مختار سعد شحاته
الحوار المتمدن-العدد: 4106 - 2013 / 5 / 28 - 02:12
المحور:
ملف فكري وسياسي واجتماعي لمناهضة العنف ضد المرأة
نحو اكتشاف صعيد مصر:
أقرر للمرة الأولى أشاهد الأماكن التى سيتم بها تصور فيلمي الجديد، أرفض فكرة الذهاب بالطائرة وأقرر خوض تجربة أعرف أنها قد تحفر في الذاكرة للأبد، أمني نفسي برحلة سعيدة بين الطبيعة هناك حيث النيل والجبل والنخل، أقوم بالحجز في واحد من القطارات التى تعج بمئات المصريين المُتعبين والذين يعرفون كيف يعلو المرء فوق المرارة بكل تفاصيلها الطافحة على الوجوه، وما بين العشرات أختفى جسدًا ضئيلا لا اكاد أتبين من أمرى شيئًا، وأحاول اتباع العادة هنا كما وصف صديق، بأقوم بالسؤال، مجرد سؤال واحد وفقط يكفيك هنا، لتترى عليك حميمية تصل إلى حد الاقتحام لحياتك الشخصية، فتبدأ في أولها بالسؤال من أين تأتي، وإلى أين تنوى التوقف؟ تحاول ان تجعل سمت البتسام وفقط إجابة ممكنة لكل الأسئلة التى تقابلها هنا، ودون أن تدري تكتشف أنها طريقة للحياة هنا، فقط مجرد الابتسام، كل ما عليك ان ترسم ابتسامة مجاملة لا معنى لها، تعرف في داخلك أنه لا داع لها بأي حال من الأحوال، وتتحرج أن تخبر السائل بأنه يقتحم خصوصيتك بتلك الأسئلة، ولا تحاول الفكاك، ستطاردك الأسئلة ثم العيون، لتكتشف ببساطة وخفة كونك غريبا في هذا القطار الذي بدا كان الجميع فيه لديهم سابق معرفة ببعضهم البعض، فيغمرك شعور طاغ بوحدة عجيبة وسط كل تفاصيل الحميمية التى يبذلها من حولك لإشعارك بها، بمجرد اكتشافك لاغترابك هذا عنهم.
محاولة للفهم:
ربما تجتهد كي تفهم، او تحاول الانشغال ببعض المناظر من خلف زجاج القطار حين يتوقف في محطاته الفقيرة التى لونها لون الإهمال منذ أمد، وتحاول أن تعلل تلك الحميمية بأنها واحدة من طرائق عديدة لهم هنا للتغلب على قدر من التهميش الذي ساد لأجيال، تم تجريف المنطقة كلها مما يمكن أن يكون بذور أمل في تطور أو نهضة، لكن اللافت كونهم جميعا يسعدون بتلك الخصوصية الفريدة في الأسئلة التى يطرحونها، ومعهم لا تحاول أن تندهش متى تخطى الامر مجرد الأسئلة إلى حد ما يمكن ان تراه في مشهد كوميدي في فيلم سينما "يفقع المرارة" بكم البؤس المعروض، والذي يسلمك إلى شعور بالغثيان كلما يضحك هؤلاء من أبناء بحرى –مثلك- على حالهم وبؤسهم، دون أن يجربوا رحلة واحدة من رحلات اللاخصوصية تلك، ودون ان يمارسوا طقس الابتسام الخجل حين يعجزون عن الكلام او يرفضون الإجابات بأدب. فقط سيضحكون وفي مصر البحرية كل ما يدعو للبكاء –ويا للعجب- يضحك العامة. هل بلغ بنا الحد من التهميش إلى تلك الدرجة التى تجعلني حين أسمع صوت مطربة تغني أغنية قديمة، لا تشعر بملاحة صوتها، وقد كنت تستعذبه يومًا، فلا تدري كيف يمكن لهؤلاء الجالسين من حولي رغم كل ما أراه وما يعيشونه، يمكنهم ان يستمعوا إليها وهي تغني "أنا بأعشقك"؟! أي خدعة تلك التى نمارسها مع أنفسنا حين ندعي بأن إنسانيتنا يمكن ان نجدها في وسط المهمشين؟ أي سذاجة تلك التى دافعنا بها عن هؤلاء وادعينا فيهم "طيبة" لا تقارن، ونفينا بإخلاص عنهم كل ما يُشين، ربما الموقف يتلخص في مشهد بسيط للغاية لكنه شديد التعقيد بالنسبة لي، فقط كوب شاي شديد الرداءة، تحاول به أن تغالب النوم الذي يجافيك رغم الإرهاق الشديد الممتد منذ ظهر الامس انتظارا لساعات سبع في تحرك قطار المهمشين هذا، نعم، فقط كوب شاي تحاول أن تفهم سر رداءة، وقبل أن تصل إلى خيط الإجابات والتخمينات، تمتد يد نحوك، وتطلب بحيادية المشاعر أو بتعب وإنهاك "ممكن شفطة شاي؟"، وقبل ان تحاول مجرد الاندهاش لطريقة السؤال أو بالاحرى ما جاء في شكل الرجاء الذي عذبك ثوان كانها الدهر، تمنيت معها لو تغمض عينيك وتصحو من هذا الحلم، وأبدا لن تفيق، يعود صاحب السؤال ليعلل الطلب من تلقاء نفسه "أصلي تعبان ومرجع"، فتعود للابتسام. ألم أقل لك فقط الابتسامة هي ما ستتمكن منه متى جربت ان تسافر في قطار البلاد المهمشة.
