عقيل صالح
الحوار المتمدن-العدد: 4095 - 2013 / 5 / 17 - 22:00
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
عندما حلل ماركس المجتمع البرجوازي , متمسكاً بسلاحه الديالكتيك, بدأ بتحليل ((السلعة)) و عملية تبادل ((السلع)) ليكتشف أن هناك ((سلعة)) من نوع خاص تدخل إلى السوق و هي ((قوة عمل )) العامل الذي يحاول أن يبيعها , و يقوم الرأسمالي بشرائها , و لأن هذه السلعة هي من نوع خاص فهي تخلق (( رأس المال )).
و منها انطلق ماركس ليجد ان التناقض الرئيس الموجود في النظام الرأسمالي يكمن في الطبيعية الاجتماعية للإنتاج ( التي تتسم بالشكل الجماعي للإنتاج ) و من الجانب الآخر الشكل الخاص للملكية ( الملكية الخاصة ) ,بإختصار , إنتاج يتم بشكل جماعي يفيد فرداً واحداً - مالكاً واحدا- شخصا واحدا فقط , هذا هو التناقض الرئيس الموجود في النظام الرأسمالي.
و من خلال هذا , أكتشف ماركس أن هذا التناقض في المجتمع الرأسمالي متمثل بين طبقتين : الطبقة ((البرجوازية)) و الطبقة (( البروليتارية )) .
و من خلال هذا المفهوم , أنطلق ماركس إلى شكل الإنتاج الجماعي هذا في ظل الهيمنة الرأسمالية الذي يتسم بالفوضى في الانتاج , حيث الرأسمالي (الفرد ) لا يعرف ((الكم)) من الحاجيات التي يحتاج إليها ((الناس)) و لهذا يفيض الانتاج عن حده . التناقض هنا يكمن في المصنع الخاص - أو الملكية الخاصة و الفوضى في الانتاج كخاصية للشكل الجماعي للإنتاج.
و يأتي لاحقاً لينين ليحلل عصر الإمبريالية مستخدماً سلاح الماركسية ليكتشف ظهور الرأسمالية المالية التي تخفف من الفوضى في الانتاج و التنافس المحلي و تسبب في صعود الاحتكاريات المتمثله بالتروستات و الكارتيلات و النقابات الاحتكارية و تمارس السيطرة على السوق بعد قضائها على الإزدحام بفعل الإحتكار. و عندما تصعد الرأسمالية المالية في الدول الصناعية الكبيرة يشتد الصراع ما بين تلك الدول , و لكن نمو رأس المال لا يقوم فقط في دولة معينة أو محددة , القوى الرأسمالية تحتاج إلى أسواق عالمية أخرى , و لكنها تواجه مشكلة عندما تريد أن تصدر رؤوس أموالها و سلعها إلى دول أخرى بسبب ((السياسة الجمركية )) التي وضعت اساساً لحماية رأسمالييها , القوى الرأسمالية في أي دولة ((التروستات)) و ((النقابات الاحتكارية)) و ((الكارتيلات)) تحتاج ان تحتكر السوق و ترفع اسعار منتوجاتها-سلعها , فعندما تدخل سلع خارجية( من دولة أخرى ) بالضرورة تؤدي إلى انخفاض اسعار القوى الرأسمالية و لهذا السياسة الجمركية مهمة جداً لدى الدول الرأسمالية من أجل الحد من تدفق السلع الخارجية , هذا بالضرورة يزيد حدة الصراع ما بين الدول , فتلجأ تلك الدول إلى احتلال دول أخرى من اجل توظيف رأسمالها فيها بكل سهولة و بهذا ينمو رأس مالها في مثل الوقت , و ايضاً يتم احتلال دول أخرى بسبب نمو رأس المال-فائض الانتاج حيث يصبح بحاجة إلى تصديره إلى الخارج .
بالإضافة , عندما تصدر الدول الرأسمالية رؤوس أموالها إلى دول أخرى فهي تحتاج إلى ان تحميها و تقوم بذلك بالوسائل العسكرية , و هذا يتم بالغزو.
بهذا تخلق الإمبريالية تناقضاً جديداً في العالم , ما بين الدول الإستعمارية و الدول المستعمرة , حل هذا التناقض يقوم فقط من خلال ثورة التحرر الوطني , الذي اطلقه لينين تحت شعار (( يا عمال العالم و شعوبه المضطهدة اتحدوا ! )) .
