صالح برو
الحوار المتمدن-العدد: 4147 - 2013 / 7 / 8 - 09:22
المحور:
الادب والفن
رحلة الفن
عندما بدأ الفن مسيرته في الحياة لم تكن إلا مسيرة أخلاقية بالدرجة الأولى، انطلقت مسيرته ضمن أهداف إنسانية واضحة ألا وهي : الحفاظ على الجهد الإنساني وتوظيفه في خدمة المجتمع للحفاظ على روح المودة والحنين والتآخي والسلام ,لتصقيل الوعي الإنساني في المجتمعات البشرية,وإدخال المحبة إلى قلب الإنسان أينما كان.
الفن في مجتمع الحداثة
يقول فاغنر" الفن هو فرح الإنسان في أن يكون ذاته بأن يحيا وينتمي إلى المجتمع"
عجباً... هل تنطبق هذه المقولة على سائر الفنون التي تمارسها المجتمعات التي ترعرعت على مستنقعات النظام الرأسمالي الذي الحق الدمار والخراب بكل ما هو موجود؟بالتأكيد لا !،
لأن النظام الرأسمالي غيَّر وأطاح بكل المفاهيم النبيلة السابقة,وخلق البدائل,خدمة لأهدافه هو.
فكانت النتيجة : لمجرد أن يفكر الفنان الحالي عن الفن يخطر في باله أول سؤال : كم سيدر هذا العمل من الأرباح.،إذًا نستطيع القول أن حال الفن مطابق وشبيه بحال العلم ( أداة لكسب المال )
فمن الذي حرض على سلوكٍ كهذا؟ طبعا النظام الرأسمالي العالمي! ومعه تحول الفن والعلم الذي كان في خدمة الإنسان إلى أداة لاقتلاع الإنسان من جوهره وإلقائه في مستنقع الحداثة.
قراءة فنية في واقع فن الحداثة
لو لاحظنا وبإحصائية عامة لغالبية الأعمال التي قدمت خلال السنوات الماضية، بدءاً بأفلام السينما ومروراً بالفيديو كليبات,والبرامج وانتهاءً بالمسلسلات الدرامية،سنلاحظ أن كل هذه الفنون تعتمد وتركز على الإباحية والعلاقات اللاشرعية تحت تسمية مصطلح الرومانسية,والتي تعني كلمة ( رومانس ) المعروفة بالغراميات الملتهبة منذ بداية القرن السابع عشر ، والتي وسرعانما تحولت إلى مذهب أدبي واتجاه لسائر الفنون الأخرى، لتصبح هذه الفكرة بديلة عن حب الوطن بالنسبة للناس ،بديلة عن المحبة الإنسانية والعطاء،بديلة عن الأعراف والعادات والتقاليد.إلى أن خلقوا مفهوماً آخر عن الحب,وارتبط هذا الحب بالمرأة,’وجعلوا من المرأة أداة للجنس.
أصبح الفن بالضط أداة اقتصادية فقط، إلى درجة يمكن القول معها أن ما تدره أجساد النساء من المال في ظل الرأسمالية يفوق ما يدره حقول النفط في العالم، نعم لقد فقد الفن قيمته الأخلاقية العظمى،وبات يمارس ويؤدي سلوكاً لا أخلاقياً. تماما كالسياسة..
غياب الأعمال الهادفة
ألا نلاحظ أننا قلما نسمع أغان أو نشاهد أعمالاً إنسانية.،هل تعلمون لماذا؟ فقط لأن المجتمعات لم تعد مجتمعات أخلاقية كما كانت في السابق!،بل تحولت إلى جماهير،وهذه الجماهير انصهرت في ثقافة الحداثة التي صارت لها تضاريس واضحة، وعالمها الخاص بها( أمكنة اللهو والفجور والدعارة- تعاطي المخدرات- ثقافة الملاعب التي باتت تغزو عقول كل المجتمعات دون أن تدري )
الفتاة لم تعد كما هي : كل أولوياتها ترتكز على كيفية استخدام المساحيق وعمليات التجميل والأزياء العصرية المعروفة ببروز الساقين والنهدين....نصف الجسد عار ونصفه الآخر أكثر تعرية...حتى مشيتها في الأسواق صارت مختلفة،تتغنج ،تتمايل يمينا ويسارًا لتجر ورائها العشرات من الشبان الفارغين من الرأس وحتى القاع.
وحتى الشباب لم يعودوا كما كانوا: همومهم شبيهة بهموم الفتيات،حتى عندما نمشي في مكان ما لم نعد نميز بين فتاة وشاب لأنهما متطابقان في الشكل.