قطار المهمشين:
ربما تلك الناظر يمكن استغلالها في سيناريو فيلمي الجديد، فالبطل أحد هؤلاء رواد القطار الهامشي، واحد هؤلاء الذين يعيشون عمرهم في صمت تعلمته سنونهم –هناك- من صمت الطبيعة حولهم. في المشهد ستتباين درجات اللون الاخضر، والأصفر بقدر ما، لتدرك أيضًا أن التهميش نال الطبيعة نفسها، لا وفرة للألوان هناك، بل أجزم بأنها ضنت على الجينات الوراثية فتكاد الملامح من حولك كلها تتشابه، وبأريحية لا غبار عليها، قد تعيد الجميع إلى جد اول واحد، ولست أقصد جد بعيد، بل قريب جدا جدا. تلك المرة الأولى –ولن تكون الأخيرة- لمجموعة الزيارات التى قررت الذهاب فيها لأجل اختيار أماكن للتصوير، وهي عادتي العجيبة في الكتابة عن أماكن لم أقم بزيارتها يومًا، ثم زيارتها لاحقا للمقارنة بين الخيال المكتوب وبين الواقع بحذافيره، هذه المرة جاءت الخيالات نرجسية للغاية، ربما تقاطع الواقع مع الخيال في مشهد نفسي واحد، حين سيحاول هؤلاء إلى جوار البطل أن يضحكوا ويسخروا إلى درجة بالغة يعرفونها هنا كما سمعته يقولون من حولي "تمسخير"، وهو ضحك كثير بلا سبب حقيقي، او ربما هذا هو ضحك المهمشين ممن لا نعرف عنهم سوى في اللقاءات التلفزيونية او زيارات الخيال في كتابات شاعر أو قاص كتب عنهم يوما ما محاولا تجميل الواقع أكثر مما يحلم ركاب القطار.
الصدق منجاة:
مرت التجربة في سرعة قياسية، حاولت فيها قدر المستطاع تخليص الروح من كل زيفها، ومن محاولة التعالي، وان أتمسك بأكثر الطرق اختصارا للوصول إلى حقيقة الأشياء، فعرفت ان الصدق مع النفس هو طريقها الأوحد، لذا اعترفت لنفسي بأن تلك المعابد وكل تلك الحفاوة البالغة التى يمارسها أهل الصعيد لك زائرا كلها محض كذبة منمقة، فكم من ضحايا ماتت أو تعذبت لبناء هذه المعابد، وكم من المصريين يظل يحدثك عن إنسانيتك وكرمك، ويقرنه بضيق الحال وشظف الحياة وضياع الامكانيات والدعوات بعودة الأوضاع، وكل ما يعنيه بعض الجنيهات تنثرها باستخفاف هنا او هناك، وأنت تشعر بالعار كونك تشاركهم كذبتهم انهم أهل الحفاوة، فأنت لا تزيد عن كونك "سائح" يملك المال، فقط المال.. نعم.. للأسف كان لابد ان أصدق نفسي، فلا وضع البلد، ولا دماء الشباب تعنيهم، كل ما يعنيهم كم سيدفع لهم لقاء جولة سياحية، ولا يعنيهم خلاف ذلك أي شيء آخر مهما كان إنسانيا أو وطنيا. أنا لا اختلف معهم في أن يكون لكل منا مصالحه الخاصة بل شديدة الخصوصية، لكن ما المانع أن نطلبها بوضوح وشفافية بعيدًا عن ادعاءات مزيفة كالكرم المبالغ فيه، او التودد الذي يتخطى حدود التملق بكثير، أو الطيبة التى في حقيقتها لا تحمل غير معاني الانتهازية واللعب على أوتار إنسانية الغير؟! ما أجمل الصدق مع النفس قبل أن يكون مع الآخرين، اصدقوا تروا كل الكون يتصالح معكم، ووقتها لن تندموا على ضياع أحلامكم ولا عدم فهم الآخرين، فقط الصدق يضمن لكم النجاة من كل المواخير العفنة للنفس الإنسانية.
هي تجربة أعرف أنها لن تنتهى دهشتي معها حين أتذكر كل تفاصيلها الدقيقة حين أعود.
#مختار_سعد_شحاته (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