عدنان اللبان
الحوار المتمدن-العدد: 4118 - 2013 / 6 / 9 - 00:47
المحور:
الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية
آلمني وهو يتحدث بمرارة اشد عن الفترة التي اعقبت خروجه من العراق , وهو الرازح تحت سطوة النظام لما يقارب العشرين عاما .
يقول ابو هند : وصلت هذه المدينة قبل ثلاثة اشهر , ورغم ذلك لم اتمكن بعد من ان اعيد ترتيب وجودي بشكل طبيعي , فلا ازال اسير جنب الحائط , ولا ارفع عيني , ولا التفت الى الوراء , مثلما ارادوا مني قبل عشرين عاما عندما اطلقوا سراحي من السجن . ورغم ان السنوات التي اعقبت انتفاضة آذار وما تبعها من ثقل العقوبات قد فكك السلطة واضعف قدرتها , الا انها استمرت ببطشها ودمويتها في الاماكن التي تعتقد انها تضمن استمرار قوتها , ومن بينها سوق الذهب في شارع النهر , حيث كنت املك محل بيع صغير عند مدخل الشارع من جهة " شريف وحداد " بعد ان تركت التدريس الذي لم يعد يوفر لي ولعائلتي لقمة العيش . ولا اعرف غير الصياغة مهنة اخرى , فقد توارثناها اب عن جد .
المشكلة اني لحد الآن لم اتعود ان اسب صدام او البعث , واستعيد ترديد الكلمات في ذاكرتي قبل ان انطق بها حتى وان تكن في موضوع عادي , فتخرج باردة او متلعثمة , واعتقدت انها السبب وراء الشك الذي سيطر على ابي عماد عندما نبه رئيس الجمعية بعد ان رآني اقلب في دفتر ارقام التلفونات وعناوين اعضاء الجمعية الثقافية العراقية في مالمو حين قال : هذا موصحيح , ياهو اليجي يكَلب بدفتر العناوين , احنه نخاف ان توصل عناوينا للسلطة .
كان هذا في النصف الاول من عام 2000 .
رغم محاولتي اقناع نفسي في وقتها باني لا ازال تحت كابوس البعث واني اخشى على عائلتي التي تركتها هناك , وهو السبب في ريبة الآخرين , الا ان المرارة سحقتني , رفعت عيني بتحد اقرب للعتاب في وجه ابو عماد , وبنظرة اختزنت تاريخ ثلاثين عاما , فأشاح بوجهه عني ولم يواصل الكلام . ابو عماد صديقي ورفيقي , وعندما رايته بعد ايام من قدومي الى مالمو فرحت كثيرا , ورحب هو بي ايضا . ولكن مع مرور الايام اخذ يبتعد عني ويتحاشى حتى السلام . وأثناء الهجوم على الحزب الشيوعي في عام 1979 كنا سوية انا وأبا عماد في معسكر تدريب يعود للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في لبنان , وهو يعرف اني ضمن اول خمسة عشر رفيقا توجهوا الى كردستان , وافتتحنا مقر " كوماته " لاستقبال باقي الرفاق والأنصار القادمين من الخارج .
الجرح الذي احدثه كلام ابو عماد اثارني , وحفز انتباهي لما جرى حولي في الاسابيع الاخيرة . الكثير من المعارف يتهزمون من لقائي , بعضهم يترك مقعده ويخرج عندما اجلس في قاعة الجمعية , آخرون يسبون البعث وصدام بدون اي سبب لاستحضار اسميهما , وقصدهم اسماعي فقط . ساءلت نفسي : هل انا ذهبت بقدمي الى البعث ؟! والجميع يعرفون جيدا ان الحزب رفع صوته عاليا للمطالبة بنا . كنا مفرزة انصار واعتقلنا في الاراضي التركية من قبل الجندرمة الاتراك , كنا خمسة رفاق ورفيقة واحدة سلمنا الى النظام الصدامي . عشرون عاما في اخس انواع الذل والعبودية تحت سطوة النظام تحملتها لوجود شئ يوازن هذا التحمل , فانا في قبضة العدو ومعذور في كل هذا الذل لكي اصون جوهر انتمائي , فلي حزب ورفاق وتاريخ سوف استردهم بفخر , عشرون عاما وانا اسير , مكشوف بالكامل في ساحة المعركة وأنا متوازن على الاقل داخل وعيي .
