|
بغداد منحت الفلسفة اليهودية عصرها الذهبي
حسين الهنداوي
الحوار المتمدن-العدد: 4092 - 2013 / 5 / 14 - 21:20
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
لستُ مُطلِقاً لزعمٍ هنا. بل هو استنتاج سبقني اليه المؤرخ اليهودي الفرنسي، الهنغاري المولد، جورج فايدا (Georges Vajda 1908-1981)في سلسلة من الدراسات المعمقة توّجها كتابه "حكماء ومفكرون يهود في بغداد وقرطبة" والصادر عن منشورات "سيرف في باريس مؤخرا (300 صفحة). والكتاب جاء بمثابة تتويج خاص للحياة الدراسية الطويلة واضافة جديدة ومهمة للمساهمات التي قدمها في ميدان دراسة الفلسفتين الاسلامية واليهودية وتحقيق مخطوطاتهما والكشف عن العلاقة بينهما. فجورج فايدا هو بحق، ومنذ وفاة صموئيل مونك، اكبر المتخصصين في الغرب في بحث الفلسفة اليهودية التي نشأت في الشرق الاسلامي. واذا كان تأليف هذا الكتاب قد اكتمل منذ 9801، فان وفاة المؤرخ في العام التالي هي التي أدت الى تأخر ظهوره طويلا.
وتضم الفصول العديدة التي يتكون منها الكتاب دراسات غنية وموثقة بشكل كبير تتمحور حول مراحل الاشتغال بالفلسفة لدى النخبة اليهودية المثقفة التي عاشت في ظل الحضارة العربية - الاسلامية ودولتها خلال الفترة بين القرنين التاسع والخامس عشر الميلاديين. بيد ان اهميته الخاصة لا تقتصر على مادته المعرفية الكبيرة، انما ايضاً في وضعه حدّاً، او هكذا نعتقد، لظاهرة غريبة في دراسة تلك الفترة المهمة من تاريخ الفلسفة اليهودية، ونعني بها نزوع صنف من الباحثين الغربيين فيها، الى اظهارها مستقلة عن أي تأثير للفلسفة العربية- الاسلامية، وذلك عبر اعتماد منهجية انتقائية تفسر او تتجاهل الحقائق العلمية والتاريخية بما فيها الاكثر بداهة او شيوعاً قبلئذ. على الضد من هذه المنهجية المؤدلجة، ينطلق فايدا من ضرورة احترام الحقائق التاريخية في هذا الصدد معتبراً ذلك اغناءً للموضوع بذاته.
وتتوزع فصوله الثمانية عشر تتوزع على مجموعتين اساسيتين على صعيد ماهية الموضوع. تتناول المجموعة الاولى، الفصول الاول الى السادس، مسألة الاشتغال بالفلسفة لدى اليهود خلال القرون السابقة على ظهور الاسلام، مقترحة نفسها بمثابة تمهيد ضروري للدراسة المركزية التي تغطيها الفصول الاحد عشر الاخرى والمكرسة لتاريخ الفلسفة اليهودية في الشرق الاسلامي منذ طلائع التأسيس الفلسفي في بغداد وحتى سقوط الدولة الاسلامية في الاندلس. اما الفصل الاخير فمكرس لدور المترجمين اليهود في نقل نصوص الفلسفة العربية - الاسلامية الى اوربا حيث يقدم معلومات غير معروفة بشكل منظم لحد الآن. وغني عن القول هنا ان دور هؤلاء المترجمين، بين القرنين الثاني عشر والرابع عشر الميلاديين، كان عاملاً مباشراً في ولادة الفلسفة الغربية الحديثة بل الحضارة الغربية عموماً.
لكن لماذا شعر اليهود بالحاجة الى التفلسف؟ لذات الاسباب التي دفعت المسلمين او المسيحيين او سواهم للاشتغال بالفلسفة انما في ظروف خاصة مرتبطة او منبثقة من خصوصية العقائد اليهودية في ما يخص العلاقة بين الله والانسان اجمالا وبينه وبين "الشعب المختار" من جهة اخرى.
