أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية - عادل عبد العاطي - الخاتم عدلان كما عرفته















المزيد.....


الخاتم عدلان كما عرفته


عادل عبد العاطي

الحوار المتمدن-العدد: 1182 - 2005 / 4 / 29 - 10:32
المحور: الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية
    


الخاتم عدلان كما عرفته !

لم يهزني ويزلزلني حدث؛ بعد وفاة الراحلة اُمي؛ مثلما زلزلني وهزني حدث رحيل الخاتم عدلان عن دنيانا؛ فقد كنت موقنا كل اليقين انه سيتجاوز المرض؛ وانه سيعود الينا اكثر قوة؛ ولكن يبدو ان الجسم قد خذل الروح؛ او ان الخاتم قد اختار العودة الينا؛ ولكن من مداخل اخرى؛ ومن ابواب لطيفة لا نفهمها في غلاظتنا وفي محدوديتنا.

عرفتُ الخاتم عدلان لمدة تقارب العشرين عاما؛ بدأت من المعرفة العامة من طالب ناشئ يساري؛ تجاه احد اعلام حركة اليسار في السودان في حينها؛ ثم ما لبثت ان دارت الايام دورتها؛ لتتيح لي معرفة افضل بالخاتم؛ من موقع الصديق والاخ الاصغر؛ حينما خرج الي الخارج في منتصف التسعينات من القرن الماضي؛ واستمرت حتي رحيله الفاجع في السبت الحزين؛ الثالث والعشرين من ابريل عام 2005 .

كان اول معرفتي بالخاتم عندما قرات في العام 1983 كتيبا بعنوان " قراءة وتعليق في مطبوعات الاخوان المسلمين" ؛ قيل ان الخاتم كان احد مؤلفيه؛ وقد ترك فيّ الفصل المنسوب للخاتم اثرا عميقا؛ لما تميز به من قوة الحجة والمنطق ومن سلاسة اللغة؛ ثم تطور الاعجاب بما سمعت من اقوال وشهادات عن نضاله الطلابي وعن كفاحه ضد النظام المايوى؛ والذي قضي في سجونه ما مجموعة 8 سنوات؛ حتي خرج من اخر اعتقال له؛ مع انتفاضة مارس ابريل 1985.

ثم كان الاحتكاك الثاني؛ عندما انتقلت طالبا بجامعة القاهرة فرع الخرطوم؛ وقد حضر الخاتم متحدثا في احدى ندوات الجبهة الديمقراطية هناك؛ وكان ذلك في اكتوبر 1985 كما اذكر؛ وقد كان لي شرف ان اكون في "تيم الحماية" والذي التقط الخاتم من مكتب احد المحاميين بالقرب من الجامعة؛ ورافقه الي الجامعة؛ ووقفنا حراسا له في تلك الندوة؛ ثم صاحبناه حتي خرج بعد الندوة وانتهت مهمتنا حينها. هنا ايضا ورغم انشغالي بالمهمة المكلف بها؛ الا ان حديث الخاتم قد اثرني تماما؛ واتضح لي انه ليس كاتبا قديرا فحسب؛ وانما خطيب مفوه قد ملك نواصي الكلم؛ وما وضوح العبارة – كتابة او خطابة - الا من وضوح الفكرة.

ثم تابعت كتابات الخاتم في جريدة الميدان وفي جريدة الشبيبة؛ في فترة الديمقراطية الثالثة؛ وكانت سلسلة مقالاته بعنوان : "نزع الحجب"؛ واخرى بعنوان "يذهب الزبد جفاء"؛ وبرنامجه الانتخابي وسيرته الذاتية التي كتبها ايام الانتخابات البرلمانية في عام 1986 ؛ وقد كان مرشحا في دوائر الخريجين؛ هي من قمم الادب السياسي الذي يحرض علي المعرفة والتفكير؛ ويعلم الانسان ان الادب يمكن ان يكون في السياسة؛ وان الفكر يمكن ان ينقل باسلوب سهل ممتنع؛ وكانت قراءة الخاتم متعة حقيقية في ذلك الوقت؛ ومدرسة حقيقية في السياسة والصحافة والكتابة.

