|
إنه علي حق!
عفيف إسماعيل
الحوار المتمدن-العدد: 1186 - 2005 / 5 / 3 - 14:23
المحور:
الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية
"ماذا لو عرفت ما كنت تعرفه مرة اخري" ألبير كامو
تيار:
برغم ما يوفره الحزب الشيوعي السوداني لكل كادره العامل به من تأهيل وإكتساب مهارات إضافية، وتنمية القدرات وتطويرها عبر دورات تدربية شاقة تاخذ أشكال مختلفة ومتعددة، علي حسب الحقل المحدد للكادر المعين. ظلت جبهة العمل الفكري من أشد الحقول وعورة، ولا يستطيع الوصول إليها والاستمرار فيها الا من له الذهنية النوعية التي تؤهله، من أوليات شروطها، مرونة التفكير وصرامته المنهجية في نفس الوقت، والقدرة علي التنظّم والتنظيم،والتفكر والتفكير،والابتداع والإبداع،والتخييل والخيال، والتجريب ، والتجريد بالخروج عن هذا الواقع المحدد ومن ثمة العودة إليه مرة اخري بكل أسباب الإلتصاق الإيجابي التي تفيد تفاعله، وتزيد من قوة الدفع الحركية نحو التقدم، ورسم أُطر نظرية تفيد دوران تلك العجلة إلي صيرورتها.
خاض الخاتم عدلان في هذا الحقل الشائك باكراَ، لا يسنده غير ذكاء وقاد ينمو يوماً بعد يوم، كأنه مسافر في الزمن بمركبة تتوافر فيها كل قدرات الإستبصار العلمية المحفزة علي ضخ الجديد في عروق ومفاصل الافكار لتلاقح مع الواقع المعقد، تفعل فعلها خلف الأشياء، وتسنده تلك الريفية التي تنز من كل مسامه وملامحه، وقد وظفها فى فنون الأختفاء تحت الأرض دائما في سنوات الكرب الدكتاتوري المتلاحقة. ظل يرتقي خطوة بخطوة في السلم الحزبي، مخلفاً في كل مجال يعمل به بصمتة الثاقبة التي يراها حتي الأعمي.
من دكتاتورية إلي آخري يتكاثر العميان بينا ولا نراهم، كأننا هم!
وتمضي السنوات،، وتختل البوصلة بعد إنهيار التجربة التطبيقية في شرق اوروبا، ويقع العبء الأكبر علي عقول العاملين في الحقل الفكري للحزب الشيوعي السوداني، معظمهم ركنوا إلي السهولة ومشتقاتها، وغرقوا في تلك التفسيرية التبريرية التي لا تغوص إلي عمق أبداً، فقط تستكشف الظواهر وتحللها ولا تسنبط حلول لهذا السونامي الأممي المفجع، الذي طالت تداعياته حتي شقوق البحر الأحمر ففتك بالصبية عدن، واديس ابابا المشرقة برغم ضبابية سماواتها. وظل الحزب منهكاً من طعن وإستهداف دكتاتورية الجبهة القومية الاسلاموية يقاتل بعناد جريح لا فرق بين لون دماؤه ورايته، قلة من كانوا يعملون في الجبهة الفكرية ثابروا بدأب نميل يخطط كيف سوف يقضي الشتاء القادم الطويل!! وحاولوا ما استطاعوا تحويل التراب إلي تبر. في طليعتهم كان الخاتم عدلان، يطلق مساهماته في أدب الحزب الداخلي برنينها الخافت الذي يخصها، واطروحتها الثاقبة، وتفكيرها الأنيق الذي يليق بحدة المازق، ومنعطفة الشديد الانزلاق، ومنطقها البارد الذي يحدد مكامن الوجع ويقترح الحلول، التي تعالج مصهور الواقع البركاني ويتفاعل معها إلي .. .. آن آوان التغيير!! تلك المساهمة التي كانت اشبه بمن يرمي جبلاً في بئر، حركت سكون أوجاع مزمنة اخفتها مسكنات التبرير طويلاً، وصارت مثل ضرس فاسد نتقي آلامه بمضادات بدائية. تلك المساهمة المعرفية المستنيرة المستبصرة، اشعلت الجدل في كل اروقة الحزب عكس ما يريد له أباطرة الجمود، والحلول المستهلكة،خلخلت يقينية الماركسيين الإيمانيين، وفضحت