|
فلسفة -الإرادة-
جواد البشيتي
الحوار المتمدن-العدد: 4094 - 2013 / 5 / 16 - 10:51
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
"الإرادة"، وعلى أهميتها في حياة البشر اليومية، وفي التاريخ، لجهة صُنْع أحداثه، لم تَنَلْ، حتى الآن، من الجهد العلمي ما يَرْفَع كثيراً منسوب العِلْم في مفهومها وتعريفها؛ فإنَّ كثيراً من الناس ما زالوا يميلون إلى ما يجافي العِلْم، والمنطق العلمي، في فهمها وتفسيرها. هناك، وعلى وجه العموم، مَنْ يُفْرِط، ومَنْ يُفرِّط، في تقديره لأهمية ووزن "الإرادة" في "التغيير"؛ فهي "كلُّ شيء"، أو هي "لا شيء"؛ هي ما يجعل المستحيل ممكناً، وحقيقةً واقعةَ، من ثمَّ، أو هي "الوهم الخالص"؛ لأنَّ الإنسان مُسيَّرٌ، لا يأتي إلاَّ بما هو "مكتوب"، و"مُقرَّرٌ له أنْ ياتي به مِنْ قِبَل إرادةً عليا (ليست من جِنْس إرادة البشر)"؛ وكأنَّه "نهرٌ لا يملك تغييراً لمجراه". نيتشه اطَّلَع على بعضٍ من "الجدل الشرقي (المُزْمِن)" في أمْر "التسيير" و"التخيير"، وفي أمْر "نظام القضاء والقدر"، ولجهة "الصِّلة (المثيرة للجدل)" بينه وبين "الإرادة الحُرَّة" للبشر، فعلَّق قائلاً: "الشرقيون (في جدالهم هذا) نسوا أمْراً في غاية البساطة والأهمية في آن، هو أنَّ منطق القضاء والقدر يُلْزِمهم أنْ يفهموا إرادتهم الحُرَّة على أنَّها هي، أيضاً، جزء (لا يتجزَّأ) من نظام القضاء والقدر". نيتشه، في فلسفته، لا يؤيِّد أبداً مَسْخ (وإعدام) الإرادة الحُرَّة للإنسان؛ فهو المُفْرِط أكثر من غيره في تمجيدها، والإعلاء من شأنها؛ فهذا الفيلسوف الألماني العظيم أراد للإنسان (الفرد) أنْ يكون في منزلة "الإله" قوَّةً وبأساً؛ وليس من طريق إلى هذا "الإنسان ـ الإله" إلاَّ "الإرادة"، بقوِّتها، وتقويتها، بحريتها، وتحريرها. ما أفهمه من تعليق نيتشه هو أنَّه يدعو أهل الشرق (دعوةً ساخرةً) إلى أنْ ينبذوا من رؤوسهم "التخيير (والإرادة الحُرَّة للبشر)" ما داموا يعتقدون بـ "التسيير"، وبـ "نظام القضاء والقدر"، وكأنَّ "الأمْريْن" لا يجتمعان، ولا يلتقيان. في أمْر "الإرادة"، يقول المهاتما غاندي "القوَّة الحقيقية لا تأتي من عضلات قوية؛ وإنَّما من إرادة لا تلين، ولا تُقْهَر"؛ وجون تشارلز سالاك يقول "لا يصل المرء إلى حديقة النجاح إلاَّ بعد مروره بمحطات التَّعَب والفشل واليأس؛ لكنَّ صاحب الإرادة القوية لا يمكث طويلاً في هذه المحطَّات"؛ ونابليون بونابرت يقول "لا مكان لكلمة مستحيل إلاَّ في قواميس الحمقى والضُّعفاء"؛ ولَمَّا قيل لنابليون إنَّ جبال الألب شاهقة بما يمنعكَ من التقدُّم، قال "فَلْتَزُلْ من الأرض"؛ ومايكل كولنز يقول "كل إرادة لا تتغلَّب على العاطفة تنهار وتفشل"؛ وطاغور يقول "سَأَلَ الممكن المستحيل أين تقيم، فأجاب قائلاً: في أحلام العاجز"؛ وصموئيل