مسعود محمود حسن
الحوار المتمدن-العدد: 4087 - 2013 / 5 / 9 - 11:25
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
"ترى بعض المدارس, وخصوصاً العديد من المدارس الحكومية في بريطانيا, بأنّ جزءاً من وظيفتها التعليمية ينصرف إلى توليد إحساس بالتفوّق والتميّز لدى تلاميذها, ويكبر هؤلاء الأطفال محمّلين بإحساس متزايد بالهوية, وبإيمان لا يشوبه شك في نجاحهم , كما أنهم يولّدون إحساساً بالذات يُخبرهم بأنّهم يستحقون الأفضل بصورة أكبر مما يستحقّه باقي الناس, وبأنهم يستحقون أي شيء يرغبون فيه في حياتهم, وإذا ما تواجد هذا الإحساس الرائع بالذات فأنه لمن المرجّح أن النجاح سوف يحالف هؤلاء الأطفال, وبالتالي تصبح العملية بأكملها بمثابة نبوءة مُحققة للذات"(1). وهذه الطريقة التربوية التي تُطبقها تلك المدارس في بريطانيا, طبّقها آباء وأمّهات مدينتي الأمّيين. ففي هذه المدينة كان جيل آبائنا يجدون شهادة الطب أرقى الشهادات. ورغم أنهّم لم يكونوا سوى رعاة وفلاحين و عمّال, إلا أنّ كلمات المديح والثقة والتشجيع التي كانوا يلقونها على مسامع أبنائهم الطلبة, مثل: "ابني شاطر, راح تصير أحسن دكتور!!" قد أثمرت عن نتائج عجيبة , إذ بالفعل تحققت نبوءتهم, التي لم تكن سوى رغبة مكبوتة بداخلهم, وأرادوا من أبنائهم أن يحققوها لهم. ونجح الأطفال بتقمّص رغبة آبائهم, وحققوا ما كان الآباء يرونه ضرباً من المستحيل. وبلغ نجاح هذه الطريقة التربوية الذروة, إذ تشكو مديني الآن كثرة الأطباء!!! وكما أنّ هناك شريط وراثي بيولوجي ينقل الخصائص الجسدية من الآباء والأجداد إلى الأبناء, فهناك أيضاً ما يمكن أن نسميه الشريط الوراثي الثقافي, الذي يختص بنقل الأفكار, والطباع النفسية, والأنماط السلوكية من جيل الآباء والأجداد إلى الأبناء والأحفاد, وذلك عن طريق التربية والتعليم. أنّ ما أطمح إليه هو وضع اليد على منهجية عمل, نتمكن بموجبها من تغيير "النفسية الإسلامية" و"طرق التفكير" و"أنماط سلوكهم الفردية والجمعية" - السائدة في وسط الآباء والأجداد - بنفسية وتفكير ونمط سلوك جديد, نزرعها في بيئة الأبناء والأحفاد. فإذا أردنا إنهاء مشكلة الصراع الطائفي بين السنّة والشيعة المتفاقمة في العراق وباكستان وسوريا, ومشكلة الصراع القومي بين الأكراد والأتراك في تركيا, ومشكلة الصراع السياسي بين الإخوان المسلمين وأحزاب المعارضة في مصر, والصراع الديني بين المسلمين والهندوس في الهند وكشمير وبورما.... فعلينا بادىء ذي بدء فك الارتباط بين (مشكلات) السلف و(ذريّة) الخلف؛ فالحقيقة الحاضرة الغائبة هي أنّ الكثير من مشكلاتنا هي في الواقع ليست مشكلاتنا, وإنما هي مشكلات الآباء والأجداد ورثناها عنهم كما نًوْرٍث المال والبيوت!! لذا من الحكمة أن نُفطم الذريّة الجديدة عن شربها. وهذه ليست دعوة إلى قطيعة معرفية بين الحاضر والماضي, كالتي رأت "أنّ تأسيس عصر جديد يفترض بادىء ذي بدء الانفصال كلّية عن الماضي"(2), وهي أيضاً ليست دعوة إلى طلاق التراث, فهاتان الدعوتان إنما هما ردّات فعل انفعالية تخلو من العلمية, لأنّ "الرغبة في التغيير لا تُلغي كل شيء حدث من قبل , ولا يتعيّن عليك أن تعتبر الماضي شيئاً عديم القيمة لكي تجعل المستقبل أفضل منه"(3) أنّ المقصود بفك الارتباط هو إعادة تركيب وترتيب الشريط الوراثي الثقافي الذي يصل بين السلف والخلف, دون تكرار لمشكلات الماضي في حيّز الحاضر.
تهدف البرمجة الجديدة للشريط الوراثي الثقافي إلى حصر التواصل بين الحاضر والماضي بالصبغيات الثقافية, الفعّالة, والايجابية فقط, أما تلك التي تحمل على متنها أزمات العصر القديم فيتم اقتطاعها من الشريط الوراثي الثقافي بحيث لا تصل إلى الذرّية الجديدة في العالم الإسلامي. وفي فترة من فترات التاريخ الإسلامي كان التعصّب المذهبي يُعادل التعصّب الطائفي في وقتنا الحاضر, إذ كان الانتماء للمذهب يفوق الانتماء للأمّة, فهذا رجل لا يرى الحياة إلا من منظور الشافعية, وذاك لا يرها إلا من منظور الحنبلية, لكنّ في اللحظة التي توقّف فيها السلف عن توريث تلك الرؤية الفكرية , والطبع النفسي لذريته, نشأ جيل آخر لم يتوقف على حدود الهوية المذهبية, ولمّا وصل الزمن إلى عصرنا كانت هذه المشكلة قد تلاشت لدرجة أن أحدنا لا يعرف على أي مذهب هو إلا في سنّ متأخرة نسبياً. بالإضافة إلى أنّه لا يجد حرجاً في الانتقال من مذهب إلى آخر, بحسب حاجته, وظروفه.
