطيع أن يعيش بدونه. ما يميز هذا الطرح هو الربط الوثيق بين حالة المجتمع المضطهد والمرأة المضطهدة، فكلاهما أنثى (حرمة) يمارس عليهما ـ الرجل والسلطة ـ سطوة القهر والذل، فهما تحت السيادة التي تعلوهما، وهذه السيادة مزدوجة، فعلية تمارس، وأيضا فكرية تحد من قدرات العقل على الانتقال إلى البحث عن مخرج، وهنا تكمن المشكلة.
المواطن والوطن العربي
في جحيم الظلم والتخلف تتشكل مجموعات طفيلية تعمل على شفط كافة الخيرات وتستفرد بها، كما إنها تبذر الشر والخراب والقتل، الذي سيتحول إلى شجرة زقوم والتي لا يمكن اجتثاثها في ذات قرار مكين، تحدثنا البطلة عن علاء الذي كان من المفترض أن يكون زوجها "كان يكره أصحاب البزات وأصحاب اللحى بالتساوي، وقضى عمره مختطفا بينهما بالتناوب، وجد نفسه خطأ في كل تصفية حساب، يحتاج إلى لحيته حينا ليثبت لهؤلاء تقواه، ويحتاج إلى أن يحلقها ليثبت للآخرين براءته، حاجة الضحية إلى دمها ليصدقها القتلى. انتهى به الأمر أن أصبح ضدهما معا. أدرك متأخرا أن اللعبة اكبر مما تبدو. كان المتحكمون يضخمون بعبع الملتحين، يغتالون صغارهم، ويحمون كبارهم الأكثر تطرفا، يحتاجونهم رداء احمر، يلوحون به للشعب حيت ينزل غاضبا كثور هائج في ساحة كوريدا، فيهجم على الرداء وينسى أن عدوا قد يخفي عدوا آخر، فهو يرى الرداء ولا يرى الماتارور الممسك بالرداء وفي اليد اليمنى السهام التي سيطعن بها الثور، وفي اليسرى الغنائم التي سطا عليها. الخيار إذا بين قتلة يزايدون عليك في الدين وبذريعته يجردونك من حريتك.. وآخرين مزايدين عليك في الوطنية، يهبون لنجدنك، فيحمونك مقابل نهب خزينتك" ص70، اللعبة في الوطن تحتاج إلى من يفهما لكي يكون في مأمن، هناك اتفاق غير معلن وغير مبرم بين السماسرة من كلا الطرفين، قد يبدو للوهلة الأولى بأنهما نقيضان، بينهما برزخ لا يلتقيان، لكن الحقيقة هما في توافق واتفاق ـ علني أم غير علني، باقتسام الغنيمة والاشتراك في القتل والخراب، هذا ليس سرا بل حقيقة بينت الأحداث اللاحقة صوابها، فلم يكون هناك سوى توزيع ادوار ليس أكثر، هناك لص وقاتل، وهنا قاتل ولص، هذا ما أخبرتنا به أحلام مستغانمي. العلم بقول بان لكل فعل رد فعل مساوي له في القوة ومعاكس له في الاتجاه، هذه المقولة تنطبق تماما على ما حدث في الجزائر وما يحدث في دول (الربيع العربي)، "عندما عاد من معتقلات الصحراء، أسعدنا لأنهم، بعد خمس أشهر لم نعرف فيها شيئا عنه، اقتنعوا ببراءته وأطلقوا أخيرا سراحه، لكن ما كاد يمر شهرين على إقامته بيننا، حتى جاء من يقنعه بان كل ما حدث له من مصائب هو بسبب ابتعاده عن الإسلام، فلا صلاته ولا صيامه سيشفعان له عند الله إن لم ينصر مجاهديه، لكونه قضى سنتين في العسكرية لخدمة الوطن، ولم يعط من عمره شهرا لخدمة الإسلام، أغروه بالالتحاق بالجبل للإيفاء بدينه ومعالجة الجرحى من الإسلاميين ولو بضعه أسابيع، ذهب علاء دون أن يخبرنا بقراره، ما كان يدري أن الخروج من الجحيم ليس بسهولة دخوله ... ـ استفادوا من حالة إحباطه ومما شاهد في المعتقلات، ليلعبوا بعاطفته. إن لهم قدرة على إقناعك بما شاءوا" ص87 النظام يدفع بالمواطن إلى براثين التنين، فتشتد قوة النيران بما يقدم له من طعام، التنين ومصارعه يتفقان على اشتداد المعركة بينهما، وذلك لتقديم استعراضا أكثر إقناعا وإثارة، فالتلاعب بعقلية المواطن أولا ثم زجه في أتون الجحيم ثانيا،هي لعبة متفق عليها، لعبة الكبار من السماسرة تعمل على تشويه الوطن وتحويل المواطن إلى مسخ، من خلال لعبة المتناقضات، كلاهما يعمل على اقتسام الوطن والاشتراك في قتل المواطن. الشعوذة التي يمارسها المكفرون، والخداع الذي يختفي وراء ستار السلطة ـالحفاظ على الأمن ـ تنكشف في الرواية بعد أن يطبق مبدأ العفو الذي يبدو في ظاهره قدوم الخير وإحلال السلام، وفي باطنه السرقة والحرمان "كل ما حدث إذا على مدى عشر سنوات لم يكن، ليس عليك أن تسأل كيف مات المئتا ألف قتيل، وعلى يد من؟ لعلهم ماتوا في كارثة طبيعية! ... أكبر من جنون الإجرام، يطالبك الوطن الآن بجنون الغفران. بعد واجب التذكير، أصبح المطلوب أن تنسى، لان القاتل هذه المرة جزائري، وليس فرنسيا، لقد عاد من نوبة جنونه أتقى وأكثر وطنية منك، والإرهابيون الذين كانوا يحرقون الأعلام الوطنية أول ما يصلوا إلى القرية ينزلون الآن من الجبال وهم يرفعونها. الذين طال عنفهم حد نبش عظام شهداء الثورة وإحراقها، لأنهم ساهموا بجهادهم في ولادة دولة علمانية، هم الآن يتنافسون على إثبات ولائهم للدولة كي يفوزوا بكرمها" ص197، اللعبة انكشفت، تبين للقاصي والداني بمسرحية الأحداث، فلا جهاد ولا ثورة، ولا كافر ولا زنديق، لكن هناك تقاسم ادوار ومصالح فقط، واللعبة دفع ثمن تذكرتها المواطن، دفعها بدمه ومن ألمه وعذابه وحرمانه من الأمن والسلام، ليس هذا وحسب بل عليه أن يستمر في الدفع أيضا، هناك مستحقات وتوابع إضافية لهذه المسرحية، مشاهدة القتلة يسرحون ويمرحون متحلين بالنعم والامتيازات المادية التي حصلوا عليها بعد قتلهم الناس وإثارة الرعب والهلع بينهم، وحرمان الأم من ابنها، والزوجة من زوجها، والطفل من أبيه، ليس هذه ذروة العبث والاستهتار بعقلية المواطن؟ الدول الوحيدة في العالم التي تكافئ على القتل والسرقة دولنا العربية، هكذا حدث في لبنان بعد اتفاق الطائف، هكذا حدث في العراق بعد الاحتلال، هذا ما تطالب به رام الله غزة بعد الانقسام، هذا ما يدعوا له النظام في سوريا بعد كل ما جرى ويجري فيه من دمار وقتل وتشريد. تقدم لنا الكاتبة كلمة العفو وتضعها في مكان لا يناسبها أبدا، تبدوا هنا مشوه اقرب إلى مسخ أو وحش يتهيأ للانقضاض علينا، فكيف بنا أن نقبل به! أما قيل (أن المؤمن لا يلدغ من جحرا مرتين) فما بالنا نلدغ عشرات المرات! التناقض بين شكل (العفو) ومضمونه، يظهر لنا جليا بتفاصيله الدقيقة، فقد تبن لنا حقيقة اللعبة، ومن يعلبها وكيف يقومون بها، من هنا علينا أن نتجاوز الشكل (العفو) والبحث في جوهره، والذي يعني إزالة كافة العوامل والأسباب التي تعمل على تشكيله في المجتمع، بمعنى أخر إزالة كافة العناصر الفاسدة والمفسدة من النظام، والعمل بنظام يحاسب الكبير قبل الصغير، ويعمل لتحقيق أعلى مقدار من العدالة، وهذا يعني إنهاء دور السماسرة، هنا تكمن أهمية الرواية الفكرية. تتناول الكاتبة سلوك النظام السوري في أحداث حماه عام1981، كتأكيد على لعبة الأنظمة العربية وعلى بطشها، والتي لا تضع محرما أمام مصالحها "لقد عاشت أمها الفاجعة نفسها في سنة 1982 يوم غادرت وهي صبية مع والدتها وأخواتها حماه، لتقيم لدى أخوالها في حلب، ما استطاعوا العيش في بيت ذبح فيه والدهم، وهم مختبئون تحت الأسرة، سمعوا صوته وهو يستجدي قتلته، ثم شهيقه وموته وصوت ارتطام جسده بالأرض، عندما غادروا مخبئهم بعد وقت، كان أرضا وسط بركة دم، رأسيه شبه مفصول عن جسده، ولحيته مخضبة بدمه، كانت لحيته هي شبهته، فقد دخل الجيش إلى حماه لينظفها من الإسلاميين، فمحاها من الوجود. ... ندفن ثلاثين ألف قتيل في بضعة أيام بعضهم دفن الوديعة في جنح الظلام، كان ثمة زحمة موت، لذا لم يحضى الراحلون بدمع كثير، وحدهم