جونسون يقول "الأعمال العظيمة لا تصنعها القوَّة؛ وإنَّما المثابرة"؛ وروبرت شولر يقول "لتتوقَّع العقبات؛ لكنْ إيَّاك أنْ تجعلها تمنعكَ من التقدُّم"؛ والمتنبي يقول "على قدر أهل العزم تأتي العزائم، وعلى قدر الكرام تأتي المكارم، وتَعْظُم في عين الصغير صغارها، وتَصْغُر في عين العظيم العظائم"؛ ما أعظم "الإرادة"، وما أعظم "الإرادة الحُرَّة"، أو "حرِّيَّة الإرادة (الإنسانية)"؛ لكن ما أسخفها إذا ما فُهِمَت وفُسِّرَت بما يجافي العلم، والمنطق العلمي؛ وإنَّني لأرى أنَّ خَيْر فَهْم وتفسير للإرادة (الحُرَّة للإنسان) هو ما تنطوي عليه عبارة "الحُرِّيَّة هي وعي الضرورة". إذا أردتَّ "العبودية" نمط عيشٍ لكَ فما عليكَ إلاَّ أنْ تَفْهَم وتُمارِس "حُرِّيَّة الإرادة"، أو "الإرادة الحُرَّة"، على أنَّها "فِعْل كل ما ترغب في فعله"؛ فأنتَ "حُرٌّ"، أيْ ذو "إرادة حُرَّة"، إذا ما استطعتَ فِعْل كل ما ترغب في فِعْله؛ وأنتَ "عديم الإرادة الحُرَّة" إذا ما عجزتَ عن فِعْل شيء ما مع أنَّكَ رغبتَ في فعله! كلاَّ، ليست هذه هي "الإرادة الحُرَّة"؛ وإنَّ العاقبة الحتمية لفهم وممارسة "الإرادة الحُرَّة" على هذا النحو (المتطرِّف في مثاليته) هي أنْ تغدو (أو تظل) عبداً، كمثل نقيضكَ المُسْتَخْذي المُسْتَسْلِم الذي لا يفعل شيئاً لتغيير حياته وواقعه بدعوى أنَّ كل شيء "مكتوب"؛ "مكتوب على الجبين"، و"لسوف تراه العين"؛ وكأنَّ الإنسان لم يأتِ إلى الحياة إلاَّ لـ "يَفْعَل (وبعض الفِعْل هو من نوع اللافِعْل)" ما كُتِب عليه فعله منذ الأزل! "الإرادة"، في مبتدأها، ومستهلِّها، هي "أنْ تريد فِعْل أمْرٍ ما"؛ وهي "أنْ تُصمِّم وتعقد العزم عليه"؛ لكنَّ، هل نَيْل المطالب بالتمنِّي؟! أنْ تريد، وأنْ تُصمِّم، وتعقد العزم، هو أمْرٌ كالتَّمنِّي، إنْ ظلَّ بلا سعيٍ وعملٍ وفِعْلٍ وصراعٍ (واقعي) لـ "تحقيق" ما أردتَ، أيْ لجعله "حقيقة واقعة"؛ وهذا إنَّما يُلْزِمكَ أنْ تعد العدَّة، وتُهيِّئ الأسباب، وتحشد القوى، لتبدأ، من ثمَّ، العمل، الذي هو "صراعٌ"، ولو كان الأمر الذي تريد تحقيقه بأهمية ووزن أنْ تقوم برحلة سياحية. وثمَّة "هدف (أو غاية)" يكمن دائماً في "الإرادة"، بوجهيها: "القرار"، و"الفعل (العمل، التنفيذ)". وفي "تجربة الإرادة"، التي نخوضها، أفراداً وجماعات، نتعلَّم، وينبغي لنا أنْ نتعلَّم، إجابة، وكيفية إجابة، سؤالين عظيميِّ الأهمية، هما: "ماذا أريد (أو نريد)؟"