ثم لما بدأ التمرد علي واقع الحال في الحزب الشيوعي؛ هذا التمرد الذي فرضته مراقبة العديد من الاخطاء والتجاوزات والتنازلات؛ سمعنا "تِحِت تِحِت" ؛ ان هناك خلافات في قيادة الحزب؛ وان الخاتم عدلان وفاطمة احمد ابراهيم هم قادة الجناح الثوري والمطالب بالتغيير؛ وقد كنت – وبعض الزملاء حينها – نتحرق شوقا الي ذلك اليوم الذي يعلن فيه هذا التيار الثورى عن نفسه؛ وكنا علي استعداد تام لدعمه والسير خلفه؛ الا ان ذلك اليوم لم يأت حتى خروجي من السودان بنهاية عام 1988؛ ووصول انقلاب "الانقاذ" الي الحكم في يونيو الكالح من عام 1989.

بعدها مرت مياة كثيرة من تحت الجسر؛ وانشغلت في بولندا بالدراسة والنشاط العام؛ وكان الخاتم مختفيا داخل الوطن؛ وكنا نمر بصيرورة من التغيرات؛ اضافت اليها تجربتنا في شرق اوربا؛ ورؤيتنا لانهيار الستالينية المحدثة امام اعيننا؛ فلما فتحت ما تسمي ب"المناقشة العامة" في الحزب الشيوعي؛ بمقالات لمحمد ابراهيم نقد في مجلة "الشيوعي" العدد 156؛ كان موقفنا واضحا في رفض خطها المائع؛ وفي الدعوة للاصلاح الديمقراطي والثوري داخل الحزب؛ وقد نشرنا ارائنا تلك في مجلة "قضايا سودانية" ؛ ولم نكن نعلم ان الخاتم وبعض رفاقه كانوا يطرحوا مثل تلك الاراء داخل السودان؛ وعند خروج الخاتم للخارج في اول 1994؛ كتب مقالا ل"قضايا سودانية"؛ يسجل فيه قرائته لما نشر بقضايا سودانية؛ وكان تعليقنا من الاشياء القليلة التي لفتت انتباهه؛ وقد قرظنا عليه؛ مما جعل البعض يظن انه كانت لنا سابق اتفاقات؛ وما كانت لنا وما كان يمكن لها ان تكون.

ثم تتالت الاحداث ووصلتنا بعدها مساهمات الخاتم في الشيوعي 157 والتي عنونت " آن اوان التغيير" ؛ وكذلك اطروحاته حول مجابهة السلطة؛ وكانت كلها تقع منا موقع التاييد؛ وان كان موقع التاييد الناقد كما ظهر في تعليقنا علي محتويات الشيوعي 157؛ حتي فؤجئنا بنهاية ذلك العام بخروج الخاتم من الحزب في مؤتمر صحفي بلندن؛ وتاسيسه مع بعض رفاقه الحركة السودانية للديمقراطية والتقدم.

الي ذلك الوقت لم يكن لنا اى اتصال مباشر او غير مباشر مع الخاتم؛ وانا هنا اتحدث عن نفسي وعن فرع الحزب الشيوعي ببولندا؛ والذي كنت عضوا فيه؛ رغم اننا قد صنفنا مباشرة باننا من "جناح الخاتم" ؛ ثم بدأت حملة التشنيع واغتيال الشخصية تجاه الخاتم؛ وبدا اهتمام القيادة بفرعنا؛ حيث تواترت زيارات القياديين الشيوعيين لنا؛ في محاولات لجس النبض اظنها؛ ومعرفة حجم وتاثير "جناح الخاتم " في فرعنا؛ ولا ريب انهم قد رجعوا وعندهم قناعة كاملة بان البعض منا هو مع "جناح الخاتم" قلبا وقالبا؛ وشخصي الضعيف في اولهم؛ رغم اننا حينها لم نكن نعرف ما هو هذا الجناح المزعوم؛ ولا صلة لنا مع الخاتم او"جناحه".

كان موقفنا – او الغالبية منا – في بولندا؛ هو الرفض التام لحملة اغتيال الشخصية؛ وقد انتدبنا احدى الزميلات؛ ماجدة ن.؛ عند سفرها للندن في عام 1995 لزيارة الخاتم ومعرفة وجهة نظره؛ وقد عادت الينا بحوار مسجل علي شريطين كاسيت – اتمني ان يكون الاخ امجد ابراهيم محتفظا بنسخة منهما - ؛ بدد فيها الخاتم كل الاتهامات؛ وشرح وجهة نظره بافضل ما يكون؛ وقد نسخنا هذين الشريطين ووزعناهما علي اعضاء الحزب الشيوعي والجبهة الديمقراطية ببولندا؛ مما عزز لدى القيادة ومن والاها من "الاقلية" في الفرع؛ اسطورة اننا من "جناح الخاتم"؛ وخصوصا بعد استقالة الزميلة ماجدة ن؛ والزميل امجد ابراهيم؛ وتراجع عدد من المرشحين؛ واننا كقيادة للفرع – انا والاخ ابراهيم ميرغني – لم نبذل جهدا للامساك بهم؛ حيث ان حيثياتهم كانت مقنعة تماما بالنسبة لنا؛ وربما كان صغر سنهم وثوريتهم الدافقة واحدة من الاسباب التي دفعتهم لتلك الخطوات الجريئة.