زيف المتشدقين بإحترام الإختلاف وهم سوسه المستتر الذي ينخر في عظمة صراع الإفكار. عبر الخاتم عدلان إلي حيث اختار، متسلحاً بتاريخ نضالي انضجته التجارب، والجهد المعرفي المثابر، وإتساق وجداني مع طموحاته المشروعة من أجل تسيير قافلة الشعب السوداني بدون حادي ضليل، يدمن التكرار والفشل، ويتستر وراء غيوم الغبار الكثيف، ولا ير فئ الواحة، ويرمي بشعبه في العراء القاحل. من خلال تأسيسة لحركة القوي الجديدة واصل نضال المستمر، وسدد سهامة الفكرية في وجه الهوس الديني ودولته الفاجرة. وفي أروقة الحزب خرج المارد من القمم، ولا سبيل لإرجاعة مرة اخري إلا بالتحايل والإمتصاص التدريجي، ودارت الحوارات المستفيضة، بعضها كل مجسات للعضوية أكثر من حرية التفاكر وديمقراطيته في راهن عاصف، وكنت من خلالها أتشكك وأتسأل أكثر مما اجيب واقول: * في نشاطنا الطوعي من جاءنا طوعاً ، طوعاً يذهب. كما جاء. * هل نحن اوصايا علي هذا الشعب العظيم، كي نقرر بالإنابة عنه من هو الأصلح له؟ وحده هو الفصيل الأمين. * الخاتم عدلان بكل خبراته الفكرية هو اول من يعي بأن الاحزاب تنبت بالرغبات الذاتية،بضرورات موضوعية تنتجها حوجة واقعها لها، هل مازالت السياسة السودانية تحتاج للحزب يشغل منطقة الوسط الخالي؟. * * ثم، هل يخلع الخاتم عدلان جلده مثلما خلع قميصنا الحزبي الذي صار ضيقاً عليه؟ أم يتواصل حلمة كإنسان بالعدالة الاجتماعية والتقدم، واحترام حقوق الإنسان. ويناضل ضد كافة أشكال الدكتاتورية. * أري برغم الخسران العظيم لكادر مثله، المستفيد الأول من خروج الخاتم عدلان هو الحزب الشيوعي السوداني نفسة ، ففي وسط عضويتنا التي هي نتاج طبيعي لملامح واقعنا السوداني، بكل أرثه والغث والطيب، فقد آن الآوان كي يجد الضجرون، او القلقون، ، او هواة طئ المراحل، او الذين صارت قدراتهم أكبر من طموحات الحزب الشيوعي السوداني، او الذي يؤمنون بذاتهم وحوصلت فوضي تصنيف الكادر قدراتهم اللا محدودة، الباب صار مشرعاً لهم بشرعية خروج هذا القائد العظيم للخروج معه، او في أي دروب يختارونها توصل إلي رفاة الشعب السوداني، والمسير به في دروب التقدم من زواية لانراها، ولا ندعي معرفتها كالمنجمون، وكلهم مهما تشتت بهم السبل هم أقرب إلينا من كل أحزاب اليمين وتكتيكاتها المرحلية معنا لمستقبل الوطن، هم زاد للتائه بين طرح الحزب الشيوعي السوداني وتاريخه المثقل بتركة الدعاية المضادة منذ ميلاده، وبين احزاب أخري لها رؤية تختلف عن زوايانا الحادة، وايسر لجيل من الناهضين من ارث البطولة والتقدم، ويصعب عليهم ولوج اروقة الحزب، بالبحث عن أوعية تحمل الملامح الجينية والخواص المشتركة للزود عن مكتسبات الشعب وحقوقه،يكفينا فقط ان تتجه الاجيال القادمة نحو فكرة التنظيم في كافة أحزاب التقدم، فالاحلاف للمجموعات ذات الخواص المتشابهه هي بذرة الغد في عالم اليوم. * نعم، لينين يقول "حين يسقط الشيوعي يسقط عمودياً" لكن هذا القول لا ينطبق علي الذين خرجوا قبل ان يسقطوا! الساقطون عموديا كثر وهم لا يدرون! فالساقطون عمودياً لا محال هم عبدة النصوص والاصنام التاريخية، الخاملون، العاطلون فكرياً، الإيمانيون، المتقاعسون ، المتبرمون، والذين يسندهم سنام تاريخي،المبتكرون لفنون التبرير. من أين جاء كل هولاء إلي حزبنا؟؟؟؟؟؟؟؟!! هم