عصام موخلي
الحوار المتمدن-العدد: 4126 - 2013 / 6 / 17 - 07:13
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
إن التناول المعرفي الإبستمولوجي لمفهوم الحقيقة في علاقتها بالخطاب الفلسفي المعاصر في فكر جيل دولوز. يهدف أساسا إلى نزع الضبابية ومنطق التبرير عن مسألة حداثية ما إنفك الجميع يركز عليها من دون حس نقدي أو منهجي. خصوصا في ظل سيادة أوضاع ثقافية مركبة بين الأصيل والحديث وإشتداد المثاقفة اللانقدية، إضافة إلى غياب منظور شامل لعمق نظرية واسعة الأبعاد مثل: نظرية الحقيقة. فالإهتزاز الذي يعرفه التعامل الإيديولوجي مع مفهوم الحقيقة وإشكال الخطاب. يعود أساسا إلى إلى قصور المقاربة الإبستمولوجيه له من ناحية. وربطه بالمعرفة من جهة أخرى، وما يقع بين هذا هذاك من ناحية ثالثة؛ فعدم اجتراح الحقيقة من جديد من داخل تاريخها النظري. وضمن تفاعلات شبكتها المفاهيمية: (الرأي، الفكر، الواقع ، الخطاب,,,الخ) يمثل غيابا لعقل فلسفي نقدي يباشر قضايا سياسية كونية وفق براديغم ما هو خاص. فبراديغم (pradigme * ) الحقيقة، يتدخل فيه الإنفصال بالإتصال، ثم التراجع بالتقدم.
عمل "جيل دولوز" في إطار هدم صورة خطاب الفكر الدغمائي التي تتسم بالدغمائية والوثوقية الأرثدوكسية، إلى محاولة إعادة تشكيل رؤية جديدة للفكر الفلسفي مغايرة عما عداها في ذاكرة الفكر البشري منذ نعومة أظافره، صورة نتلمسها ـ على الأقل ـ بشكل واضح في مؤلف الرجل الصادر في 1962 والمعنون ب" نيتشه والفلسفة ". والتي تلخص في جانب من جوانبها، أهمية الخطاب الفلسفي والدور الملقى على عاتق حامله. كرسالة صريحة واضحة من فيلسوف فرنسا المعاصر جيل دولوز.
يبسط جيل دولوز في هذا الكتاب، فهما جديدا ورؤية مغايرة لفسفة " فردريك نيتشه " ، وتأويلا مغايرا عما ألفناه في التقليد الفلسفي الذي عرض لها باعتبارها فكرا استبعاديا لكل شئ خارج نطاق إرادة القوة والصراع الذي يحكم قيم البشر وقناعاتهم جهرا وسرا ـ قناعات العبيد وأخلاقهم وقيم الأسياد )الأقوياء( وأعرافهم ـ ؛ خارج هذا النطاق وضدا عنه في آن معا. سعى الفيلسوف جيل دولوز معتدا بالمنهج " الجينيالوجي" النتشوي، الذي يشكل صاحبه "نيتشه"، ـ وكما هو معرف لدينا جميعا ـ مرتعا معرفيا خصبا الفكر الفلسفي المعاصر بشكل عام، ولجيل دولوز بشكل خاص. نستشف ذلك بجلاء في الصورة الجديد للفكر التي حاول جيل دولوز بسطها معبرا عن عمق درايته وحسن اضطلاعه على فلسفة " نيتشه " ودلالاتها العميقة وهو درس لا يستوعبه إلا كل ذو حظ عظيم.