لقد تم ارتباطنا بكل الأشكال الزائفة التي جردتنا من إنسانيتنا وجعلتنا كالإناث المنطويات الخاضعات على أنفسهن،نعم لم يعد بيننا رجال فنانون ، رجال مبدعون،رجال سياسيون،رجال أخلاقيون بذلك الحس الإنساني النبيل، هذه حقيقة ولا يحق لأحد نكرانها، أما الذين يتسمون بالأخلاق السياسية والإبداع الإنساني النبيل في شتى المجالات,فإما أنهم معتقلون وإما منفيون،وخير مثال على ذلك دليل الإنسانية الساطعة المرشد عبدلله أوجلان
طبيعة مجتمع الحداثة
لقد تحولت الحداثة اللا أخلاقية إلى أخلاق حضارية في نظر الكثيرين،وذلك لأن مجتمع الحداثة علمّ المرء بأن يتعامل مع الآخرين بكل ما يخص الظواهر الخارجية الزائفة،لذلك راح يتخذها وكأنها معمل لصناعة الألبسة وإخضاع الجسد إلى المجازفة والتجريب ضمن عنوان ( موضة العصر ) وبالتالي كما قال نيتشه " يظل يجرب المزيد.. المزيد " إلى الحد الذي قال فيه نيتشه
أن المرء في المجتمع الحديث " لا يستطيع قط أن يبدو متأنقاً في ملبسه ".
العقل البشري في ظل الحداثة
تصديقاً لقول الفيلسوف المثالي ماركوس"نحن ذيل العالم ولا نعرف ما يدور في رأسه"
بات العقل البشري في ظل الحداثة يتحرك ضمن مجال ضيق.، فهناك الكثير من الأنظمة قد وجدت أنه لصالحها تسييّر الناس وإلهائهم بأمور تافهة ومحدودة خصوصاً ما يجري في ملاعب الرياضة،والغرض منه كي ينصرف الناس إلى الترويح عن النفس بتحريك وإغراق العقل في متابعة اللعبة لتشتيت العقل بعيدًا عن الأرقام والحسابات،والاستبيانات العلمية الدقيقة،والأفكار والأحاسيس، وإلهاء العقل بشيء آخر، وتحويل مساره إلى ملاحقة أهداف ساذجة وتافهة وبنفس الوقت لتكون لذيذة وبديلة عن الأخرى.
إن المجتمع العالمي لم يعد له دورا واضحا في الحياة,حتى بدا له أن كل ما في العالم مضطرب لذا أصبحت أهدافه غامضة ونجاحاته غير مؤكدة وتعاسته أكيدة، بات يعيش وكأنه ليس في حالة يقظة..إنما كالذي يمشي أثناء النوم، إنه نائم ولكنه يمشي....إن هذه الحالة ليست حالة من اليقظة الواضحة..ولم يخطر في بال هذا المجتمع يوماً أن يتساءل فيما إذ كان يقظاً أم نائماً ، بالمقابل هل سيحصل على إجابة إذا سأل؟بالتأكيد لا!.. لأنه غير قادر على مواجهة نفسه بهذه الحقيقة،وذلك يعود كون النظام الرأسمالي لم يترك وقتاً كافياً أو شجاعة لدى هذه المجتمعات كي تنفرد بذاتها...وهذا ما جعل الناس متعبين ومرهقين دون أهداف، ولا يعرفون كيف سيعيشون الحياة التي استهلكها النظام الرأسمالي باسم الحداثة وحّول المجتمع البشري إلى مطمورة خاصة به.
ظهور الحداثة الرأسمالية
لم تظهر الحداثة كنظام عالمي جديد إلا بعد أن تم إضعاف جميع المجتمعات البشرية برمتها وانتزاع الإيمان منها وزعزعة كافة العلاقات فيما بينها في سبيل أن يعيش المرء صامتاً وكفيفاً وأن يسعى إلى كسب المزيد من المال والربح على حساب المبادئ والقيمّ.
لقد فرض هيمنته على البشرية وتم استعبادها لعدم قدرتها على التحمل ولأنها فقدت المعنى الحقيقي للحياة ولجذورها العميقة المرتبطة بهذا العالم الخلاق، فكانت النتيجة أنها تواطأت ذليلة أمام النظام القائم.
في ظل الحداثة.....
ــ في الحداثة تتكاثر المجتمعات على أساس التمزق,وهي من القواعد الأساسية في ثقافة الفساد.
ــ بالحداثة انطلقت المفارقات الساخرة، وظهرت كل أشكال البؤس والاغتراب الروحي والعلاقات الاجتماعية الزائفة حتى هيمنت على كافة الميادين.
ــ ثم مع الحداثة تزول كل مبادئ المحبة والاحترام والالتزام.
و بالحداثة تفنى الحرية مقابل حرية من نوع آخر.