طليعة ابناء هذه التربة السودانية المسمومة بكل المتناقضات التي تنبت سنابل القمح تجاور العوسج، وعبر مسيرة طويلة للتخلص من كل الإرث السالب لتربية ملكاتهم، قد تستغرق عند البعض طوال عمره الحزبي وهم لا يدرون. * آن الآوان ان نتحدث عن سهم "المركزية الديمقراطية" الضاغط دائما إلي الأسفل كي يعود إلي حركته الطبيعية من اسفل إلي اعلي صعوداً وهبوطاً من غير من إختلال وتجاوز، ونصيرها "مركزية الديمقراطية" * دعوا القمح ينمو ، والناس تختار. بالمقابل كان الأصدقاء في "حق" من رفاق الأمس يجددون دعوتهم لي بآوان الرحيل من هناك، احترم مشروعية دعوتهم واقول لهم دائماً: فليكن بيننا اللإختلاف والأحترام، ودروب التقدم التي تحتاج لجهود غير متناحرة، فانتم علي حق، ونحن نظن ذلك ايضاً. وخير لكم ان تبعدوا من التجنيد من عضوية الحزب الشيوعي السوداني، لآن ما به من آفات ونقائص قد تجرثم مولودكم الرضيع الذي بدأ ينمي مناعته.اذهبوا حيث ما شئتم فلن تضلوا دروب الشعب ،ففيكم الخاتم. موج أخضر:
في تلك الأيام الخضراء من الديمقراطية الثالثة، تم تكليفي من قبل دار التحالف الديمقراطي بالحصاحيصا للاتصال بـ الخاتم عدلان للتنسيق لندوة في ذكري ثورة أكتوبر الأخضر ضمن اسبوع ثقافي. فذهبت إلية قبل ثلاثة اسابيع من الموعد المحدد بدار الوسيلة، أخرج مفكرتة ودون عليها الموعد، وكنت قد إقترحت عليهم ان نذهب الساعة الحادية عشر صباحاً، كي يجد متسعاً من الزمن للراحة من رهق السفر بين مدينتين. وكنت هناك بعد ثلاثة اسابيع، وجدت مذكرة منه تفيد لظروف طارئة تخص عمله تم تأجيل موعد تحركنا إلي الحصاحيصا إلي الساعة الثالثة بعد الظهر. عندما إتصلت بالزميل" حسن وراق" الذي كان يعمل بوزارة التجارة قبل ان يطاله الصالح العام بعد إنقلاب الجبهة القومية الإسلاموية في 30 يونيو1989م، وهو من اصدقاء الخاتم عدلان جمعت بينهم سنوات طويلة من الإعتقالات في زمان دكتاتورية المشير الأمام جعفر نميري(69-1985)، وبينهم ايضاً الكثير من الملامح الذهنية، التي جعلت حسن وراق ضمن زملاء أخرين أبرزهم شقيقه المربي الجليل فاروق وراق وجعفر عبد الرازق بخيت، وعبد الكريم عبد النور، وفاروق أحمد ..و..و,..و..و..و...و...و وآخرين لم يحن آوان ان نذكر اسماءهم بعد، من ذوي السيرة ذات الاستقامة الوجدانية، والتي تحمل من المعاني الانسانية كل ما هو نبيل، كانت نضالاتهم وتجردهم وغيريتهم معبراً لجيل كامل من ابناء الحصاحيصا لعضوية الحزب الشيوعي السوداني. اخبرت حسن وراق بهذا التأجيل، فوجدت إنه يعرفه من الخاتم عدلان نفسه وبينهم نتسيق ان نذهب معاً في الساعة الثالثة.
ثلاثتنا أجتزنا عنق الزجاجة بخروجنا إلي شوارع "الخرطوم 2" إلتفت الخاتم عدلان إلي وقال: - شكلك، يقول بانك يمكن ان تموت من الجوع قبل ان نصل الحصاحيصا.تذكرت حينها إنني لم اتناول غير الافطار الباكر قبل مغادرتي لمدينتي صباحاً، وطيلة مابعد منتصف النهار لم اشرب غير كوب عصير "العرديب" المثلج بالمحطة الأوسطي بـ "الخرطوم بحري". خلال وجبة الغداء سألني عن تصنيف الحضور المتوقع عن نسبة النساء، الشباب، والشيوخ فيه، وعدده، وعن موضوعات التي تحدثت فيها الكوادر المركزية التي زات المدينة من قبله، لخصت له قبل أن ننتهي من وجبة الغداء شفاهة كل ما سأل عنه.