من ناحية اخري فاننا كاعضاء قدامى؛ لم نزل نؤمن بقدرة الحزب الشيوعي علي التغيير؛ اى نؤمن بالاوهام؛ قد رفضنا خطوة خروج الخاتم من الحزب؛ واعتبرناها مستعجلة وسابقة لاوانها؛ وانه لم يناقشها مع من يتفق معه في الراى داخل الحزب؛ وهذا منهج ستاليني بحت؛ لا يعرف ان المسؤولية فردية وان القرارات المصيرية هي مسؤولية الانسان الفرد؛ وان الانسان يدخل الحزب وحده ويخرج وحده؛ وياتي للعالم وحده ويخرج منه وحده؛ ولكن انى ذلك في الحزب الشيوعي؛ فكان ان بقيتُ بعد ذلك حوالي العامين في صفوف الحزب لبشيوعي؛ منافحا عن خط التغيير؛ مُعتبرا طول الوقت من قبل القيادة ومواليها داخل الفرع؛ انني من "جناح الخاتم " المتبقى داخل ذلك الحزب؛ حتي استقالتي منه في مايو1996 .

كانت استقالتي تسير في نفس الاتجاه الذي ذهب فيه الخاتم قبل عام ونصف؛ وكانت اطروحاتنا متقاربة الي حد كبير؛ والقارئ لوثيقة الخروج التي اطلقها الخاتم ودعوته لتاسيس كيان جديد؛ ونص استقالتي؛ سيجد اتفاقات كثيرة؛ كما ان محاولة اغتيال شخصية الخاتم المقززة التي مورست وقتها؛ لم تكن بعيدة عن قرار استقالتي؛ وكان الخاتم عدلان ورفاقه في ذهني؛ حينما كتبت الكلمات التالية في خطاب استقالتي:
) لقد حزّ فى نفسى ؛ الهجوم العنيف والتسخيف الجارح لاراء واشخاص زملاء كانوا حتى الامس القريب ابناء الحزب المخلصين ؛ ومهما كانت درجة الاختلاف معهم فانها لا تصل الى درجة وصفهم بالخيانة والعداء للحزب والتشكيك فى ذمتهم المالية ؛الخ الخ ..اننى اتبرأ من كل كلمة زيف قيلت فى حق زميل سابق واعلن انها لم تمثلنى ولا تمثلنى .. ولن يكون هذا موضع فخر لاى حزب يعامل اعضاؤه السابقين بمثل هذه المرارة والكراهية ..ان هذه الاقوال والاتهامات فى نظرى لا تضر الا قائليها ومروجيها).

خلال هذا توطد شكل من اشكال التواصل بيني وبين الخاتم؛ وارسل لي مشكورا كل ادبيات الخلاف بينه وبين قيادة فروع الخارج للحزب الشيوعي وموقف السكرتارية المركزية المعيب وقتها؛ في الانحياز لقيادة الخارج ضده؛ ثم في تسميتها لاستقالته انقساما؛ وكذلك ارسل لي اعلان خروجهم من الحزب؛ وووثائق التاسيس للحركة السودانية للديمقراطية والتقدم؛ ومن بعد حركة القوى الديمقراطية الجديدة؛ وبعضا من مقالاته الخ ؛ وابتدرنا حوارا عبر الخطابات والتلفون؛ تحدثنا فيه عن مواطن الاتفاق والاختلاف بيننا؛ ورغما عن تصنيف البعض لي لعدة سنوات باني من "جناح الخاتم"؛ فانني بعد خروجي من الحزب الشبوعي لم انضم للحركة التي كان يقودها.