الموتى كانوا يمشون في جنازات بعضهم." ص194، مشهد مؤلم جدا، يصور لنا العلاقة القائمة بين النظام والمواطن العربي ـ الضحية والجلاد، الجزار والحمل ـ القتل بدون سبب، ففي تلك الأحدث لم يسأل عن ذنبه انس ولا جان، مدينة مستباحة، كل ما فيها حلال، قال النظام : ـ افعلوا ما شئتم فني اغفر لكم، صورة الإله يهوه الذي من حقه أن ينزل العقاب على كل أعداءه، "لا تبقي فيها نسمة حياة" الصور متماثلة ومكررة في العديد من دول الطوائف العربية. أما في العراق فكان المشهد يأخذ نمطا جديدا ـ شكليا ـ ويعطي ذات المضمون "...كان الله في عون العراقيين، كم دفعوا ثمن وجودهم، لمصادفة جغرافية، على أغنى ارض عربية، لحظة حدوث اكبر عملية سطو تاريخية قام بها بلد لنهب بلد آخر.تصوري، منذ أشهر ونحن نعمل على الإعداد لحفل سنجمع فيه على أقصى حد مليون دولار، إنها اقل من زكاة اصغر لص أنجبه العراق الجديد. لننجوا من طاغية، نستنجد دوما بمحتل، فيستنجد بدوره بقطاع طرق التاريخ ويسلمهم الوطن" ص322، الكاتبة تعمل في روايتها على مبدأ أن الحال العربي واحد، في كل ما يجري فيه، إن كان الفاعل للحدث داخليا أم خارجيا، إن كان حدث هذا الفعل أم سيحدث في المستقبل، دائما الطغاة والسماسرة هم من يتحكم في الوطن، ولن يتركوا أدنى مساحة للعمل النظيف، فدوما ـ الوطن والمواطن ـ يتعرضون للاغتصاب من هذا الطرف أو ذاك، فأين لنا أن نجد ـ وطن ـ بلا اغتصاب أو سماسرة طغاة!. لبنان صاحب أول حالة عربية عانت من هول (التغير) والثورة التي نادت بالمثل والقيم الإنسانية لم يختلف عن غيره من الأنظمة، هو كان مجرد فأر اختبار، نجحت العملية فيه بشكل كامل فكان لا بد من تنفيذها "في لبنان، ما من قضية ألا وتصب في جيب احد. فليعمل المرء إذا لجيبه... بدل أن يموت ليصنع ثراء لصوص القضايا، وأثرياء النضال، المقيمين في القصور والمتنقلين بطائراتهم الخاصة. شرفاء الزمن الجميل، ذهبت بهم الحرب،كما ذهبت بابيه، وقذف البحر بما اعتاد أن يرمي به للشواطئ... أيام الحرب الأهلية كان جاهزا للموت حتى من اجل ملصق على جدار يحمل صورة قائد حزبه أو زعيم طائفته...ثمة حماقة اكبر كأن تموت بالرصاص ابتهاجا بعودة هذا أو إعادة انتخاب ذاك، من دون أن يبدي هذا ولا ذاك حزنه أو أسفه لموتك، لأنك وجدت خطأ لحظة احتفال "الأربعين حرامي" بجلوس "علي بابا" على الكرسي...انشق عن حزب "النضال" وانخرط في حزب الحياة. ما عاد له من وولاء ألا لها"84و85، لا تكمن المصيبة بقتل الناس والاتجار بالقيم والمبادئ وحسب بل تعدى ذلك إلى تكسير كل ما تبقي، بحيث لم ولن يعود احد صالح للاستعمال ـ النضال ـ ابد الدهر، في الحياة هناك من يسقط ـ قتيلا أو مستسلما أو كافرا ـ لكن سقوط الجميع بهذه الأشكال لن يبقي من يكمل المسير، وهنا تكمن مشكلة حركة التحرر العربية، عدم وجود روافد مؤمنة، العديد من المتبقين يبحثون عن مصالحهم ومستفيدون من حالة الحزب أو الطائفة أو المؤسسة أو الدولة، لغة المصلح والاستحواذ هي الطاغية عند الأفراد والجماعة، فمن يأتي بالتغير إذن! الكاتبة استطاعت أن تنجح في طرح هم المواطن العربي متجاوزة القطرية إلى القومية ـ وهذا يحسب لها ـ فبقاء العناصر اللاعبة فقط مقتصرة على طرفين كلاهما مرتزق يمارس القتل والخراب، ولا يعني له الوطن أكثر من مجرد ـ مكان للنهب والقتل ـ تكون قد طرحت أهم مشكلة يعاني منها الوطن والمواطن، وكأنها هنا تقول لحركات التحرر العربية أما آن لكم أن تستفيقوا من غفوتكم، فهناك ما زال الطغاة واللصوص يتحكمون، وما زالت الشعوب تذبح وتعذب.
