|
قراءة نقدية في كتاب: التبر المسبوك في نصيحة الملوك للإمام أبو حامد الغزالي
انجي وحيد فخري
الحوار المتمدن-العدد: 4090 - 2013 / 5 / 12 - 13:56
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
مقدمة: هو أبو حامد الغزالي بن محمد بن محمد بن احمد الغزالي ولد بقرية "الغزالة" القريبة من طوس من اليم خراسان عام (45 ه ، 1058 م) ، واليها نسب الغزالي، ونشأ الغزالي ف بيت فقير من عائلة فارسية وكان والده رجلا زاهدا ومتصوفا لا يملك غير حرفته، ولكن كانت لدية رغبة شديدة في تعليم ولديه محمد واحمد، وحينما حضرته الوفاة عهد إلي صديق له متصوف برعاية ولديه، وأعطاه ما لديه من مال يسير ، وأوصاه بتعليمهما وتأديبهما. ودرس الغزالي في صباه على عدد من العلماء والأعلام، أخذ الفقه على الإمام أحمد الرازكاني في طوس، ثم سافر إلى جرحان فأخذ عن الإمام أبي نصر الإسماعيلية، وعاد بعد ذلك إلى طوس حيث بقي بها ثلاث سنين، ثم انتقل إلى نيسابور والتحق بالمدرسة النظامية، حيث تلقى فيها علم أصول الفقه وعلم الكلام على أبي المعالي الجويني إمام الحرمين ولازمه فترة ينهل من علمه ويأخذ عنه حتى برع في الفقه وأصوله، وأصول الدين والمنطق والفلسفة وصار على علم واسع بالخلاف والجدل. وصرف الغزالي همته إلى عقد المناظرات، ووجه جهده إلى محاولة التماس الحقيقة التي اختلفت حولها الفرق الأربعة التي سيطرت على الحياة الفكرية في عصره وهي: "الفلاسفة" الذين يدعون أنهم أهل النظر والمنطق والبرهان، و"المتكلمون" الذين يرون أنهم أهل الرأي والنظر، و"الباطنية" الذين يزعمون أنهم أصحاب التعليم والمخصوصون بالأخذ عن الإمام المعصوم، و"الصوفية" الذين يقولون بأنهم خواص الحضرة الإلهية، وأهل المشاهدة والمكاشفة. اتصل محمد الغزالي بعد ذلك بالوزير نظام الملك الطوسي الذي أكرمه وعظم شأنه وذلك نظراً لغزارة علم الغزالي وقوة منطقه، ونتيجة لذلك ولاه نظام الملك منصب التدريس في المدرسة النظامية ببغداد عام 484هـ - 1091م، فاختلف إلى بلاطه يناظر ويدرس فعظم مركزه، وذاعت شهرته، وتوافد عليه الطلاب لينهلوا من علمه، حتى تم تلقيبه بإمام بغداد. تم تكليفه من قبل الخليفة العباسي "المستظهر بالله" بالرد على بعض الفرق التي انحرفت عن الإسلام، فكتب القسطاس المستقي، حجة الحق وغيرها من الكتب التي كشفت فساد وضلال هذه الفرق. تميز عصر الغزالي بالكثير من الأحداث ومنها نشأة الحركات الإسماعيلية والفاطمية وهي من الحركات الباطنية في التاريخ الإسلامي، وقيام الدولة السلجوقية السنية في بغداد على أنقاض الدولة البويهية الشيعية، وظهور فرقة الحشاشين على يد حسن الصباح، وتأسيس المدارس النظامية على يد ألب أرسلان حفيد طغرل بك مؤسس الدولة السلجوقية. وألف الإمام الغزالي خلال مدة حياته (55 سنة) الكثير من الكتب في مختلف صنوف العلم، ومن هذه الكتب إحياء علوم الدين والمنقذ من الظلال، ومحك النظر (منطق)، والاقتصاد في الاعتقاد، والمستصفى في علم أصول الفقه، والوسيط في المذهب، والوجيز في فقه الإمام الشافعي، فضائح الباطنية ، القسطاس المستقيم ، وفيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة ، وايها الولد