إذاً فمن الشر أن نكون أوفياء لهذا النظام القائم,وصامتين ومخلصين لجيل طائش تعترض الحياة على سلوكه فهي خيانة بحق الإنسانية أولاً ,والفضيلة ثانيًا,والحياة ثالثاً
تقول الفلسفة الأوجلانسية في رؤيتها الثاقبة والحقيقية عن الحداثة ..
"إن الحداثة التي نحياها ذات فوارق فريدة من نوعها,حيث بلغت حدود استحالة الاستمرار في العديد من الميادين. وإذا ما سعينا لتعدادها بشكل خاطف سنلاحظ: التضخم السكاني, نفاذ الموارد, دمار البيئة, التصدعات الاجتماعية المتعاظمة بلا حدود، الروابط الأخلاقية المنحلة،انقطاع الحياة عن الزمان والمكان،الحياة المتوترة والمفتقدة لجاذبيتها وشاعريتها،أكداس الأسلحة النووية القادرة على إحالة الدنيا إلى صحراء قاحلة، وضروب الحروب الجديدة اللامتناهية والمستفحلة في البنية الاجتماعية برمتها،كل ذلك يذكر بيوم القيامة والمحشر الحقيقي. إن الوصول إلى هذه المرحلة بحد ذاته مؤشر واضح على إفلاس أنساق حقيقتنا القائمة. أنا لا أعرض لوحة تشاؤمية. ولكننا لا نستطيع البقاء صامتين, ولا نتمالك أنفسنا عن الصراخ بأعلى صوت إزاء الحياة المنتهية داخلنا وأمامنا. علينا ألا نفقد الأمل, وألا نخنق أنفسنا بذرف الدموع. ولكن علينا البحث عن الحل"
نعم هذه حقيقة...ليس هناك أسوأ,وأفظع من أنك تعيش في مجتمع يحمل مفاهيم خاطئة عن الإنسان والحياة، عن التربية والأخلاق، عن الثقافة والوعي.
إننا من أكثر المجتمعات التي تعيش في صلب العلاقات الاجتماعية المغلوطة، نعم هذه حقيقة، لقد بتنا نحُس بالعبث الوجودي، وفناء العدالة،البشرية باتت تعيش حياة بائسة ومنبوذة، لأن الجهد الإنساني بات يتبخر ويذوب، لذا علينا أن ننطلق من هذا العبث الراهن باحثين عن مبرر حقيقي لوجودنا،نعم أننا بحاجة إلى أنفسنا أكثر من أي وقت قد مضى.
مهمة الفن
مهمة الفن هي إصلاح المجتمع برمته...تصديقاً لهذا يقول المخرج البولندي المعاصر جوزيف تشاينا صاحب مدرسة مسرح الأستوديو:" نحن الفنانون مسؤولون عن مستقبل العالم، لأن الفن هو مغامرة الفنان". بحيث لو قارنا واقعنا الفني بشعار فرقة مسرح " فولا " البولندي المعاصر الذي يقول : ما هي فائدة الكلمة إن لم تكن أداة لتشكيل الوعي" سنفهم أنها بعكس شعارات فناني الشرق الأوسط تماماً، لذا فالفروقات واضحة جداً بين الثقافة والفن اللتين تكونان في خدمة المجتمع للإرتقاء به ، وبين المجتمع الذي يكون في خدمة الثقافة والفن كما يفعله الطغاة لتجنيده للسياسة المراد بها تماشياً مع أهدافه هو.
بمعنى عندما ينحرف دور الثقافة والفن ويؤدي سلوكاً معاكساً تحل الكارثة في المجتمعات البشرية برمتها، فليس هناك أسوأ وأفظع من أن يتشكل الوعي في الفرد وليس في الجماعة !
ولكن هل يمكن لهذه المجتمعات أن تتلقى فناً أصيلاً ,والنفاذ من مستنقع الحداثة،يقول مارشال بيرمن " إن أحد شروط الاتصاف الكامل بالحداثة هو أن تكون معادياً للحداثة "
لذا أقول إن الأرض التي وثقت بنا وقدمت لنا كل ما هو جميل لديها لا يُعقل أن لا نثق بها طوال كل هذه السنين، فالطبيعة مع المجتمعات باقية و في ظل الأنظمة الطاغية تزول..إذاً علينا الحفاظ على الأولى لإزالة الثانية.
ختاماً...
ــ كلما ازددنا معرفة ازددنا ألماً، وكلما ازددنا ألماً ازدادت ملامح الشيخوخة في وجوهنا أكثر، لا يمكن للشمس أن تنير هذا العالم طالما تم إطفاء الأنوار الداخلية في قلوب الملايين،ـ وما قيمة الأقوال عن الإنسانية إن لم تترجم إلى أفعال؟
#صالح_برو (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