|
النسق المتسق بين العلم والفهم
يحيى محمد
الحوار المتمدن-العدد: 4122 - 2013 / 6 / 13 - 13:13
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
كثيراً ما يشار الى وجود علاقة بين النسق المتسق والجمال، او بينهما وبين البساطة. ومن ذلك اعتبار الجمال لا يتميز عن الاتساق، فقد كان ديراك يقول بان المرء يستطيع ان يتعرف على النظرية الصحيحة اولاً من خلال جمالها، وهو كما قيل يشير الى شكل من اشكال الجمال يثمنه علماء الرياضيات، على وجه التحديد، انه الشكل الذي يصعب التمييز بينه وبين الاتساق، ها هنا كل شيء نظام وجمال. ويعتبر ديراك من الشخصيات العلمية المغرمة بالجمال في الكشف العلمي، حتى انه لم يتورع في عام 1928 من ‹‹ان يدعي ان احساسه العارم بالجمال هو الذي مكنه من ان يحزر معادلة الالكترون››، وهي المعادلة التي افضت الى التنبؤ بمضاد الالكترون او البوزترون، مع أنه ثبت خطأ المبادئ الاساسية البسيطة التي قامت عليها نظرية ديراك في الالكترون، لكن الرياضيات القائمة عليها ظلت باقية لجماليتها فحسب. ومثل ذلك رغم انه قد تم التخلي عن مبادئ نيلز بور الاساسية، لكن الفيزيائيين مازالوا يستخدمون تعابيره وطرائقه الحسابية. وهو قد تكهن بهذه النتيجة عندما قال عام 1922: ان ‹‹الرياضيات ليس سوى عدد محدود من الاشكال نستطيع ان نكيفها مع الطبيعة، وقد يتفق لأحد الناس ان يجد الاشكال الصحيحة انطلاقاً من افكار خاطئة برمتها››. كما ظهرت اتجاهات مقبولة اليوم تعبر عن مجرد النسق المتسق ولو لم يكن له علاقة واضحة بالواقع، اي ولو انعدمت القرائن على ارتباط هذا النسق بعلاقات الطبيعة، لا سيما ان النسق المطروح هو رياضيات خالصة مفترضة لعلاج بعض المشاكل الفيزيائية المطروحة. وكما يقال بانه ظهر هناك سوق للرياضيات يتوافد عليه الفيزيائيون ليدعموا به بضاعتهم. وكانت هذه النقطة موضع نقد الكثير، ومن ذلك ما قاله بيكرنغ في كتابه (اصطناع الكواركات): ‹‹بما ان الفيزيائيين ضليعون جداً في التقنيات الرياضية المعقدة، فان سيطرة الرياضيات على مقولات فيزيائيي الجسيمات حول الحقيقة الواقعية ليست باصعب تفسيراً من تمسك الاقليات العرقية بلغتهم الام››. وتعتبر نظرية الاوتار الفائقة اكبر مصداق لهذا التوجه، فمن ضمن اهتماماتها الكبيرة اعتمادها على الانساق الرياضية المتسقة والتي كثيراً ما توصف بانها مدهشة، فهي تتضمن غنى وافراً من الهندسة الرياضية، والتي حاولت من خلالها التوحيد بين النسبية والكوانتم، او بين الثقالة وسائر القوى الجسيمية، لذلك اعتبرها ويتن بانها ستعطي اساساً هندسياً لخصائص فيزيائية من قبيل الشحنة الكهربائية. فأول ما يلاحظ هو ان تحديد الابعاد الاضافية فيزيائياً كان يعتمد على الرياضيات، فلو كان في الذرة بوزونات فقط، وهي جسيمات كالفوتون ذات سبين صحيح، لكانت الابعاد 26 بعداً، اما لو اخذنا الفرميونات ايضاً وهي جسمات ذات سبين نصفي كالالكترون فان العدد يصبح عشرة ابعاد فقط. وتوصف الابعاد الستة الاضافية بانها مجعدة