|
يوميات الكاهن الكوباني في كنيس الغبار - تمارين ما قبل الرحيل
مصطفى اسماعيل
(Mustafa Ismail)
الحوار المتمدن-العدد: 1188 - 2005 / 5 / 5 - 13:04
المحور:
الادب والفن
إلى الكائن الجميل محمد توبه والذين معه .. الاستماع إلى نفير الحبر ضرورة وطنية . 1- ليلُ المدينة الخائفْ لا يطاق . هدوءٌ قتّال . عبثاً تطعن الوسادة برأسك المثخن غضباً . تريد لهم الخلاص . وتريد لهم ثم أن يموتوا جميعاً وألا تبقى نملةٌ على قدميها ولا طائر ينثر وجعه على السماوات الجريحة . غيم كئيب يرابط على تخوم المدينة وأصوات أرض يتمزق داخلها بعنف . رغمها تمارس الحياة دورتها المعتادة . سكون مريب وصمت . لا إشارات تصدر عن الناس . لا تأويلات . لا شروح . فقط استرسال في الترقب واستنزاف السجائر وتمتع بالنساء في المخادع الزوجية وخارجها . انهيارات . انهيارات . انهيارات . تمشي في شرايين المدينة الذاهلة . تحمل فانوساً بلغ نهايات زمنه . تهدي ذبالة الضوء فيه إلى الناس الذين يحتشدون حولك وتحتشد أنت بالوجع ومرارة الأسئلة . فمن يليق بالغيم والضباب الهائم على شفتيك الغليظتين القرميديتين المبللتين أخيرا بصهيل الكائنات المنكسرة ؟. 2- المدينة خاويةٌ على عروشها وأنت تبتعد محلقاً مع الريح . لن تصطحب منها غير أوجاعك المزمنة وأوراقك الصفراء وغابات الحبر . لكأنها مدينتك الأصل المجبولة بقليلٍ من حبرك وملحك . حزين لأنك لا تجيد الوداع . تذرف روحك لكنك لا تجيد الوداع . وهكذا تخرج دونما سابق إخطار تماماً مثل أنبياءٍ قدماء تركوا للناس حيرتهم . تماماً مثل سكان الأساطير الشرقية القديمة أو في إرث الديانات الهائل . تترك أمك مع الصور المعدودة ومناديلها . يوماً ما ستصلك المناديل وعليها تضاريس وجهها الكريم وإرثها العظيم من الفقدان الطاعن في الذاكرة العجوز . يوماً ستصلك المناديل في غربتك السامقة لتقتلك بطيئاً .. بطيئاً كما لم يتوقع بشر . 3- ذات حزنٍ قرر أن يطلق النار على كل شيء . على قامته الأخرى في المرآة . على ذاكرته المثخنة بالصور والأحداث . على بلدة حدودية من غبار وتراب وطين كانت تنمو رويداً .. رويداً في شرايين هذه الجغرافية المنسية من الله . يحب سكانها الذين يحبون الشائعات حتى قياماتهم ولكنه لا يطيق طباعهم الجلفة . إن فراق بلد يسكن القلب ليس بالأمر اليسير لكنها شؤونه الصغيرة وعليه أن يديرها بجنون مرهف إذا أمكن ذلك . أو أن يدير لها ظهره وينساها ويجعلها تنساه بدورها . هذه البلدة المومس تطعن أبنائها وتحجز لهم مقاعد في الريح أو في غبارها العميم . هذه البلدة تجز أعناق الرغبات ولا تجعل أبنائها يرتقون عالياً . إنها شاهدٌ على ميتاتهم الهادئة . دونما ضجة . دونما لغط . قتل بلد في الذاكرة ليس باليسير . لكن بلد يعيش خارج التاريخ يستحق النيل منه آلاف المرات . هكذا بلد لا يطاق ما دام كل رصيده من الحياة الانصراف المطلق إلى الشائعات ومحاولة العيش على المكائد والفضائح . 