نداء لينين هذا في عام 1921 فتح باب عصر ثورة التحرر الوطني.
ثورة التحرر الوطني مركزها الاتحاد السوفييتي ,و قيام الجمهوريات الشعبية التي تحررت من الامبريالية و الاستعمار تحتاج إلى دعم هائل من مركز هائل و كبير و هذا المركز كان الاتحاد السوفييتي , إلى ان وقع الانقلاب العسكري (1956-1957) الذي نقل الاتحاد السوفييتي نقله كبيرة هامة و هي الانحراف عن المسار اللينيني في الثورة التحررية العالمية .
ثورة التحرر الوطني , التي نجحت في القضاء على الامبريالية , كانت من المفترض ان تحول العالم إلى عالم اشتراكي , ولكن تغير هذا المسار بسبب إلغاء الاشتراكية في المركز الاساسي و هو الاتحاد السوفييتي في عام 1961 .
ثورة التحرر الوطني أدت إلى أحداث عديدة التي نستطيع أن نعتبر قضايانا المعاصرة كنتيجة لها. تشكيلة عالمنا اليوم و قضايانا المعاصرة تعود إلى خمسة أحداث : ((الانتفاضة الروسية الثانية )) و ((إعلان عصر ثورة التحرر الوطني)) و (( انهيار الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي )) (( انهيار الرأسمالية و صعود الاستهلاكية)) و ((انهيار المعسكر الاشتراكي)) .
((فصل النقد عن دورة الانتاج الرأسمالي ))
وظيفة النقد ( الذهب ) كانت دائماً كوسيط لتبادل السلع , أيّ , كمقياسٍ للقيمة . و عندما نقول وظيفة النقد هي مقياس للقيمة , فأننا بالضرورة نقصد , مقياس للقيمة المختزنة داخل السلعة ( وقت العمل) .
عندما ظهرت الأوراق النقدية في نهايات القرن التاسع عشر لتلعب دور الذهب في التدوير , تلك الاوراق النقدية أو السندات كانت تمثل عدداً معيناً من الذهب , لم تكن الاوراق النقدية مقياساً للقيمة , بل الذهب , و هذا كان دور الذهب دائماً. الأوراق النقدية تمثل الذهب و تصبح وسيلة للتدوير. الذهب كان دائماً يلعب دوراً هاماً في أن يكون السلعة النقدية الوحيدة في السوق العالمية.
النقود الورقية يمكنها ان تحل مكان الذهب في ان تكون وسيلة للتدوير , و لكن لا يمكنها ان تحل مكان الذهب لتكون مقياس للقيمة , دور الأوراق النقدية في هذا المجال هو تمثيل عدد معين من الذهب.
عندما اشرفت الحرب العالمية الثانية على الانتهاء , اجتمعت أكثر من 40 دولة في الولايات المتحدة ( في بريتون ودز ) لترى انتقال القوة الاقتصادية من الجنيه الاستريليني إلى الدولار الامريكي.
في بريتون ودز أعطت الولايات المتحدة ضماناً أن 35 دولاراً امريكياً يساوي أونصة من الذهب , هذا ما سمي بمعاهدة بريتون ودز. كل العملات أصبحت مرتبطة بالدولار الامريكي بعد هذه المعاهدة , التي جعلت الدولار الممثل للذهب عالمياً.
و من الطبيعي أن تقوم الدول الأخرى بجمع أكبر عدد من الدولارات بإعتبارها عملة صعبة و قوية و مساوية للذهب , و لكن ما لم يتوقعوه هو اشتعال ثورة التحرر الوطني , الذي جعل الولايات المتحدة ( الإمبريالية الأمريكية ) تقوم بزيادة التسليح لاحتواء الشيوعية ( أو ثورة التحرر الوطني ) من الانتشار, الذي في النهاية ادى إلى الأزمة الاقتصادية في السبيعينات.
الأزمة الاقتصادية التي تسبب بها في المقام الاول اشتعال ثورة التحرر ( تفكك الإمبريالية بشكل أساسي) أدت إلى فصل الدولار عن الذهب , و كان هذا إجراء مؤقت على حسب نيكسون و الإدارة الامريكية , إلا أن المشكلات الاقتصادية تفاقمت التي أدت إلى أتفاقية رامبويية 1975 و جامايكا 1976 الاتفاقيتان اكدا على فصل النقد عن عملية الانتاج المحلي-الوطني .
