|
منزلنا الريفي ( 4 )
عبد الله عنتار
كاتب وباحث مغربي، من مواليد سنة 1991 . باحث دكتوراه في علم الاجتماع .
الحوار المتمدن-العدد: 4116 - 2013 / 6 / 7 - 23:59
المحور:
الادب والفن
وبينما كان يحث الخطى عائدا من الحقل ؛ كان الشهر نيسانا، وكانت أرض التيرس مخضرة تعبق بالزهور، وبين حقولها ترفرف الفراشات والطيور ؛ لقد كان ينقي الأرض مع والده، و ها هما الآن عائدان، وبين التعب الذي يتسلل إلى جسده النحيل ؛ كانت نسائم موقظة تتسرب إليه عبر بشرته الحساسة ؛ كانت عبارة عن موسيقى تشبه جسد امرأة ؛ كانت عبارة عن حرية منحت لرجل محكوم عليه بالمؤبد ؛ كانت بمثابة إكسير الحياة منح لرجل فقد الحياة، أجل لقد هبت إلى جسده رياح الثورة والحب ؛ أتت قادمة، وتمرغ معها رفقة والده ؛ كانا يضحكان، دون أن ينظرا إلى السماء، نظرا إلى الحقل ؛ نظرا إلى الأرض ؛ هناك تتراءى نباتات الذرة ؛ تتراءى بلونها الأخضر، لقد أتت من صميم الأرض ؛ الأرض هي أمنا، جئنا منها، وسنعود إليها مغتبطين ؛ لا باكين، قال له والده : " لقد جردنا من حقنا في الأرض، ومنحونا أوهام السماء "، ثم يضيف هو : " لقد جردوننا من الأرض، ومن كيفية التعامل معها، وها نحن رحلنا إلى السماء ؛ أجسادنا في الأرض، وعقولنا في السماء "، فرد عليه والده : " ورغم ذلك، الجسد يحتاج لمن يلهمه في السماء لمواجهة الجوائح والكوارث، والأمراض، والسجون، والمنافي " ؛ سكت لحظة، وعيناه تستغور عبق الأرض، ثم قال : " كلا يا والدي ! ماذا جنيت أنت ؟ كل صباح تقوم بحركات من أجل السماء، فماذا أعطتك ؟ أنت تائه، وغريب كالسجين المنفصل عن حبيبته ؛ أنظر إلى الأرض، وهي تمنحك كل شيء ؛ تمنحك القمح، والعطر والورد ؛ يا والدي أنت معتقل في سجن السماء، هيا فلتعد إلى الأرض، إلى قيم الأرض ؛ قيم الثورة و الحب ؛ ألم تقل منذ لحظة أنهم منحونا أوهام السماء ؟ " ؛ تكلم والده بضع كلمات متقطعة، و جسده يخور، وبين الفينة والأخرى ينظر إلى السماء : " نعم هي أوهام، ولكن الإنسان لا يمكن أن يعيش دون أوهام ؛ ماذا تنتظر من إنسان جرد من أرضه، ولم تمنح له إلا حفنة من التراب، ولا يملك محراثا، ولا حمارا، ولا دابة ولا حصانا ؛ لن يبق أمامه إلا أن يتضرع إلى السماء "، وقف وقفة الثوار، ونظر نظرة الأقوياء، وأجاب والده : " ها أنت تعود إلى السماء، فلترحل إليها ؛ الأرض ليست للجبناء ؛ الأرض للنوابض ؛ الأرض للأطفال، وليست للشيوخ، هيا فلترحل بعقلك، وجسدك ! إما أن تكون كاملا هنا، أو تكون كاملا هناك، هذا هو الإنسان ؛ السماء للجبناء، والأرض للثوار ؛ يا والدي أنا لن أعبد آلهة السماء، أنا سأرقص مع الأرض، لأن الأرض تحبني، وأحبها، أما أوهام السماء تهددني، تسجنني، وتعذبني، وتتجبر علي ؛ اقتلعتني من الأرض، ورمتني بين أسوارها " ؛ سكت والده، وذهبا بين الشعاب، وهناك افترقا، أ مات والده ؟ الموت في الأرض حياة، والموت في السماء عدم، ونفي . إقترب من النهر، وفي اللحظة التي شرع في غسل يديه، ورجليه ؛ تراءت له بين المياه المنسكبة قنينة ترقص، وداخلها تراءت له أوراق محشوة و مكومة ؛ تراجع لحظة، سرعان ما دفعه الفضول لقراءة فحوى الأوراق ؛ كانت القنينة تقترب لحظة، وتبتعد لحظة أخرى بين مياه البحيرة، فهم أنها تريد أن تقول شيئا، فأزال ملابسه كيوم ولدته أمه، وقفز نحو المياه كالضفدع، وأخذ القنينة، و عاد إلى اليابسة، وآوى قرب الضفة، وشرع في قراءة الأوراق، وانتابه خوف كمن يخاف المجهول، لأن في إشارات القنينة شيء ما يدعو إلى ذلك ؛ أخرج الأوراق، ومسك بواحدة كما يمسك بحبيبته ؛ ظهرت له الورقة ناصعة البياض ؛ تتخللها كتابات حمراء، وفي الأعلى كتب عنوان كبير ؛ دون مكان، ودون تاريخ : " إلى حفيدي العزيز أكتب هذه الرسالة من معتقل السماء "، وتوالت الكلمات، وهي تنسكب كالمياه : "
حفيدي العزيز :
أتأسف كثيرا لأنني لم أرد عليك في الحين .
حفيدي العزيز :
أشكرك كثيرا ؛ لأنك تذكرت تلك اللحظات الجميلة التي جمعتنا ؛ حقا لقد كانت لحظات مفعمة بالحنان والحب ؛ لقد أحببتك أنت، وأختك ؛ آه لقد كنتما غضين، لكنك كنت أنبه منها، بينما هي كانت خجولة ؛ كنت تطرح أسئلة ماكرة ؛ كنت تسأل في الحب والموت والحياة والله ؛ كنت تخيفني، أجل كنت أخاف أن يعتقلني حراس السماء .
حفيدي العزيز :
جريء أنت بطرحك، وكتابتك للرسالة التي أرد عليها الآن، كانت رسالة تغوص في الذاكرة، ودون أن تسائل في الراهن بما فيه الكفاية، ولكن دعني من الماضي ؛ الماضي مات، لا وجود إلا للسيرورة والتغير، أخبرك عزيزي الوسيم، بأنني أصبحت شابة أرتدي لونا أحمرا طافحا بالحب والحياة ؛ وجهي شاب وجميل ؛ عيوني أصبحت خضراءا، وجسدي يرقص مع إيقاعات الحياة ؛ أنا لم أمت، أنا مازلت بين دروب الحياة ؛ لقد كنت ميتة حينما كنت بجوارك، أجل لقد كانوا يحرسون عقلي، ويمنعونه من التفكير ، وحرسوني لما مت، ولما وضعوني فوق النعش، وصاروا يرددون على تعويذات السماء، ومت أكثر لما وضعوني في اللحد، محروسة بالكفن والحجر .
حفيدي العزيز :
المقبرة سجن، والسماء معتقل كبير ؛ وضعوني في زنزانة، ومنعوني من لقاء الحبيب ؛ لم أسمع أخباره، و أظن أنه يتجرع وحدته مثلي، هنا لا وجود للحب، فقط قبور كالحة، ومتناثرة طالها النسيان، في النهار تدوس علينا الحمير، وفي الليل يكسر مرقدنا نعيق البوم .
حفيدي العزيز :
لم أرد عليك في الحين ؛ لقد كان يحرسنا حراس السماء، ويالهم من غلاظ شداد، لقد ثرنا من أجل حقوقنا في مملكة البؤس هذه، في هذا المعتقل المؤقت، فكل يوم تجرفنا مياه، يموت أطفال، ويختفي شيوخ ؛ أنظر إلى النهر ؛ ألم يقتلع نصف المقبرة ؟ و ملوك السماء يتفرجون، وماذا عن ملوك الأرض ؟ إنهم سبب المأساة .