المحب، والمنخول في علم الأصول. وفيما يلي عرض لأهم الأفكار والمفاهيم التي جاءت بكتابة "التبر المسبوك في نصحية الملوك": يرى الغزالي إن الحاكم مهما بلغ علمه، فالله هو العالم بكل معلوم، فليس شئ في العلا إلى ثرى إلا قد أحاط به علما، وان جميع ما في العالم بإرادته ومشيئته، وان أمره تعالى على جميع الخلق نافذ واجب مهما اخبر به من وعد ووعيد فانه حق وأمره كلامه، وليس معه مالك سواه، وكل ما يكون وهو كائن فهو ملك له، وهو المالك بلا شيبة ولا شريك وليس لأحد عليه اعتراض بلم وكيف. وان الله خلق العالم في نوعين: جسد وروح وجعل الجسد منزلا للروح لتأخذ زادا لآخرتها من هذا العالم، وجعل لكل روح مدة مقدرة تكون في الجسد، فآخر تلك المدة هو أجل تلك الروح من غير زيادة ولا نقصان، فإذا جاء الأجل فرق بين الجسد والروح، وإذا وضع الميت في قبره أعيدت روحه إلى جسده ليجيب سؤال الملكين، ويوم الحساب والمكافأة والمناقشة والمجازاة ترد الروح إلى الجسد وتنشر الصحف وتعرض الأعمال على الخلائق، فينظر كل إنسان في كتابه فيرى أعماله ويشاهد أفعاله ويعلم مقدار طاعته ومعصيته.
وذكر الغزالي الحاكم العادل، ورأى أن العلاقة بين السلطان والخلق هي من فروع الإيمان وأسسها العدل في الرعية والكف عن الظلم والأصل أن تعمل بينك وبين الناس ما تؤثر أن يعمل معك من سواك إذا كان غيرك السلطان وكنت من رعيته. ويحذر الغزالي الحاكم يقول "وما يتعلق بمظالم الناس لا يتجاوز الله به ويرد يوم القيامة وخطره عظيم ولا يسلم من هذا الخطر احد من الملوك إلا ملك عمل بالعدل والإنصاف ليعلم كيف يطلب العدل والإنصاف يوم القيامة". وقد عدد الغزالي أصول العدل (المفهوم المحوري لديه) وهي عشرة قدمها بهيئة نصائح مباشرة الحاكم كالتالي: 1. أن تعرف أولا قدر الولاية وتعلم خطرها، فان الولاية نعمة من نعم الله عز وجل من قام بحقها نال من السعادة ما لا نهاية له ولا سعادة بعده ومن قصر عن النهوض بحقها حصل على الشقاوة لا شقاوة بعدها إلا الكفر بالله تعالى، ولا يسلم الوالي إلا بمقاربة علماء الدين ليعلموه طرق العدل ويسهلوا عليه خطر هذا الأمر. 2. أن يشتاق أبدا إلى رؤية العلماء ويحرص على استماع نصحهم، وان يحذر من علماء السوء الذين يحرصون على الدنيا، فإنهم يثنون عليك ويغرونك ويطلبون رضاك طمعا فيما في يديك من خبث الحطام ووبيل الحرام، والعالم هو الذي لا يطمع فيما عندك من المال ومنصفك في الوعظ والمقال، وينبغي لصاحب الولاية أن يقبل المواعظ التي وعظ بها غيره، فكلما رأى عالما سأله أن يعظه وينبغي للعلماء أن يعظوا الملوك بمثل هذه المواعظ ولا يغروهم ولا يدخروا عنهم كلمة الحق. 3. ينبغي ألا تقنع برفع يدك عن الظلم، لكن تهذب غلمانك وأصحابك وعمالك ونوابك فلا ترضى لهم بالظلم فانك تسأل عن ظلمهم كما تسأل عن ظلم نفسك ويستشهد الغزالي بالتوراة ويقول "كل من ظلم علمه السلطان من عماله فسكت عنه كان ذلك الظلم منسوبا إليه واخذ به وعوقب عليه". وعن بطانة السوء وكيفية تعامل الحاكم معاها يوجه الغزالي الوالي نصائح بأن يعلم انه ليس احد اشد غبنا ممن باع دينه وآخرته بدنيا غيره، وأكثر الناس في خدمة شهواتهم، فإنهم يستنبطون