بين مطبات طريق مدني- الخرطوم الشهير بـ"طريق الموت" كنا نتناول موضوعات عن أسماء القري والمدن بالجزيرة "حسن وراق" بحسه الفكهة كان يضيف معلومات طريفة عن كل أسم نتذكره، لم ادر حتي اللحظة هل هي حقيقة أم محض سخرية "آل وراق" وقدرتهم الفورية علي خلق النكتة والتعليقات الساخرة في كل المواقف، التي اشتهروا بها في الحصاحيصا، ثم عرج بنا الحديث عن إتحاد الشباب السوداني، الذي كان هو حقل عملي الفعلي واشغل فيه منصب سكرتير منطقة شمال الجزيرة، وعضوية اللجنة التفيذية علي مستوي السودان، نقلت له تلخيص لتفاصيل برامجنا لثلاثة شهور قادمات، ابرز ملامحها تنظيم مناشط تهتم بالفنون والرياضة، مثل تنس الطاولة، والكرة الطائرة،وبعث بعض الاشكال الرياضة المندثرة ذات الطابع الجماهير، ولها جذور في تاريخ المنطقة، ودورات للشطرنج، ورحلات تبادلية للمناشط تطوف كل قري المنطقة، بجانب البناء الفكري للعضوية عبر اكثر من وسيلة تخص هذه الفئة من المرحلة العمرية، ثم نقلت ملاحظاتي عن فقر جريدة الشبيبة لسان حال إتحاد الشباب السوداني، التي كان يرأس تحريرها في ذلك الوقت، وعن ضعف الموضوعات الجاذبة للشباب في هذه المرحلة العمرية، وجفافها الأكاديمي،وإنها نسخة مستنسخة من "الميدان" .تحدث هو عن شعار المؤتمر الأخير "نحو حركة شبابية غنية المحتوي، ومتعددة المنابر" كيف نحول هذا الشعار الشامل لبرامج عمل يومي مبتكر جاذب يلبي إحتياجات الشباب الحقيقية، وليس القفز بهم إلي أفق اوسع من خطوتهم لآن ذلك سوف يعود آجلاً بنتائج عكسية، وان لا ننظر فقط لإتحاد الشباب السوداني كإحتياطي نضالي للحزب الشيوعي السوداني، وحينها بالتأكيد سوف تنال جريدة الشبيبة بعض التحسن الملموس في طرحها اليومي.وروي حسن وراق جزء من بعض الطرف حول عمله في إتحاد الشباب السوداني، وملاحظاته علي الشبيبة الروسية(الكومسمول) حيث درس، وتفريخهم بشكل شائه وآلي لا ينتمي الى نموذج الدولة المنوط بها الريادة، وحضوره مهرجانات إتحاد الشباب العالمي "وفدي" وكيف عاصر هناك بعض التجارب البسيطة المعبرة، وحكي كمثال عن الوفد الممثل لإتحاد الشباب المصري، في احدي المهرجانات بكوبا الذين كانوا خططهم الأولية لعرض قضاياهم بأوارق تفصيلة مترجمة لعدة لغات، إلا انهم تخلوا عن كل بياناتهم حين ما اهتدوا لفكرة بسيطة معبرة عن معاناة شعبهم فقد قاموا برسم لوحة كبيرة "للسادات" بكل نيشاناته الحربية التي تزين حلته الزرقاء وجاءوا بأكبر برميل للقمامة في مكان المهرجان ووضعوها في الطريق المؤدي للقاعات والسكن في أن واحد،فصار كل المارة من الرفاق وضيوف المؤتمر يفضلون التخلص من مخلفاتهم في مزبلة "السادات"!!