في نقاشاتي مع الخاتم وقتها سجلت له اعتراضاتي الاساسية علي "حق"؛ وعلي دعوته لي للانضمام اليها؛ وقد كانت حُججي ان "حق" تعيد انتاج تجربة الحزب الشيوعي؛ حيث الخاتم فيها الرئيس والمنظر والمنفذ الخ ؛ وانها ضعيفة التاثير وغير فعالة؛ وان وجوده علي قيادتها – بتاريخه الشيوعي – سيظهرها وكانها انقسام عن الحزب الشيوعي؛ وسيبعد عنها اقساما واسعة من الناس؛ تبحث عن الجديد ولكنها قد تتحسس من قيادته؛ ومن اني لا اريد ان اخرب علاقتي بالشيوعيين؛ وهذا سيتم اذا ما انضممت لحركتهم الخ الخ .. وقد كان الخاتم متفهما وديمقراطيا تماما في الحوار؛ وردّ وتوسع في رده علي كل نقاطي؛وعندما لم يقنعني لم يقطع علاقته معي؛ بل واصلها موضحا اننا يمكن ان نناضل من اجل نفس الهدف؛ من مواقع مختلفة؛ وظلت هذه قناعته حتي آخر ايامه.

كانت الخيارات امامي قليلة؛ فحين رغبت في ممارسة السياسة في تنظيمات لها فاعلية؛ او يمكن ان تكون لها فاعلية؛ وهي مع ذلك ثورية؛ فان الخيار كان امامي هو الانضمام للحركة الشعبية لتحرير السودان؛ او التنظيم الجديد وقتها؛ قوات التحالف السودانية؛ وقد ابعدتني من الحركة الشعبية طبيعتها المركزية والعسكرية المفرطة؛ وعدم الوضوح الفكري والسياسي؛ وانتهاكات حقوق الانسان؛ وجذبتني بالمقابل شعارات قوات التحالف؛ وامكانية التاثير فيها؛ باعتبارها لا تزال في طور التبلور؛ وقناعتي بان اضعف حلقات العملية الثورية هي في الوسط والشمال؛ لذلك لا بد من رفدها واستنهاضها؛ فكان ان انضممت الي قوات التحالف في يوليو 1997؛ بينما ظلت علاقتي بالخاتم و"حق" ممتازة؛ وخصوصا بعد ان انضم لها صديقي واخي العزيز امجد ابراهيم سلمان.

تواصلت المكالمات والرسائل بيني والخاتم؛ وكانت كلها تدور حول الهم الوطني؛ وواجب توحيد القوى الجديدة؛ والتي كانت احدى شعارات تنظيم التحالف وحركة "حق"؛ وقد كنت جادا تماما في قوات التحالف في الدعوة لوحدة القوى الجديدة؛ بينما كان البعض الاخر يطرحها كمجرد شعارات؛ وكنت ارى حركة "حق" كواحدة من تلك القوى الجديدة؛ تماما مثلها مثل التحالف الفيدرالي ومؤتمر البجة الخ؛ وكم كانت دهشتي كبيرة؛ وصدمتي عميقة؛ عندما وجدت ان قياديين من قوات التحالف؛ اخص منهم الدكتورة ندى مصطفي علي؛ عضو المكتب القيادة العليا للتنظيم وقتها؛ يصنفوني باني من "جناح الخاتم" في التحالف؛ مما اتضح في مطاعنات الدكتورة المذكورة لي في اكثر من مرة؛ وقد اتضح ان هؤلاء يكنون حقدا غير مبرر علي "حق" ورئيسها؛ وقد الغوا من طرف واحد ودون اعلان؛ اتفاق سياسي كانت قوات التحالف وحركة حق قد وقعاه بالقاهرة؛ ويبدو ان شبهة "جناح الخاتم" كانت ستطاردني لسنوات في ذلك التنظيم؛ لولا خروجي منه في عام 2003؛ وانقسامه فيما بعد؛ ثم تصنيف نفس الاشخاص لي باني من "جناح عبد العزيز خالد"؛ واني كادر سري في تنظيمه؛ الي اخر هذا الهراء الذي لا يليق باطفال في الروضة؛ ناهيك عن دكاترة وبروفيسورات.

هذه التصنيفات الفطيرة؛ سواء من قبل السذج والحلقيين في الحزب الشيوعي؛ او في قوات التحالف؛ توضح ان هؤلاء لا يفهموا ان يكون الانسان مستقلا برايه؛ وان تكون له علاقات مودة وصداقة واحترام؛ تتجاوز الاطار التنظيمي الذي يعمل فيه؛ الي كوادر وقيادات في احزاب وتنظيمات اخرى؛ ويظنوا كل علاقة مثل هذا؛ واضحة ومعلنة؛ واي تقارب افكار طبيعي مفهوم؛ واى علاقات انسانية؛ انما هما جزء من مؤامرة ومن جناح؛ وما ذلك الا لانهم غارقون في المؤامرات والتكتلات والاجنحة؛ فظنوا ان الجميع مثلهم!