الحيل ليصلوا إلى مرادهم من الشهوات، وكذلك العمال لأجل نصيبهم من الدنيا يغرون الوالي ويحسنون الظلم عنده فيلقونه في النار ليصلوا إلى أغراضهم. العدل من الداخل أولا: فيجب على الوالي أن يعلم أن العقل من جوهر الملائكة ومن جند البارئ وان الشهوة والغضب من جند الشيطان ، وأول ما تظهر شمس العدل في الصدر، ثم ينشر نورها في أهل البيت وخواص الملك فيصل شعاعها إلى الرعية، ومن طلب الشعاع من غير الشمس فقد طلب المحال. وظهور العدل من كمال العقل، وكمال العقل أن يرى الحاكم الأشياء على ما هي وتدرك حقائق باطنها ولا تغتر بظاهرها، مثلا إذا كان يجور على الناس لأجل الدنيا فينبغي أن ينظر أي شئ مقصوده من الدنيا، فان كان مقصوده من الدنيا أكل الطعام الطيب فصورها بأنها شهوة بهيمة في صورة آدمي، وان كان مقصوده أن تخدمه الناس ففي تلك الحالة يكون الحاكم جاهل في صورة عاقل لان العقل يوضح الحاكم أن الذين يخدمونه إنما هم خدم وغلمان لبطونهم وفروجهم وشهواتهم وان خدمتهم وسجودهم لأنفسهم لا للحاكم وعلامة ذلك أنهم لو سمعوا بأن الولاية تؤخذ منك وتعطى لسواك لأعرضوا بأجمعهم عنك. والعاقل من نظر أرواح الأشياء وحقائقها ولا يغتر بصورها ، ومن لم يكن عاقلا لم يكن عادلا ومن لم يكن عادلا مأواه جهنم، فرأس مال السعادات كلها العقل، فقد ربط الغزالي بين العقل المؤدي للعدل وكلاهما محقق للسعادة. 4. أن الوالي في الأغلب يكون متكبرا ومن التكبر يحدث عليه السخط الداعية إلى الانتقام، وإذا كان الغضب غالبا فينبغي أن يميل في الأمور إلى جانب العفو ويتعود الزم والتجاوز فإذا صار ذلك عادة لك ماثلت الأنبياء والأولياء ومتى جعلت إمضاء الغضب عادة ماثلت السبع والدواب. 5. إنك في كل واقعة تصل إليك وتعرض عليك تقدر إنك واحد من جملة الرعية وإن الوالي سواك فكل ما لا ترضاه لنفسك لا ترضى به لأحد من المسلمين، وإن رضيت لهم بما لا ترضاه لنفسك فقد خنت رعيتك وغششت أهل ولايتك. 6. أن لا تحتقر انتظار أرباب الحوائج ووقوفهم ببابك وأحذر من هذا الخطر، ومتى كان لأحد من المسلمين إليك حاجة فلا تشتغل عن قضائها بنوافل العبادات فإن قضاء حوائج المسلمين أفضل من نوافل العبادات. 7. أن لا تعود نفسك الاشتغال بالشهوات من لبس الثياب الفاخرة وأكل الأطعمة الطيبة، لكن تستعمل القناعة في جميع الأشياء فلا عدل بلا قناعة. 8. إنك متى أمكنك أن تعمل الأمور بالرفق واللطف فلا تعملها بالشدة والعنف. قال صلى الله عليه وسلم: كل والٍ لا يرفق برعيته لا يرفق الله به يوم القيامة. 9. أن تجتهد أن ترضى عنك رعيتك بموافقة الشرع وينبغي للوالي أن لا يغتر بكل من وصل إليه وأثنى عليه، وأن لا يعتقد أن الرعية مثله راضون عنه، وأن الذي يثني عليه إنما يفعل ذلك من خوفه منه، بل ينبغي ترتيب معتمدين يسألون عن حاله من الرعية ليعلم عيبه من ألسنة الناس. 