وليد يوسف عطو
الحوار المتمدن-العدد: 4180 - 2013 / 8 / 10 - 12:51
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
(ان المجتمعات التي نسميها اليوم متخلفة ليست هي المسؤولة ذاتيا في المقام الاول عن تخلفها )...
عالم الا نثروبولوجيا كلود ليفي شتراوس
يكتب كلود ليفي شتراوس في كتابه ( مقالات في الاناسة ), اختارها ونقلها الى العربية د . حسن قبيسي – الناشر : دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع – بيروت – لبنان – 2008
كانت مشكلة الانقطاعات الثقافية قد طرحت على الوعي الغربي بصورة مفاجئة في القرن السادس عشر , ابان اكتشاف العالم الجديد . لكن المشكلة وقتها كانت تقتصر على احتمالين بسيطين : اما ان يكون الاهالي الامريكيون بشرا ( اي الهنود الحمر ) , وعليهم عندئذ ان ينخرطوا ضمن الحضارة المسيحية بالتي هي احسن , او بالتي هي اسوا , واما ان تكون الصفة البشرية منزوعة عنهم , فينتمون والحالة هذه الى الشرط الحيواني .
كان ينبغي انتظار القرن الثامن عشر حتى تطرح هذه المشكلة بصيغ تاريخية واجتماعية حقة . كما يشير شتراوس الى ان جميع المؤلفين يتفقون على المقدمات العامة ,اي على جواز مقارنة المجتمعات التي نسميها اليوم بدائية , بالحضارة الغربية .
في كتابه ( دروس في الفلسفة الوضعية ) ينتقد اوغست كونت مخاطر النظرية الاحدية للنمو الاجتماعي والثقافي . فيقول انه ينبغي دراسة النمو بوصفه ميزة مخصوصة من ميزات الحضارة الغربية . على ان يعمد الدارس فيما بعد الى تكييف النتائج التي يحصل عليها مع عملية تغيير تتم من الخارج وتتناول مجتمعات مختلفة .
اما الماركسية , فتؤيد هذه الخصوصية للتطورات المخصوصة :
ان من يريد ارجاع الاقتصاد السياسي لبلاد ارض النار والاقتصاد السياسي لانكلترا الراهنة الى نفس القوانين , لايقدم بالطبع الا بالاعراب عن ابسط الافكار المبتذلة . ( انجلز : انتي دورنغ ) .
واذ تتفق الماركسية مع الوضعية حول هذه النقطة , فهي ترى في النمو حالة جوانية من خصائص الحضارة الغربية : ( فالجماعات البدائية القديمة تستطيع ان تبقى على قيد الحياة الافا من السنين قبل ان تولد التجارة مع العالم الخارجي .فروقات في الثراء داخلها , تؤدي الى انحلالها ( انجلز : انتي دورنغ ) .
لكن الفكر الماركسي بحسب شتراوس جاء بنقطتين جديدتين لهما اهمية رئيسية . فهو في المقام الاول يسجل للحضارات البدائية القديمة فضل تلك الاكتشافات التي لم يكن النمو الغربي معقولا بدونها .
ان ماركس بحسب شتراوس يتناول المنظور الذي تعاين من خلاله , عادة , عملية التصنيع والنمو فيقلبه راسا على عقب . فهو يرى ان التصنيع ليس ظاهرة مستقلة بذاتها ينبغي ان يؤتى بها من الخارج ليصار الى ادخالها في صلب حضارات غافلة خاملة . بل على العكس .فالتصنيع كناية عن وظيفة , وعن نتيجة غير مباشرة , تلعب دورها كشرط من شروط المجتمعات المسماة ( بدائية ) , او على الاصح , كشرط من شروط العلاقة التاريخية بين هذه المجتمعات والغرب .
ان مشكلة الماركسية الاساسية تقوم بحسب شتراوس على معرفة كيف ان العمل يولد قيمة زائدة , ولماذا هو يولدها ؟. ويرى شتراوس ان الدارسين لم يشيروا بما فيه الكفاية الى ان جواب ماركس على هذه المشكلة يرتدي طابعا انسانيا .فالبشرية البدائية كانت قليلة العدد بحيث انها كانت لاتقيم الا في تلك المناطق من العالم التي كانت ظروفها الطبيعية تؤمن لها حصيلة ايجابية , قياسا على العمل المبذول فيها . من ناحية ثانية ان اقامة علاقة معينة بين القيمة الزائدة والعمل بحيث تضاف الاولى دائما على الثاني , هي خاصية جوانية ملازمة للثقافة . اما استغلال الا نسان للانسان فامر ينشا في فترة لاحقة , وهو يظهر بصورة عينية في التاريخ على صورة استغلال المستعمر ( بفتح الميم )من قبل المستعمر ( بكسر الميم ) . بتعبير اخر انه ينشا عن تملك المستعمر لفائض القيمة التي كان الانسان البدائي يتصرف بها بملء الحق :
( لنفترض انه يتوجب على احد سكان هذه الجزر ان يشتغل اثنتي عشرة ساعة اسبوعيا لتلبية حاجاته .هكذا نرى ان اول ماتخص به الطبيعة هذا الانسان ,هو انه يملك متسعا من الوقت يقضيه في شؤون التسلية . فلكي يستغل هذا الوقت بصورة تعود عليه هو بالانتاج , ينبغي ان تحصل سلسلة بكاملها من الاحداث التاريخية لكي ينفق هذا الوقت في عمل اضافي يعود بالانتاج على غيره, فينبغي ان يكره على ذلك بالقوة . )( ماركس :راس المال الكتاب الثاني ) . ينجم عن ذلك اولا ,ان الاستعمار سابق على الراسمالية تاريخيا ومنطقيا . وينجم عنه ثانيا , ان النظام الراسمالي يقتضي معاملة شعوب الغرب على نحو المعاملة التي سبق للغرب ان عامل بها الشعوب الاهلية . واذن , فالعلاقة بين الراسمالي والبروليتاري عند ماركس ليست سوى حالة خاصة من العلاقة بين المستعمر ( بكسر الميم ) والمستعمر .