خرجت من قوات التحالف وانضممت لمسيرة تكوين الحزب الليبرالي السوداني؛ ولم انضم – مجددا – الي "حق"؛ لاني كنت اعتقد انها قد استنفدت طاقتها؛ وان صيغتها قد اصبحت قيدا علي الروح التي انطلقت منها؛ وخصوصا بعد انقسامها الشهير ما بين الداخل والخارج؛ ولرايي بضرورة تاطير الحركة السياسية في احزاب؛ والخروج من مرحلة الحركات والتحالفات الخ؛ وان تقوم هذه الاحزاب علي صيغ برامجية واضحة؛ لا تقبل التهويم ولا الغموض؛ وكان ذلك كله انعكاسا لتجربتي في قوات التحالف؛ ووجدت ان حركة "حق" – بسبب انقسامها وبسبب اعتقالها لنفسها في صيغة تنظيمية واحدة الخ - ؛ لم تكن لتجيب علي ما اراه؛ ولذلك فقد انخرطت في مشروع تأسيس الحزب الليبرالي؛ كخطوة في طريق تكوين حزب ديمقراطي سوداني متين.

وتواصلت الحوارات بيني وبين الخاتم؛ وفي الحقيقة فقد كان هو دائما المبادر بالاتصال؛ وكنت احذره من تكاليف التلفونات الطويلة؛ فكان يقول دائما ان هذا غير مهم؛ رغم معرفتي التامة بظروفه الصعبة؛ ولكن الهم الوطني عنده كان اكثر اهمية من الهم الشخصي؛ وقد اقتربت رؤانا في كثير من الامور؛ واختلفت في بعضها؛ ومن بينها الموقف من الحركة الشعبية لتحرير السودان؛ ثم الموقف من نيفاشا؛ والتي ايد الخاتم وحق اتفاقها؛ بينما رفضناها نحن؛ وان كنا قد اتفقنا منذ زمن بعيد؛ علي الا تفسد الاختلافات العلاقة بيننا؛ والا تغطي علي مواضع الاتفاق؛ وقد وصلنا الي ضرورة تفعيل الحوارات بيننا وبين تنظيمينا؛ كخطوة في طريق توحيد المعسكر الديمقراطي؛ وان لم نخط خطوات كبيرة في هذا المضمار؛ ولا يزال هذا واجبا ينتظر الانجاز؛ وهو جزء من وصية الخاتم السياسية كما اراها؛ من ضمن التركة الفكرية والسياسية التي تركها.

في هذا الاطار؛ كان من المفترض ان اسافر مع الخاتم الي السودان في اوائل العام 2004؛ حيث اخبرني قبل وقت كاف بنيته في ذلك السفر؛ قبل ان يكون الامر معلنا؛ ولما كنت ايضا مبرمجا للسفر؛ فقد اتفقنا علي ان ننسق جهودنا ونصل الخرطوم معا؛ الا ان تعقيدات عدة عطلت من سفري؛ وكان ينبغي ان اسافر في فترة لاحقة وان نلتقي في الخرطوم فيما بعد؛ ولكن هذا ايضا لم يتحقق؛ وسافر الخاتم ورجع ولم نلتق وجها لوجه؛ ولم نكمل حوارنا – التاريخي - بعد؛ وان كان تحاورنا المتقطع عبر التلفون والايميل وفي منابر النقاش السودانية قد كان مستمرا طوال الوقت.

وقد كنت لما اسسنا موقع "مسارات" الثقافي؛ طلبت من الخاتم الانضمام اليه؛ والكتابة فيه؛ فوافق علي اعادة نشر مقالاته التي تنشر بالاضواء فيه؛ وان كان طلب مني ان انزل تلك المقالات من تحت حسابه؛ حيث لم يكن يملك الوقت؛ وكان يرسل لي تلك المقالات بانتظام؛ في نفس الوقت الذي يرسلها فيها للاضواء؛ وقد نُشر بعضها في مسارات؛ وقد فكرت في مشروع بموقع شخصي خاص له علي الانترنت؛ ولكنه كان مهموما بموقع حركة "حق"؛ وهكذا كان دائما يقدم الهم العام علي الخاص؛ ولا خاص في حالة الخاتم؛ ولا يزال هذا ايضا واجبا ينتظر الانجاز؛ ودينا لي تجاه الخاتم و"حق".