10. أن لا يطلب رضا أحد من الناس بمخالفة الشرع فإن من سخط بخلاف الشرع لا يضر سخطه ولابد لكل من يؤخذ منه الحق أن يسخط، ولا يمكن أن يرضى الخصمين، وأكثر الناس جهلًا من ترك الحق لأجل رضا الخلق. ، مثل أن لا يأمرهم بالطاعة ولا يعلمهم أمور الدين ويطعمهم الحرام ويمنع الأجير أجرته والمرأة مهرها، سخط الله عليه وأسخط عليه الناس. وقد أوضح الغزالي بأن الإيمان في قلب الإنسان من معرفة واعتقاد، وما كان جاريا على أعضائه السبعة من الطاعة والعدل فذلك فرع الإيمان ، فإذا كان الفرع ذاويا ذابلا دل على ضعف الأصل فانه لا يثبت عند الموت وعمل البدن عنوان إيمان القلب، وذكر الغزالي أن هناك عينان لشجرة الإيمان: الأول: معرفة الدنيا ولم اوجد فيها الإنسان، ويقول الغزالي أن الدنيا منزلة وليست بدار قرار، والإنسان مسافر فأول منازله بطن أمه وآخر منازله لحد قبره، وإنما وطنه وقراره ومكثه واستقراره بعدها، ولو جمع مهما جمع فإن نصيبه ما يأكله ويلبسه لا سواه، وجميع ما يخلفه يكون عليه حسرة وندامة ويصعب عليه نزعه عند موته فحلالها حساب، وحرامها عذاب، أن كان قد جمع المال من حلال طلب منه الحساب، وإن كان قد جمع من حرام وجب عليه العذاب. وراحة الدنيا أيام قلائل وأكثرها منغص بالتعب، مشوب بالنصب، بسببها تفوت راحة الآخرة التي هي الدائمة الباقية ، ومثل الدنيا مثل الظل إذا رأيته حسبته ساكنًا وهو يمر دائمًا، ومن سحرها أنها تزين ظاهرها بمحاسنه، وتخفي محنتها وقوتها في باطنها، لتغر الجاهل بما يرى من ظاهرها ثانيا: معرفة النفس الأخير: وهنا يوجه الحاكم السلطان بأن بني آدم طائفتان: طائفة نظروا إلى شاهد حال الدنيا وتمسكوا بتأميل العمر الطويل، وطائفة عقلاء جعلوا النفس الأخير نصب أعينهم لينظروا إلى ماذا يكون مصيرهم وكيف يخرجون من الدنيا ويفارقونها وإيمانهم سالم. وأن أهل الغفلة المغتربين لا يحبون استماع حديث الموت لئلا يبرد حب الدنيا في قلوبهم، وتتنغص عليهم لذة مأكولهم ومشروبهم. وقد جاء في الخبر أن من أكثر ذكر الموت وظلمة اللحد كان قبره روضة من رياض الجنة، ومن نسي الموت وغفل عن ذكره كان قبره حفرة من النار. فمن عرف الدنيا كما ذكره وكرر في قلبه ذكر النفس الأخير سهلت عليه أمور دنياه، وقوي أصل شجرة الإيمان في قلبه وأخذ في النمو والزيادة ونمت فروع شجرة الإيمان عنده ولقي الله وإيمانه سالم. والله جلت قدرته، وعلت كلمته، ينور بصيرة سلطان العالم ليرى الأشياء على ما هي عليه ويجتهد في آخرته، ويحسن إلى عباد الله وبريته، فإن في رعيته ألف ألف من الخلائق إذا عدل فيهم كان الكُل شفعاءه ومن شفع فيه من هؤلاء الخلائق من المؤمنين كان آمنًا يوم القيامة من العذاب وإن ظلمهم كان الكل خصماءه وعاد أمره عظيم الخطر، شديد الغرر، وإذا صار الشفيع خصمًا أشكل الأمر اعلم وتيقن أن الله سبحانه وتعالى اختار من بني آدم طائفتين وهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ليبينوا للعباد على عبادته الدليل، ويوضحوا لهم إلى معرفته السبيل، واختار الملوك لحفظ العباد من اعتداء بعضهم على بعض. ويرى الغزالي أن السلطان ظل الله في أرضه ولذلك ينبغي أن يعلم أن من أعطاه الله درجة الملوك وجعله ظله في الأرض فإنه يجب على الخلق محبته، ويلزمهم متابعته وطاعته، ولا يجوز لهم معصيته ومنازعته فينبغي لكل من آتاه الله الدين أن يحب الملوك والسلاطين، وأن يعطيهم فيما يأمرون ويعلم أن الله تعالى يعطي السلطنة والمملكة وأنه يؤتي ملكه من يشاء كما قال في محكم تنزليه، ونستطيع من