نبيل عبد الأمير الربيعي
كاتب. وباحث
(Nabeel Abd Al- Ameer Alrubaiy)
الحوار المتمدن-العدد: 4174 - 2013 / 8 / 4 - 14:04
المحور:
الادب والفن
شاعر العرب الكبير الجواهري و ثورة 14 تموز 1958 وزعيمها عبد الكريم قاسم
نبيل عبد الأمير الربيعي
ولد شاعر العرب الكبير محمد مهدي الجواهري عام 1900 أو 1903 في مدينة النجف التي تتكأ على أطراف الصحراء , هي مدينة العلم والشعر والأدب لأبناء وادي الرافدين , ويؤكد الراحل مصطفى جواد إن : ( النجف سميً بهذا الاسم لأنهُ يعني أرضاً عالية يشبه المسنات, تصمد الماء عمّا جاورها وينجفُها الماء من جوانبها أيام السيول ولكنهُ لا يعلوها فهي كالنَجد والذي تغلب على شكلها الاستطالة) ,فقد أسسّ أبناء هذه المدينة اتجاهاتهم الأدبية الرصينة ومسارح سياحتها الروحية , حيث أنجبت مئات العلماء والشعراء ,منهم :( محمد رضا الشبيبي , محمد سعيد الحبوبي , حسين الشبيبي وأخيه محمد باقر الشبيبي , اليعقوبي , أحمد الوائلي و محمد مهدي الجواهري ) , تلك القامات الشعرية العراقية , كما كانً من الأدب الحداثوي الروائي جعفر الخليلي , ثم خرجت هذه المدينة إضافة لرجال الفكر والأدب المناضلين في الحركات التقدمية والوطنية اليسارية وممن شاركوا في ثورة العشرين ضد الاحتلال البريطاني , فكانت أول مدينة عراقية تمردت ضد الاحتلال.
لقد تَحدّرَ الجواهري من أسرة عريقة بنى مجدها العلمي الشيخ ( محمد حسن ) صاحب كتاب جواهر الكلام , وقد ظهرت موهبة الجواهري في الشعر وهو بسنّ مبكرة لموهبته الكامنّة فيه , وكانت أول قصيدة قد نشرت لهُ عام1921 ,وأول مجموعة شعرية كانت باسم ( حَلبَة الأدب) .
بعد إكماله الدراسة تنقلّ الجواهري بينَ مجال التعليم ودائرة التشريفات في البلاط الملكي ثم العمل في مجال الصحافة , وقد أصدر أكثر من صحيفة منها ( الفرات, الانقلاب , الرأي العام ) وأصدر صحف بأسماء أخرى منها ( الثبات, الجهاد, الأوقات البغدادية , الدستور , صدى الدستور , الجديد , العصور),لكن كانت جريدته ( الرأي العام ) الأطول عمراً ,ثم دخل المجلس النيابي عام 1947 ممثلاً عن كربلاء , وبعد ثورة 14 تموز 1958 أنتخبَ رئيساً لاتحاد الأدباء والصحفيين العراقيين , لكنهُ غادر العراق إلى براغ بعد محاولات الاعتداء عليه وتوقيفه لساعات عام 1961, حيث استغلَ الدعوة لتكريم ( الأخطل الصغير) ليغادر البلاد , ليحلً ضيفاً على اتحاد الأدباء التشيكوسلوفاكيين.
الجواهري ذلك النجم الساطع في الشعر العربي ملءَ العيون , فكان يتصف بغزارة في الشعر وذو ذاكرة عجيبة , يُذكر أنهُ كسَبَ الرهان من السيد علي الحصاني , أحد أقربائه , ليرة رشادية لقاء حفظ ( 450) بيتاً من الشعر في مدة لا تتجاوز الثماني ساعات.
عند اندلاع ثورة تموز عام 1958 ( كانَ الجواهري يعمل في مزرعته في قضاء "علي الغربي" التابع لمدينة العمارة , وما أن سمعَ الجواهري بذلك حتى تركَ مزرعته والتوجه إلى بغداد, وإذا بهَ يرى على واجهة السيارة صورة لزعيم الثورة عبد الكريم قاسم , عندما تأملها جيداً عرفَ صاحبها و أعادة ذاكرته إلى عام 1947 في لندن , كان الجواهري ضمنَ وفد إعلامي عراقي , لبى الجواهري دعوة الحكومة البريطانية .. لم ينسجم الجواهري مع الوفد فانفصلَ عنهُ , وأثناء ذلك أُصيبَ في ألم في أسنانه فراجع السفارة لهذا الغرض , وتطوع ضابط شاب لمرافقته إلى طبيب أسنان بريطاني شهير , كانَ هذا الضابط يدعى عبد الكريم قاسم) (1).
