أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سميح مسعود - على ضفاف البحر الميت














المزيد.....

على ضفاف البحر الميت


سميح مسعود

الحوار المتمدن-العدد: 4160 - 2013 / 7 / 21 - 21:54
المحور: الادب والفن
    


أوصلته المنافي إلى مدينة مونتريال الكندية ، إختارها مقراً له في مهجره البعيد ... مدينة جميلة تقع في جزيرة محاطة من كل جوانبها بنهر سان لوران الشهير ، تعجبه تلك المدينة ، لكنه لا يستطيع التعايش معها في أيام الشتاء التي يشتد فيها البرد القارس طيلة أشهر عديدة .

يحولها فصل الشتاء بمقاييس أزلية ثابتة إلى مدينة أخرى ، بحلة جديدة غير التي كانت عليها في الفصول الأخرى ، تظهر فيها ملفعة بطبقات كثيفة متراصة من الغيوم تغطي السماء ، ومغطاة بأكوام سميكة من الثلج يتوارى تحتها كل شيء ... تتجمد مياه النهر ، وتتجمد الاشجار في كل مكان ، تقف فروعها عن التمايل تحت تأثير الرياح ، كما تختفي الطيور ، و يخفت ضوء النهار ... تختفي أشعة الشمس لأيام طويلة .

تجتاحه نوبة رهيبة من الضيق والاضطراب في فصل الشتاء ، يرى كل شئ في المدينة على خلاف ما تعود أن يراه من قبل ، يحس بألم في داخله دون توقف ، يستمر اضطرابه ، يلازمه يسيطر على نفسه ، لا يحس برغبة في الخروج من بيته ، يبقى أسير الجدران ، يجد في كتبه حاجته ورضاه ، يتابع القراءة دون توقف ، يتغلب بها على ليالٍ طوال تمر عليه دون نوم ، يعيش مع كتبه منفردا ً بها ، سعيدا ً بما تنثره في داخله من أفكار وحكايا يشم منها رائحة الحياة .

يستمر وضعه هكذا طيلة أشهر الشتاء ، يبقى مع كُتبه ، القراءة هي كل ما يستطيع فعله ... لا يخرج من بيته ، لا يستطيع المشي على الأقدام في شارع سانت كاترين حيث يعيش ، يرى شارعه المفضل عبر النوافذ المغلقة فقط ، يراه مكسواً بأغطية ثلجية بيضاء ، لا حياة فيه ، يبدو في صورة تقرب من الأشباح .

اتسع نطاق اضطرابه مع الأيام ، صار أكثر تأثراً بالبرد ، اشتدت وطأته عليه ، أصبح من المتعذر عليه صحياً تحمل معاناة الظروف المعيشية خلال أيام فصل الشتاء الصعبة .

في ذات يوم قادته أفكاره إلى ضرورة تهدئة حياته ، بالابتعاد عن مدينة مونتريال في فصل الشتاء ، أسوة بما يفعله أهلها من المتقاعدين، استعان بقوة ذاكرته على تذكر أمكنة دافئة زارها من قبل لفترات متقطعة ، مثل : فلوريدا ، أسوان ، البحر الميت ، قلب صوراً لها ، واستساغ منطقة البحر الميت القريبة من عمّان ، تذكر صفاء الهواء فيها لكونها أكثر مناطق العالم انخفاضاً تحت سطح البحر ، تفوق فيها كميات الأوكسجين عن غيرها في المناطق الاخرى ، لانسيابه بكميات كبيرة في المناطق المنخفضة .

ما أكثر ما كان يزور منطقة البحر الميت في أيام صباه ، يستمتع دوماً بتذكر عذوبة أمسيات شتوية دافئة عاشها فيها ، يستسلم بسعادة إلى ذكراها ، يعود في طيات خباياها إلى صور متقطعة تحفظها ذاكرته من أيام طفولته الباكرة ، تبرز من تراكم سنين زمن مر وانقضى ، تترابط أجزائها الدقيقة شيئاً فشيأً وتعيد له تركيب أشكال أجزاء أمكنة كثيرة متشابكة تعرف عليها من قبل .