الغناء والموسيقى العربية
الرواية تتحدث عن فتاة تم اغتيال والدها فتأخذ دوره وتبدأ العمل في الغناء كرد فعلا على الحادث، وهناك عامل مساعد على إقدامها على هذا الفعل هو تأثرها بوالدها الذي ترك فيها حب الغناء، وضمن هذا الفعل الإنساني تقدم لنا أحلام مستغانمي بطلتها الباحثة عن انتقامها من القتلة واثبات ذاتها كامرأة من حقها أن تأخذ دورا مؤثرا في الأحداث. تعطي الكاتبة شاهدا حيا على أهمية الغناء فتقول عن سهى بشارة المقاومة للاحتلال الإسرائيلي "ـ ذات يوم ساق الإسرائيليون سهى بشارة بطلة المقاومة اللبنانية إلى ساحة الإعدام .. أوهموها أنهم سيعدمونها، قيدوا يديها ورجليها وصوبوا فوهة المسدس إلى رأسها وسألوها عن أمنيتها الأخيرة في الحياة. ردت " أريد أن اغني" وراح صوتها يترنم بموال من العتابا الجبلية " هيهات يا بو الزلف عيني يا مولي محلا الهوى والهنا والعيشة بحرية" أشبعوها ضربا وأعادوا بها إلى الزنزانة. بلى بإمكان من لا يمتلك ألا حباله الصوتية أن يلف الحبل حول عنق قاتله، يكفي أن يغني، فلا قوة تستطيع شيئا ضد من قرر أن يواجه الموت بالغناء ... عندما اغتال الإرهابيون الشاب حسني، وقطف زهرة صوته، ما توقعوا أن يصعد شقيقه إلى المنصة ليثأر لدم أخيه بمواصلة أداء أغانيه أمام جثمانيه، أربكهم أن يواجهوا اعزل ألا من حنجرته" ص78 كل من يعمل على التخفيف عن المواطن ويعطيه دفعة إلى الأمام مطلوب أن ينهي دوره حالا، أما بإقصائه نهائيا، أو بتحول وتجير عمله لصالح السماسرة، الحالة الأولى تمثل بشاعة الاحتلال بمحاربته للفعل الإنساني الخلاق، وفي الحالة الثانية كان الجهل هو العدو لهذا الفعل الإنساني، وعندما أعطتنا الكاتبة الحدثين متتابعين كانت تريدنا أن نعرف بان الاحتلال والجهل عدوين لكل ما هو إنساني ولا يختلفان أبدا، ويكمل أحدهما الآخر ـ إبقاء الناس بدون الرفاهية أو فرح ـ
العلاقة بين الآلة الموسيقية والإنسان
قدمت لنا الكاتبة صورة فنية رائعة عن والد البطلة الذي تم اغتياله وهو يغني مع عوده، يبدى لنا المشهد ـ الأب والعود ـ ككائنين بشريين يتنافسان على التضحية، كلا منهما يفتدي الآخر، فلم يكن العود مجرد آلة صماء بل هي كائن حي "حضرتها فكرة إخفاء العود. ربما عاد احدهم لكسره أو مواصلة إطلاق النار عليه، فلعل رصاصة واحدة لا تكفي. ينبغي إفراغ مسدس كامل في تلك الآلة الشيطانية. كان العود قد اقتسم الرصاص مع سيده، كما يقتسم حصان النيران مع صاحبه في المعركة، وكما يعود حصان جريح حاملا جثة صاحبه، عاد العود إلى البيت، معلنا موت من ظل رفيقه على مدى ثلاثين سنة، منذ أيام حلب يوم قصد أبوها سوريا لتعلم الموسيقى فكان أول عود اقتناه. من الأرجح أن يكون أبوها احتمى بالعود، أو أن العود حاول أن يفديه، ويرد عنه الرصاص، فما استطاع بصدره الخشبي أن يتلقى عنه سوى رصاصة واحدة" ص153، التوحد بين الإنسان وآلته الموسيقية يشكل ذلك الانسجام ما بين القول والفعل، الذي يفتقده العديد من المنظرين، افتقادهم لهذا الأمر جعلهم يحنقون على من يقوم به، ومن هنا كان لا بد من إنهاء هذا الانسجام ليبقى صوتهم النشاز وحده المجلل في الساحات. القاتل لا يريد أن يرى غير انتهازيته ولا يرد أن يرى أي فعل إنساني، فكتم الأصوات وإخراسها الطريقة الأسهل للاستمرار في هيمنته على البقية. فكرة القتل وإقصاء الآخر بإطلاق النار عليه فكرة ليس من السهل الإقدام عليها، فهي تعني إنهاء حياة إنسان، لكن استطاع البعض من خلال غسل الأدمغة بالفكر التكفير أولا، وسلوك النظام الفاسد ثانيا، أن يجعل القتل كشرب سيجارة، ومع الممارسة اخذ القتل شكل العادة، الإدمان على فعل لا يمكن الاستغناء عنه، فعندما تكلمت الكاتبة عن العود وأعطته صفات بشرية، كانت تريدنا أن نستنتج بان الآلة أكثر إنسانية من هؤلاء التكفيريين.