ذلك نرى أن مفهوم الطاعة عند الغزالي أعلى من مفهوم المعارضة، كما أن تشبيهه للسلطان بأنه ظل الله على ارض تزيد من قيمة وشأن السلطان تجاه الشعب. فالسلطان العادل كما أوضح الغزالي هو من عدل بين العباد، وحذر من الجور والفساد، والسلطان الظالم شؤم لا يبقى ملكه ولا يدوم، فينبغي أن تعلم أن عمارة الدنيا وخرابها من الملوك فإذا كان السلطان عادلًا عمرت الدنيا وأمنت الرعايا، وإذا كان السلطان جائرًا خربت الدنيا. ويخاطب الغزالي الملك محاذرا له من الظلم ويقول "واعلم أن أولئك الملوك القدماء همتهم واجتهادهم في عمارة ولاياتهم بعدهم. روي أنه كلما كانت الولاية أعمر، كانت الرعية أوفى وأشكر. وكانوا يعلمون أن الذي قالته العلماء، ونطقت به الحكماء، صحيح لا ريب فيه وهو قولهم: إن الدين بالملك، والملك بالجند، والجند بالمال والمال بعمارة البلاد، وعمارة البلاد بالعدل في العباد. فما كانوا يوافقون أحدًا على الجور والظلم، ولا يرضون لحشمهم بالخرق والغشم، علمًا منهم أن الرعية لا تثبت على الجور وأن الأماكن تخرب إذا استولى عليها الظالمون، ويتفرق أهل الولايات ويهربون في ولايات غيرها ويقع النقص في الملك ويقل في البلاد الدخل وتخلو الخزائن من الأموال ويتكدر عيش الرعايا لأنهم لا يحبون جائرًا، ولا يزال دعاؤهم عليه متواترًا، فلا يتمتع بمملكته، وتسرع إليه دواعي هلكته". الظلم نوعان: أحدهما: ظلم السلطان لرعيته وجور القوي على الضعيف والغنى على الفقير، والثاني: ظلمك لنفسك وذلك من شؤم معصيتك فلا تظلم ليُرفع عنك الظلم كما جاء في الخير. أن طباع الرعية نتيجة طباع الملوك لأن العامة إنما ينتحلون ويركبون الفساد وتضيق أعينهم اقتداء بالكبراء فإنهم يتعلمون منهم ويلزمون طباعهم. على الملك أن يسلك طريق الملوك الذين تقدموه ويعمل على سننهم ويقرأ كتب مواعظهم وقضاياهم فإنهم كانوا أطول أعمارًا، وأكثر تجارب واعتبارا، وإنهم فرقوا بين الجيد والرديء، وعرفوا الجلي من الخفي. أما عن صفات الحاكم فقد عددها الغزالي وهي العقل والعلم وحدة الذكاء وتدارك الأشياء والصور التامة والألمعية والفروسية والشجاعة والإقدام والتأني وحسن الخلق وإنصاف الضعيف ومحبة الرعية وإظهار الزعامة والاحتمال والمدارة في مكانها والرأي والتدبير في الأمور والإكثار من قراءة الأخبار وحفظ سير الملوك والفحص عن الأحوال والأعمال التي اعتمدوها الملوك وعملوا بها لأن هذه الدنيا بقية دول المتقدمين الذين تملكوها ثم مضوا وانقضوا وصاروا تذكارًا للناس يذكر كل إنسان بفعله. وللآخرة كنز، وللدنيا كنز هذه الدنيا حسن الثناء وطيب الذكر، وكنز الآخرة العمل الصالح واكتساب الأجر، وينبغي أن يكون الملك وقورًا حليمًا، وإن لا يكون طائشًا عجولًا. ويعود الغزالي لذكر مفهوم العدل حيث يذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم بأن العدل من الدين وفيه صلاح السلطان وقوة الخاص والعام وفيه يكون خير الرعية وأمنهم وعافيتهم وكل الأعمال توزن بميزان العدل. "وأحق الناس بالجاه والمملكة من كان في قلبه مكان للعدل، وبيته مقر ذوي الدين والفضل، ورأيه من أرباب الدين والعقل، وصحبته مع العقلاء، ومشورته مع ذوي الآراء".
