|
أمُّ صباح
رائد محمد نوري
الحوار المتمدن-العدد: 4079 - 2013 / 5 / 1 - 02:24
المحور:
الادب والفن
(أمُّ صَباحٍ عاملةُ خدمةٍ عملت في قسم اللّغةِ العربيّةِ في كليةِ الآدابِ جامعةِ بغداد منذ ثمانينيّاتِ القرنِ الماضي وحتى إحالتِها على التقاعدِ في نهاية العقدِ الأوّلِ منَ الألفيّةِ الثّالثة. تُوُّفِيَتْ أمُّ صباح في آب من عام 2012، قبلَ أيّامٍ ثلاثةٍ من عيدِ الفطرِ المبارك، والمفارقةُ الأليمةُ أنَّ أحداً في قسمِ اللّغةِ العربيّة /لا رئاسةً ولا أساتذةً- لم يبادرْ إلى ذكرِها بلافتةٍ تنعاها وتحيي عرقَ جبينِها تُعَلَّقُ على أحدِ الجدرانِ حيث كانت تعمل)
أُمُّ صَباح مُمَثِّلةُ الطَّبَقاتِ المغضوبِ عليها مِنْ قِبَلِ الطَّبقاتِ الآمرةِ بالمُنْكرِ والنّاهيةِ عنِ المَعْروفِ وتِلْكَ الطَّبَقاتِ الأخرى المُتَعَلِّقةِ بأذْيالِ الطَّبَقاتِ الآمرةِ بالمُنْكَرِ والنّاهيةِ عنِ المَعْروفِ في قِسْمِ اللّغةِ العَرَبِيَّة ظَلَّتْ تَمشي خَلْفَ قِطارِ العُمْرِ المُتَسارِعْ لَمْ تَرْكَبْ يَوْماً زارَتْ كُلَّ مَحَطّاتِ العُمْرِ وفي آخرِها قِيلَ لها: -اسْتَريحي. -إلى متى؟ -إلى الأبَدِ. لَطَمَتْ خدّيها صَرَخَتْ: -لا. -أوما كَلَلْتِ؟ -بَلْ سئمْتْ لكنَّ لي بناتٍ وحفدةً ينتظرونَ رجوعي أنا إنْ لَمْ أمشِ خَلْفَ قِطارِ العُمْرِ المُتَسارِعِ... قاطعَها شُرْطيٌّ لَيْسَ في وَجْهِهِ دَمٌ قال: -سَيَخْلُفُكِ مِنْ أهْلِيكِ مَنْ يَمْشي أو يَجْري أو قدْ يَقْطَعُ تذْكَرةً تَمْنَحُهُ كُرْسِيّاً مِنْ خَشَبٍ قاسٍ في عَرَبةٍ مِنْ تِلْكَ العَرَباتِ المُخَصَّصَةِ لَكُمْ أبْناءَ الطَّبَقاتِ المَغْضُوبِ عليها والآن، هاتي يَدَيكِ سيِّدتي لآخُذَكِ إلى حَيْثُ تَسْتَريحينَ وراءَ جدارِ المَحَطَّةِ في العُتْمَةِ تَحتَ سماءِ اللهِ *** وراءَ جِدارِ المَحَطَّةِ في العُتْمَةِ تَحْتَ سماءِ اللهِ أبْصَرَتْ أمُّ صباحٍ ابْنَها وأبْصَرَها صَرَخَتْ: -وَلَدِي. وصاحَ: -أمّاهُ. تَعانَقا بَكَيا غَرَسَتْ مَشاعِرَها في خَدّيْهِ وفي نَحْرِهِ وما بَيْنَ ضُلوعِهِ وغَرَسَ مَشاعِرَهُ ما بَيْنَ عَينَيْها وفي خَدَّيها وفي كفَّيها وفَجْأةً سَلَّ ثِيابَهُ مِنْ ثِيابِها وقالَ: -أمّاهُ، لمَ أتَيْتِ؟! أوْلادي وأخَواتي هُناك يَنْتَظِرونَ رُجوعَكِ. -يا وَلَدي مُرْغَمةً جئت، وأنْت؟ -تَذْكُرين؟ قَبْلَ سنين سيّارةُ أجرة سائقَها كُنْت افْتَرَسَتْها أسْماكُ القِرْشِ ورَمَتْ بي مُضَرَجاً بأسْئلةٍ حائرة على الرَّصيفِ لِشُرْطِيٍّ لَيْسَ في وَجهِهِ دَمٌ قالَ لي: (هاتِ يديكَ لآخُذَكَ إلى حَيْثُ تَسْتَريحُ وراءَ جِدارِ المَحِطَّةِ في العُتْمَةِ تَحْتَ سماءِ اللهِ.) وهُنا الْتَفَتَتْ أمُّ صَباحٍ ونادَتْ: -يا شُرْطِيُّ، هأنا ذي وهذا ابْني مَعي كلانا ههُنا فَمَنْ يَخْلُفُنا مِنْ أهْلينا؟!. لمْ يَلْتَفِتُ الشُّرْطِيُّ الحامِلُ في بِزِّتِهِ قَسْوةَ عاصِفةٍ شِتْوِيّة ضَرَبَتْ بِأصابِعَ ثَلْجِيّة أشْجارَ الدِّفْءِ الورْدِيّة إليها ظَلَّ يَسيرُ حتى غابَ عَنْ عَينَيها *** عفواً صَباحَ عِراقٍ قَتَلَتْهُ قَبْلَ عِيدِ ميلادِهِ الخامِسِ بِشُهورٍ خَمْسة قَسْوةُ أشْباحِ كوابيسِ شُباطَ المَفْتونةِ بِساديّتِها التي ما زالَتْ تَتَناسَلُ إلى يَومِنا أوْبِأةً مُسَلَّحةً بِقُلوبٍ مَسْعورة اسْتَبْدَلَتْ بجلودِها جُلودَ خِرافٍ وأرانِبَ وحُمُرٍ أهْليّة سَتَعيشُ الأحْلامُ عيشةً راضية غيرَ عيشتِها التي تَعيشُ لوْ أنَّ أمَّ صَباحٍ قَرّرَتْ يَوْماً أنْ تُصْبِحَ رئيسةَ قسمِ اللّغةِ العَرَبيَّة أوْ عَميدةَ كُلِيّة وأنْ تبْقى في مَوْقِعِها مُمَثِّلةً للطَّبقاتِ المَغْضوبِ عليها مِنْ قِبَلِ الطَّبقاتِ الآمِرةِ بالمُنْكرِ والنّاهيةِ عنِ المَعْروفِ وتِلْكَ الطَّبقاتِ الأخرى المُتَعَلِّقةِ بأذْيالِ الطَّبقاتِ الآمِرةِ بالمُنْكَرِ والنّاهيةِ عنِ المَعْروفِ في ظُلْمةِ لَيلِ عراقٍ يَنْتَظرُ هَدْهَدَةَ ضوءِ لسانِ الصُّبْحِ مآقيهِ مُنْذُ قُرونْ
***
(أمُّ صَباحٍ عاملةُ خدمةٍ عملت في قسم اللّغةِ العربيّةِ في كليةِ الآدابِ جامعةِ بغداد منذ ثمانينيّاتِ القرنِ الماضي وحتى إحالتِها على التقاعدِ في نهاية العقدِ الأوّلِ منَ الألفيّةِ الثّالثة. تُوُّفِيَتْ أمُّ صباح في آب من عام 2012، قبلَ أيّامٍ ثلاثةٍ من عيدِ الفطرِ المبارك، والمفارقةُ الأليمةُ أنَّ أحداً في قسمِ اللّغةِ العربيّة /لا رئاسةً ولا أساتذةً- لم يبادرْ إلى ذكرِها بلافتةٍ تنعاها وتحيي عرقَ جبينِها تُعَلَّقُ على أحدِ الجدرانِ حيث كانت تعمل)