وملفوفة بطرق ممكنة تقدر بالاف الطرق الرياضية او الهندسية. وقد اختبر الفيزيائيون كل هذه الطرق الالاف على شاكلة لف ورقة معينة ليروا اي منها اشبه بالواقع. فقد تكون هناك طريقة وحيدة للف الجريدة على نفسها وهي الطريقة المتبعة في الكون، كما قد يكون الكون متبعاً عدة طرق منطقية للف الجريدة على نفسها. وليس بالامكان حسم الموضوع. لذلك تلقت النظرية من معارضيها نقداً لاستغراقها في المعادلات الرياضية، كالذي اقدم على نقدها فاينمان باعتبارها تجعل من المعادلات الرياضية هي ما تحدد الواقع دون العكس. هذه هي نظرية النسق المتسق في العلم، فهي نظرية تأمل في ان تجد لها تطبيقاً في الواقع الفيزيائي. اذ تفترض ان هذا الواقع هو في غاية الاتساق الرياضي والجمال والبساطة. وهو معنى لا نجد له نظيراً لدى الفهم التراثي طالما انه لا يستند الى مجرد النسق المتسق المعزول عن النص ذاته. وليس هناك من يطرح مثل هذه الفكرة الدالة على مجرد الجمال. لكن ظهر في ايامنا الحالية نظام حديث يجاري في جدته حداثة نظرية الاوتار، ونطلق عليه النظام الاتساقي، وهو يهتم بهذا النوع من النسق المتسق في فهمه للنص الديني. فمن الناحية المبدئية يرى هذا الاتجاه ان القرآن الكريم منزّل ومحفوظ بهذا الشكل الذي نقرأه دون زيادة حرف او نقصان، فهو بالتالي يمتلك نظاماً دقيق الاتساق، فكل حرف وكل كلمة لها معناها الحقيقي الخاص الذي لا يجاريها كلمة اخرى او محل اخر، فكل شيء موضوع في محله بقدر دقيق لا يقبل التغيير، فأي تغير مهما كان بسيطاً فانه يضرب النسق ويتجاوز الاتساق، ومن ثم يفضي الى تغيير معنى الكل، حتى الحرف والعلامة لهما موقعهما الذي يخصهما. وبحسب هذا الاتجاه فان معاني الالفاظ هي معان حقيقية غير مجازية. وابرز من يمثله: المهندس محمد شحرور من سوريا، والمرحوم المهندس عالم سبيط النيلي من العراق، وجمعية التجديد والاصلاح من البحرين. وهو يتعامل مع النص القرآني بجملة من القواعد والاعتبارات؛ هي على شاكلة ما تطرقنا اليه من النسق الرياضي لدى بعض الاتجاهات الفيزيائية، اهمها ما يلي: 1- التعميم، بمعنى ان كل لفظ او ترتيب يحتفظ بمعناه الخاص في جميع ما يذكر من دون تغيير. فلا ترادف في اللغة. 2- انتقاء المعنى المناسب، بمعنى ان القارئ يضع للفظ معنى مناسباً يعتقد انه يمثل حقيقة ما يراد ضمن نسق الكل دون ان يبالي بآراء المفسرين. 3- ان الترتيب ووضع الكلمات يفرض على القارئ ان يجد فيهما علاقة مهمة حول المعنى المقصود. فالنص الذي يقول: ((الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ))، يختلف في معناه عندما نغير الترتيب بالقول مثلاً: (المؤمنات والمؤمنون). ويمكن اختبار هذا النظام الاتساقي ومحاكمته من خلال ما يمثلون عليه من تطبيقات إن كانت دقيقة او غير دقيقة، ومن ذلك ما يتعلق بالتعميمات كما في النقطة الاولى. فمثلاً ان جمعية التجديد والاصلاح ترى ان التعبير القرآني بلفظة (هو) عن رب العالمين يفيد المعنى الفردي، أما حينما يعبر بما يناظره