فكان للجواهر الدور في دعم ثورة تموز 1958 وزعيمها عبد الكريم قاسم في أول أيامها , فكان معها روحاً وإبداعاً , كانَ (أول بيت زارهُ الزعيم عبد الكريم قاسم منزل الجواهري , وإذا كان عبد الكريم قاسم زعيم السلطة السياسية والعسكرية , فإن الجواهري كانَ زعيم السلطة الثقافية والفكرية الموازية , إذا جازَ القول) (2) , وكانَ للجواهري الدور الريادي في مجال الشعر والصحافة , فقد أنتخبَ نقيباً للصحفيين بعدَ ثورة تموز 1958 , بعد أن أدرجت لوحة لترشيحات أسماء المرشحين , وكان يتصدر اللوحة اسم الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري وبعد الاقتراع بصورة سريعة كانت النتائج كما يلي :
1- محمد مهدي الجواهري (نقيباً ) 2- محمد السعدون ( نائباً) 3- جلال الطالباني ( عضو) 4- عبد الرحيم شريف ( عضو) 5- لطفي بكر صدقي (عضو) 6- محمد الجندي( عضو) 7- فاضل مهدي ( عضو) 8- محمد شوكت ( عضو) , وفاز بعضوية لجنة الضبط كل من " فائق بطي , علي الخليل , محمد كريم , منعم الجادر"
وقد عقدت النقابة مؤتمرها الثاني برعاية الزعيم عبد الكريم قاسم في قاعة الشعب في بغداد .
يذكر الجواهري أول لقاء مع الزعيم قاسم بعد توليه قيادة الثورة في ج2 من مذكراتي : ( دخلت وزارة الدفاع لأجد في القاعة الأوسع والأفخم فيها صاحبي القديم ( الزعيم) الذي تلقاني بكل ترحاب وطوقني بذراعيه واصعدني إلى المنصة وأجلسني بجانبه لأرى القاعة مليئة بصور متلاحمة ... هي صور أعضاء مجلس الوزراء) .
من هذه الذكريات والتي تؤكد مدى العلاقة المتواصلة بين الزعيم والجواهري , فكان الزعيم يزور الجواهري في داره ويستمع إليه , وكان يحسب الجواهري على التيار اليساري الداعم للجمهورية الفتية , لكن عندما دبً الخلاف بين الزعيم قاسم وحلفاءه , كان موقف الجواهري مع الصف الثاني وكرس جريدته لشّن حملات قاسية على الزعيم وحكومته ومنها ما حصل في ( الميًمونة) التابعة لمدينة العمارة , وقد صدرت جريدة ( الرأي العام) بافتتاحية ( ماذا في الميمًونة) , وكان نص الافتتاحية ما قامت به الشرطة من عمليات اعتقال بصفوف الشيوعيات في الميًمونة , وعند أول لقاء بين الشاعر الجواهري والزعيم قاسم في اتحاد الأدباء بعد هذه الافتتاحية , فما كان إلا العتاب من قبل الزعيم للجواهري على تلك الافتتاحية , كان رد الشاعر بعصبية على الزعيم مما أفقد الزعيم توازنهُ لهذا الردّ الغير متوقع من صديق قديم وعزيز , كانت جريدة (الرأي العام) تعرض ما يحصل من تجاوزات على الحريات العامة, وقد عادت الشرطة ورجال الأمن في زمن الجمهورية إلى نفس الأساليب التي كانت تستخدم اتجاه العناصر الوطنية والتقدمية , فكانت تمثل نفس التشابه في العهدين الملكي والجمهوري.
بهذه المقالات المنتقدة للتصرفات الغير مسؤوله من قبل رجال الشرطة ودائرة الجنايات العامة , مما بدأت المضايقات للشاعر حيث وصلت حدّ اعتقاله لساعات , مما اضطره للاغتراب عن بلده ِ لعدة سنوات تاركاً بغداد ليستقر في براغ.