يؤكد ماركس في كتابه ( راس المال ) :ان اصل النظام الراسمالي يعود الى اكتشاف مناطق الذهب والفضة في اميركا , ثم الى تحويل الاهالي الى عبيد , ثم الى غزو بلاد الهند الشرقية ونهبها , واخيرا تحويل افريقيا لنوع من الحمى التجاري من اجل صيد الزنوج .( هذا هي الطرائق المثلى للتراكم الاولي التي شكلت مؤشرالبزوغ فجر العصر الراسمالي ). ثم مالبثت بعد ذلك ان نشبت الحرب التجارية ( كان ينبغي لعبودية العمال الماجورين المحجبة في اوربا ان تسير اولا على الطريق التي مهدتها لها العبودية السافرة الوجه في العالم الجديد . يلفت العالم شتراوس النظر الى وجهين من اوجه مشكلة النمو , كثيرا مايميل المفكرون المعاصرون الى اهمالها . ان المجتمعات التي نسميها اليوم ( متخلفة ) ( والكلام لشتراوس ) ليست هي المسؤولة ذاتيا في المقام الاول عن تخلفها .
يؤكد شتراوس اننا نخطيء اذ نعتبر المجتمعات المتخلفة خارجة عن نطاق النمو الغربي او باقية بلا حراك امامه . والحق ان هذه المجتمعات عبر تدميرها المباشر او غير المباشر بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر , هي التي جعلت نمو العالم الغربي امرا ممكنا . هناك علاقة تكامل بينها وبينه . ان النمو نفسه , ومتطلباته المتعطشة , قد جعلتها على ماهي عليه , بحيث ان هذا النمو يكتشفها اليوم .
المسالة ليست مسالة اتصال او تواصل بين سياقين كان لهما ان يتابعا مسيرتهما كل على حدة وعلاقة الغربة بين المجتمعات المسماة متخلفة والحضارة الالية تقوم على ان الحضارة الالية تجد في تلك المجتمعات نتاجها الذي هو من صنع يديها , او بشكل ادق , حصيلة اعمال التدمير التي اقترفها بحقها سعيا وراء بلورة واقعها الخاص (واقع الحضارة الالية ) . في المقام الثاني لايجوز تصور هذه العلاقة بصورة مجردة , وليس من الممكن ان نتغافل عن كونها قد ظهرت بصورة عينية , منذ عدة قرون , عبر العنف والقهر والابادة ( تدمير العراق وليبيا نموذجا لذلك – الملاحظة من كاتب المقال) ...من هذه الزاوية ايضا لاتعود مشكلة النمو موضوعا لتاملات صافية فالتحليل الذي يمكن ان يتناول النمو بموجبه , والحلول التي تقترح له , ينبغي بالضرورة ان تاخذ بالحسبان تلك الشروط التاريخية المبرمة وذلك المناخ الخلقي التي تشكل مايمكننا تسميته ب ( الزخم الديناميكي ) للوضع الاستعماري .
بالتالي , ليس من الممكن البتة ان نعتبر النمو كما يعتبره ( مالينوفسكي ) كناية عن ( حصيلة لواقع ثقافة ارفع وانشط على ثقافة ابسط واخمل ). ف (البساطة ) و ( الخمول ) ليستا صفتين جوانيتين ملازمتين للثقافات المذكورة , بل نتيجتين للفعل الذي مارسه النمو عليها في بدايات امره . انه وضع تولد عن التفظيع والسلب والعنف التي لولاها لما كان للشروط التاريخية لهذا النمو ان تتضافر . ليس هناك ولايمكن ان يكون هناك نقطة صفر للتغير , اللهم الا اذا قبل المرء بتحديد هذه النقطة في لحظة وجودها بالفعل ,اي في عام 1492 عشية اكتشاف العالم الجديد , فتبدا عمليات التدمير , تدمير العالم الجديد نفسه اولا ,ثم عوالم اخرى غيره , مما سيكرس له ان يوفر شروط النمو لصالح الغرب , ثم ان يتيح لهذا النموان يتبلور قبل ان يعود فيفرض نفسه من الخارج على مجتمعات كانت قد غدت مالها كعصف ماكول , من اجل ان يولد النمو نفسه ويترعرع على انقاضها .
خاتمة المقال :
ان الحرب على العراق وتدميره تمثل حلقة من سلسلة متكاملة من اليات السوق الراسمالية المعولمة لتنشيط وادامة التها الصناعية والعسكرية بالاضافة الى اهداف اخرى .
#وليد_يوسف_عطو (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