وهكذا، ولاسباب مختلفة عقائدية وتاريخية لم يجد المفكر اليهودي حتى ظهور المسيحية أي ضرورة للاستعانة بالفلسفة للتماهي مع الحقائق الالهية التي يقدمها الدين. الا ان التحدي اللاهوتي المسيحي المنبثق من قلب العقيدة الدينية اليهودية والفشل السياسي اليهودي المتفاقم والحرية الكبيرة الدينية والثقافية الداخلية التي اتاحتها الامبراطورية الرومانية لشعوبها أدى الى انبثاق تيار مقابل، اقل شأناً ونفوذاً ومتأثرا بالفلسفة اليونانية، صار يقول بضرورة الفلسفة لفهم الدين بل بامكانية التوفيق بينها وبينه. وذلك التيار الاخير سيبلغ ذروة مجده مع المفكر اليهودي فيلون الاسكندراني الذي عاش في القرن الميلادي الاول. فهذا رغم بقائه لاهوتياً اكثر منه فيلسوفاً ورغم تأكيده الدائم على أن الدين وليس الفلسفة هو مصدر واصل الحقيقة المطلقة، فان ما يميزه عن المفكرين اليهود الآخرين هو كونه أول من طرح الحقيقة الدينية اليهودية بصيغة فلسفية وأول من استعمل الطرق العقلية البحتة لإثبات المبادئ اللاهوتية.
لكن افلاطونية فيلون الملموسة وتأثره الكبير بالثقافة اليونانية التي ينتمي لها، لم تسمح لمنهجه ان يحتل مكانة مرجعية متنفذة في الوسط الثقافي اليهودي الشرقي عموماً. وهذا الوسط بدوره لم يعرف انجاب مفكرين يواصلون الطريق الذي شقه فيلون. لذا سرعان ما تراجع هذا التيار منتقلاً من الهامشية الى الغياب التام ابتداءً من القرن الثاني الميلادي حيث لم يعرف تاريخ الفلسفة في الشرق والغرب ظهور أي مفكر فلسفي بين اليهود خلال القرون اللاحقة ولغاية انبثاق الحضارة العربية- الاسلامية.
وهكذا، فالبداية الحقيقية لانكباب المثقف اليهودي على الاهتمام بالفلسفة تتموضع في نهاية القرن التاسع الميلادي وذلك بعد فترة مهمة نسبياً من انطلاقة الحركة الفلسفية العربية الاسلامية في بغداد. وهذه البداية يتكرس لها الفصل السابع من الكتاب والمعنون بـ"الوسط اليهودي في بغداد"، في حين تغطي الفصول اللاحقة التطور الصعودي لما يسميه المؤلف "بالعصر الذهبي للفلسفة اليهودية" والذي سيعرف نهايته مع ذات الحدث الكبير الذي وضع حداً ايضا للعصر الذهبي للفلسفة العربية- الاسلامية الكلاسيكية ونقصد به سقوط الدولة الاسلامية في الاندلس. اما محطات ذلك العصر الذهبي الخاص بالفلسفة اليهودية، فتبدأ مع بدء التواجد اليهودي في بلاد ما بين النهرين الى القرن السادس قبل الميلاد وربما قبله.
فقد تمتعت الطائفة خلال الفترة الطويلة التي استمرت حتى الفتح الاسلامي بعلاقات تعايش سلمي وايجابي مع الفئات الاخرى في البلاد محافظة في ذات الوقت على حرية كاملة في ممارسة حياتها الدينية والفكرية التقليدية التي طبعت بنوع من الركود الملموس والانطواء الثقافي على النفس طيلة اكثر من عشرة قرون. وعندما جاء الفتح الاسلامي لم تتعرض تلك الحالة الى تغيرات تذكر نظراً لأن الدولة الجديدة تركت للطائفة اليهودية امكانية مواصلة حياتها التقليدية تلك على صعيد البنية الاجتماعية الداخلية وعلى صعيد ممارسة التقاليد الدينية والثقافية الموروثة. وعندما جرى تأسيس بغداد كعاصمة للخلافة، انتقلت الطائفة تدريجياً لتتخذ منها هي ايضاً عاصمة لها ادارياً وثقافياً ودينياً.