أُمُّ صَباح مُمَثِّلةُ الطَّبَقاتِ المغضوبِ عليها مِنْ قِبَلِ الطَّبقاتِ الآمرةِ بالمُنْكرِ والنّاهيةِ عنِ المَعْروفِ وتِلْكَ الطَّبَقاتِ الأخرى المُتَعَلِّقةِ بأذْيالِ الطَّبَقاتِ الآمرةِ بالمُنْكَرِ والنّاهيةِ عنِ المَعْروفِ في قِسْمِ اللّغةِ العَرَبِيَّة ظَلَّتْ تَمشي خَلْفَ قِطارِ العُمْرِ المُتَسارِعْ لَمْ تَرْكَبْ يَوْماً زارَتْ كُلَّ مَحَطّاتِ العُمْرِ وفي آخرِها قِيلَ لها: -اسْتَريحي. -إلى متى؟ -إلى الأبَدِ. لَطَمَتْ خدّيها صَرَخَتْ: -لا. -أوما كَلَلْتِ؟ -بَلْ سئمْتْ لكنَّ لي بناتٍ وحفدةً ينتظرونَ رجوعي أنا إنْ لَمْ أمشِ خَلْفَ قِطارِ العُمْرِ المُتَسارِعِ... قاطعَها شُرْطيٌّ لَيْسَ في وَجْهِهِ دَمٌ قال: -سَيَخْلُفُكِ مِنْ أهْلِيكِ مَنْ يَمْشي أو يَجْري أو قدْ يَقْطَعُ تذْكَرةً تَمْنَحُهُ كُرْسِيّاً مِنْ خَشَبٍ قاسٍ في عَرَبةٍ مِنْ تِلْكَ العَرَباتِ المُخَصَّصَةِ لَكُمْ أبْناءَ الطَّبَقاتِ المَغْضُوبِ عليها والآن، هاتي يَدَيكِ سيِّدتي لآخُذَكِ إلى حَيْثُ تَسْتَريحينَ وراءَ جدارِ المَحَطَّةِ في العُتْمَةِ تَحتَ سماءِ اللهِ *** وراءَ جِدارِ المَحَطَّةِ في العُتْمَةِ تَحْتَ سماءِ اللهِ أبْصَرَتْ أمُّ صباحٍ ابْنَها وأبْصَرَها صَرَخَتْ: -وَلَدِي. وصاحَ: -أمّاهُ. تَعانَقا بَكَيا غَرَسَتْ مَشاعِرَها في خَدّيْهِ وفي نَحْرِهِ وما بَيْنَ ضُلوعِهِ وغَرَسَ مَشاعِرَهُ ما بَيْنَ عَينَيْها وفي خَدَّيها وفي كفَّيها وفَجْأةً سَلَّ ثِيابَهُ مِنْ ثِيابِها وقالَ: -أمّاهُ، لمَ أتَيْتِ؟! أوْلادي وأخَواتي هُناك يَنْتَظِرونَ رُجوعَكِ. -يا وَلَدي مُرْغَمةً جئت، وأنْت؟ -تَذْكُرين؟ قَبْلَ سنين سيّارةُ أجرة سائقَها كُنْت افْتَرَسَتْها أسْماكُ القِرْشِ ورَمَتْ بي مُضَرَجاً بأسْئلةٍ حائرة على الرَّصيفِ لِشُرْطِيٍّ لَيْسَ في وَجهِهِ دَمٌ قالَ لي: (هاتِ يديكَ لآخُذَكَ إلى حَيْثُ تَسْتَريحُ وراءَ جِدارِ المَحِطَّةِ في العُتْمَةِ تَحْتَ سماءِ اللهِ.) وهُنا الْتَفَتَتْ أمُّ صَباحٍ ونادَتْ: -يا شُرْطِيُّ، هأنا ذي وهذا ابْني مَعي كلانا ههُنا فَمَنْ يَخْلُفُنا مِنْ أهْلينا؟!. لمْ يَلْتَفِتُ الشُّرْطِيُّ الحامِلُ في بِزِّتِهِ قَسْوةَ عاصِفةٍ شِتْوِيّة ضَرَبَتْ بِأصابِعَ ثَلْجِيّة أشْجارَ الدِّفْءِ الورْدِيّة إليها ظَلَّ يَسيرُ حتى غابَ عَنْ عَينَيها *** عفواً صَباحَ عِراقٍ قَتَلَتْهُ قَبْلَ عِيدِ ميلادِهِ الخامِسِ بِشُهورٍ خَمْسة قَسْوةُ أشْباحِ كوابيسِ شُباطَ المَفْتونةِ بِساديّتِها التي ما زالَتْ تَتَناسَلُ إلى يَومِنا أوْبِأةً مُسَلَّحةً بِقُلوبٍ مَسْعورة اسْتَبْدَلَتْ بجلودِها جُلودَ خِرافٍ وأرانِبَ وحُمُرٍ أهْليّة سَتَعيشُ الأحْلامُ عيشةً راضية غيرَ عيشتِها التي تَعيشُ لوْ أنَّ أمَّ صَباحٍ قَرّرَتْ يَوْماً أنْ تُصْبِحَ رئيسةَ قسمِ اللّغةِ العَرَبيَّة أوْ عَميدةَ كُلِيّة وأنْ تبْقى في مَوْقِعِها مُمَثِّلةً للطَّبقاتِ المَغْضوبِ عليها مِنْ قِبَلِ الطَّبقاتِ الآمِرةِ بالمُنْكرِ والنّاهيةِ عنِ المَعْروفِ وتِلْكَ الطَّبقاتِ الأخرى المُتَعَلِّقةِ بأذْيالِ الطَّبقاتِ الآمِرةِ بالمُنْكَرِ والنّاهيةِ عنِ المَعْروفِ في ظُلْمةِ لَيلِ عراقٍ يَنْتَظرُ هَدْهَدَةَ ضوءِ لسانِ الصُّبْحِ مآقيهِ مُنْذُ قُرونْ
***
#رائد_محمد_نوري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رؤى
-
اختلفوا مع مبدعينا لكن لا تعادوهم
-
يوم الشهيد الذي أراه
-
إزاء الجدار
-
حَزِيرانُ
-
هديل الصبايا
-
هامشٌ على لافتةِ نعيِ الشّطْرِيِّ
-
حملة أهل العراق لإنقاذ نهر دجلةمن سد اليسو التركي
-
تمّوز على الأبواب فاغتنموه رسالة مفتوحة لرفيقات و رفاق النضا
...
-
إلى الوردة في تَفَتُّحِها
-
خواطر على نافذة الأول من آيار عام 2012
-
أمُّ اللَّّقالقِ
-
كِلانا يَقُولُ لِصاحِبِهِ
-
في ساحة التحرير
-
الجانب الآخر من نتاج د. نجم عبد الله الثقافي
-
في عيدِ ميلادِها
-
حبيساً في القُمْقُمِ
-
حَسْبُكِ هذا
-
بين نَزَقِها و هدوئِهِ
-
تلاوةٌ من سورةِ عليٍّ و الثّورة
المزيد.....
-
تركيا تقضي باعتقال مديرة أعمال فنانين مشهورة بتهمة محاولة ال
...
-
-من هو النمبر وان؟-.. الفنان المصري محمد رمضان يسأل والذكاء
...
-
الثقافة السورية توافق على تعيين لجنة تسيير أعمال نقابة الفنا
...
-
طيران الاحتلال الاسرائيلي يقصف دوار السينما في مدينة جنين با
...
-
الاحتلال يقصف محيط دوار السينما في جنين
-
فيلم وثائقي جديد يثير هوية المُلتقط الفعلي لصورة -فتاة الناب
...
-
افتتاح فعاليات مهرجان السنة الصينية الجديدة في موسكو ـ فيديو
...
-
ماكرون يعلن عن عملية تجديد تستغرق عدة سنوات لتحديث متحف اللو
...
-
محمد الأثري.. فارس اللغة
-
الممثلان التركيان خالد أرغنتش ورضا كوجا أوغلو يواجهان تهمة -
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|