وقد تطرق الغزالي ما لا ينبغي للسلطان أن يشتغل به حيث ذكر أنه لا ينبغي للسلطان أن يشتغل دائمًا بلعب الشطرنج والنرد، وشرب الخمر وضرب الكرة والصولجان والصيد، لأن ذلك يمنعه ويشغله عن أمور الرعية فإن لكل عمل وقتًا فإذا فات الوقت عاد الربح خسرانًا ويذكر الملوك القدماء بأنهم قسموا النهار أربعة أقسام. قسم منها لطاعة الله وعبادته، وقسم للنظر في الرعية وإنصاف المظلومين والجلوس بين العلماء والعقلاء ولتدبير الأمور وسياسة الجمهور وتنفيذ المراسم والأوامر وكتابة الكتب وإرسال الرسل، وقسم للأكل والشرب والتزود من الدنيا وأخذ الحظوظ من الفرح والسرور، وقسم للصيد ولعب الشطرنج والكرة وما أشبه ذلك ويذكر الغزالي للملوك في التعامل مع المحيطين به أربعة أشياء على الملوك من جملة الفرائض وهي إبعاد الأدنياء عن مملكتهم، وعمارة المملكة بتقريب العقلاء، وحفظ المشايخ وأُولى الحكمة والتجربة والزيادة في أمر الملك بالإقلال من الأعمال المذمومة. ويعدد الغزالي مهام الحاكم بقأنه يجب عليه الا يباشر الأسباب بنفسه ويحفظ ناموسه لأن كثيرًا من الأرواح يتعلق بروحه وصلاح الرعية في حياته. وكذا ينبغي أن لا يجور على نفسه ولا يجور على الناس. ولا ينبغي للملك أن يجازف في الأشغال ولا يتساهل فيها. ويجب عليه أن ينيم على فراشه كل ليلة غيره ويتحول بنفسه عن ذلك الموضع حتى إذا قصده عدو لإتلاف نفسه وجد في مكانه غيره فلا تصل يد عدوه إليه. يجب على السلطان أنه متى وقعت رعيته في ضائقة أو حصلوا في شدة وفاقه أن يعينهم لا سيما في أوقات القحط وغلاء الأسعار حيث يحجزون عن التعيش ولا يقدرون على الاكتساب فينبغي حينئذ للسلطان أن يعينهم بالطعام ويساعدهم من خزائنه بالمال ولا يمكن أحدًا من حشمه وخدعه وأتباعه أن يجور على رعيته لئلا يضعف الناس وينتقلوا إلى غير ولايته، ويتحولوا إلى سوى مملكته، فينكسر ارتفاع السلطان، وتعود المنفعة على ذوي الاحتكار، الذين يسرون بغلاء الأسعار، ويقبح ذكر الملك ويدعى عليه. ويتطرق الغزالي إلى وزير الملك ودوره وصفاته ووظائفه، حيث ذكر أن السلطان يرتفع ذكره ويعلو قدره بالوزير إذا كان صالحًا كافيًا عادلًا لأنه لا يمكن لأحد من الملوك أن يصرف زمانه ويدير سلطانه بغير وزير ومن انفرد برأيه زل من غير شك. ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم مع جلالة قدره وعظم درجته وفصاحته أمره الله تعالى بالمشاورة لأصحابه العقلاء العلماء. وعلى السلطان أن يعامل الوزير بثلاثة أشياء. أحدها: إذا ظهرت منه زلة وجدت منه هفوة لا يعاجله بالعقوبة الثاني: إذا استغنى في خدمته وأينع ظله في دولته لا يطمع في ماله وثروته، الثالث: إذا سأله حاجة لا يتوقف في قضاء حاجته وينبغي أن لا يمنعه من ثلاثة أشياء وهي متى أحب أن يراه لا يمنعه من رؤيته وأن لا يسمع في حقه كلام مفسد، ولا يكتم عنه شيئًا من سره لأن الوزير الصالح حافظ سر السلطان ومدبر أحوال المملكة وعمارة الولايات والخزائن وزينة المملكة وشدة الهيبة والقدرة وله الكلام على الأعمال واستماع الأجوبة