كنت اعتب علي الخاتم؛ ان العمل السياسي يسرقه من العمل الفكري؛ رغم انه كان يُطعِّم السياسة بالفكر؛ ويطعمها بالادب؛ الا اني كنت ارى ان الحياة العامة لا تحتاج الي الخاتم رئيس الحزب المعين؛ بقدر ما تحتاج الي الخاتم المفكر حامل لواء التنوير؛ وكنت اعاتبه في عدم نشره لكتب باسمه؛ وعدم تجميعه لمقالاته وكتاباته القديمة والجديدة؛ وكان دائما يوافقني القول ويؤكد انه يعمل في هذا الاتجاه؛ ليعود وتسرقه السياسة اليومية مرة اخرى؛ وما كان له خيار سوى ان يتصدى في كل المجالات؛ حتى أحترق كالشمعة قبل الاوان.

مهم هنا ان احكي بعضا من التجارب معي؛ والتي توضح مبدئية الخاتم وسموه الانساني؛ فحينما كتبت في عز معركتي مع بعض الشيوعيين؛ عشرة اسئلة وجهتها اليهم؛ كانت دوافعها في جزء منها بحثا عن الحقيقة؛ وفي جزء اخر سبيلا للتشفي السياسي؛ تصدى الخاتم وقال لي ان بعض اسئلتي تجريمية بلا سند؛ وانني امشي بالصراع الي حدود قد تضر بالحقيقة التاريخية؛ وحكى شهادته التي كانت لصالح الشيوعيين – في قضية الشهيد شكاك مثلا - ؛ ولم يكتف بان اوصل لي عتابه ورايه عبر التلفون؛ وانما ساهم برايه في المنابر العامة؛ وكذلك وقف نفس الموقف عندما تسائل الاخ عثمان محمد صالح عن الشهيد عبد الخالق محجوب؛ اشهيد هو أم قربان؛ ودافع الخاتم وقتها عن نفس القيادات الشيوعية التي اسائت اليه؛ وكان يقول ان الخلاف السياسي لا يجب ان يكون علي حساب الحقيقة التاريخية؛ رغما عن مشروعية التساؤل!

ومع اننا لم نتفق في قراءة الكثير من الاحداث عن هذه القضايا؛ الا ان موقف الخاتم كان متميزا هنا؛ وليس له مثيل في كل ما اعرف من نماذج الاختلاف السياسي؛ فقد كان يمكن له ان يترك الشيوعيون في ورطتهم؛ وذلك بعد كل ما فعلوه فيه؛ وخصوصا ان اغلب حججهم كانت بائسة؛ وطريقهم في اغتيال الشخصية قد اُستهلك ولم يعد ناجعا؛ ولكن دائما عند الخاتم ينتصر المبدئي علي الشخصي؛ والعام علي الخاص.

كما كان موقفه مماثلا؛ في رصده لموقف حزب الامة من دخول حركة حق للتجمع؛ فقد كان الخاتم معارضا تماما لسياسات حزب الامة؛ ولمناورات رئيسه الصادق المهدي؛ وكشف لي ان احد مشاريع عمره؛ هو التصدي الفكري لاطروحات الصادق المهدى وتفنيدها؛ باعتباره الخطر الكبير علي مستقبل البديل الديمقراطي والعلماني؛ وكان يقول ان حزب الامة سيكون دار ابو سفيان لنظام الانقاذ؛ ولكنه مع ذلك قد ثبّت موقف حزب الامة الايجابي من دخول حركة حق التجمع؛ حينما طلبت ذلك ورفضها الاخرون؛ وشكره علي ذلك؛ وعندما لفتّ نظره الي الدوافع الخفية الكامنة في موقف ذاك الحزب ؛ كتب انه مهما كانت الداوفع؛ فلا بد من تثبيت الموقف؛ طالما انه اتخذ دون قيد ولا شرط ولا اتفاق مسبق مع حركتهم.

نقطة هنا ضروري تماما ذكرها؛ حتي اكون امينا مع نفسي ومع ذكرى الخاتم؛ وهو انه في يناير الماضي؛ عندما كتبت مقالي عن "الخدعة الكبرى"؛ ووصفت فيه الحال البائس للقوى الجديدة؛ والتي قلت ان بعضها قد قام رغبة في المجد الشخصي؛ او انطلاقا من عواطف فطيرة؛ غير مستندة علي برامج؛ وضربت مثالا بعدة تنظيمات؛ ذكرت من بينهم حركة "حق"؛ والتي قلت ان احد اجنحتها يحاول ان يحتمي بشجرة الحركة الشعبية لتحرير السودان؛ بينما الجناح الاخر يتمسح بما يسميه "الجناح المعتدل" في السلطة؛ كتب لي الخاتم معاتبا ومتسائلا؛ أهُم ممن يبحثوا عن المجد الشخصي؛ ام ممن انطلقوا من العواطف الفطيرة؛ وكان واضحا ان كلماتي قد المته في الصميم.