بالضمير مثل (نحن) او (إنّا) فانه يفيد الجماعة لا الفرد، وبالتالي فالنص القرآني عندما يقول: نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ، إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ.. الخ، فانه يشير الى رب العالمين وملائكته، وليس المقصود هو الذات الالهية فحسب، والا لكان التعبير بالضمير (هو) او (أنا) وما شاكله، فكل الكلمات دالة على الحقيقة دون مجاز. ومثل ذلك التمييز بين الصلاة والصلوة لدى المهندس محمد شحرور. ومع ان هذا النظام يشاكل في جماليته ونسقيته المتسقة ما تطرحه نظرية الاوتار مبدئياً، الا ان الفارق بينهما هو انه يسهل محاكمته باعتباره يطبق نظريته على الظواهر اللفظية، في حين من الصعب محاكمة نظرية الاوتار باعتبار ان تطبيقها جاء ليس حول الظواهر الطبيعية، وانما يتعلق بالمجالات الدفينة في عمق المادة الخارجية، فهي تتحدث عن اشياء بعيدة الغور ولا يمكن الوصول اليها بأي شكل من الاشكال، ويكفيها انها تبحث عن حل للمشاكل التي تطرحها الفيزياء المعاصرة مثل اللانهايات في العالم الجسيمي كي تكون نظرية معترف بها ولو من دون امكانية للتحقيق في علاقتها بالواقع الموضوعي، او القرب منه. فهي تدخل في صميم النظام الميتافيزيقي التخميني.
#يحيى_محمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نظم العلم والهرمنوطيقا (5)
-
نظم العلم والهرمنوطيقا (4)
-
الشذوذ والمسكوت عنه في العلم والفهم
-
قواعد الكشف بين العلم والفهم
-
مبدأ التكافؤ بين العلم والفهم
-
نظم العلم والهرمنوطيقا (3)
-
نظم العلم والهرمنوطيقا (2)
-
نظم العلم والهرمنوطيقا (1)
-
الدليل الصناعي وأساليب العلم والوجدان
-
ثلاث بنى عقلية منتجة: المثقف العلماني والديني والفقيه
-
الفضاء الكوني والعلم المعاصر
-
نظرية التجاوز المذهبي
-
الفلسفة اليونانية والمصادر القديمة
-
الإتجاهات الحديثة وتوظيف الواقع للفهم الديني
-
أزمة الإجتهاد الشيعي
-
الدليل الاستقرائي عند المفكر الصدر (قراءة نقدية)
-
المعنى ومشكلة اللغة
-
العرفاء والتنزلات الالهية للوجود
-
جواب على سؤال مطروح
-
المصلحة ودورها في التشريع
المزيد.....
-
فوضى في كوريا الجنوبية بعد فرض الأحكام العرفية.. ومراسل CNN
...
-
فرض الأحكام العرفية في كوريا الجنوبية.. من هو يون سوك يول صا
...
-
لقطات مثيرة لاطلاق صاروخ -أونيكس- من ساحل البحر الأبيض المتو
...
-
المينا الهندي: الطائر الرومنسي الشرير، يهدد الجزائر ولبنان و
...
-
الشرطة تشتبك مع المحتجين عقب الإعلان عن فرض الأحكام العرفية
...
-
أمريكا تدعم بحثا يكشف عن ترحيل روسيا للأطفال الأوكرانيين قسر
...
-
-هي الدنيا سايبة-؟.. مسلسل تلفزيوني يتناول قصة نيرة أشرف الت
...
-
رئيس كوريا الجنوبية يفرض الأحكام العرفية: -سأقضي على القوى ا
...
-
يوتيوبر عربي ينهي حياته -شنقا- في الأردن
-
نائب أمين عام الجامعة العربية يلتقي بمسؤولين رفيعي المستوى ف
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|