وبه يكون سرور الملك وقمع أعدائه وهو أحق الناس بالاستماع له وتفخيم القدر، وتعظيم الأمر. ويذكر قول لقمان لابنه أكرم وزيرك لأنه إذا رآك على أمر لا يجوز أن يوافقك عليه. وينبغي للوزير أن يكون مائلًا في الأمور إلى الخير متوقيًا من الشر وإذا كان سلطانه حسن الاعتقاد، مشفقًا على العباد، كان له عونًا على ذلك وأمره بالازدياد، وإذا كان سلطانه ذا حنق أو كان غير ذي سياسة كان على الوزير أن يرشده قليلًا بألطف وجه ويهديه إلى الطريق المحمودة، وينبغي أن يعلم أن دوام الملك بالوزير وأن دوام الدنيا بالملك، وينبغي أن يعلم أنه لا يجوز له أن يهتم بغير الخير ويعلم أنه أول إنسان يحتاج إليه السلطان. أما عن صفات الوزير: يجب أن يكون الوزير ساكنًا متمهلًا شجاعًا واسع الصدر حسن المقال مليح الوجه مستحييًا صامتًا حيث يحسن الصمت ومتكلمًا إذا حسن الكلام ومع ذلك يجب أن يكون تقيًا حسن المذهب ليطهر نفسه وينفي عنها كل ما لا يليق ولا بد من حسن الاعتقاد، وينبغي أن يكون ذا تجارب ليسهل الأمور على الملك متيقظًا لينظر عواقب الأمور، ويخاف عليه من تصاريف الدهور ويتحفظ أن يصيبه عيب الزمان وكل ملك كان وزيره له محبًا وعليه مشفقًا كان ذلك الوزير كثير الأعداء وكان أعداؤه أكثر من أصدقائه، ولا يجوز للسلطان أن يسمع في وزيره كلام المحرضين عليه الساعين به إليه ليحسده أصدقاؤه، وتنكبت أعداؤه. ويجب أن يكون الوزير محمود الطريقة حتى إذا رأى في الملك خلة مذمومة غير رشيدة رده إلى العادة المستقيمة الحميدة من غير غلظة شديدة، لأن الملك إذا كان على ما لا يريده وسمع ما يكرهه منه من التقريع عمل شرًا من ذلك. وأعظم فساد ينشأ في دولة الملك يكون من أمرين أحدهما من الوزير الخائن، والثاني من نية الملك الرديئة الفاسدة. ويذكر قول أنوشروان شر الوزراء من جرأ السلطان على الحرب وجرأه على القتال في موضع يمكن أن ينصلح الحال بغير حرب لأن الحرب في سائر الأحوال تفني ذخائر الأموال، وفيها تبذل كرائم النفوس ومصونات الأرواح. ثم آتى الغزالي على ذكر الكُتاب وقال أن الكُتاب فلا يجوز لهم أن يعرفوا أكثر من حدود الكتابة ليصلحوا لخدمة الأكابر وينبغي أن يكون الكاتب عالمًا بعشرة أشياء. الأول بعد الماء وقربه تحت الأرض، ومعرفة استخراج الإفتاء، ومعرفة زيادة الليل والنهار ونقصانهما في الصيف والشتاء وسير الشمس والقمر والنجوم، ومعرفة الاجتماع والاستقبال، والحساب بالأصابع وحساب الهندسة والتقويم واختيارات الأيام وما يصلح للمزارعين ومعرفة الطب والأدوية، ومعرفة ريح الجنوب ولشمال، وعلم الشعر والقوافي ومع هذا كله ينبغي أن يكون الكاتب خفيف الروح طيب اللقاء عالمًا ببراية القلم وتدبيره وقطه ورفعه وخطه ومهما كان في قلبه أظهره بسنان قلمه وأن يحرس نفسه أن يكون مجتمعًا متصلًا. ويعود الغزالي ليؤكد على أهمية العقل ويربطه بالحكمة ويذكر انه عطاء من الله يؤتيها من يشاء من عباده. قال سقراط مثل من أعطاه الله الحكمة. فقال: للعاقل أربع علامات يعرف بها وهي أن يتجاوز عن ذنب من ظلمه، وأن يتواضع