كتبتُ للخاتم ان البحث عن المجد الشخصي بعيد تماما عن حركتهم وعنه شخصيا؛ اما افتقاد حركتهم للبرنامج المترابط والنظرة الاستراتيجية؛ فقد تبدى في انقسامها الكبير؛ ورغم ان هذه نقطة قوية؛ الا اني اشعر الان انني ربما كنت قاسيا علي "حق" وعلي الخاتم شخصيا؛ وربما يكون هذا نابعا من رفضي لقرائتهم لنيفاشا؛ ومن مجمل خطهم – الذي اعتبرته مهادنا – تجاه الحركة الشعبية وانتهازيتها السياسية وانتهاكاتها لحقوق المواطنين الخ؛ الا انه لا يمكن انكار ان الخاتم كان من اكثر السياسيين الذين ربطوا السياسة بالفكر؛ والشعارات بالبرامج؛ وربما كانت تلك بعض من احكامي المتطرفة التي قد يثبت الزمن خطئها.

في كل الاحوال فقد شرحت وجهة نظري وخففت من"زعل" الخاتم قليلا؛ ووعدته بتوضيح المسالة؛ واتفقنا علي ذلك؛ ولكني لم اجد الوقت والظرف لذلك؛ وها انا اليوم اقول ان الخاتم كان ابعد ما يكون عن البحث عن المجد الشخصي؛ وان تلك الجملة لا تخصه باي حال؛ وانما اقصد بها اناسا آخرين؛ وانه قد بحث عن البرامجية والنظرة الاستراتيجية ما وسعه سبيلا؛ وان اي تنازلات له – حسبما قرأت في شهادات مختلفة – انما فرضتها عليه ضرورات قاطعة؛ من بينها ظروف الحصار السياسي الذي كان مضروبا عليه وعلي حركته؛ ومن بينها الحفاظ علي وحدة "حق"؛ ومن بينها تخفيف الام المخاض الديمقراطي؛ حيث كان يعتبر ان اتفاق نيفاشا انجاز كبير؛ لانه اوقف سيل الدم؛ وفتح افاقا جديدة للتغيير؛ ورغم اختلاف قرائتنا؛ الا انني لا يمكن ان اشكك في نبل اهدافه ولا في عمله الدؤوب من اجل ربط السياسة بالفكر والبرامج؛ وفي نجاحه في ذلك في كثير من الاحيان.

هذا عن الشان العام؛ اما عن الشان الخاص فقد كان الخاتم علي طول علاقته معي؛ مثالا للأخ الكريم والانسان الديمقراطي والصديق الودود؛ لم يسمح لاختلاف ارائنا قط ان يقطع حبل المودة؛ وكان مسرعا دائما في الاتراح والافراح؛ بواجب التهنئة او المواساة والتعزية؛ وكان حريصا علي التواصل؛ مبادرا به؛ وكان يتعامل مع الناس بثقة كبيرة فيهم؛ هذه الثقة التي لم يبادلها له الاخرون دائما؛ وكان ابدا حريصا علي مشاعر الاخرين وظروفهم؛ كان مثالا للانسان والانسانية في التعامل الشخصي؛ لا تتعامل معه الا وتُجبر علي حبه واحترامه؛مهما كان اقترابك او ابتعادك عما يؤمن به وما هو مقتنع به.

اقول هنا اني ربما لم اكن صديقا للخاتم بالمعني التقليدي للكلمة؛ حيث لم تجمعنا دراسة او رفقة حي او عمل مشترك؛ وبالتاكيد لست من اصدقائه الخُلص؛ الا ان ما جمعنا هو الهم العام؛وهو الاحترام المتبادل؛ وهو الايمان بقيم الحرية والعدالة الاجتماعية والعلمانية؛ والتي كان الخاتم من الواضحين في مواقفه منها؛ ودفاعه عنها؛ فاذا كان الخاتم قد اسبغ وده عليّ بناءا علي هذا الهم العام؛ فما بالك بمن عرفوه وصادقوه ورافقوه طوال سني حياته الغنية – القصيرة ؟