حفيدي العزيز :
السماء وهم، وعودها وهم في وهم، والإنتقال إليها وهم في الوهم الوهمي ؛ إننا لم نجد شيئا، وجدنا معتقلا أكثر ضراوة من معتقلات الأرض، لا يعرف إلا القسوة، والعذاب والآلام .
حفيدي العزيز :
أحيطك علما ؛ بأنني ثرت، وأصبحت أعيش بالقرب منك ؛ كل يوم تصافحني، تصافحني لما تتناول الخبز، ولما تشرب الماء، أنا أسكنك، أسكن أرضك، مواشيك ؛ أسكن الأرض، وأبناء الأرض، وأتحلى بقيم الأرض ؛ قيم الثورة والحب .
حفيدي العزيز :
لا تنس أن تتحاور من جديد مع والدك، وتقول له : " إن أمك تبلغك تحياتها، وأنها أصبحت جزء من الأرض، لقد فرت من جبروت السماء، وعادت إلى الأم، وقبلتها قبلات الضم والحنان، وأسعدتها بكلمات الرجاء والوداد .
حفيدي العزيز :
لا تنس أن تقول له : " السماء أفيون، سنسعد به للحظات، سرعان ما تنبثق أعراضه الجانبية، لذا عليك أن تبحث عن السعادة الحقيقية الموجودة بين الشعاب، والثاوية وراء صمت المكان، هناك الرقص والغناء، والمجون والأحلام، والخير والسلام...."
إنتهت الرسالة، وتأسف كثيرا، لأنها لم تعده حول ما إن كانت ستتمم التواصل معه أم لا ؛ ارتدى ملابسه بعد أن جف جلده بلسعات الشمس، وانطلق بين الدفلى، ومن حين لآخر، كان يسمع نقيق الضفادع، فيرشق إحدى البحيرات بالحجر، يتوقف برهة متابعا صعود الفقاعات، وبرهة أخرى كان ينظر إلى الأعلى ملاحظا طيور نشيطة بعد أن ملأت بطونها بالحبوب الوفيرة ؛ أراد أن يعود إلى البحيرة، لكن جوعا هائما استولى عليه، فعاد أدراجه إلى المنزل الجاثم وراء السفوح، على إيقاع شمس تشبه شمس تموز .
يتبع
عبد الله عنتار - الإنسان-/ بني ملال - المغرب - 07 حزيران 2013
#عبد_الله_عنتار (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
غصن دون جذور
-
موقفي من المرأة
-
الجرح الملالي
-
ومضة
-
مدينة ... ترتدي نعش الذكرى (2)
-
مدينة...ترتدي نعش الذكرى
-
الأجنحة المترنحة
-
السراب الملالي
-
المأساة
-
عائد من لحدي
-
وردة
-
أقوال
-
المحطة
-
إنخرامات
-
شطحات
-
الذبول
-
الدموع
-
أقواس
-
همسات
-
رسالة إلى صديقي هشام
المزيد.....
-
مسلسل طائر الرفراف الحلقة92 مترجمة للعربية تردد قناة star tv
...
-
الفنانة دنيا بطمة تنهي محكوميتها في قضية -حمزة مون بيبي- وتغ
...
-
دي?يد لينتش المخرج السينمائي الأميركي.. وداعاً!
-
مالية الإقليم تقول إنها تقترب من حل المشاكل الفنية مع المالي
...
-
ما حقيقة الفيديو المتداول لـ-المترجمة الغامضة- الموظفة في مك
...
-
مصر.. السلطات تتحرك بعد انتحار موظف في دار الأوبرا
-
مصر.. لجنة للتحقيق في ملابسات وفاة موظف بدار الأوبرا بعد أنب
...
-
انتحار موظف الأوبرا بمصر.. خبراء يحذرون من -التعذيب المهني-
...
-
الحكاية المطرّزة لغزو النورمان لإنجلترا.. مشروع لترميم -نسيج
...
-
-شاهد إثبات- لأغاثا كريستي.. 100 عام من الإثارة
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|