ثم تحول الحوار بعض ذلك إلي مناظرة بينهما حول الاوضاع الإقتصادية بعد الخروج المتعثر للبلاد من أعوام المجاعة،وشبح الحرب المسيطر الذي يجعل كل محاولة بناء هي خراب بشكل آخر في غياب التخطيط الإقتصادي السليم، وكان حسن وراق بموسوعيته الرقيمة وقدارته المذهلة علي الاستنباط يحدد مكامن الخلل وطرائق الخروج، وكأن الخاتم عدلان لايتفق معه كثيراً فيما ذهب إليه، فقط كل فترة واخري يسأله عن أحصائية رقمية يحفظها حسن وراق كانه يقرا من تقرير أمامه، وفجاة وجدنا أنفسنا امام مصنع الغزل و النسيج بوابة مدينة الحصاحيصا الشمالية، تبقي من الزمان المعلن للندوة ساعة ونصف، عندما اقترح حسن وراق ان يذهب الخاتم عدلان معه، لم أعترض، ظننت بينهم تفاصيل يريدان أن يكملاها معاً ، وسريعاً حسمت أمري بان هذا أفيد لكل الأطراف، وذهبت إلي دار التحالف، لاح القلق المبين علي أفراد مجموعة الحماية وسألني الزميل "........" أين الخاتم عدلان؟ اخبرتهم بمكانه، فهرعوا مسرعين إلي هناك حانقين، وكنت أعلم ما ينتظرني من تقريع بعد يومين في الاجتماع الحزبي، حول التفريط والتساهل والإستهتار في "حماية" زميل مركزي. وكانت الندوة جموع غفيرة أكبر من توقعنا لها أتت لتستمع لهذا الرجل الساطع الأفكار، والجدل، وله سهولة تخصه في طرح اعقد القضايا بساطة وتحليلها، وكنت أكثرهم إستمتاعاً عندما إستعرض الخاتم عدلان تفاصيل الوضع الإقتصادي، وكان قد تخل عن كل ما كان يطرحه من إعتراضات علي رؤية حسن وراق ويردد كل فقرات كلامه بطرايفها وإحصائيتها الدقيقة، فادركت بان الرجل وهو يقود العربة، يقفز من مطب إلي مطب في شارع الموت ، كان ذهنية يعمل علي تنقية المعلومات وسط مرشحات للتصفية الدقيقة تخص ذهنه المتوقد الذي ينحاز إلي الرؤية السليمة عندما يستوثق من صحتها، ويترك بغير إعتداد ما كان يفكر فيه، وكل ما كان يدور اثناء طريقنا من الخرطوم إلي الحصاحيصا لم يكن للإستهلاك الوقت، بل كانت حصيلة تلك النقاشات موضوعات الندوة المثمرة وأكثرها حيوية.
ومضت الأيام الخضراء بعد هطول الجراد الإسلاموي في سبتمبر من عام 1995
كنت هناك في زنزانة ضيقة مع مجموعة من شرفاء بلادي،من الشيوعيين والديمقراطيين، ، عبد الكريم عبد النور، معروف علي أحمد، أزهري محمد علي، عبد الوهاب محمد صالح، المحبوب محمد الأمين، زروق الناجي، عبد الوهاب إبراهيم هنداوي، شقيقي الأكبر عاكف إسماعيل، وحسن وراق، بعد أن ضاقت بنا زنازين مشروع الجزيرة التي كانت اصلاً مخازن للبترول، والمواد السمية الكيماوية الحافظة للبذور قبل حلجها، تم ترحيلنا ليلاً إلي مدينة "تنبول" بشرق السودان،وغسل هواء"البطانة" الرطيب ما علق بالرئات من سموم تبقت فقط سمفونية السعال الجماعي التي كان يثيرها غبار العربة المكشوفة في طرقات غير معبدة.
هكذا وجدنا انفسنا معتقلون في مخزن يخص الوحدة العسكرية لمكافحة التهريب بشرق السودان، حاولنا ان نجد لإنفسنا موضعاً بين جولات الفحم، والبصل، وبقايا ادوات مكتبية، واشياء كثيرة تعلن رائحتها عن إنتهاء صلاحيتها، إرتجلنا مواضع تكفي لجلوسنا بين هوام الأرض، والفيران المذعورة من هؤلاء الغرباء الذين يقلقون ليلها، وكان حسن وراق يطلق دعابته التي تخفف من وطء اللحظات المزرية عندما كان يصر علي مخاطبة الجميع بالقابهم العلمية والعميلة، وهو يوزع علي كل منا مكانه داخل الزنزانة، وتطال دعاباته حتي تلك الطريقة للتعذيب، التي كان يتم بها حجزي ليلاً في الايام الأولي، وهو عبارة عن دولاب حديدي بطول متر وثمانين سنتمتر، وعرض متراً واحداً وسمك لا يتجاوز خمسة وعشرين سنتمتر، كان ظهر الدولاب مغطى بحديد مصفح، واجهته الأمامية بقضبان ضيقة الفتحات،عندما كان يسألني كل يوم بعد مغيب الشمس - من سيكون رفيقك اليوم في "معروضات البطانة"!! أو - أحكي لنا مسلسل اليوم سريعاً قبل عرضك في" معروضات البطانة"، وكان يشير هنا إلي تلك الحكايات التي كنت أحكيها لهم لكسر الرتابة والإبتعاد ذهنياً عن إختناق الزنزانة، ولرفع الروح المعنوية، وذلك الدرس تعلمته مباشرة من حسن وراق في إعتقال سابق في أحد البيوت اللعينة بالمدينة، كنت قد بدأت الحكايات بإثناء عشر قصة قصيرة لماركيز بعد مغيب الشمس مباشرة يومياً ،في ذاك الوقت الحميم والمفضل لإجتماع الاسرة السودانية والتحلق حول حلقات المسلسل المصري، قبل إنتشار الاطباق الفضائية حتي علي سقوف البيوت الطينية، وقد عبر شاعر الشعب محجوب شريف عن هذا الوقت وخصوصيته للاسرة السودانية حين كتب:
"اسمعنا ياليل السجون نحن بنحب شاي الصباح والمغربية مع الولاد والزوجة والأم الحنون والاصدقاء إلي اللقاء واللمة عند الامسيات والتكية جنب الاغنيات والقدله في السوق الكبير"
وبعد ان توقفت الحملات التعذيب الليلة، وذات مساء، بعد أن قصصت عليهم "جئت كي اتصل بالتلفون" لماركيز ضحك شقيقي عاكف كثيراً وهو يهمس " هل اعدت كتابة هذه القصة مرة اخري بعد ماركيز" ضحكت لملاحظه الذكية، فهو الوحيد بينهم الذي قراء هذا الكتاب، فقد وجدتني أحكي مشروع سناريو مسرحي لنفس النص القصصي، قطع كتابته هذا الاعتقال.ثم تفرعت بنا الأحاديث والذكريات لأيام الفرقة المسرحية للجنة إتحاد الشباب السوداني بـ المايقوما واركويت وقد كان عاكف ممثلها الأول، ثم استرجعنا كل الانشطة الثقافية والسياسية في تلك الإيام الخضراء بالمدينة، فتذكرت سؤال مؤجل منذ سنوات، سألت حسن وراق عن تلك الامسية التي عطر الخاتم عدلان فيها مساء مدينتنا، وسألته تحديداً هل قام الخاتم عدلان بتدوين الاحصائية وبعض المعلومات الرقمية منك مرة اخري بعد ان افترقنا؟ فأجاب حسن وراق بعد حدق بعيداً: - أبداً، بل تحدثنا في أشياء اخري لا علاقة لها بهذا الموضوع إطلاقاً، ثم بعد فترة صمت قال بصوت محزون، الخاتم عدلان عقلية فذة، له ذاكرة فوتورقمية مزدوجة،شديدة الحساسية لإلتقاط كل ما يهم الشعب السوداني!
في الضفة الأخري: في المابين في فضاء منسوج من الفضة واللمعان الكثيف، في وسطه الوهاج كانت تطير فقاعة بلورية بحجم الكرة الأرضية والكواكب المجاورة لها، لونها يشف في أخر درجات الأخضر رهافة ، كأنها وحدة مصقولة في لوحة تشكيلي لا يؤمن بالسميترية ويجيد التنقيط الإنطباعي بالالوان المائية، في وسطها بالضبط في مكان يشبه جزيرة "توتي" ما قبل الخليقة كانوا هناك يتحلقون، دائرة من السمر الأبرار الميامين، عندما اقتربت اجنحة الخاتم عدلان البيضاء أكثر، إستبان صوت مالوف لديه يأتي من كل الاتجاهات، ينشد في تمازج متماهي مجتزاءت نصوص للأمام الشافعي وأبن عربي وحسن بيومي وكمال الجزولي:
"غني عن الناس بلا مال وليس الغني إلا عن الشي لا به.. لو عرفنا سبيلاً إلي الفراق لأذقنا الفراق طعم الفراق.. تعالوا ايها الفقراء طارت بالنبا الريح والحق، الحق، أقول.."
ابتسم الخاتم عدلان، وهو يري قامة مصطفي سيد احمد تشمح بزهوها الفاتن، وهو يغني بمصاحبة اوكسترا من العصافير النورية التي ترتدي قوس قزح وتعشش في شعره، وكتفيه وبين يديه ، وتشاركة العزف بإنسجام ينتمي إلي تلك الحظة. لحظة بلحظة تذكر ثواني العيد الاربعين للحزب الشيوعي السوداني، وعندما رفع راسه إلي أعلي، شاهد ما كان يفكر فيه معروضاً علي شريط سينمائي فوقه مباشرة. أمسكه مصطفي سيد احمد من كتفه الأيسر وقال له: - من فينا مصطفي الآن، من أين لك بتلك اليقينية المفرطة يا خاتم؟ وانت تختتم إحتفالات العيد الأربعين وتودع الجموع الوضيئة قائلاً لهم : - إلي اللقاء في العيد الخمسين!!!!
عند أتم هبوطة الأخير إلي أعلي ، بهر عينيه سطوع إبتسامة محمود محمد طه الطيبة المتسامحة، فمثل بين يديه وقال له:
- اعذرني يا ابتاه، لقد قارعت دولة الهوس الديني بعلمانيتي النبيه، لكنه الجسد تخلي عني. تخلي عني يا ابتاه. - لا عليك، يابني، معلمنا قديماً قال للأفكار أجنحة. إلتفت فوجد عبد الله السماني يتأهب لمعانقته، فتعانقا طويلاً ،وهمس له في أذنه - حروقي مازالت تحترقني، يا خاتم!!
