عدنان اللبان
الحوار المتمدن-العدد: 4109 - 2013 / 5 / 31 - 21:52
المحور:
الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية
كان منشغلا مع رفيقه علي الشاهر في مراقبة الطريق النيسمي الوحيد الذي يقطع البستان المحاط بأحراش وأشجار متنوعة غير مثمرة . أوميد يحمل المنظار ويراقب الجهة الغربية التي تصله بالطريق النازل من العمادية الى دهوك , وهو الذي يجب على المفرزة عبوره , ولكن ليس قبل الساعة الرابعة عصرا , اي بعد انسحاب مفارز الجحوش التي تراقب الطريق , وذلك للوصول الى قاعدة زيوة مقر قاطع بهدنان لأنصار الحزب الشيوعي .
كانت المفرزة تتكون من اربعة رفاق , اوميد وعلي تركا الرفيقين الآخرين في وسط المسافة بينهما ليأخذا غفوة كانا بحاجة اليها بعد ان تناولوا طعام الغداء سوية وهو علبتي لحم معلب جلبوها معهم من مقر كافية وأربعة ارغفة خبز قدمت لهم من احد بيوت الفلاحين على الطريق . " كافية " المقر الخلفي للأنصار الشيوعيين في قاطع اربيل , ويقع عند نهاية امتداد جبل كَاره من ناحية الشمال , والمسافة بين كافية وزيوة يوم كامل سيرا على الاقدام , الا انهم وصلوا الى مكان استراحتهم هذا الذي يبعد خمسمائة متر او اكثر عن الشارع العام قبل الوقت المتوقع لأنهم بكروا بالخروج من مقر كافية . المهم لم يبق الا ما يقارب الساعة لعبور الشارع , وبعدها سيصلون مقر زيوة خلال ساعتين او اكثر ان هم هموا في السير .
حرارة الجو وتوقف الهواء ترفع " بوخة " الاشجار , وتجعل التنفس صعبا . تساءل اوميد عن كيفية تمكن الرفيق ابو طالب من النوم ؟ وأجاب نفسه : يبدو ان التعب اخذ منه , وهو غير متعود على السير لمسافات طويلة . فقد كان عضو منطقة بغداد خلال ضربة الحزب عام 1978 , ومسؤول الفوج الثالث قبل ان يصبح عضو قيادة في قاطع بهدنان , وتحول الى مسؤول فصيل المكتب السياسي قبل ان ينقل الى اربيل ليشرف منها على تنظيمات الحزب السرية في بغداد, وجميعها اعمال ادارية لا تتطلب الحركة المستمرة التي تحافظ على قدرة النصير العسكرية .
أوميد واسمه الحقيقي ( محمد السعداوي ) من الديوانية , طالب جامعي , مربوع متوسط الطول , اسمر حنطي كثيف الشعر , وخصلات شعر رأسه تنسدل من تحت غطاء الراس الجمداني , هادئ في كلامه , ويختصر الكثير منه في ابتسامته المعهودة , لم يعتذر عن تكليف حزبي او عسكري , وحتى عندما اخبروه امس بالذهاب في هذه المفرزة استجابة لطلبه قبل ايام , لم يطلب من آمر الفصيل استبدال ساعة حراسته من منتصف الليل الى بدايته كما جرت العادة ليكون قد حصل على نوم متواصل ويكون اكثر استعدادا لجهد المفرزة .
اوميد طلب القدوم في هذه المفرزة وهي تحمل مواد طبية لمساعدة الرفاق والأنصار الذين تعرضوا للضربة الكيماوية من قبل السلطة في قاعدة زيوة قبل ايام , وبالتحديد يوم 5 حزيران 1987 . ومن بين المصابين شقيقته نادية وزوجها ملازم آزاد ( عماد ) اللذين فقدا بصرهما ايضا مثل باقي الرفاق . اوميد الاخ الوحيد لسبعة او ثمانية اخوات , ومن بينهن الرفيقة رضية التي سافرت الى اليمن الديمقراطية عند الهجمة على الشيوعيين , وعادت الى كردستان , ونزلت الى الداخل للعمل على اعادة بناء التنظيمات والالتقاء بالرفاق المقطوعين . وقد سقطت بأيدي شرطة الامن واستشهدت مع الرفيقة ام لينا ورفاق آخرين نتيجة خيانة عضو منطقة الفرات الاوسط " ابو هيمن " الذي كان يعمل مع اجهزة الامن , وهو ما اكده ايضا ابن خالتها الاعلامي الرفيق رضا الظاهر .
انزعج ابو طالب لإيقاظه من قبل علي , واخذ يدمدم : ما اعرف ليش مستعجلين ؟! كلما نتأخر بعبور الشارع بعد الاربعة احسن , واذا المغرب احسنين .
علي : رفيق كلما نوصل من وكت احسن , يعني قبل ما يجلجل الليل , حتى لايتات ماشايلين .