، و"كيف أصِل (أو نَصِل) إلى هذا الذي أريد (أو نريد)؟". ومن التجربة نفسها، نكتشف أنَّ "المكيافلية"، بمبدأها "الغاية تُسوِّغ الوسيلة"، لا تَصْلُح لـ "الإرادة"، بوجهيها (القرار والفعل). إنَّها لا تَصْلُح؛ لأنَّ التجربة، بنجاحها وفشلها، تُعلِّمنا أنَّ "الوسيلة تَتَبْع (ويجب أنْ تَتَبْع) الغاية"؛ فَمِنْ جِنْس "الغاية"، ومعدنها، وبما يُماثِلها، ويشبهها، تكون، ويجب أنْ تكون، "الوسيلة"؛ وكأنَّ أمْر "اختيار الوسيلة" يعود إلى "الغاية نفسها". "الإرادة" تحتاج دائماً إلى التمرين والتدريب والتقوية والشَّحْذ؛ فالإرادة القوية، ومهما قَوِيَت، يمكن أنْ يعتريها الضَّعْف؛ والإرادة الضعيفة، ومهما ضَعُفَت، يمكن أنْ تقوى وتصلب؛ فلا ننسى أنَّ "الإرادة القوية" تأتي من "الإرادة الضعيفة"، بالتمرين والتدريب والتقوية والشَّحْذ؛ وليس من إرادة متساوية القوَّة والبأس في كل أمْرٍ؛ فمنسوب القوَّة في إرادتكَ يعلو، ويهبط، بما يُوافِق درجة أهمية الأمر لكَ (الآن). "الإرادة الحُرَّة" هي "بِنْت "الوعي"؛ وهذا "الوعي" لن يكون "أُمَّاً" لـ "الإرادة الحُرَّة" إذا لم يكن "وَعْياً للضرورة"؛ أمَّا "الضرورة نفسها" فلا شأن لإرادتكَ بها؛ إنَّكَ لن "تقود"، عملاً بـ "إرادتكَ الحُرَّة"، قبل أنْ تؤدِّي على خير وجه دور "الجندي"، الذي يمتثل لأوامر وتعليمات وتوجيهات "قائده"؛ و"الامتثال" هو الطاعة والتنفيذ؛ هو أنْ تَعْلَم هذه الأوامر والتعليمات والتوجيهات، لِتَعْمَل، من ثمَّ، بمقتضاها، وبما يوافقها. وهذا "القائد (السيِّد)" إنَّما هو "الضرورة"؛ فاخْضَعْ لها، وامتَثِلْ، قبل، ومن أجل، أنْ تمارِس "إرادتكَ الحرة" مُمارَسَةً تتكلَّل بـ "النجاح"، أيْ تأتي بـ "نتائج" تَنْتَصِر لِمَا "تَوقَّعْتَ" من قَبْل، ولا تهزمه شَرَّ هزيمة. أَمامكَ نهرٌ أردتَ عبوره، أو رغبتَ في عبوره؛ وأنتَ لا تجيد السباحة، ولا زورق لديكَ؛ فَلْتَتَمَثَّل معاني هذا المثال. إذا فَهِمْتَ "الحرِّيَّة"، أيْ "حرِّيَّة إرادتكَ"، أو إذا فَهِمْتَ "الإرادة"، أيْ "إرادتكَ الحُرَّة"، على أنَّها "أنْ تَفْعَل ما تريد (أيْ ما يحلو لكَ)"، شاء من شاء، وأبى من أبى، فما عليكَ إلاَّ أنْ ترمي نفسك في النهر، وتشرع تُمارِس "إرادتكَ الحُرَّة" بمعناها هذا. إنَّكَ لن "تنجح"، لا بَلْ لن تفشل؛ لأنَّكَ (على ما أتوقَّع) ستموت غَرَقاً؛ فما عبور النهر بالتَّمنِّي! "عبور النهر" له "قوانينه الموضوعية"؛ له قوانينه التي لا شأن لكَ بها؛ فأنتَ لم تَخلقها، ولن تفنيها، وليس في وسعكَ تغييرها (أو تعديلها). كل ما في وسعكَ فعله، وينبغي لكَ فعله، هو أنْ "تعيها (تكتشفها)"، ليس حُبَّاً بالمعرفة؛ وإنَّما لتعمل بمقتضاها، وبما يُوافِقها، إذا ما أردتَ عبور النهر؛ فأنتَ تظلُّ عَبْداً لها ما ظللتَ جاهلاَ بها؛ وتغدو سيِّداً، تَنْعَم بالحرِّيَّة، إذا ما وعيتها (وعرفتها، واكتشفتها) وامتثلتَ لها، وعملت بمقتضاها، وبما يُوافقها؛ وعملكَ هذا إنَّما يشبه أنْ "تُدير القوانين الموضوعية (التي لا تملكها)" بما يجعل عملها يعطي من "النتائج" ما يُوافِق، كثيراً، أو قليلاً، ""الهدف" الذي سعيتَ له. "القوانين الموضوعية" هذه هي التي تشير عليك أنْ تتعلَّم السباحة، وتوضِّح لكَ، وتشرح، "كيفية تعلُّمها"؛ فما تَعلَّمته لإجادة لعبة كرة القدم مثلاً لا يَصْلُح للسباحة، ولعبوركَ النهر، سباحةً؛ وهذا إنَّما يُبيِّن لك، ويوضِّح، "السبب الموضوعي" للفَرْق بين هذا التَّعَلُّم وذاك؛ فهذا "الفرق" ليس وليد "إرادتكَ". وإذا كان النهر واسعاً عريضاً، لا يُمْكِنكَ، من ثمَّ، عبوره سباحةً، فلا بدَّ لك، عندئذٍ، من أنْ تخترع وتصنع زورقاً، أو ما يشبه الزورق. وفي هذا تكمن، أيضاً، أهمية "وعي الضرورة (أيْ وعي القوانين الموضوعية)"، في سعينا إلى "تحقيق" ما نريد. أنتَ تخترع وتصنع الزورق؛ لكنَّ عملكَ هذا لا يعدو أنْ يكون "تنفيذاً" لِمَا يأمركَ به "القانون الموضوعي"؛ وهذا "التنفيذ"، مع "الأمر"، ليس وليد "إرادتكَ (ومشيئتكَ)"؛ فأنتَ لم تَخْتَرْه، ولم ترغب فيه؛ ولو كان عبور النهر فِعْلاً لا قوانين موضوعية له، لاستطعتَ عبوره مَشْياً. جَرِّب أنْ تُخالِف، أو تعصي، هذا الأمر، بأنْ تأتي بلوحٍ معدنيٍّ، تملأه ثقوباً، ثمَّ تركبه، توصُّلاً إلى عبور النهر؛ فتعرِف، عندئذٍ، "العاقبة (والعقوبة)". إذا كانت "الحرِّيَّة" هي أنْ "أفعل" ما "أريد"، وأنْ يأتي فعلي بـ "النتيجة التي أريد وأتوقَّع"، فَلْتُجرِّبها، وتَخْتَبِرْها بعبور النهر، قبل أنْ تتعلَّم السباحة، أو من غير أنْ تستعين بزورق، أو بما يشبهه! أنتَ حُرٌّ، وتنعم بـ "الإرادة الحُرَّة"، أو بـ "حرِّيَّة الإرادة"، ما ارتضيتَ أنْ تكون، وأنْ تظلَّ، في إرادتكَ، وهدفكَ، وسعيكَ، وفعلكَ، "مقيَّداً بقيود القانون الموضوعي (الذي وعيته واكتشفته)"؛ أمَّا إذا ركبت رأسكَ، وقرَّرتَ أنْ تكون "حُرَّاً" بمعنى أنْ تفعل ما يحلو لكَ، و"تحرَّرتَ"، من ثمَّ، من تلك "القيود (الذَّهبية)"، فلكَ أنْ "تَنْعَم"، عندئذٍ، بـ "العبودية"؛ إنَّكَ تخضع لـ "القانون الموضوعي" قَبْل، ومن أجل، أنْ تُخْضعه لكَ، وتُسيطر عليه؛ لكنَّ هذا القانون لا تخلقه باكتشافكَ له، ولا تلغيه بتحكُّمكَ فيه، وسيطرتكَ عليه. "فيضان النهر" كان، قديماً، من الوحوش المفترسة، فلم ينجح البشر في ترويض هذا الوحش؛ لأنَّهم لم يعرفوا الطريق القويم إلى ترويضه، فتوهموا أَنَّهم يستطيعون ذلك بـ "قوَّة" بعض "المعتقدات الدينية". وقد ظلَّوا عبيداً للنهر وفيضانه، يَحوِّلون عجزهم عن فهم الفيضان والسيطرة عليه إلى مزيدٍ من الاعتقاد بالمعجزات، حتى "وعوا" هذه "الضرورة الطبيعية"، وعرفوا كيف يسخِّرونها لهم من خلال بناء "السدود". تخيَّل أنَّ لديكَ ذرَّات أُوكسجين "مفكِّرة"، وأنَّ ثلاثاً منها "أرادت" أن تتَّحِد لتؤلِّف، باتِّحادها، "جزيء ماء"، فهل تأتي "نتائج" فعلها متَّفِقة مع ما "أرادت"؟ الجواب هو: كلاَّ، ستفشل، حتماً، في "فِعْلِ ما تريد"، فتكوين "جزيء الماء" يحتاج إلى ما هو أهم بكثير من "إرادتها"؛ إنَّه يحتاج إلى أن تتَّحِد كل ذرَّة من ذرَّات الأُوكسجين الثلاث مع ذرَّتي هيدروجين. أمَّا لو "أرادت" ذرَّات الأُوكسجين الثلاث أن تتَّحِد لتؤلِّف، باتِّحادها، غاز "الأُوزون" فسوف تأتي "نتائج" فعلها متَّفِقة تماماً مع ما "أرادت". عباس بن فرناس رغب في الطيران كالطيور، وأراده، فحاوَل؛ لكنَّ محاولته باءت بالفشل، كما فشلت ذرَّات الأُوكسجين الثلاث "المفكِّرة" في أنْ تصنع، باتِّحادها، "جزيء ماء". ولم ينجح البشر حيث فشل عباس بن فرناس إلاَّ عندما اكتشفوا القانون الطبيعي للطيران، فصنعوا، بما يتَّفق معه، وسائل الطيران. بالمعنى "المثالي" لـ "حرِّيَّة الإرادة"، فإنَّكَ لستَ حُرَّاً حتى في إعداد كوبٍ من الشَّاي؛ فهل تستطيع إعداده إذا ما "رَفَضَ" الماء أنْ يغلي مهما سَخَّنْته (أو إذا ما "رَفَضَت" مادة الشَّاي أنْ تنحلَّ في الماء المغلي)؟! وفي مثال "الرغبة في عبور النهر"، نَقِف، أيضاً، على أهمية، وكيفية، ومعنى، "التفاعُل" بين "الذَّات" و"الموضوع". لقد وَعَيْتَ (وعرفتَ، واكتشفتَ) القوانين الموضوعية لعبور النهر، فتمخَّض هذا التفاعُل بين "الذَّات (أيْ وعيكَ، وإرادتكَ، والحاجة التي تسعى في تلبيتها)" وبين "الموضوع (أيْ النهر والقوانين الموضوعية لعبوره)" عن صُنْعٍ شيء جديد (هو الزورق) لا تصنعه الطبيعة أبداً من تلقائها، ولا يصنعه أبداً وعيكَ وحده. ومن طريق هذا "التفاعل" تَظْهَر إلى الوجود، وتتطوَّر، "البيئة الاصطناعية"، التي عَبْرها يتفاعل الإنسان مع الطبيعة. بتعريف "الحرِّيَّة (حُرِّيَّة الإنسان وإرادته)" على أنَّها "وعي الضرورة (والعمل، من ثمَّ، بما يُوافِق القوانين الموضوعية)"، يُحَلُّ على خير وجه التناقض بين "التخيير" ,"التسيير"، بمعنييهما اللاديني. أسئلةٌ وتساؤلاتٌ كثيرة، استغلقت إجاباتها على الذَّهن البشري زمناً طويلاً، شرعت الآن تتلمَّس طريقها إلى الزوال (فبالإجابة يزول السؤال، لينشأ، في الوقت نفسه، سؤال آخر). لماذا أريد ما لا تريد؟ ولماذا تريد ما لا أريد؟ ولماذا يريد كلانا ضديد ما يريده الآخر؟ لماذا الذي نريده الآن لم يرده أسلافنا؟ ولماذا لا نريد الآن ما أرادوه؟ الإنسان دائماً "يريد"؛ فهو، أوَّلاً، "يريد"؛ ثمَّ يشرع يعمل (توصُّلاً إلى ما يريد). وهذا الذي قُلْت ليس بذي أهمية؛ فهو أمْرٌ في منزلة "البديهية"؛ لكنَّ من الأهمية بمكان، أنْ نعلِّل ونُفسِّر الاختلاف والتباين في "محتوى" إرادته. إنَّ الإنسان جُمْلَة من "الحاجات" التي ينبغي له تلبيتها وإشباعها؛ وجُمْلَة من "المصالح" التي ينبغي له الدفاع عنها. وثمَّة حاجات طبيعية لا يستطيع الإنسان أنْ يبقى على قيد الحياة إذا لم يُلبِّها ويشبعها؛ وهذه الحاجات (ضئيلة العدد، عظيمة الشأن) هي التي تُلْزِم صاحبها "العمل" و"التعلُّم"، و"العيش ضِمْن جماعة"؛ وإنَّ حاجته إلى الطعام، أو المأكل، هي أهمها على وجه الإطلاق؛ ولعلَّ هذا هو ما جَعَل "الإحساس بالجوع" أقوى وأهم أحاسيس الإنسان. ثمَّ تأتي "المصالح"؛ فأنتَ لكَ "مصلحة" في هذا..