المرارة اخذت تنخر الوعي كلما زاد انتباهه , عشرون عاما تحت سطوة النظام وآنا لم اشعر بالوحدة , الوحدة الآن اخذت تجردني من صواب التفكير .
سألت رئيس الجمعية وهو رفيق وصديق ويعرفني جيدا ايضا : لماذا تصرف ابو عماد هكذا ؟! ولماذا ارى الآخرين يتهربون ؟!
اجابني : لا اعرف , فهذه جمعية عامة وانا لست مسؤول عن الآخرين , الكل يتصرف بما يعتقد .
اخبرته : في الحرب العراقية الايرانية سحبت مواليدنا للخدمة العسكرية بعد اطلاق سراحنا , ومنذ بداية التحاقنا بالوحدة التي نسبنا اليها وضعوني في منطقة الحجابات , وهي التي في المقدمة اي عند تماس الارض الحرام , وخلفها حقل الغام يغلق في الليل وتستحيل العودة او الهرب , وقبل الالغام سواتر ترابية خلفها سرايا الجنود . السرية التي واجبها في الحجاب تنشر في الليل في سجل المفقودين وتعاد في الصباح الى سجل الاحياء , والحجابات تعني التضحية بنا مقابل الحصول على انذار مبكر لباقي الوحدات عندما يحصل الهجوم الايراني . الشهر الاول واجب السرية الاولى التي نسبت اليها , وفي الشهر الثاني نقلت الى السرية الثانية , والشهر الثالث نقلت الى السرية الثالثة لكي استمر في الحجاب طيلة هذه الفترة , وعند عودتي من السرية الثالثة قبل نقلي الى الرابعة , سألني آمر الفوج وهو نقيب فلسطيني عن سبب هيئتي المتوحشة اكثر من الآخرين ؟!
اجبته : مضى علي ثلاثة اشهر في الحجابات .
سألني : معقولة ؟! ليش ؟
اجبته : سيدي آني اسأل ليش ؟ تكَدر تسألهم وانت تعرف ليش ؟
طلب مني ان اتبعه الى غرفته , وهناك اعاد السؤال : شنو السبب ؟!
اخبرته : اني خريج كلية التربية الرياضية ’ والتحقت بالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين , تدربت وشاركت في عملية داخل فلسطين , بعدها التحقت مع ( العصاة ) في كردستان لاني كنت شيوعيا , وهم يطاردونني لحد الآن بهذا السبب ويجددون بقائي في الحجابات .
نقلني في ذات الساعة الى دورة في مقر اللواء الخلفي الذي يتبع له فوجنا , ويبعد عن الساتر الترابي خمسة وأربعين كيلومترا , ومنحني اجازة لعشرة ايام .
وبالحرف الواحد سمعته يقول لضابط التوجيه السياسي في الفوج عبر التلفون : معقولة هذا الجندي يستمر ثلاثة اشهر في الحجابات ؟! ما تجوزون من هذي السخافات , واذا جان شيوعي ؟!
وسألت مسؤول الجمعية : هل من المعقول ضابط فلسطيني يتعامل معي بإنسانية اكثر من ابو عماد والآخرين ؟!
بعد ايام حصلت على الاقامة في السويد , وانشغلت في انجاز معاملة لم شمل العائلة التي تركتها في العراق , زوجة وولدان وبنت واحدة , وبت اشعر بذنب تجاههم لانشغالي باهتمامات وجودي ومحاولات اقصائي من انسانيتي التي هي انتمائي . اخوتي وعديلي حاولوا منعي من بيع بيتي في المنصور , والدولار يقابل ثلاثة آلاف دينار عراقي , ووصل سعر البيت الى عشرة آلاف دولار ادفعها لكي اصل الى احدى دول اللجوء , والسنة 2000 وبوادر ازاحة النظام اصبحت واضحة لإخوتي وعديلي في السويد , وبدل ان يكون كلامهم لتهدئتي وعدم بيع البيت, زادني اشتعالا وحماسة للبيع , لكي اكون معهم ونحتفل سوية بسقوط النظام , آثرت ان التقي بالحزب والرفاق حتى ولو قبل شهر من ازاحة النظام , كنت بحاجة ان اعود الى الحزب وأعوض كل سنوات الذل .