ذلك الانتقال سيكون حاسماً في ما يتعلق بالاهتمام بالفلسفة. فبموازاة التطور السريع الذي عرفته الفلسفة الاسلامية وبتأثير سريع منها تكونت في بغداد نخبة ثقافية يهودية نزاعة الى القطيعة مع التقليد. وهكذا تدريجياً راح التركيز على الدين واللاهوت يترك مكانه للاهتمام باستقبال الفلسفة والمنطق. وفي اطار هذه النخبة بالذات ظهر الرعيل الاول من المتفلسفين اليهود وفي مقدمتهم داود بن مروان المقامي وسعيد ابن يوسف الفيومي (882-942) المعروف باسم (سعاديا) والذي يعتبره فايدا اول مفكر فلسفي يهودي شرقي. والفيومي مصري الولادة، تلقى تعليمه في مصر أول الامر ثم قدم للدراسة والاستقرار في بغداد. ومن المفكرين الاخرين هناك ابن كمونة وهبة الله أبو البركات وهؤلاء جميعاً كانوا على علاقة متينة بالأوساط الكلامية العربية الاسلامية متأثرين بها جداً وهو ما تعكسه مؤلفاتهم المكتوبة باللغة العربية جميعاً والمتضمنة معرفة واسعة بالعقيدة الاسلامية والنزعة المعتزلية المزدهرة في بغداد آنئذٍ.
وكما نرى، فان الفكر اللاهوتي هو الذي طغى في كتابات هذا الرعيل الاول المسمى "القرائون" وهم اشبه بالمتكلمين المسلمين اذ ان موضوعاتهم كانت هي ذات موضوعات المعتزلة مثلا كتجريد الذات الله من المادية ورفض التجسيم والتعددية وتعريف الصفات الالهية وعلاقتها بالذات وفكرة الخلق من عدم والعناءة الالهية والعدل وفكرة المعجزات الا انهم اقل حرية منهم في تأويل النص المقدس. اما الفكر الفلسفي البحت فلم يظهر لدى اليهود إلا مع مجيء القرن العاشر. فتحت تأثير مباشر من انتقال الفكر العربي الاسلامي من المنهج الكلامي الى المنهج الفلسفي البحت وتحقيقه انجازات كبيرة اصلاً (مع الكندي والفارابي خاصة) ظهر أوائل المفكرين الفلسفيين اليهود وابرزهم اسحق الاسرائيلي وسلمون ابن غابرول بن غياث وابراهيم بار وبهيا بن يوسف وما يميزهم جميعاً هو تتلمذهم وتبنيهم للفلسفة الفارابية التي كانت في ذروة نفوذها. ويرى فايدا ان الفارابي احتل على الدوام مكانة خاصة لدى المفكرين اليهود. إلا ان انتقال السيادة في الفكر العربي الاسلامي من الفارابي الى ابن سينا أدى بدوره الى ظهور جيل من المفكرين اليهود يتبع مدرسة ابن سينا الفلسفية يقف في مقدمتهم جودا الليفي وابراهيم بن عزرا ويوسف القرطبي وخصوصاً الفيلسوف الكبير ابو عمران موسى ابن ميمون المولود في قرطبة والمتوفى في القاهرة. فهذا الفيلسوف اليهودي الذي عاصر ابن رشد، قدم أهم مؤلف فلسفي في تاريخ الفلسفة اليهودية حتى مجيء العصر الحديث وهو "دلالة الحائرين" الذي كتبه باللغة العربية. وللأهمية الاستثنائية لهذا الفيلسوف يخصص المؤلف فصلاً طويلاً لتحليل مسيرته الفكرية ومنظوراته الفلسفية.