؛ وليس لكَ "مصلحة" في ذاك..؛ وإنَّ "مصلحتكَ" في هذا.. هي "ضديد مصلحتي"؛ وما عليكَ وعليِّ إلاَّ أنْ نُفكِّر ونعمل ونتصرَّف بما يمليه علينا "نزاع المصالح" هذا، والذي لم يَخْتَرهُ، ولم يُرِدْهُ، كلانا. أمَّا "الحقوق" فلا أهمية لها إذا لم تكن عَوْناً لي في تلبية "حاجاتي"، وحِفْظ وصَوْن "مصالحي". وكما يشبه "الجَمَلَ" بيئته "الصحرواية"، في لونه وبنيته وتكوينه وخصائصه..، ينبغي لـ "دوافعي" و"حوافزي" و"اهتماماتي" و"إرادتي" و"أهدافي" و"غاياتي".. أنْ تشبه "حاجاتي" و"مصالحي"؛ ففي "حاجات" و"مصالح" المرء والجماعة، وفي الأساسي والجوهري منها على وجه الخصوص، يكمن التفسير والتعليل للدوافع والحوافِز والاهتمامات والإرادة والأهداف والغايات..؛ لكن (وهذا ما ينبغي لنا ألاَّ نَضْرِب عنه صفحاً) الحاجات والمصالح تختلف وتتعيَّر في استمرار؛ فـ "الحاجات الطبيعية التي تُعَدُّ تلبيتها شرط بقاء" تختلف وتتغيَّر لجهة وسائل وطرائق وأساليب تلبيتها وإشباعها؛ و"الحاجات الأخرى" تنشأ وتزول في استمرار؛ أمَّا "المصالح" فلا ثابت فيها إلاَّ تغيُّرها وتبدُّلها. إنَّنا، وقَبْل أنْ نقرِّر ونصمِّم ونعقد العزم، نُفاضِل بين أمور عِدَّة؛ لكنَّ "المشْتَرَك" بينها جميعاً يكمن في كونها مِنْ جِنْس "الخيار الممكن الواقعي"؛ فهل من بينها، مثلاً، إذا ما كنتَ راغباً في السَّفر إلى مكان ما، أنْ "تطير بأجنحة عباس بن فرناس"؟! أنتَ "الآن"، وفي "موضعكَ (أو مكانكَ)" هذا، وبما أنتَ عليه من أحوال، وبما يُشَكِّلكَ من الحاجات والمصالح، أردت فِعْل شيءٍ ما، أيْ قرَّرت فِعْله، وصمَّمت عليه، وعزمت؛ فهل لكَ أنْ تُحيطنا عِلْماً بما اعتراكَ قَبْل أنْ تحسم أمْرِك، وتتبلور إرادتكَ، ويُوْلَد قراركَ؟ لقد اعْتَمَل فيك نزاعٌ، أو صراعٌ، بين مَيْلين (أو إرادتين) متضادتين؛ فإنَّ مَيلكَ إلى أنْ تَفْعَل هذا الأمر يتِّحِد اتِّحاداً لا انفصام فيه مع "ضديده". إنَّكَ تميل إلى أنْ تَفْعَل هذا الأمر؛ لكنَّ "الآخر" الكامِن فيكَ دائماً ينهاكَ، ويزجرك، قائلاً لكَ: "لا تَفْعَل". هذا "الآخر"، مع مَيْلِه المضاد لميلكَ، يَبْرُز ولو كانت أهمية الأمر الذي تميل إلى فعله من الضآلة بمكان؛ فإنَّكَ لن تَفْتَح هذا الكِتاب لتقرأه إلاَّ بعد أنْ تُصارِع مَيْلاً فيكَ إلى "ألاَّ تَفْعَل هذا الأمر"، وتتغلَّب عليه (لكن من غير أنْ تقضي عليه قضاءً مُبْرَماً؛ فهو سيقوى ويشتد في أثناء، وبسبب، القراءة، حتى يحملك على إغلاق الكتاب). إنَّ "الإرادة الواحدة الخالصة التي لا يخالطها نقيضها" هي الوهم بعينه، أكانت إرادة فَرْدٍ أم إرادة جماعة؛ أمَّا السبب فهو أنَّ "ما تَصْدُر عنه الإرادة"، ألا وهو "الحاجات" و"المصالح"، هو نفسه متناقض. أنتَ تريد، وأنا أريد؛ وكلانا قد يريد ضديد ما يريده الآخر؛ ويسعى بما يُناقِض سعي الآخر؛ وكلانا يرى، في نهاية سعيه، "النجاح" أو "الفشل"؛ لكن أليس من شيء آخر نراه، ويستحق أنْ نراه؟ نَعَم، ثمَّة شيء آخر؛ إنَّه "التاريخ"؛ ففي نهاية لعبة الصراع هذه، يَظْهَر إلى الوجود "شيء" لم أرِدْهُ أنا، ولم ترِدْهُ أنتَ، ولم يرِدْهُ غيرنا؛ فهذا "الشيء" لم يكن له من مكان في "إرادتنا" و"وعينا" و"اهتمامنا" و"دافعنا" و"خططنا" و"سعينا"..؛ لكنَّ هذا "الشيء" وُجِدَ "الآن"، وفي "هذا المكان"؛ لم يُوْجَد مِنْ قَبْل، ولم يُوْجَد في "مكان آخر"؛ وهذا "الشيء" ما كان له أنْ يُوْجَد "الآن"، وفي "هذا المكان"، إلاَّ لأنَّ "البُنْيَة التحتية (وهي كناية عن "الواقع الموضوعي")" لوجوده (في هذا الشكل، أو ذاك) موجودة؛ ولو لم تكن موجودة لَمَا تمخَّضت عنه لعبة الصراع (الذَّاتي) هذه.
جواد البشيتي
#جواد_البشيتي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في فِقْهِ -الاستبداد الدِّيني-
-
لماذا أعلن كيري -الدليل القاطِع-؟
-
هذا -الرَّد الإستراتيجي- السوري!
-
الوزن الحقيقي ل -تَفاهُم كيري لافروف-
-
هل ثمَّة ما يُبرِّر خوفنا من الموت؟
-
لماذا يصر نتنياهو على اعتراف الفلسطينيين بإسرائيل على أنَّها
...
-
شبابنا إذا حُرِموا -نِعْمَة- العمل!
-
الظاهِر والمستتِر في الضربة الإسرائيلية
-
في الجواب عن سؤال -الاعتداءات العسكرية الإسرائيلية-
-
-إنجاز- كيري!
-
طريقتنا البائسة في التفكير والفَهْم!
-
عيد -المحرومين في وطنهم-!
-
مهاتير يُحذِّرنا وينصحنا!
-
العراق على شفير الهاوية!
-
أُمَّة تحتضر!
-
عندما يتسَّلح العرب!
-
في -الحقيقة-.. مرَّة أخرى
-
كيري في جهوده -الحقيقية-!
-
حتى لا يصبح هذا -الرَّقَم- حقيقة واقعة
-
مصر التي تحتاج إلى استئناف ثورتها!
المزيد.....
-
الإدارة الأمريكية توضح جهودها لـ-تهدئة التوترات- بين تركيا و
...
-
عائلات فلسطينية ترفع دعوى على الخارجية الأمريكية بسبب دعمها
...
-
نهاية أسطورة الاستبداد في المنطقة
-
-ذي تلغراف-: الولايات المتحدة قد تنشر أسلحة نووية في بريطاني
...
-
-200 ألف جثة خلال 5 سنوات-.. سائق جرافة يتحدث عن دفن الجثث ب
...
-
وليد اللافي لـ RT: البرلمان الليبي انحاز للمصالح السياسية وا
...
-
ميزنتسيف: نشر -أوريشنيك- في بيلاروس كان ردا قسريا على الضغوط
...
-
خوفا من الامتحانات.. طالبة مصرية تقفز من الطابق الرابع بالمد
...
-
ألمانيا وفرنسا وبريطانيا تدعو إيران إلى -التراجع عن تصعيدها
...
-
طهران تجيب عن سؤال الـ 50 مليار دولار.. من سيدفع ديون سوريا
...
المزيد.....
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
المزيد.....
|