ابو طالب : يا اخي الدنية كاشفة , واذا قبل شهر ينسحبون الساعة اربعة هسه احتمال اكثر من الاربعة , نوصل بالليل احسن مما تصيرنه مشكلة . وتركهم باتجاه ساقية تنحدر الى الوادي ليغسل وجهه ويطير باقي النعاس .
ابو طالب مسؤول المفرزة لكونه الكادر الحزبي , وكلامه هو الذي يطبق في النهاية , اوميد وعلي نظر الواحد في وجه الآخر ولم يتحدثا لأنهما يعرفان ابو طالب يميل الى اقصى درجات الحذر الذي يصل الى التردد . النصير الرابع الذي لم اعد اذكر اسمه وهو من ابناء المنطقة والدليل ايضا , اكد : ان الجحوش ينسحبون في الساعة الرابعة .
وتلافيا للتعارض بين الرغبة في العبور عند الغروب وبين الساعة الرابعة جرى التلكؤ , واخذ النصير يعمل شاي في زمزميته وكان لا يزال يحمل قطعتين من الوقود الجاف .
اصبح الوقت ثقيلا بعد ان تناولوا الشاي في القدح الوحيد الذي دار بينهم . اوميد يواصل استطلاعه باتجاه منطقة العبور , كانت هي الاوطئ في الطريق العام , وتحت قنطرتها ساقية لتصريف السيل غلفت بالحجارة والاسمنت . الحرارة لا تزال مرتفعة رغم تجاوز الساعة الخامسة , البوخة وموجات الحر المرتفعة من اشجار الوادي وتوقف الهواء جعل الجو اشبه بالمغبر واضعف الرؤيا . تحركت المفرزة متثاقلة تجر اقدامها باتجاه منطقة العبور , فبالإضافة لأسلحتهم ومخازن العتاد التي يحملونها كانت حقائبهم تئن بحمولة ثقيلة من الأدوية وباقي المواد التي جاءوا بها لرفاقهم بما فيها السكائر . كانت المسافة بين رفيق وآخر اكثر من عشرين مترا , اخذت تتقلص كلما تم الاقتراب اكثر من نقطة العبور , اوميد في المقدمة , ويتبعه النصير الآخر , ثم ابو طالب , والقفل علي الشاهر .
في حياة الانصار دروس عملية كثيرة , من بينها التحكم الدقيق بالوقت , ويمكن ان يكون تأثيره اكبر من السلاح ذاته . احد الانصار في اربيل , ولم يكن قد تجاوز الثامنة عشر من عمره , تقدم عن رفيقيه مسافة وأصبح في المنطقة المكشوفة , فجأة اصبح هدير طائرة الهليكوبتر فوقهم ومن المستحيل العودة لرفيقيه بين الاشجار , انبطح ووضع كفيه فوق اذنيه اتقاء الصوت العالي الذي كاد ان يمزق طبلة اذنيه , حطت الطائرة بالقرب منه , ورامي الدوشكا فيها وقف خلف سلاحه وناداه لأخذه اسيرا , وبلحظة خاطفة وجه الكلاشنكوف المسحوبة الاقسام من تحت بطنه ليصيب رامي الدوشكا وترتفع الطائرة التي اصيبت ايضا ولم تسقط هاربة مذعورة .
اوميد كان يتقدم المفرزة متثاقلا , والذي يراه يعتقد ان حرارة الجو والتعب اخذت منه جهدا وربما يفكر بشربة ماء بارد او بإغفاءة لذيذة , ارتفع صراخ سريع ومتداخل من اماكن قريبة بين الاشجار : ارفع ايدك , سلم , بالعربي والكردي . يقول علي : شلت المفاجأة تفكيرنا , صليت رصاص , تبعتها رصاصات متفرقة , عاد الجحوش للاختباء , لحظات الرصاص منحتنا الوقت لاستعادة القدرة على استخدام اسلحتنا بعد ان رفعنا ايدينا , تراجعنا عدة خطوات , انبطحنا , زدنا كثافة النار , لحظات سكون , انسحب الجحوش , تراجعنا , تفاجئنا ان اوميد لم يكن معنا .
يقول ابو طالب عند وصفه للكمين في افادته لقيادة القاطع : انه بمجرد ان سمع اصوات الجحوش ومطالبتهم للمفرزة بالاستسلام , بادر لأخذ بندقية النصير الآخر , حيث انه لا يحمل بندقية بل مسدس حاله حال اغلب القياديين , ويعتبر البعض منهم ان المفرزة هي فقط لحمايته الشخصية وليس للقيام بمهمة حزبية او عسكرية . وأضاف : ان من سوء الصدف لم يكن النصير قد سحب الاقسام مما اخذ منه وقت آخر لإطلاق النار وإجبارهم على الانسحاب .
يكمل علي الشاهر واسمه الصريح رياض من اهالي قلعة سكر وقد وافاه الاجل في مدينة مالمو السويدية , والذي كان خلفهم مباشرة ويرى المشهد كاملا لأنهم اصبحوا قريبين من بعضهم عند الاقتراب من منطقة العبور : ان اوميد فاجأ الجحوش بانتباهه وسرعة اطلاقه الصلية الاولى وهم بهذا القرب الذي لا يتجاوز الخمسة عشر مترا , وسمعنا صراخ اثنين منهم . سرعة صلية اوميد هي التي شاغلتهم ومنحتنا الفرصة لاستعادة وضعنا بعد ان انزلنا ايدينا من فوق رؤوسنا وباشرنا اطلاق النار , انسحبنا عدة خطوات واستمرينا في اطلاق النار انا والنصير الآخر . ابو طالب لم يطلق اطلاقة واحدة من مسدسه الذي كان يحمله , واجزم انه نسيه , كان مرتبكا جدا , وامرنا بالانسحاب حتى دون متابعة المراقبة ومعرفة مصير اوميد .
عرفنا من احد الرفاق وهو يعمل في فوج الجحوش الذي نصب الكمين : ان اوميد استشهد مباشرة بعد ان اخترقت طلقة صدره من جانب القلب , حيث آثر الاستشهاد الاكيد في هذه المسافة القريبة على ان لا تسقط المفرزة اسيرة بيد الجحوش .
*********************************************************************************
عوازة
قبل فترة قريبة تعاتب بمرارة اثنان من الرفاق الانصار في مدينة الديوانية ايضا , الاول كان في امسية اقيمت له من قبل لفيف من المثقفين في المحافظة . وقد حمّل الحزب الكثير من الاخطاء , واغلبها محاكمات بوعي هذه المرحلة وليس بوعي المرحلة السابقة الحاضنة لتلك الاخطاء , ومن بينها ضعف اليقظة الثورية . مما اضطر الرفيق الثاني لتذكيره بعد انتهاء الامسية بكيفية محاولة ارساله من كردستان الى الداخل للمشاركة في اعادة التنظيمات هناك , وكيف ان الرفيق ابو تانيا ( عدنان عباس ) وهو مسؤول الفرات الاوسط وجهه بضرورة الالتزام بكل توجيهات عضو المنطقة " ابو هيمن " , الذي طلب من الرفيق النصير معرفة الركائز والبيوت التي سيتوجه اليها ويكون ارتباطه به شبه يومي. وبعد انتهاء الاجتماع بلغ الرفيق المحاضر من الرفيق الثاني بعدم الالتزام بتوجيهات الرفيق ابو تانيا , وان لا يذهب الى الداخل ولا يلتقي او يقدم اية معلومة لابو هيمن , وهذا التبليغ هو الذي انقذ حياته . وبعد ان تأكد ارتباط ابو هيمن بجهاز امن السلطة واعدم الكثير من الرفاق والرفيقات بسبب ذلك , ثارت الشبهات حول نزول الرفيق ابوتانيا الى منطقة الفرات الاوسط لإعادة التنظيمات هناك برعاية ابو هيمن الذي هيأ واشرف على نزوله .
ومنعا لحدوث هذه الاختلاط نأخذ مذكرات الرفيق ابو تانيا , فهي لا تختلف عن مذكرات جميع القياديين في تبرئت ذممهم وإلقاء اللوم على باقي القياديين الآخرين , ولا يعرفوا ان يفرقوا بين متطلبات مرحلة وأخرى .
ابو تانيا مناضل قديم , وتعرض لكافة اشكال الحرمان , ومعروف بنزاهته , وتاريخه لا يحتاج الى من يزكيه . ورغم بعض الملاحظات على مذكراته وبالذات ما يتعلق بكردستان , الا انه لم يأت على ذكر الحادثة الاهم وهو نزوله الى الفرات الاوسط لعدة اسابيع برعاية ابو هيمن ’ مما عزز الشكوك به لدى البعض . وابو تانيا ليس مسئولا عن خيانة ابو هيمن حتى وان كان هو مسؤوله الحزبي او من رشحه الى الحزب . ابو هيمن وابو طالب اعضاء منطقة , وابو طالب كاد ان يرتكب مجزرة بحق قيادة الحزب لو تمكن من ذلك , والاثنان احد مظاهر تمكن البعث من فرض سيطرته على الحياة السياسية في البلد , رغم ان الاثنين لا يمثلان ذكاء الخونة الذين قرءنا عنهم في كتب التاريخ , بل اغبياء استغلوا ضعف يقضتنا . والأمانة تفرض كشف اسرار تلك المرحلة وتلك الخيانات , خاصة وان المرحلة الثورية قد انتهت , وتوجهات النضال اخذت اشكالا اخرى , ومن حق الرفاق الذين دفعوا شبابهم ومستقبلهم ثمنا لانتصار العدالة ان يعرفوا اين كمنت وأخفيت بعض الحقائق , من حق اهالي وذوي الشهداء الذين ذهبوا ضحية هذه الخيانات معرفة ملابسات استشهاد ابنائهم .
#عدنان_اللبان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