4- أسلاك الحدود التي لا تفقه العشق هناك في سفر بلوغها . حيث بعد سعال مسن قليل سيفطم على الصناديق الأولى وخوف رجال يخلفون أرواحهم بعيداً خلف ظهورهم . ستعبر قطارات سوداء كثيرة دهشة هؤلاء القرويين البسطاء . لكنات غريبة لعسكر غريب . صداقات عمياء ستنشأ بين سهل البرازيين الشاسع وهذه القطارات العابرة . بيوت مطرزة من مرمر تهندس المكان وخلفهم مشته نور صقار الغيب يرتل هذا البرزخ الذي من غبار . لكن المكان ليس هذا فقط . المكان لا ينشأ من عدة تعاويذ دقيقة . يلزم لصناعة مكان مبهر شخوص . وثوريون . ومغامرون . وقطاع طريق . وفتوات . وآخرون بلا ملامح . ونساء يسطون على مجالس السمر المتأخرة . وحكايا يضيع في صورها الباذخة أشواق الرجال الذين يلفون مع التبغ التركي الفاره آهاتهم الممتدة من الله وإلى الله . 5- تماماً كما يجدف فطر مبتعداً عن طفولته . كذلك البلدة الغبارية الصغيرة ستتقدم في السن وتعلن على السهل العجوز بيوتها الطينية والبشر الذين أصبحت الإقامة فيها تحلو لهم . وأنا لا أطيق الحياة في هذه البلدة التي تبعث على القيء . إنها تكبر وتتسع وتفقد رويداً .. رويداً بيوتها الطينية وبساطتها وعاداتها الدقيقة كالتطاريز الجميلة على الوسائد البيضاء . لم أستطع طيلة السنين المديدة التي خلت أن أكون ابناً باراً بها . كنت متخماً بالشكوك ولا أتقن تبادل الأنخاب مع كل ذبولها المقرف . هذه البلدة سأعلن عليها فيما بعد قصائدي الحزينة ولعناتي الصغيرة كحكمتي الصغيرة . لن يقترب أحدنا من الآخر إلا ليبتعد أكثر فأكثر . هذه البلدة الباردة . ستحيل أسلاك الحدود العمياء الجليدية ضوضائها ولغطها إلى سكون مجرد حيث يتكفل الحرس التركي برصاصه الطائش في تنسيق السهل على مشيئته . أصعد إلى سماء النشيج الغائر في فوضى هذه الجهة الميتة مثل أحصنة تبعثر صهيلها كيفما أتفق وهي تنتحر على قارعة حروب هاذية . فلا صباحات لغد هؤلاء البشر المبعثرين بين الأسماء المملة للجرائد والأحزاب . لا نهارات في الغد الذي لن يعرفه هؤلاء بعد أن أتخموا جداً من تراتيل الموت العلني . فقدت الحياة الحقة روائحها الفتاكة فما كان منهم سوى اتخاذ الوجع كتاباً مقدساً ومحاولة تسطير تاريخهم بمزيج من الموت السحيق والرماد والدمع . 6- فقدنا أشياءنا . وأشياءنا فقدتنا بدورها . فما الذي يبقي هذا الخلق العرمرم مسكونا بالتعاويذ والجرائد السرية والأحزاب السرية . فصول القنوط تهذي بأجنحتها وتهوم فوق رؤوسنا التي ركنت إلى دورة العبث الجنوني . كان الرحيل محبذاً . كان الرحيل غاية . المدينة تغوص في غياهب الغبار . تضيع ملامحها . آياتها . ويعربد السكر والمجون والعهر في أزقتها المهملة كأرواحنا المصلوبة في قصائد لم يعد الناس يقرأونها . ماتت الإشارات . ماتت المعاني ومشانق كثيرة نصبت للكتب لتبقى الجهة المغالية في تدبيج التمائم محتفية بخساراتها وقبائلها التي تفتح أبواب الماضي وتغلقه على إتقانها الملفت للقتل . مدينة عارية بلا هيكل عظمي تعبر الصمت وتستسلم لتفاسير الظلام . ليس هنالك ما أفتقده . الأبجدية منكسرة على أفقها والروح تتساقط مثل امرأة من خريف . الهذيانات شاسعة . الفقدان حيازة الفراغ وأنا ملكٌ لهذا الفراغ الأثير . أنا هو . هو أنا . كلانا هشٌ وخالٍ من الكلمات والقصد . كلانا صارت الطحالب تنمو على جثته وذاكرته المنزوية . ذاكرته الحزينة كمواعيد عابرة وأماكن عابرة وأزمنة عابرة وأنثى عابرة . 