صورة رجال الدين
الحديث عن الوضع في الجزائر تحديدا، يتناول رجال الدين الذين كفروا المجتمع وكفروا به، فهم بفكرهم التكفيري قاموا بأعمال لم يقدم بها ألا العدو المحتل، من هنا نشروا القتل والخوف والهلع بين الناس، "... وكل دم مستباح، حتى دم الأقارب والجيران، ما دام القاتل على قناعة انه يقتل بيد الله" ص 153، من خلال هذه العبارة يتشكل لدينا فكرة واضحة عن طريقة التفكير التي تجعل من الدم الإنساني ارخص الأشياء، فالله الذي يؤمن به يبدو عندهم هو الذي يمنحهم هذا الحق وهذا الترخيص، فالمشكلة أن الفكر الدين إذا اخذ بطريقة خاطئة يكون وبال على الأمة، فعملة قتل الإنسان من اشد الأمور حساسية في الدين فكيف يتم التعامل معها وكأنها فعل محمود وليس مذموم! المشهد السابق يعطي صورة التطرف التكفيري عند البعض، فيتحولون إلى قتلة، وهناك صورة أخرى عن الأقارب والأهل الذين يحملون الفكر المنحرف والخاطئ للدين "العود كان أخاها في اليتم.. فلمن تتركه؟ لعمها الذي يرى فيه أداة شيطانية قد يكسرها ليكسب ثوابا؟" ص152، الصورة تبدو اقل تطرفا من الأولى، لكنها في حقيقة الأمر اشد هولا منها، عدم فهم العلاقة القائمة بين العود والأخ والمقتول وما أصبح يشكل العود بعد حادثة القتل للعائلة، يعد جهلا قاتلا، صب حقده على العود متجاهلا القتلة الذين قتلوا الأب يعد جريمة بحق العدالة، ويبن عقم وضحالة التفكير عند رجال الدين، الذين يهتمون بالشكل على حساب الجوهر، فمن المفترض أن يكون العود هو الذكرى المتبقية من مخلفات العطاء الذي قدمه الأب القتيل، لكن في حالة التفكير المجتزئة والناقصة يستمر فعل القتل ليستكمل الموت والقتل كل ما فيه حياة، حتى لو كان آلة صماء. الكاتبة تضيف صورة أخرى لطريقة تفكير وعمل المتدينين شكليا والمتشيطنين فعليا، فتقول عن احدهم الذي كان معجب بها وأرادها لنفسه فقط، ولم يأخذ برغباتها، ولم يرعي مشاعرها ومشاعر الآخر الذي أحبها، فعمل بفكرة شيطانية أدت بحبيبها علاء إلى براثين الموت "فقد جاء أحدهم وقال لها شامتا "ما خليتكش تفرحي بيه" لاحقا فهمت أنه وشى به زورا حتى يتم اعتقاله أيضا، كان الشاب يحبها ولا يريد أثناء وجوده في السجن أن يتركها لغيره" ص95 الفكر الاستحواذي لا يفكر ولا يعمل إلا لذاته فقط، لا يهتم بالآخر مطلقا، فيسعى بكل الطرق والوسائل إلى الانتقام من ذاته أولا قبل أن ينتقم من الآخرين، فعملة الوشاية الكاذبة بحق علاء تشكل طعنة في قلب ذاك الشاب قبل أن تصل إلى علاء، ففقدانه احترام الناس وزجهم زورا وبهتانا إلى الهلاك، يعد جريمة بحق الذات والآخرين معا، وتظهر حجم وقدرة الشيطان الذي تشكل داخل تلك النفس الأمارة بالسوء،
المرأة والرجل والحب
موضوع الرواية في الأساس هو الحب المثير للمرأة وللرجل معا، المرأة التي قررت أن تواجه القتلة، ومن يقف وراءهم ومن عمل على زجهم لفكر التكفير، ومن يعمل على تغذيهم بالرجال والسلاح، والرجل الذي فقد قضيته، اصحب يرى في المرأة التي تحمل قضية، موضوع إعجاب ويمكن أن يكون حسدا في العقل الباطن. في زمن أصبح المنتمي في يشكل حالة من القدسية النادرة، فعل غير متوفر إلا عند البعض فقط، ويمكن أن يكون دوافع الرجل المتنفذ، هو مساواة المرأة المؤمنة بقضيتها به هو الكافر بكل القضايا الوطنية والقومية، لكي تتساوى معه في الكفر، هذه الفكرة الأساسية في الرواية التي تدور أحداثها في العديد من ألاماكن، الجزائر لبنان سوريا مصر العراق فرنسا النمسا، لكن كانت فرنسا تحديدا هي المكان الذي يلتقي فيه العاشقين، وهو الملاذ الأهم بالنسبة لهما. تعطينا الرواية صورة الرجل العربي المكسور داخليا، الذي يستطاع أن يشتري العالم بماله من ثم هو قادر على شراء أو إغواء الفتاة التي تعد أفقر من أن تستطيع أن تواجه طغيان ماله وسطوته، فالرجل العربي الذي أخذت المرأة منه مساحة كبيرة من التفكير لما تشكله من عقدة (الحرمان) يبدأ العمل كصياد ماهر جدا متقن لعمله ويعرف كافة التفاصيل عن طريقة الصيد المثلى، لكنه قبيل أن ينقض على طريدته يأخذ بشرب النبيذ الفرنسي فتبدأ عقدته وعيبه الذي يخفيه بالظهور بشكل سافر للمرأة، فتفلت من الشباك ويبقى هو أسير لفكرة الحرمان ـ قضية إنسانية، المرأة والجنس ـ إذن المرأة هي التي تنتصر على الرجل أولا ثم على المجتمع ثانيا، وكأن الكاتبة في روايتها "الأسود يليق بك" تنهي عصر المجتمع ألذكوري وتفتح الباب مشرعا لعصر المجتمع الأنوثة، الذي كان منتصرا في كافة المواجهات، إن كانت شخصية أم وطنية أم قومية أم إنسانية، بينما كان الرجل هو الطرف المهزوم، هزمته المرأة الفقيرة بكل شيء، في الحب وفي حمل القضية.