إن مشكلات كثيرة, عظيمة, وجليلة يراها البعض مستعصية على الحل, يمكن حلّها على نفس المنهج والمبدأ؛ أي بإخراج المشكلة من صندوق التركة الثقافية, وإسقاطها من عالم القيم المورَّثة من الأجداد والآباء إلى الأبناء والأحفاد. وكما تمّ إخراج التعصّب المذهبي في لحظة زمنية من جملة الموروث, فأنه بإمكاننا أن نُخرج قيم ثقافية و أنماط سلوكية, واستجابات فكرية , نجدها اليوم تُعيق ذريتنا الجديدة من أخذ دورها الحضاري في الأرض. وإذا كان العلم يلقى صعوبة في تغيير الشريط الوراثي الأوّل؛ أي الجينات البيولوجية, فأنّ الشريط الوراثي الثاني؛ أي الجينات الثقافية يمكن التحكم بها كما نريد. فيمكن لوالدين في قمّة الأمّية أن يُوجِدا ابناً عالماً, إذ الأمر لا يحتاج سوى برمجة تربوية يُفعّلانها مع طفلهما في سنينه المبكرة, فيخلقوا بداخله ثقة بالنفس, وإحساس بالتفوّق, والقدرة على بلوغ الهدف المرسوم. وإن كان أطّباء مدينتي هم أبناء فلاحين وعمال ورعاة, أفليس ممكناً أن يكون صنّاع التقنية وروّاد الفضاء الذين نفتقدهم في العالم الإسلامي أبناء هؤلاء الأطباء والمهندسين الذين نصطدم بهم في الشوارع من كثرتهم!!! وإذا كنا نحن الذين نعيش في وئام مذهبي أحفاد هؤلاء الأجداد الذين تعصّبوا لمذاهبهم الفقهية, أفليس ممكناً أيضاً أن يكون أبناؤنا وأحفادنا قادرين على بناء سلام طائفي وقومي وديني في العالم؟
الأمر لا يقتضي منّا سوى أن نقتطع من شريطنا الثقافي (الفكري, والنفسي, والسلوكي) تلك الحلقات المُصابة بالعنصرية القومية, والتعصبية الطائفية, كما قطع أجدادنا حلقاتهم المُصابة بالتشدّد المذهبي. ونضع بديلاً عنها, حلقات من البرمجة التربوية كرفع القداسة عن سيرورة الماضي, فـ "تلك أمّة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تُسألون عما كانوا يعملون"(4). وتقبّل الآخر, والتعايش مع المختلف, واللإكراه الديني والسياسي والثقافي والاجتماعي, وزرع الثقة, والإحساس بالتفوّق, والقدرة على النجاح, وبلوغ الهدف, وحينها سيصبح ما كان مستحيلاً في عهد السلف ممكناً في عهد الخلف. وسيتمكن العالم الإسلامي من صنع السلام مع ذاته – وهي الصناعة التي يجب أن يتعلّمها قبل أيّ صناعة أخرى - لأنّ " عمل المُستطاع الآن, يجعل ما ليس مُستطاعاً الآن, مُستطاعاً في المستقبل"(5).
هناك جواب واحد لأسئلة كثيرة, وتفسير واحد لأحداث عملاقة في التاريخ؛ فمن الولايات المُتصارعة إلى الولايات المتحدّة, ومن ألمانيا النازية إلى ألمانيا الاتحادية, ومن اليابان النووية إلى اليابان الاقتصادية, ومن الصين الزراعية إلى الصين الصناعية, ومن السود المُستعبَدين في جنوب أفريقيا إلى السود الأسياد, ومن الدرجة صفر إلى الدرجة 180 هناك سرٌ واحد فقط ... أنّه الجينات الثقافية. إذا احترفنا هذا (العلم) نستطيع أن ننتقل من العالم الإسلامي حيث الصراعات الطائفية والقومية والدينية والسياسية إلى العالم الإسلامي حيث السلام والعلم والرفاه. أنه ليس مستحيلاً بقدر ما كان الاتحاد الأوروبي مستحيلاً أيام الفاشية والنازية.
مسعود محمود حسن
المراجع:
1- روبن بريور, جوزيف أوكونر, البرمجة اللغوية العصبية والعلاقات الإنسانية, ص135
2- أدونيس, الثابت والمتحوّل, نقلاً عن الهوية والتراث, ص35
3- روبن بريور, جوزيف أوكونر, البرمجة اللغوية العصبية والعلاقات الإنسانية, ص300, 299
4- البقرة:134
5- جودت سعيد, العمل قدرة وإرادة, ص135
#مسعود_محمود_حسن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