7- ذات شتاء حار وكانت غيوم المواجع تستنزف سمائي الرمادية وروحي مرهقة بالشجن الكثيف كغابة من حجر قررت كتابة رواية . وحدها تليق بالدم الذي كان يشرع بالرحيل . كان لا بد لرواية ما أن تكتبني . أن تتحول قميصاً أو معطفاً لتستر جثتي التي تهترىء وتتحول إلى مستنقع مقيت . لكن أنى لي بترتيب فوضاي على الورق الذي لم يفقد بكارته بعد . كيف أنسق تفاصيلاً هائمة في رقعة تبجل الملالي مثل تلميذ مهذب أخير . لا بدّ لكائن حزين ومتمرد ما يوماً أن ينبثق من رحم الغبار هذا ويكتب هذه المدينة الهائمة على وجهها في جغرافية داعر . حيث يرقب الناس أسلاك الجليد شمالهم بعيون يصهل فيها الدمع إلى أعالي هبوبه . كوباني عذراء . يليق بها نص مفتوح يقترب قليلاً من ذاكرتها المواربة يمسح على سهلها الهرم وجبلها الوطني بامتياز . هنالك نصوص لكل المدن . لأوجاع كل مدن الأرض . لأفراحها . وحدها كوباني لم تسكن كتابة جديرة بالاحترام . يجب أن نكتب ونتلتل هذا السبات الملحمي المديد . يجب أن نصطحب القارىء إلى ملكوت الغبار واللعنة الحدودية العمياء . لن نجد غير القبور والحزن وملاحم شعرية تبعث على البكاء المرير وسنتوه معاً هناك . حيث لا أحد غير الحبر يتكلم ويوزع أرغفته مجاناً .
#مصطفى_اسماعيل (هاشتاغ)
Mustafa_Ismail#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عزيزي الديكتاتور .. أمريكا لا تستحم في مياه النهر مرتين
-
العمال في مهب الكوكاكولا
-
الديناصور هو القارىْ الأخير
-
الأرمن .. الأكراد .. الآشوريون ..والمسلخ التركي
-
الصحافة الكردية بين الفواتح القصوى والنهايات القصوى للقرون
-
فصل المقال فيما بين آية الله المحتجبي والانترنت من اتصال
-
شطحات العمامة القومجية الفارسية
-
ورقة المجازر الأرمنية تكشف عورات تركيا
-
البعث العراقي وتأميم القرآن
-
الجعجعة التركية لن تنتج طحيناً
-
اذا كانت أمريكا عدوّة الله فمن هو صديق الله ؟ ..
-
سياسة الفكر المحروق
-
راعي خراف الرب وفقهاء الظلام
-
الكورد أمة .. من ما قبل جنكيزخان الى ما بعد سقوط صدام
-
الأكراد والعقول العنكبوتية المقلوبة - من يسقط في برميل النفط
...
-
الأكراد والعقول العنكبوتية المقلوبة - من يسقط في برميل النفط
...
-
الذهنية الاقصائية - الأقليات والجاليات وتعالي الأنا العربية
-
الذهنية الاقصائية - خرافة الايديولوجيا القومية الحديثة -ياسي
...
-
الذهنية الاقصائية - ياسين الحافظ ومسألة الأقليات
-
الذهنية الاقصائية في الخطاب الثقافي العربي-مسألة الأقليات
المزيد.....
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
-
-مأساة خلف الكواليس- .. الكشف عن سبب وفاة -طرزان-
-
-موجز تاريخ الحرب- كما يسطره المؤرخ العسكري غوين داير
-
شاهد ما حدث للمثل الكوميدي جاي لينو بعد سقوطه من أعلى تلة
-
حرب الانتقام.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 171 مترجمة على موقع
...
-
تركيا.. اكتشاف تميمة تشير إلى قصة محظورة عن النبي سليمان وهو
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|