الفكر المازوشي في الرواية
المشكلة الكبرى عند العقل العربي تكمن في التعامل مع الأحداث والأفكار بشكل مقدس فهي غير قابلة للنقاش أو حتى التفكير فيها، ويقدم على انه خير وفيه الفائدة للفرد وللمجتمع معا، أحلام مستغانمي رغم ما تملك من فكر حر تقع في جحيم الفكر المازوشي، فهناك العديد من الأفكار والمقولات التي تبين عقم التفكير عند العربي دون أن يعي " وحده فاقد الحب جدير بأن يغنيه.. الفن العظيم كالحب الكبير يتغذى من الحرمان" ص33، ترسخ فكر المازوشي في العقل العربي، جعل من فكرة التعذيب والآلام مسألة نبيلة وتخلق الأشياء الجميلة، فهنا يتم طرح تلازم الإبداع مع حالة الحرمان، قد يبدو هذا حقيقة فعليا، لكن أليس من الممكن أن يكون هناك إبداع بوجود حالة سوية، هذا إذا أردنا أن نتجنب ذكر حالة خالقة ومنمية للإبداع خارج فكرة الحرمان. "كل ما يأتي على عجل يمض سريعا، وكل ما نكتسبه بسرعة نخسره بسهولة، هو بلغ من الحكمة عمرا، أصبحت فيه متعة الطريق تفوق متعة الوصول، وانتظار الأشياء أكثر شهوة من زهو امتلاكها" ص44، تكرر الكاتبة ـ دون وعي منها ـ فكرة عدم حق الإنسان العربي بان يكون له حياة رغدة بعيدة عن فكرة الشقاء والتعب التي قدمتها التوراة عن آدم وحواء عندما أكلا من الثمرة المحرمة، فهي تكرر فكرة العذاب والشقاء الملازمة للإنسان أينما حل وحيثما كان، فكرة الحرمان وإعطاء فعل الشقاء والتعب صفة حميدة ليس دائما هي صحيحة، هناك العديد من المجتمعات التي تعطي الرفاهية والسعادة لأفرادها ودون أن يكون ذاك ثرا سلبيا على المجتمع أو الفرد، لكن انغماس العقل العربي بفكرة العذاب والشقاء، والتي لها جذور منذ أن كانت هناك طقوس عبادة الإله تموز والإله بعل، وجاء عذاب السيد المسيح (وصلبه) والاضطهاد الذي عاشه أتباعه من بعده، ثم الخلاص من هذه المرحلة والتمكن والوصول إلى المركز الذي يمنح معتنقي المسيحية الامتيازات،وتكرار ذاك في سيرة النبي محمد(ص) وأصحابه، جعل فكرة العذاب والشقاء فكرة أصيلة عند العربي لا يمكن له تجاوزها، فعامل التاريخ والدين والفكر والاجتماع اجتمعت لكي تبقي حالة الشقاء والعذاب مسألة محمودة وطبيعية. " سعادتها كانت دائما سريعة العطب، كأجنحة الفراشات، كلما حاولت الإمساك بألوانها، انتهت بهجتها غبارا بين أصابعها" ص98، العديد من الأفكار التي تطرحها الكاتبة تشكل جزء من الحقيقة عند العربي تحديدا، لكنها فكرة مستهجنة عند المجتمعات الأخرى، وذلك أن التنعم بالحياة هي حالة طبيعية، ومن الشواذ خلق منغصات لهذه الحياة، لكننا نحن متشبثين بفكرة المازوشية التي لا ننفك أن نحمدها جاعلين منها حدثا مقدسا، لا يمكننا إلا أن نذكرها تعبدا، وأيضا كجزء أساسيا من الحياة. " الأسرار هي ما يساعدنا على العيش.كم يخسر من لا سر له" ص129، نجد هنا الاستمرار في الضغط على الذات، فيجب علينا أن نكون كتومين أمام الآخرين، لنتجنب الحسد أو اللوم أو لعدم ثقتنا بهم، فكل هذه الحالات تشكل عامل ضغط على النفس، وتظهر عدم الانسجام بين المواطن العربي ومحيطه الذي يعيش فيه، فإذا كانت الحياة على هذه الشاكلة فكيف سيكون التفكير بشكل بعيد عن الضغط! " الحب انسكاب في الآخر.. وأنا لا اعرف كيف أنسكب في كأس فاخرة إلى هذا الحد" ص194، لندقق في هذه الكلمات، لكي لنعرف أن العقل العربي يمتنع ـ بإرادته ـ ويقمع ذاته وذلك لأن فكرة اللذة والتمتع عنده (محرمة) يحيطها العديد من المنغصات الكامنة في داخله، فقد تعود على قمع الذات التي يجب أن تقمع وبشدة. الفكرة البشعة التي تدفع العقل العربي إلى الابتعاد عن الفرح فهو المحرم (التابو) الذي لا يمكن لأي عاقل الإقدام علبه، فحتى لو أردنا أن نحصل عليه علينا الاقتصاد فيه، وذلك لأن كثرته تتناقض مع التركيبة الفكرية وتشكل ـ ممارسته ـ حالة غير سوية من منظور اجتماعي. " الحب الكبير يولد في حياء الغموض" ص218، استمرارا في تكرار فكرة الحرمان تجعل أهم فعل إنساني ـ الحب ـ يجب أن يسوده العتمة، القريبة جدا من فكرة الغموض، فهنا التلاعب بالالفاظ لا يعني عدم