أهمية فصل الدولار عن الذهب تقع في التخلي عن دورة الإنتاج الرأسمالي :
نقد – سلعة – نقد
Money-Commodity-Money
فصل الأوراق النقدية عن الذهب يعني الأوراق النقدية لم تعد تمثل الذهب , أيّ فقدت دورها الرئيسي ( التدوير ) في الانتاج الرأسمالي.
هذا يعني أيضاً أن الدولار الأمريكي منذ منتصف السبيعنات قرن الماضي كان يحتاج إلى كفالة , من الصين و النفط العربي.
و يجدر بنا أيضاً ان نشير إلى ان بعد فصل الدولار عن الذهب قام التجار بضخ أموالهم في الأسواق المالية و أيضاً في الأسهم مما مهد إلى ارتفاع القطاع الخدماتي عن القطاع الصناعي , و إلى يومنا هذا , نجد اليوم ان القطاع الخدماتي في أغلب الدول الرأسمالية السابقة أقوى من القطاع الصناعي بأشواط.
و هذا أدى إلى هجران المصانع إلى المكاتب , الإنتاج الأكبر أصبح في مجال الخدمات ( البنوك , مجال الصحة , مجال الدراسة , الاعمال المكتبية, العقارات .. ) العمال البروليتاريون أنتقلواإلى مجال صناعة الخدمات أيّ انتقلوا ليصبحوا عمالا برجوازيين.
( الخدمات سابقاً و الآن )) )
(( كل عامل منتج هو عامل مأجور و لكن هذا لا يعني أن كل عامل مأجور هو عامل منتج. في كل الاحوال عندما يشترى العمل من أجل ان يستهلك كقيمة استعمالية , كخدمة , و ليس من أجل استبدال قيمة رأس المال المتغير كعنصر حي و توظيفه في عملية الانتاج الرأسمالي , هذا العمل غير منتج , و هذا العامل المأجور ليس عامل منتج. بهذا عمله يتم استهلاكه على اساس قيمته الاستعمالية و ليس على اساس قيمته التبادلية , يتم استهلاكه بشكل غير انتاجي . ))
-كارل ماركس .
انتقال عدد كبير من العمال البروليتاريين من القطاع الصناعي إلى القطاع الخدماتي يعني ازدياد العمل غير المنتج , هؤلاء العمال المأجورين المنتجين أصبحوا غير منتجين في قطاعات غير رأسمالية , التي تشكل 70 إلى 80 % من انتاج الدول الرأسمالية السابقة.
استعرضنا سابقاً أسباب انتقال العمال من القطاع الصناعي إلى القطاع الخدماتي , و لكن ما الفرق ما بين الخدمات سابقاً و الآن ؟
في السابق , عندما تطورت الرأسمالية , ظهرت الخدمات ((لتخدم)) رأس المال , فالشركات المساهمة التي ظهرت كانت من أجل تطوير المشاريع الرأسمالية التي تحتاج إلى كم كبير من رؤوس أموال أخرى التي ((تساهم )) في تطوير تلك المشاريع , كل المساهمين الذين يساهمون برؤوس أموالهم يتلقون أسهم مما يتيح لهم الحصول على نسبة من أرباح تلك الشركات المساهمة , و ليس فقط الرأسماليين من يقومون بهذا بل كل فئات المجتمع , يستطيع الموظف أو العامل يوظف أمواله في تلك الشركات من اجل الحصول على الربحية.
تلك الشركات أو البنوك وجدت لتخدم حركة رأس المال. و لكن اليوم نجد أن هذا الطراز من الانتاج هو الشائع في أغلب بلدان العالم.
الخدمات تخلق الربحية و لكنها لا يمكنها أن تخلق رأس المال , الأموال الكثيرة أو الربحية لا تعني الرأسمالية .
اليوم في الولايات المتحدة , على سبيل المثال ,تشكل الخدمات فيها 79% من انتاجها المحلي الذي يعتبر انتاجاً من أجل الاستهلاك الشخصي , و لا بد أن نشير أن الخدمات في الولايات المتحدة في ستينات القرن الماضي تشكل 30% من الانتاج المحلي , حين كانت الرأسمالية في شبابها اليافع .