نستطيع مما تقدم ان نرى بشكل يسير ان الفترة الذهبية لتاريخ الفلسفية اليهودية والمتموضعة زمانياً بين القرن التاسع والرابع عشر الميلاديين ومكانياً في عواصم الحضارة العربية الاسلامية بغداد وقرطبة، هي نتاج مباشر للتعايش مع المسلمين من جهة والتطور العلمي والفلسفي الذي حققه العرب والمسلمون من جهة اخرى.
كما نلاحظ ان التطور الداخلي لتاريخ الفلسفة اليهودية ذاك مدين بشكل مباشر لتأثير تطور أسبق في تاريخ الفلسفة العربية الاسلامية ومراحله الكلامية والفلسفية المتعاقبة. وهذه الاستنتاجات نجدها واضحة بشكل اكيد في الكتاب. اما انتقاداتنا حوله فيمكن اختصارها بالقول ان فايدا لا يأخذ بنظر الاعتبار ان العديد من الاسماء التي ذكرها (كأبي البركات وابن كمونة وغيرهما) هم مفكرون من أصل يهودي فقط وليسوا يهوداً ما دمنا نعرف بانهم اعتنقوا الاسلام ودافعوا عنه ضد خصومه حتى من اليهود وهذا ما تشهد عليه مؤلفاتهم ذاتها. وما يلفت الانتباه بشكل مثير ايضاً هو ان فايدا لا يهتم بالتمييز بين المفكر الفلسفي والمفكر اللاهوتي بشكل جعله يعتبر فلاسفة كثيرين ممن ذكرهم في حين انهم مجرد لاهوتيين صريحين احياناً في رفض الفلسفة منطلقين فيه عن موقف ديني صارم ضد الفلسفة بشكل عام.
ولنلاحظ اخيراً الميل الغريب لدى فاديا بانشاء علاقة مباشرة بين المفكرين اليهود في بغداد وقرطبة وبين الفلسفة الافلاطونية والارسطية بينما تؤكد المصادر الاصلية بأن هذه العلاقة لم تكن مباشرة قطعاً انما كانت عبر تبني وتطوير الفلاسفة العرب والمسلمين لعدد من مبادئ الفلسفة الاغريقية.
• حسين الهنداوي، شاعر عراقي ومتخصص في الفلسفة الهيغلية. له مؤلفات فلسفية عديدة من بينها "التاريخ والدولة ما بين ابن خلدون وهيغل" (الساقي)، و"هيغل والاسلام" بالفرنسية، و"على ضفاف الفلسفة" (بيت الحكمة)، "محمد مكية والعمران المعاصر" (ناشرون)، و"اخاديد" (شعر/ ئاراس)، و"مقدمة في الفلسفة البابلية"، و"استبداد شرقي أم استبداد في الشرق"، و"فلاسفة التنوير والاسلام" وغيرها.
#حسين_الهنداوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فلسفة الجدل والصراع تفقد رائداً متمرساً
-
يا موسم البرتقال
-
بعث
-
أخاديد
-
في المنطقة الخضراء..
-
ننسون
-
مقدمة لمجموعة صلاح نيازي الشعرية -ابن زريق وما شابه-
-
ناوكليكان..* في ذكرى شهداء القيادة المركزية
-
دمُ بابلَ نور..
-
الى أحمد أمير
-
أثر الحلاج في كتابات رامون لول
-
العراق.. العراق
-
في ذكرى فنان العراق الخالد مؤيد نعمة
-
عبد الكريم قاسم في آخر مقابلة صحفية
-
من اللاهوت الى الايديولوجيا : فلاسفة الأنوار والإسلام
-
الثقافة الأمريكية في خدمة التجار
-
كاظم السماوي.. شيخ المنافي وشاعر الأممية الصافية
-
تهافت المشروع البعثي للتطور (1968-2003)
-
هل عرف البابليون الفلسفة؟
-
الهندية – طويريج : بيتنا وبستان بابل
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|