بالرغم من كل هذه المواجهات والنزاعات بين الجواهري والزعيم قاسم , لكن الشاعر الجواهري قد أنصف الزعيم بفصل كامل في الجزء الثاني من ذكرياته (ص161-ص281) فكان الشاعر الجواهري يؤكد بأن الزعيم : ( كان نظيفاً , وطنياً حققَ إجراءات وطنية وإصلاحات للعراق وللعراقيين , لكنهُ اعتمدَ على أناس غير مؤهلين ليكونوا في عداد الساسة ) , كان لتمرد الشاعر على زعيم الثورة وانشقاقه عنها , إلا أن قصائدهُ كانت شجاعة تخاطب العهد الملكي ومنها قصيدة بعنوان ( هاشم الوتري) :
أنا حتفهم ألجُ البيوتَ عليهمُ.............أغري الوليد بشتمهم والحاجبا
مستأجرين يُخرًبون ديارهم............ ويُكافئونَ على الخراب رواتبا
متنمًرين ينصبوًن صدورهم...........مثل السباع ضراوةً وتكالبــــــا
حتى إذا جدًت وغىً وتضرًمت....... نارٌ تلفُ أباعداً وأقاربــــــــــا
لزموا جحورهم وطارَ حليمهم........ ذعراً وبُدلًت ألأسود أرنبــــــا
كان الشاعر الجواهري يؤكد في مذكراته ج2 ص83 على إن الزعيم قاسم : ( حقيقة كانَ عبد الكريم قاسم من أكثر أقرانه نظافة , ومن أكثرهم وطنية , ومن أشدًهم انتماءاً للفقراء , وهو من بيئة فقيرة انسحبت جرائر بؤسها على كل مراحل حياته... كما أنهُ عدو الاستعمار بكافة أشكاله والبريطاني منهُ خاصة .. كانَ يملك ضميراً حياً , ونزاهّة نادرة , وبساطة في اللباس والحياة والمأكل , مما جعلهُ يضاف إلى قائمة المترفعين عن المظاهر والمكاسب وجًاه الثروة , وهو ما أغفلهُ من الكتاب والصحفيين والمؤرخين), ويكفي الجواهري فخراً قولهُ :
وما طالَ عصر الظلم إلا لحكمةٍ .............تنبئ أن لا بدً تدنوا المصارعُ
وهنالك قصائد عديدة يتمسك الجواهري فيها بحب بلاد الرافدين ومن بينها نونيته الأشهر ( دجلة الخير ) عام 1962 ومما جاء فيها بذلك الصدد:
يا دجلة الخير أدري بالذي طفحت...........بهِ مجاريك من فوقِ إلى دونِ
أدري بأنكِ من ألفِ مَضَت هدا .............للآن تهزينَ من حكم السلاطينِ
تهزين إن لم تزنِ في الشرق شاردةٌ........من النواويسِ أرواحُ الفراعينِ
يا دجلة الخير كم مِن كنز موهبةُ ......... لديك في القمم المسحور مخزونِ
لعلَ تلكَ العفاريت التي أحجزت.......... بحملات على أكتاف دلفينِ
لعلَ يوماً عصوفاً هادراً عرماً........... آت فترضيك عقباه وترضيني
كانت أبيات شعر الجواهر قد تغضًب بعض أو ترضي بعضاَ , لأنها سعت لكي تكون بعيدة عن المشاعر والعواطف , التي كانت عمرها حكماً عادلاً في تقييم الوقائع التاريخية , ثمَ نجد قصيدة حاشدة في ما يحدث من أحداث في بلاد الرافدين وقد وثقها الشاعر الجواهري ومنها:
( بإسم الشعب , إنشودة السلام , عيد العمال العالمي , المستنصرية ) وغيرها من القصائد التي يخاطب بها الطلبة والشبيبة العراقية عام 1959 , فقد كان الجواهري محرضاً على حب الوطن والمساهمة في بناءه , وما جاءَ في البيت الشعري :
فخرنا إنا كشفناه لكم ..........اكتشاف الغَد للأجيال فنُ
وكانَ من أجمل قصائد الشاعر في الحنين للوطن وإلى دجلته هذه القصيدة :
حييتُ سفحكِ عن بعدٍ فحييني ........... يا دجلةُ الخير , يا أم البساتينِ
حييت سفحكِ ضمآناً ألوذ به ............ لوذ الحمائمِ بينَ الماءِ والطينِ
فكانَ في أسلوبه الخاص والمعتمد القديم من حيث العبارة واللفظ , لكن يبقى شعر الجواهري شعراً محدثاً بإضفاء المعاصرة عليه , فما كان لهُ إلا الخلود , فقد انتهى عصر الأدب بعدَ رحيل الجواهري , ويذكر الناقد فاضل ثامر : ( لم يكن الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري شاعراً عابراً في تأريخنا الشعري , بل كانَ ظاهرة متميزة مرتبطة بنمو درجة الوعي السياسي والاجتماعي والفني في المجتمع العراقي .
بعد هذا الإنجاز الكبير في المسيرة الشعرية والنضال والغربة , والإنجاز الأدبي والثقافي , فقد رحلَ الجواهري في إحدى مشافي العاصمة السورية دمشق يوم 27-7-1997 عن عُمر يناهز الثامنة والتسعين , ونظم لهُ تشييع رسمي وشعبي مهيب , شاركَ فيه أغلب أركان القيادة السورية , ودفنَ في مقبرة الغرباء في السيدة زينب في ضواحي دمشق, تغطي قبره خارطة العراق المنحوته على حجر الكرانيت وكلمات تشير لقبره ( يرقد هنا بعيداً عن دجلة الخير ) .
المصادر
ــــــــــــــــ
(1) د. جليل العطية – الجواهري شاعر من القرن العشرين ص74
(2) د. عبد الحسين شعبان ( الجواهري جدل الشعر والحياة ص291
#نبيل_عبد_الأمير_الربيعي (هاشتاغ)
Nabeel_Abd_Al-_Ameer_Alrubaiy#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