انحيازها للاختفاء في ـ ظلام ـ يمكن أن يكون دامسا، فالعقل العربي مشبع وينضح سواد، ويحارب الضوء وبياض الفضاء، إذا تمعنا في هذه الجملة نجد التركيبة المشوه للطريقة تفكير العقل عند العربي، فهو حيثما كان مربوط بفكرة الحرمان المقدسة، ومناهض لكل أشكال الخلاص من الستائر والاختفاء خلفها، فهي يستمتع بما يقوم به، بدلا من شعوره بالأم والإثم نجده فخورا شامخا، فيا له من عقل! كل مرة، ينتابها حزن زهرة برية تحمل إثم دمها، وذلك الشعور بالذنب الذي يرافق كل متعة" ص220، التركيبة المعقدة لطريقة التفكير العقل العربي، تجعله مستديم لحالة الانجرار وراء العذاب، فلا توجد متعة أو لذة كاملة، وكأن المنغصات هي التحلية ويجب أن تأخذ مع الأكل أو بعده مباشرة. من خلال كلمات (حزن، إثم دمها، الشعور بالذنب) يتبين لنا انتقال فكر ـ الحرمان ـ الذي من المفترض أن يكون داخل الدماغ ـ إلى الألفاظ، أي إلى فعل اجتماعي يساهم في استمرار وتطوير حالة التلذذ بالحرمان، فعمليا ليس من السهل تحويل الفكر إلى لغة، لكن الطبيعة التي تشكل منها وفيها العقل العربي جعلت منه متغذي ومغذي في آنا واحد، فلا يمكن له أن يتحرر مما هو فيه، ألا إذا خرج من موطنه. "لعلى امرأة عربية تحزن حين يجب أن تفرحن لأنها ما اعتادت السعادة. ـ كلما أحبت امرأة رجلا تمنت لو كانت عذراء. لكنها عندما تكون عذراء تحزن لأنها لا تملك جسدها" ص222، التأكيد على حالة التناقض في العقلية العربية تكمن هنا بكل جلاء "تحزن، ما اعتادت السعادة" الكلمات تظهر كيفية التركيبة المبنية على عناصر متناقضة، فهنا طبيعة التركيب الذهني مبنية على المتناقضات ـ الفرح والحزن ـ لا يمكن لأن يكون الفرح وحده، لا بد من وجود العامل المكون له ـ الحزن ـ هل هناك قوم يفكرون بهذه العقلية؟ هل هناك فكر أكثر عقما من الفكر العربي؟. الجملة الثانية، أيضا تجعلنا نتوقف عندها، إذا كل العربي يتذكر الجوع وهو يأكل وفي حالة الشبع، وإذا جاع يتذكر الشبع، لعبة القط والفأر هي الطريقة الوحيدة التي يعمل بها العقل العربي، فهو مستديم التفكير بالعناصر المتناقضة، وليس له إلا أن يعمل ضمن المتناقضات، من هنا نجده في ديمومة البحث عن المفقودات، رغم وجودها في كل عملية تفكير يقوم بها. المرأة العربية لأكثر عقما في تفكيرها من الرجل، وذلك لتعرضها لاضطهادين، منها نجد اضطرابها مزدوج، فهي اضعف من التصرف بجسدها، واضعف من مواجهة العمل لتمتع بحياتها، فتبقى أسيرة بين الجنة والنار، لا هي في الجنة الزوجية، ولا في نار الحرية والتجرد من الأفكار البائدة، حالة التعقيد والتركيب المزدوج وضع المرأة العربية. "عليها ألا تنفضح بسعادتها ولا بجوعها الدائم إليه. الشبع بداية الجوع، وهي تحتاج إليه حاجة أنثى اكتشفت جسدها لتوها" ص227، إذن الكاتبة لا تستطيع التخلي عن الحرمان والألم مطلقا، أينما وضعت تتحدث عن ملازمة العذاب والحرمان للمتعة والفرح، حالة من المستحيل تجاوزها في أي حدث في الرواية، هي ضعيف جدا بحيث لا تستطيع الاختيار أيضا، وذلك بسبب عقم التفكير لديها، ولتمتعها بلذة الحرمان، فأصبح العذاب والحرمان يشكلان المتعة الوحيدة التي لا تفارقها، من هنا ستنتهي الرواية دون تتخلى عن معتقدها بحصر الشرف بنقطة الدم الأولى. "كان قلبها يأخذ الكلمة عنوة، ويعترف بأته ما زال يحبه، كما "يحب القط خانقه" وكما تحب الشعوب جلاديها. إنها في النهاية كالشعوب العربية، حتى وهي تطمح للتحرر، وتحن لجلادها، مثلها، تتآمر على نفسها، وتخلق أصنامها، وتقبل يد خانقها، وتغفر لقاتلها، وتواصل تلميع التماثيل بعد السقوط، تغسلها بالدموع من دم جرائمها" ص308، هنا كشفت لنا أحلام مستغانمي الفكرة التي تناولها البحث، وكأنها تريدنا أن نتحرر من هذه الطريقة في التفكير، ومن ثم الانتقال إلى فعل أكثر اتزانا ـ اجتماعيا وفرديا ـ لكي يمكننا أن نكون ذاتنا الجديدة المنسحبة تماما من متخلفات العذاب والمازوشية، انتهى هذا البحث باعتراف كاتبه بالانجرار وراء المزاوجة في المشاعر ومن ثم في العمل، وطبيعيا في التفكير.