ابو قحطان رفيق متوازن و يعرفني ايضا من السنوات الاولى في كردستان . اخبرني ان لا التفت لما يقوله ابو عماد او غيره , وسألني : هل ترغب بالعودة الى التنظيم ؟
اجبته قبل ان يصل المعنى الى الدماغ : طبعا اريد ارجع .
ابو قحطان : زين , اكتب رسالة الى اللجنة المركزية .
كتبتها وسلمتها له في اليوم الثاني .
عرفت بعد ايام ان الرفيق ابو عماد اخذ يثور عندما يناديه احد بابو عماد .
وسألت عن السبب فاجابوني : ان ابو عماد ترك التنظيم لخلافات ( فكرية ) كما يدعي , و"ابو عماد" كنية حزبية , فاخذ لا يطيق حتى الاسم الحزبي بسبب هذا الخلاف .
سألني ابو قحطان بعد عدة ايام : ابو هند , اعرف انتو خمسة رفاق والرفيقة سوسن بمفرزة طالعين الى سورية , وفي نصيبين القضاء التركي مقابل القامشلي السورية اعتقلوكم الجندرمة الاتراك وسلموكم للنظام العراقي . بعدين شنو اللي صار ؟
اجبته باستغراب : الحزب , اقصد القيادة حتما تعرف , وبعدين آني مثبت النقاط المهمة بالرسالة .
منين القيادة تعرف ؟! وحتى اذا تعرف آني هم اريد اعرف . انت بالرسالة مثبت نقاط موقفك , على الاقل تفاصيل عن سبب اطلاق سراحكم .
اجبته : عزيزي باختصار , الجندرمة الاتراك اعتقلونا لاننا نحمل جوازات سفر ( اليمن الديمقراطية ) ,
وقلنا لهم : نحن في سياحة .
الا ان اثنين من جوازات السفر كان قد سقط عليهن ماء , والكتابة لا يظهر منها شئ . اسبوع بالسجن شوفونا المر من الضرب والإهانات . المهم الدليل اعترف بان احنا انصار شيوعيين عراقيين . ثبتوا اعترافنا وأرسلونا الى نقطة ابراهيم الخليل الحدودية . عبرنا الجسر وسلمونا الى نقطة الحدود وكان بانتظارنا مفرزة استخبارات , استلمتنا وبتنا ليلتنا الاولى في زاخو , والاخرى في دهوك , وليلتان في الموصل كان الاتراك ارحم منهم بكثير رغم اننا لا يوجد عندنا ما نخفيه , ولا هم اجروا تحقيق , عدى انهم تأكدوا مما هو موجود في مذكرة التسليم من الاتراك , وهي المواليد والأسماء والمدن التي نسكنها في العراق . واعتقد ان حقدهم الذي كاد ان يصل حد الجنون لكوننا عرب و ( عصاة ) ؟! وربما كان لهم من سقط او جرح في احد المصادمات مع الانصار .ودون ان نتكلم ادركنا ان مصيرنا الموت في التعذيب نتيجة هذا الحقد الاسود , ومحظوظ من يموت من البداية او ينفذ به حكم الاعدام دون المرور بهذا العذاب , وهذا حلم بعيد المنال .
سكت كي استجمع ما دار معهم . سألني : وبعدين ؟
اكملت : نقلونا الى بغداد , واعتقد فرع المخابرات القريب من الجنسية في شارع 52 , حيث سقطت العصابة عن عيني ورأيت المكان . بقينا لما يقارب الشهرين ثم نقلونا الى زنازين الامن العامة . كانوا يعرفون اننا قدمنا الى كردستان من الخارج , واغلبنا مدرسين وموظفين وخرجنا من العراق بجوازات وكتب رسمية . كانت اغلب الاسئلة سياسية , عن وضعية الحزب , قوات الانصار , العلاقة بين الحزب والأحزاب الكردية , الخلافات بينها , النقاشات والتذمر بين الانصار ...الخ.