صعود الخدماتية يعطينا إشارة في انخفاض الانتاج السلعي ( الرأسمالي ) , مما يجعلنا أن نفهم ان الدول الرأسمالية السابقة ليست رأسمالية اليوم و هذا يعني ليست إمبريالية . و تلك هي الإحصائيات لصعود الخدماتية في الدول الرأسمالية السابقة اليوم :
الولايات المتحدة الأمريكية :
(الإنتاج الوطني "زائد الخدمات " ) : 15 ترليون
( القطاع الصناعي ) : 19.2% من مجمل الانتاج الوطني
( قطاع الخدمات ) : 79.6 % من مجمل الانتاج الوطني
( الديون الخارجية ) : 14 ترليون
: و بما أن العمل في قطاع الخدمات لا يعد عملاً منتجاً يضيف شيئاً في الثروة الوطنية , هذا يعني ان الانتاج الوطني الحقيقي يعادل 3 ترليون .
المملكة المتحدة :
( الإنتاج الوطني "زائد الخدمات " ) : 2 ترليون
( القطاع الصناعي ) : 21.5% من مجمل الانتاج الوطني
(قطاع الخدمات ) : 77.8% من مجمل الانتاج الوطني
( الديون الخارجية ) : 9.8 ترليون
(الإنتاج الوطني الحقيقي " من دون الخدمات " ) : 444 مليار
فرنسا :
(الإنتاج الوطني "زائد الخدمات " ) : 2,6 ترليون
( القطاع الصناعي ) : 18.3% من مجمل الانتاج الوطني
(قطاع الخدمات ) : 79.8% من مجمل الانتاج الوطني
( الديون الخارجية ) : 5.6 ترليون
(الإنتاج الوطني الحقيقي " من دون الخدمات " ) : 525,2 مليار
هذا الطراز من الاقتصاد ينتمي إلى الطبقة الوسطى ( البرجوازية الصغيرة ) و ليس إلى الطبقة البرجوازية , الطبقة البرجوازية الكبيرة ( الرأسمالية ) مصدر ربحيتها هو (( فائض القيمة )) الذي يعتبر (( عمل منتج )). الطبقة الوسطى تقوم بإنتاج فردي ( خدمي ) , و نمط الانتاج الشائع اليوم هو نمط انتاجها , الذي في الحقيقة غير مستقر .
لماذا غير مستقر ؟
أولاً لأن الاقتصاد هذا دخيل , كان من المفترض بعد اضمحال الرأسمالية في مراكزها الأساسية أن تقوم الاشتراكية , و لكن مما عرقل هذا التحول هو في الحقيقة الإنقلاب العسكري في الاتحاد السوفييتي في 1956 الذي عبر عن مصالح الطبقة الوسطى ( البرجوازية الصغيرة ) و ليس البروليتاريا . هذا الاقتصاد القائم اليوم يعيش بالكفالة , أو بالأحرى الولايات المتحدة ( المسيطرة اقتصادياً و عسكرياً ) تعيش من خلال أنبوب الكفالة و المديونية , طبع الدولارات بشكل لا يصدق يخفض من قيمة الدولار مما يجعل الصين تقوم بكفالة الدولار, هكذا هو حالة الترهل التي تعيش فيه الولايات المتحدة .
ثانياً هذا الاقتصاد قائم على اللصوصية , الدول الرأسمالية السابقة اليوم ترفع السلاح من أجل أن تمدد فترة عيشها , ترفع السلاح بوجه كل من يشك في قدرة الدولار المزيف.
أغلب دول العالم ربطت نفسها بالدولار بعد منتصف السبيعينات , و لا يمكنها ان تنفصل عنه , حيث السوق العالمي يتعامل بالدولار بشكل خاص. فالارتباط بالدولار وثيق و من الصعب الإنفصال عنه .
السؤال الراهن و المهم هل سيستمر هذا الطراز من الاقتصاد ؟ هل هذا الترهل و الوهن و الضعف الذي نشهده اليوم في التركيبة الاقتصادية العالمية تشير لنا أن هذا الاقتصاد ممكن أن يستمر ؟
الاقتصاد الذي نراه اليوم لا ينتج ثروات بل على العكس يستهلكها , الولايات المتحدة , على سبيل المثال , تستدين لتعيش لشعبها يعيش , و في الحقيقة 19% فقط من الانتاج المحلي للولايات المتحدة هو انتاج صناعي-سلعي , و هذا يفسر لماذا تستدين الولايات المتحدة.
و هذه مسألة مهمة جداً في التشكيلة الاقتصادية المعاصرة , هذا الاقتصاد غير مستقر و غير ثابت و من الصعب جداً الإدعاء أن هذا الشكل من الاقتصاد سيستمر لوقت طويل .
عقيل صالح .
#عقيل_صالح (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