كان حسين الشريف وطه يوسف عبيد يضعان لمسة أخيرة مزدوجة للبوتريه لوجه الخاتم عدلان بدون نظارات وفي عينية بعض أصغاء. قربهما يتكئ عادل ميرغني يقرأ رواية لم تصدر بعد لـ صنع الله إبراهيم. تهلل وجه محمد الأمين وهو كعادته يلحق السؤال بالسؤال: - هل زرت "المناقل" قبل مجئيك إلينا؟ هل مررت بتلك السينما؟؟ هل تذكر عندما شاهدنا معاً فيلم "زد" ؟؟ - وايضا اتذكر جيداً عندما شاهدنا معا " زوربا اليوناني و دكتور زيفاجو" عبر من امامه سريعاً صوت مصطفي الشيخ وهو يتمتم كدرويش: - مدوا النبراس، مدوا النبراس، مدوا.. وياتي الصدي من مكان مجيباً ، بصوت علي فضل - لا تتخلوا عن بسطاء الناس،الناااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااس
- اقتربت منه سيده ابو القاسم، وهي تنثر في طريقها بذار لبلاب متعدد الالوان وسريع النمو. دنا منه شيبون وهو يمج من لفافة تبغ بلا رائحة، اخذ نصفها من عبد الرحيم ابوذكري وتمتم متوتراً: انتظرناك طويلا، لكن قل لي بخنجر من ..؟- عندما طافت رائحة صندل مهيمن تأكد بأن سعيد الشائب قريباً منه بدائرته المغنطيسية الصندلية التي تسبقه مجيئه دائماً، ولمحه هناك يضع يده علي اذنه اليمني كي يسمع بالآخري جيدة، ويتحدث بلا أسلاك مع شخصاً آخر في زمان آخر، متفقداً احوال الأخوان قارة، قارة! - التايه أبوعاقلة كانت تنصت بكل اشواقها لحديث مشترك بين أنور زاهر و عبد المنعم سلمان.. قربهما انصاف إبراهيم بحنو تنفض الثلج عن بال زهيراتها، تحادثها ، تحكي لها عن احلامها، ثم ترويها بماء معطر.
- كان ميرغني محمود النعمان يتوكأ علي كتف عبد المنعم رحمة وهو مازال ويهتف من أجل الحرية، ومحمد عبد السلام يحاول ان يرتق ثقوب الرصاص علي جسده. ومن خلفهما نجم الدين جعفر ابكر آدم وخالد محمد نور يرددان الهتاف. وكانت مشاعر محمد عبد الله ترسم دوائرها معلقة في الهواء وتسبح متقافزة مثل دولفين من دائرة إلي اخري خلفها سعاد سلام محجوب قوليب وشقيقي علاء ينتظران دورهما.
- علي عبد اللطيف واحمد الطيب زين العابدين و علي المك وابوداؤود ومحمد عبد الحي وعلي عبد القيوم، والمجذوب، متشابكي الأيادي يسيرون وبينهما مسامرة سودانوية حميمة، عندما أبصروا الخاتم عدلان قادم نحوهما ركضوا وإحتضنوه معاً في دائرة من الازرع الوارفة.. لم يدر الخاتم عدلان في أي ساعة من اليوم هو! هناك ضوء خافت وظلال، لكن لاتوجد شمس أو قمر أو أو ثريات كهربائية، السماء نفسها لم تكن موجودة!
من الافق البلوري المتماوج كانت هناك نجمة حمراء تطير حلزونياً علي عجل كي تدرك المكان ،وعندما اقتربت ترجل منها عبد الخالق أنيق حافي حالق، وضماك إلي صدره طويلاً ثم قال: - مرحباً بالرياحين، لمَ تعجلت الرحيل يا خاتم؟ - إني علي حق! - أعلم إنه آوان التجديد، لكن لمَ تعجلت الرحيل؟ - الطريق لم يعد يفضي إلي الحلم - أشهد إننا خسرناك مرتين مرتين!! - لست بخاتم للأولين، أراهم من بعدي قادمين، من ثورة إلي ثورة، يرفدون دروب التقدم بنجوم زرقاء. لست بخاتم لأحد!