عملا منا بالحكمة البالغة والقول المأثور القائل: السؤال كالبوصلة فمن غاب عنه السؤال ضاعت منه البوصلة. لذلك حاولت أن أبدأ تقديمي هذا بسؤال منهجي أبسطه كالتالي : هل للحقيقة وبالتالي الخطاب الفلسفي الرصين تحديد واحد فقط ؟
لعل الجواب الأكثر قبولا لدى جيل دولوز، هو أن صورة الخطاب الفلسفي الدغمائي يحدد الحقيقة في استقامة الفكر الذي يذهب في إتجاه الحقيقة ولا يبغي عليها حولا في أغلب الأوقات، وهذه الفكرة مبنية بشكل ضمني على تصور عام غير مقررعلى الأقل بشكل ظاهري، مفاده أن المفكر باعتباره مفكرا، يحب الحق ويطلبه لذاته على طول بحثه الشاق عنه، وهذا ما يعرف في الأدبيات الفلسفية وأعراف الفكر وتقاليد الأدب بالنية الحسنة والإرادة الطيبة للذات المفكر، والتي تفترض هي الأخرى أن الفكرصوريا منطو على الحقيقة والحق بشكل مبدئي، هذا التضمن هو بمثابة فطرية الأفكار التي تعبر عن مشروعيتها بالبداهة؛ لذلك، فالمفكر لا يخطئ الهدف ولا يجانب الصواب، إلا قليلا ـ وقد خاب من ظن خلاف ذلك في الفكر الكلاسيكي ـ أي عندما تتدخل قوى خارجية غريبة عن الفكر تتسيده وتسيطر عليه ظاهرة كانت أم مضمرة: من قبيل الجسد أو الإنفعالات أو المصالح الحسية...، فنحن لسنا في واقع الأمر والحال كذلك، كائنات مفكرة خالصة؛ ومن هنا جاءت مشروعية الحديث عن المنهج، باعتباره وسيلة فعالة لقيادة الفكر وتوجيه حامله وتخليصه من المعيقات المادية والمعنوية في لآن معا، للوصول به مباشرة إلى الحقيقة وبالتالي المعرفة الموضوعية والخطاب الفلسفي الرصين كما ادعت الفلسفة الكلاسيكية بكل مشاربها. وتاريخ الفلسفة في تلك المرحلة معلمة واضحة على ما ندعي و نقرر في هذا المقال.
بخلاف هذا التصور وضدا عنه يقر ـ فيلسوف فرنسا المعاصرـ ، أن الخطاب الجديدة للفكر لا تتحدد باستقامة الفكر أو صوابه سجيته، يتعلق الأمر في الخطاب الجديدة، بالتصنيف الذي لا يمكن أن يحدث بأي حال من الأحوال إلا عن طريق معرفة بنية المصنف ومكوناته من أجل القيام بعملية التصنيف بشكل منطقي ومعقول حتى يتسنى لنا وضع الفكر المقصود داخل إطار أو الجهة أو الموضع أو المجال الذي يناسب نوعها leur type إما خطأ أو صوابا ، ولكي يتسنى لنا ذلك العمل المنهجي، لذلك يقول: "يجب إخضاع الحقيقة لمعيار أسفل منها ويجب إخضاع الباطل لمعيار أعلى منه " .
" soumettre le vrai a l’épreuve du bas soumettre le faux a l’épreuve du haut"
ولنتبين بجلاء القيمة الحقيقية للأشياء جوهر وجودها الفعلي وكنه قيمتها كما هي؛ المسألة هنا أشبه بمثال "صائغ الذهب" لكونه يحاول بدون ملل ولا كلل أن يخضع الذهب لمعيار كميائي محدد محاولا أن يبحث عن كثافة مادته، مسائلا المادة من خلال التجربة هل يسكنها شيئ آخر غير المادة المقصودة أو المادة الأصلية ليحدد جودتها وبالتالي مقابلا لها: والمقصود هنا هو، أن الصورة الجديدة للفكر يجب أن تخضع الخطاب للتمحيص والتدقيق بشكل مكثف من أجل تميز الغث من السمين؛ بمعنى آخر لا يجب أن ننساق مع الكلام الجميل المعسل المنمق من دون معرفة القوى الثاوية المتخفية خلف برقع هذا الخطاب أو ذاك، والأمثلة عديدة على ذلك و كفى بها حاكما وشهيدا.