الحكم والأقوال المأثورة ما يميز أعمال أحلام مستغانمي تمكنها من استخدام الحكم والأمثال التي تجعل المتلقي يتوقف عندها، متمعنا في معانيها، فتجعل منه مفكرا بالإضافة إلى كونه متلقيا، "العنوسة قضية نسبية. بإمكان فتاة أن تتزوج وتنجب وتبقى رغم ذلك في أعماقها عانسا، وردة تتساقط أوراقها في بيت الزوجية" 22 فكرة الشكل والمضمون والاختلاف بينهما مسألة في غاية الأهمية، فمن المشاكل التي يعاني منها العقل العربي الاهتمام بالشكل على حساب الجوهر، فكما كان شكل (العفو) يحمل معنى القمع واستمرار نهج السماسرة، يبدو لنا فعل الزواج ـ المحمود شرعا وعرفا ـ في حقيقته مذموم من المرأة، التي لا يترك لها أي مساحة من إثبات الذات خارج سجن البيت وقمع السجان الزوج.
"الكرم يغطي العيوب ... هم سلاطين بما وهبوا لا بما كسبوا" ص62، فكرة الكرم تحمل النبل الذي يعطي الآخرين صورة مثلى عن السلوك الجيد، فهنا تم التذكير بنتائج هذا الفعل النبيل علينا أولا قبل الآخرين، فعندما نكرم نجنب ذاتنا من أن يذكرنا الآخرين بالسوء، كما نكون لأنفسنا مكانة رفيعة، إضافة إلى انعكاس ذلك على المجتمع والأفراد بصورة إيجابية. " لا تحاول أن تجعل ملا بسك أغلى ما فيك حتى لا تجد نفسك يوما أرخص مما ترتديه" ص186، فكرة الشكل والمضمون تعود من جديد إلى الواجهة، فتدعو إلى الأخذ بالشكل لكن ليس بالمطلق، وتبقي فكرة المضمون هي الأهم " إن الذين ترينهم في الأمام لاهثين دوما خلف الأشياء ليسوا السادة بل الكلاب. السادة لا يلهثون خلف شيء بل تأتيهم الأشياء لاهثة" ص272، صورة تبين كيف يجب أن يكون الإنسان الذي يحترم ذاته، فهو اكبر من السعي وراء أوهام الثراء المستديم، عليه تقدير الأمور جيدا، ويتعفف عن الانجرار وراء الثورة المجردة، فعله الاستمتاع بالحياة وبما يملك وان لا يكون حارس للمال. "لا تعاشر ثريا، فإن سايرته في الإنفاق أضرك، وأن أنفق عليك أذلك" ص281، في مجتمع المال هو احد الأسياد فيه، لا بد من الحذر في الاقتراب من أصحابه، فهم يشكلون خطر مادي، في حالة الإنفاق، ومعنوي في حالة عدمه، يحث يكون الذل والانكسار احد أهم نتائج التعامل مع أصحاب الثراء. "اكتشفت أن السعادة هي أن تملك مشروعا، أما العافية، فهي أن تضحك من القلب" ص324 التلازم بين السعادة والعمل وجد مع بدية نمو الإنسان، ففي بداية الحبو وفي أول وقوف له ثم المشي، بداية النطق وعند أول كلمة، وعند تعلم القراءة والكتابة، ثم الانتقال إلى بقية مسارب الحياة، كلها تشكل حالة من الفرح والسعادة، ودليل الصحة ـ النفسية والجسدية ـ الضحك دون منغصات، فكرة بسيطة غير معقدة عن أسلوب الحياة السهل والناجح.
#رائد_الحواري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إنتقائية التاريخ
-
العشيرة العربية
-
ثروة الإيمان
-
العقل العربي والاحتكام للنص
-
طيور الحذر وتشكيل النص
-
إنسان
-
محاضر
-
مكان
-
صفوف الحياة
-
الضياع
-
عالية ممحدوح وتقليد الذات
-
واسيني الأعرج في بلده فلسطين
-
كيف سقينا الفولاذ
-
مشكلة العقل العربي
-
أبن تيمية والتعددية الفكرية والنذهبية
-
الجيل الرابع من الحروب ودول الطوائف العربية
-
نهج الاخوان
-
رباعية إسماعيل فهد إسماعيل
-
الشرق والغرب عند توفيق الحكيم
-
العامة في يوليوس قيصر والعرب الآن
المزيد.....
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
-
-مأساة خلف الكواليس- .. الكشف عن سبب وفاة -طرزان-
-
-موجز تاريخ الحرب- كما يسطره المؤرخ العسكري غوين داير
-
شاهد ما حدث للمثل الكوميدي جاي لينو بعد سقوطه من أعلى تلة
-
حرب الانتقام.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 171 مترجمة على موقع
...
-
تركيا.. اكتشاف تميمة تشير إلى قصة محظورة عن النبي سليمان وهو
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|