رحل الخاتم عن دنيانا؛ وهو في اوج العطاء؛ ولا تزال الكثير من المشاريع التي ابتدرها تنتظر الانجاز؛ ولا نزال نحبو في اول الطريق الذي خطى فيه للامام بخطوات العمالقة؛ وكعادة كل المتفردين فقد اضاء نجمه الوهاج سريعا في حياتنا وخبا؛ تاركا لنا احد خيارين؛ وهو ان نسير في الطريق الوعر الذي سار فيه الخاتم؛ رغم الفقد العظيم؛ او نركن للياس والحزن والسهل؛ ونبحث لانفسنا عن الاعذار؛ ونجعل من فقدان الخاتم واشباه الخاتم متكاة للانهيار؛ وليس لي شك فيما كان يمكن ان يكون عليه خيار الخاتم؛ لو كان في مكان الاختيار.

ودمت خالدا ابدا؛ يا صديقي العزيز!



#عادل_عبد_العاطي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الخاتم عدلان .. نبيّنا الآخير
- محمد إبراهيم نُقُد وإخفاء وصية عبد الخالق محجوب الاخيرة
- الطريق الثالث بين الحرابة والتسوية: خطوط عريضة في اتجاه بلور ...
- الخروج من عنق الزجاجة:اسقاط النظام كيف ولماذا؟
- تأملات في أفق المعرفة والشهادة: في نضال واستشهاد عبد الخالق ...
- لماذا يرفض الليبراليون السودانيون تعدد الزوجات والطلاق الاعت ...
- مرة اٌخري نحو قانون مدني موحد للاحوال الشخصية في السودان
- نحو قانون مدني موحد للاحوال الشخصية في السودان
- الحملة الدولية لاطلاق سراح دكتور مضوي ابراهيم آدم ورفاقه
- النظام السوداني يهدف الي قتل الدكتور مضوي ابراهيم آدم
- تمخض التجمع فولد فاراً ميتاً : قراءة في قرارات هيئة- قيادة- ...
- كمال دُقدُق: نجمة الحياة في سماء العدم
- الخِدعة الكبرى
- العام 2005
- المنجز والمؤمل :إطلاق سراح عبد العزيز خالد والدور المرتقب لل ...
- ندى علي وتيسير محمد احمد وعودة بيوت الأشباح
- طلب بالتحقيق والتدخل في قضية المعتقلين والمفقودين من اعضاء ق ...
- رسالة مفتوحة الي بروفيسور تيسير محمد احمد علي
- رسالة مفتوحة الي الدكتورة ندى مصطفي علي
- رسالة مفتوحة الي شباب وشابات حزب الامة السوداني


المزيد.....




- هولندا: اليمين المتطرف يدين مذكرتي المحكمة الجنائية لاعتقال ...
- الاتحاد الأوروبي بين مطرقة نقص العمالة وسندان اليمين المتطرف ...
- السيناتور بيرني ساندرز:اتهامات الجنائية الدولية لنتنياهو وغا ...
- بيرني ساندرز: اذا لم يحترم العالم القانون الدولي فسننحدر نحو ...
- حسن العبودي// دفاعا عن الجدال... دفاعا عن الجدل (ملحق الجزء ...
- الحراك الشعبي بفجيج ينير طريق المقاومة من أجل حق السكان في ا ...
- جورج عبد الله.. الماروني الذي لم يندم على 40 عاما في سجون فر ...
- بيان للمكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية
- «الديمقراطية» ترحب بقرار الجنائية الدولية، وتدعو المجتمع الد ...
- الوزير يفتتح «المونوريل» بدماء «عمال المطرية»


المزيد.....

- سلام عادل- سيرة مناضل - الجزء الاول / ثمينة ناجي يوسف & نزار خالد
- سلام عادل -سیرة مناضل- / ثمینة یوسف
- سلام عادل- سيرة مناضل / ثمينة ناجي يوسف
- قناديل مندائية / فائز الحيدر
- قناديل شيوعية عراقية / الجزءالثاني / خالد حسين سلطان
- الحرب الأهلية الإسبانية والمصير الغامض للمتطوعين الفلسطينيين ... / نعيم ناصر
- حياة شرارة الثائرة الصامتة / خالد حسين سلطان
- ملف صور الشهداء الجزء الاول 250 صورة لشهداء الحركة اليساري ... / خالد حسين سلطان
- قناديل شيوعية عراقية / الجزء الاول / خالد حسين سلطان
- نظرات حول مفهوم مابعد الامبريالية - هارى ماكدوف / سعيد العليمى


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية - عادل عبد العاطي - الخاتم عدلان كما عرفته