لمن دونه، وأن يسابق إلى فعل الخير لمن هو أعلى منه، وأن يذكر ربه دائمًا وأن يتكلم عن العلم ويعرف منفعة الكلام في موضعه وإذا وقع في شدة التجأ إلى الله تعالى. وكذلك الجاهل له علامات وهو أن يجور على الناس ويظلمهم ويعسف بمن دونه وأن يتكبر على الزعماء والمتقدمين وأن يتكلم بغير علم، وأن يسكت عن خطأ وإذا وقع في شدة أهلك نفسه وإذا رأى أعمال الخير لفت عنها وجهه. أن من كان له عقل وإن لم يكن عالمًا فإن عقله يكون له دليلًا، ومن كان ذا علم وليس له عقل عادت أموره كلها منعكسة منقلبة، ومن كان تام العقل والعلم كان في الدنيا نبيًا أو حكيمًا أو إماما فان جمال الإنسان وعزه ومرتبته وصلاح أحوال دنياه وآخرته بالعقل وتمامه، فتتكامل صفاته وأقسامه والعقل أول الإيمان ووسط الإيمان وآخر الإيمان. قال بعض القدماء ليس العقل أن الإنسان إذا وقع في أمر اجتهد في حسن خلاصه منه بل العقل أن لا يوقع نفسه في أمر يحتاج إلى الخلاص منه.
ومن ثم فالمحور الأساسي لكتاب التبر المسبوك في نصيحة الملوك هو توجيه الحاكم في صفاته وأخلاقه ووظائفه ليكون عادلا منفذا لمصالح الرعية مطبقا لشرع الله ، ومن ثم لم يتطرق الغزالي لمفهوم واضح للأمة أو حقوقها في مواجهة الحكام، وظل مفهومه المحوري "العدل" بأصوله وكيفية تحقيقه ، وكيفية اختيار الحاكم لمعاونيه وأهميتهم في منظومة العدل. والكتاب هو قيمة علمية لا تخدم زمان الفيلسوف بل تمتد إلى زماننا الذي نعيشه فلو قرءاه الحكام في زمننا وعلموا أهمية العدل وخصالها وطرق الوصول إليها لعلت شأن الأمم وتقدمت ووصلت لمصاف الدول الغربية، فالعدل منظومة يقيمها الحكام والوصول إليها هو المسبب لعلو شأن الأمم ورفعتها.
#انجي_وحيد_فخري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قراءة نقدية في كتاب -الأمير- لمكيافيللي
-
العلاقة بين جماعة الاخوان المسلمين والولايات المتحدة الامريك
...
-
احتمالات توجيه ضربة عسكرية اسرائيلية لايران
-
تحليل مقولة -الاسلام دين ودولة-
-
قراءة نقدية في كتاب -عن الحرية- للمفكر جون ستيوارت ميل
-
العلاقة بين الدين والدولة في فكر جماعة الاخوان المسلمين
-
السياسة الخارجية في الخطاب السياسي لرئيس الجمهورية محمد مرسي
المزيد.....
-
-لا يتبع قوانين السجن ويحاول التلاعب بالشهود-.. إليكم ما نعر
...
-
نظام روما: حين سعى العالم لمحكمة دولية تُحاسب مجرمي الحروب
-
لأول مرة منذ 13 عامًا.. قبرص تحقق قفزة تاريخية في التصنيف ا
...
-
أمطار غزيرة تضرب شمال كاليفورنيا مسببة فيضانات وانزلاقات أرض
...
-
عملية مركّبة للقسام في رفح والاحتلال ينذر بإخلاء مناطق بحي ا
...
-
إيكونوميست: هذه تداعيات تبدل أحوال الدعم السريع في السودان
-
حزب إنصاف يستعد لمظاهرات بإسلام آباد والحكومة تغلق الطرق
-
من هو الحاخام الذي اختفى في الإمارات.. وحقائق عن -حباد-
-
بيان للجيش الإسرائيلي بعد اللقطات التي نشرتها حماس
-
اختتام أعمال المنتدى الخامس للسلام والأمن في دهوك
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|