في الامن العامة بلغونا بأننا محكومين بالإعدام , ورغم عدم وجود تحقيق الا اننا لم نخلص من التعذيب , ولو بشكل اخف , والسبب هو للتنكيل والإذلال وقتل اية رغبة حتى ولو في طلب الذهاب الى المرافق العامة . في احد المرات كنت اجلس في المرافق لقضاء الحاجة , وكان حوض فتحة المرافق قد كسرت جوانبه , وأصبحت الفتحة كبيرة جدا تجعل من الجلوس عذاب , والطفح الى الحافة , ويشتعل الصراخ ودق الباب اذا تأخرت دقائق , فتح الباب من قبل احدهم , وقبل ان اتمكن من النهوض قذفني بدفرة بين رقبتي وكتفي الايسر القت بي الى الحائط وأعاد سحب الباب . كانوا يذكروننا بالإعدام يوميا وعدة مرات .
ابو قحطان : المهم شلون طلعت ؟!
شعرت بلهفة سؤاله : نهاية الشهر السادس او بداية السابع عام 1982 , اعطى صدام عفوا سياسيا , وقد اكملنا الشهر السادس في الاعتقال . اطلق سراح بعض الشيوعيين , واعتقد جان العدد سبعة وثمانين ونحن الستة من ضمنهم . لم يتمكنوا من اخفاء اسمائنا , فقد طالب الحزب بنا عند اعتقالنا , وأسمائنا مثبتة في منظمات عالمية طالبت بسلامتنا مثل حقوق الانسان والعفو الدولية , وتركيا اعلنت اسمائنا في المذكرة التي سلمتنا بموجبها الى العراق .
وفي المؤتمر الصحفي الذي عقده فاضل البراك مدير الامن العام عند اطلاق سراحنا قال : اننا نبيض السجون حتى من العصاة الذين حملوا السلاح ضدنا ( واشر علينا ) بمن فيهم هؤلاء الستة .
ابو قحطان وقد ثبت نظره في عيني : يعني متأكد ان الخمسة معك اطلقوا سراحهم ايضا ؟
اجبته بتأكيد : نعم , ابو نورا , واصيل ( ثائر ) من بغداد تتذكره حتما , والفنان ابو شمس , وسوسن , والسادس ما اتذكر اسمه .
ابو قحطان : لعد شلون الآخرين انعدموا وانت بقيت ؟!
وهنا دار السؤال بذهني بسرعة البرق لاسترجع الاتهام الذي سمعته ولا اعرف من هو الذي اشاعه عني : بأنني اعترفت على الآخرين مقابل اطلاق سراحي . وسذاجة الاتهام منعتني من ان اعطيه اي اهتمام , وعلى ماذا اعترف ؟! انصار شيوعيين اعتقلنا في تركيا , والحكومة التركية سلمتنا الى العراق , فهل توجد جريمة اكبر من هذه في عرف البعث ؟! كي اكشفها ويطلق سراحي ؟!
تأملته جيدا , وأجبته ببطء ولكن بحده : ومن قال لك انهم استشهدوا ؟! انهم جميعا احياء عدى الشهيدة سوسن .. قبل ان يطلقوا سراحنا وقعونا على عشرات التعهدات التي لو خالفناها ستكون عقوبتها الاعدام , من بينها ان نخبر على كل من يتصل بنا من الشيوعيين , ولا نساعد اي واحد منهم , ونخبر على اي واحد نعرفه قادم من الانصار حتى ولو من باقي الاحزاب الكردية , وغير هذه النقاط الكثير . ومن سوء الصدف ان تأتي فاتن ( ام جميلة ) شقيقة سوسن قادمة من كردستان لتنفيذ مهمة حزبية , وذهبت الى بيت اهلها , واعتقلت هناك ومعها سوسن بتهمة مساعدة اختها والتستر عليها . وأعدمت الاثنتان مع رفيقات ورفاق آخرين عام 1985 .
#عدنان_اللبان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