من هذا الطريق المنهجي يسلك الفكر ليلتقي بالفن ليوضح لنا ما خفي في الأول واتضح في الثاني، نحيل هنا تحديدا إلى أحد رواد هذا الإبداع البشري الذي يقارع الفكر والمنطق في إستنطاق العقل والإستحواذ على العاطفة والذي إحتل مكانة بارزة في كتابات جيل دولوز حول الفن، سواء في كتابه المعنون ب "منطق المعنى" أو في كتاب "منطق الإحساس" بالإشتراك مع "كلير باريني" . نشير إلى الفنان فرانسيس بيكون فهذا الرجل كان يقوم في ثلة من لوحاته، برسم "بورتريه" لشخص ما بوجهين مشوهين؛ الوجه الأول، هو الوجه الذي يحمله الشخص المقصود وهو الذي يعيش به بين الناس، والوجه الثاني هو ذلك الوجه المنعكس لنفس الرجل على المراة أو على شيئ آخر لست أدري، لكن الرجل يقدمه في شكل مختلف عن الوجه المشوه الأول. ومن بين التأويلات هنا، أن إختلاف الصورتين يلخص في جانب من جوانبه عمق الإختلاف بين شخصية الإنسان كما هي، وشخصية الإنسان كما يريدها أن تكون؛ بمعنى آخر الباطل والواقع. والفن ـ كما يقال ـ حمال أوجه لذلك لا مشاحة في التأويلات.
هذه الطريقة النقدية المنهجية سوف يستخدمها دولوز في مقاربته الفلسفية من أجل بناء المعرفة بناءا منيعا يصعب هدمه، على الأقل هذا من وجهة نظر فيلسوف فرنسا. فهذا الفحص وهذا النقد وهذا المنهج هو ما يستخرج الحقيقة بشكل نقي وصاف صفاء سريرة الإنسان من شرورها في بعض الأحيان عند طرح السؤال، لذلك فعندما يسأل شخص ما عن دور الفلسفة ؟ فعلى الجواب أن يكون عنيفا،
"Lorsque quelqu’un demande a quoi sert la philosophie , la répons doit être agressive"
حسب دولوز عنف على أية حال له مشروعيته الموضوعية؛ لأن السؤال فيه في واقع الأمر والحال كذلك، نوع من التجريح وسوء نية وقلة أدب غير مبررة، لكون أن الخطاب الفلسفي ليس في خدمة الدولة أو الكنيسة ولا يروج لهما. على الأقل هذا ما أريد لنا أن نفهم من خطاب دولوز.
واستخدام مفهوم الدولة له دلالات كبيرة ومعان متعدد، لعل أبرزها أن الدولة بشكل عام تعبر عن أدلوجة سياسية تستخدمها النخب الحاكمة في غزو عقول الناس وعواطفهم، بحث تجعل من خطابها خطابا له مشروعية وصلاحية موضوعية عليهم شبيهة بتلك التي لأب على إبن؛ والقياس يبقى صالحا غير ذي عوج حتى بالنسبة للكنيسة. ويحبل التاريخ بأمثلة لا تعد ولا تحصى لمجازر ارتكبت من طرف الدولة وباسم الدين وبمباركة من الفلسفة في حق مفكرين فنانين أدباء وعلماء عجما وعربا، لذلك فمهما قيل ستظل القرون الوسطى تبقى بصمة عار على جبين الفلسفة إلا قليلا. وما خفي كان أعظم وأشد نكالا.
هذا النقد برمته جملتا وتفصيلا تخصيصا وتحديدا، يذكرنا بالنقد النتشوي ذو مطرقة الجينالوجية الكلية، التي تفتت طلاسم القول الفلسفي في صورته الدغمائية. فالخطاب الفلسفي في علاقته بالحقيقة، يختلف بالجنس والنوع عن الخطاب الديني أو الخطاب السياسي أو أي خطاب أخر لأنه لا يبارك ولا يجب بالضرورة أن يكون كذلك؛ بمعنى آخر ذو إرادة طيبة ذات تفاعل إيجابي مع موضوعات العالم لا تكلف نفسها عبئ السؤال والقيل والقال.
هكذا، أراد جيل دولوز للفلسفة أن تقلق مضاجع من تسكنهم في صمت وفي صخب تجعلنا نعارض نرفض ننتفض ننتقد ... أو كما قال " الفلسفة التي لا تقلق شخصا ولا تعارض شخصا ليست فلسفة ".
"Une philosophie qui n’attriste personne et ne contrarie personne n’est pas une philosophie".
إعداد الطالب الباحث.
,,,, عصام موخلي ,,,
#عصام_موخلي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