قرر أن يرحل في كل شتاء إلى منطقة البحر الميت ، يشد الرحال اليها مع بدء فصل الشتاء في مونتريال ... تبدأ إقامته فيها بدءاً من شهر تشرين الثاني من كل عام ، يتابع الحياة في شقة يمتزج فيها بكل الأشياء الجلية التي تحيط به ، القريبة منه والبعيدة : الشاطئ الرملي ، و ضوء القمر وانعكاساته على صفحة الماء ، وتركيبات اخرى تشكل بمجموعها محيطاً مكانياً تتداخل فيها الجبال والأغواروبقايا نهر يشق طريقه صوب البحربلا ماء .

يجذبهُ الليل على ضفاف البحر الميت ، يجلس طويلاً في كل ليلة يجول ببصره تجاه الغرب ، يرى بعد المغيب أضواءً بعيدة تنساب على إتساع الأفق العريض الممتد بسعة حول البحر ، يدققُ في المدى المرئي للأضواء لساعات طويلة دون انقطاع ، يرقُ قلبه لها ، تساعده على رؤية مدينة اريحا وجبال القدس ، تذوب ذكراها عذبة في خاطره ، ومضات كثيرة منها تشده إلى أيام عاشها في أرضه في زمن مضى ، يسترجع ذكرياته فيها بكل دقة وعمق ، يعود على إيقاعها للتخيل من جديد ، سرعان ما يجد نفسه باب العمود ، يشع كهالة من النور حوله ، ينتقل منه الى حارات القدس العتيقة ، يواصل خطوه فيها ماراً بأمكنة تختلط فيها أشباح الماضي بالحياة ... يستمر بالتخيل في لحظات صفاء دون توقف ساعات وساعات لا يقيده المكان ولا الزمان ، ويشعر دوماً في واقعه المتخيل بتلاشي الحد بين اليقظة والحلم .

ويجذبهُ طلوع الفجر أيضاً في كل صباح ، يصحو مبكراً ، يتجه نحو البحر ، يخطو ببطء على الشاطئ ، يستمتع بصوت اهتزاز الأمواج ، وصوت انكسارها على الصخور ، ورجوعها إلى البحر ثانية بخطوط طويلة مرتعشة ... يحدق فيها وهي تتباعد ثم تتلاقى ثانية وتكون نسيجاً جديدا ً، يتناوب التلاقي والابتعاد في القرب والبعد بلذة وامتاع .

يواصل السير في كل صباح حول الشاطئ ، يدير بصره في كل الاتجاهات ، يتعرف على خبايا فضاءات رحبة حوله ، تعُيده إلى زمن بعيد يكتنفه الغموض ، يتعرف على مضامينه الحقيقية بدلالات واضحة غير متخيلة ، وسرعان ما يرى سطح المياه الرقراقة بمنظار أخر ، تتلألأ برقة تحت أشعة الشمس ، يختزن صورتها في ذاكرته ، تبقى مرئية قريبة منه .

***
تتوالى أيامه في منطقة البحر الميت ، يقضي فيها نحو أربعة شهور في كل عام ، يودع أصدقائه ساعة الرحيل ... يعود من حيث أتى إلى مونتريال في فصل الربيع مع بدء التبرعم والأزهار ، يبدأ مع أريج وندى أوراق شجر القيقب مسار حقبة أيام جديدة .



#سميح_مسعود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الإسلام السياسي
- إميل حبيبي باقٍ في حيفا
- شيليا
- جوني منصور مؤرخ حيفا
- عن أقباط مصر
- أحييكم
- الثورة الجزائرية في مرآة النفس والآخر
- كتاب المهد العربي
- حيفا ليست قرطبة
- عبد عابدي : نصف قرن من الإبداع
- شظايا مذكرات غير مكتملة
- جزيرة في نهر سان لوران.
- البحث عن الجذور
- عيسى بُلاطه : ناقداً وأديبا ً
- تراجيديا الهنود الحمر
- التوثيق في الأعمال الإبداعية
- امرأة منسية
- فتاة الترومبون
- ناجي علوش شاعراً ومفكراً
- في ذكرى ناجي العلي ثانية


المزيد.....




- جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس ...
- أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
- طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
- ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف ...
- 24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات ...
- معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
- بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
- بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في ...
- -الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
- حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش ...


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سميح مسعود - على ضفاف البحر الميت