كانوا هناك جميعم ينظرونكَ القرشي، خليل فرح، جوزيف قرنق، صلاح بشري، أبوبكر راسخ، الدوش، إسماعيل عبد المعين، ود الزين، قاسم امين، محجوب سيد أحمد، عزالدين علي عامر، مكي عبد القادر، وخالد الكد، نصر الدين عبد القادر، كثيرون، كثيرون تعرفهم ولا تعرفهم من مزارعو عنبر جوده،ضباط 28 رمضان، طلاب معسكر العيلفون الغرقي، قتلي دار فور، وبورسودان، وحلفا، وبور.. والمنسيون من ضحايا الالغام الارضية المنسية وعام المجاعة. كثيرون كثيرون كثيرون كثيرون كثيرون كثيرون ك ث ي ر و ن
يريدون ان يحتضنوا اشواقهم فيكَ! .. .. حين لوح الخاتم عدلان بطفولية جزله بيديه الاثنين لجده عدلان، أمطرت فجأة بلا سحب رذاذاً ملوناً مثل العاب نارية، ثم إستحالت الزخات إلي سجادة محلقة مزركشة بزينة فارسية ، نزل منها الشيخ فرح ود تكتوك مد يده وصعد بالخاتم عدلان إلي بئر في الفضاء الطلق ووقفا علي فوهته، وقال بصوت نحيل: لقد قلت من قبل:
آخر الزمان شيب الشبان وشيل السبحة بلا إيمان!
وآخر الزمان السفر بالبيوت والكلام بالخيوط!
لكنني لم أفكر أن أقول:
آخر الزمان دس القوت وسرقة التابوت. .. .. جدتي شهرذاد بلون الأبنوس، حكاياتها لا تنتهي عن أول الزمان وآخر الزمن، وعن الآن. كانت عندما تبهظها اللغة وتريد ان تصف خسة ونذالة أحدهم تقول بصوت المشمئز : - إنه أقذر من سارق الأكفان!!
#عفيف_إسماعيل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نيرفانا
-
محمد إبراهيم نُقد.. واسطورة الإختفاء.. أو حقاً إنه حقلاً من
...
-
خذوا
-
مصطفي سيد أحمد ظاهرة إبداعية كونية
-
طرف الغثيان
-
لوحة
-
ظافرون
-
لكننا!
-
وحدها
-
حرب
-
زرياب
-
الحصاحيصا 21 أكتوبر 1964
-
جغرافيا
-
الخريف يأتي مع صفاء
-
دوامات التجاعيد والريح
-
الميدان شمعة فينيقية
-
سِِفر الصراخ
-
مواء غريب
-
الشهيد/ عبد المنعم رحمة
-
الصداع النصفي رسالة إلي صديق يدعي -أوفا-
المزيد.....
-
فرنسا: هل ستتخلى زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان عن تهديدها
...
-
فرنسا: مارين لوبان تهدد باسقاط الحكومة، واليسار يستعد لخلافت
...
-
اليساري ياماندو أورسي يفوز برئاسة الأوروغواي
-
اليساري ياماندو أورسي يفوز برئاسة الأورغواي خلال الجولة الثا
...
-
حزب النهج الديمقراطي العمالي يثمن قرار الجنائية الدولية ويدع
...
-
صدامات بين الشرطة والمتظاهرين في عاصمة جورجيا
-
بلاغ قطاع التعليم العالي لحزب التقدم والاشتراكية
-
فيولا ديفيس.. -ممثلة الفقراء- التي يكرّمها مهرجان البحر الأح
...
-
الرئيس الفنزويلي يعلن تأسيس حركة شبابية مناهضة للفاشية
-
على طريق الشعب: دفاعاً عن الحقوق والحريات الدستورية
المزيد.....
-
سلام عادل- سيرة مناضل - الجزء الاول
/ ثمينة ناجي يوسف & نزار خالد
-
سلام عادل -سیرة مناضل-
/ ثمینة یوسف
-
سلام عادل- سيرة مناضل
/ ثمينة ناجي يوسف
-
قناديل مندائية
/ فائز الحيدر
-
قناديل شيوعية عراقية / الجزءالثاني
/ خالد حسين سلطان
-
الحرب الأهلية الإسبانية والمصير الغامض للمتطوعين الفلسطينيين
...
/ نعيم ناصر
-
حياة شرارة الثائرة الصامتة
/ خالد حسين سلطان
-
ملف صور الشهداء الجزء الاول 250 صورة لشهداء الحركة اليساري
...
/ خالد حسين سلطان
-
قناديل شيوعية عراقية / الجزء الاول
/ خالد حسين سلطان
-
نظرات حول مفهوم مابعد الامبريالية - هارى ماكدوف
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|