|
الأول من أيار .. تهنئة أم تعزية؟
نصير عواد
الحوار المتمدن-العدد: 4076 - 2013 / 4 / 28 - 16:56
المحور:
الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية
منذ مجزرة بشتئاشان، التي نفذها حزب الرئيس العراقي جلال الطالباني (أوك) عام 1983 بحق الأنصار الشيوعيين، والأول من أيار ينبش أشياء في ذاكرتنا تسلب عيد العمال فرحته وحضوره. اشياءٌ قررنا في لحظة يأس، أكثر من مرة، نسيانها والبدء من جديد إلا أننا مع كل صدمة وكل أيار نلوذ بها ونعيد روايتها بالأسماء والأحداث، حتى بتنا نظن أننا من ضحايا الماضي والذاكرة. فبعد ثلاثة عقود على المجزرة وانشغال العراقيين بالغنيمة صرّنا نروي الحكاية لأنفسنا خوفا من النسيان حتى صارت جبال كردستان في الذاكرة أجمل منها في الواقع، وصارت مجزرة بشتئاشان في الذاكرة أكثر حزنا منها عند سفح قنديل، وأكثر قسوة من صخوره. كثيرون أخذوا على تجربة الأنصار الشيوعيين بكردستان العراق عدم قدرتها على اسقاط الديكتاتورية، أو على الأقل نقل التجربة وتوسيعها إلى مدن العراق الأخرى. وهم على حق في ذلك، فظروف النصر غالبا ما ترتبط بالقوة والخبرة والدعم والتضامن في حين قاتل الأنصار لوحدهم، بأسلحة عادية وخبرة متواضعة. كانوا صيحة رفض صغيرة وبعيدة، في وطن مليء بالسجون والقتل، ولم تكن مفردات الحروب والغنائم والبطولة جزء من قاموسهم، وما زالوا حتى اليوم مشبعين بحكاية أن يبقوا فقط مناضلين، لا قادة أو وزراء أو نواب. رغم الاسلحة التي كانت معلقة على أكتاف أبو كريّم وأبو سحر وعميدة عذيبي إلا أن وجوههم لم تكن مشبعة بالعنف بقدر ما كانت مليئة بالطيبة والحب وبأفكار طوباوية ووردية عن صناعة الأمل. لم تعرق أيديهم فقط على أخامص بنادقهم وانهمكوا ببناء القواعد وجلب التموين والتجوال بين القرى المتناثرة لشرح سياسة الحزب. اعوام وهم يتجولون بين قمم وسفوح الجبال، قريبون من الله، من دون أن يلتفت إليهم أو يلتفتون إليه. ولكنهم كانوا يحركون في القرى التي يمرون بها مشاعر وعواطف فقراء الفلاحين. كانت حياة الأنصار في الجبال مبنية على حقائق يومية صغيرة في الحراسة والتحطيب والطبخ والسير لمسافات طويلة، أما الحقائق المطلقة والعظيمة فهي نادرا ما تدخل في نسيج حياتهم البدائية. ففي الجبال لم يتأثروا بارتفاع الأسعار ولم يتابعوا نشاط منظمة "الأوبك" وكانوا يتداولون خبر وصول كتاب مع القادمين الجدد أكثر من متابعتهم لأخبار الجامعة العربية. حياتهم اليومية افتقدت إلى مفردات كثيرة، إلى السهر والحب ودفء البيت، وكان لغياب النساء حضور كارثي في طبيعة الأنصار المحبة للحياة. مرة، في قاعدة روستي، شاهدنا الراحل "أبو ميلاد" يروح ويجيء على الطريق المؤدية إلى الحمّام، فبعض الرفيقات يستحمّن سوية، وكان على مقربة يتواجد أزواجهن وأخوتهن ورفاقهن وهم يشاهدون أبو ميلاد يروح ويجيء، وعندما سألوه ماذا تفعل يا أبو ميلاد فأجاب ببساطة (أريد أن أشم رائحة امرأة مبللة) .كان الراحل "أبو ميلاد" هو الأكثر بساطة وصدقا بيننا، بل أكاد أقول الأكثر شجاعة، حتى قال عنه النصير سالم "أبو ضفاف" يوما أن شجاعة أبو ميلاد بررت له الكثير من شطحاته. هذا القول يرتكز إلى حقيقة أن الاندفاع السياسي في الجبال أرتبط بروح المغامرة ولذلك ليست مصادفة أن تكون الشجاعة هي صفة النصير، ففي الجبال وبين القرى نحتاج الشجاعة أكثر من حاجتنا للشعارات والنظريات التي تبدو كالطلاسم لفقراء الفلاحين. صحيح أن المعارك قليلة وأن الانتصارات أقل وأن تواجد الأنصار في القرى والأرياف يقوي حضورهم السياسي وتأثيرهم الثقافي إلا أن هذا لم يعنِ الكثير من دون العمليات العسكرية الشجاعة. في المقرات الخلفية، المعروفة بالكسل والرتابة وكثر الكلام، درج الأنصار على ممارسة نشاطاتهم اليومية. يطورون مسؤولياتهم اتجاه أنفسهم ورفاقهم من دون توجيهات مُلزمة التنفيذ. البعض منهم اتصف بمبادرات معدية، محرجة ومحركة للآخرين. بعض المقرات الخلفية خلت من النساء والأطفال، واقتصرت على رجال بشوارب كثة محكومون جميعهم بالنوم تحت سقف واحد، يتحملون سوية عرق رائحة الأجساد والجوارب وبركات حبوب العدس والفاصولياء اليابسة. البغل هو الوحيد الذي يمتلك مكانه الخاص به بعيدا عن غرفة الأنصار، وليس مصادفة أن يتذكّر النصير "أبو غبشه" حياة البغل ويحسده على امتيازاته بعد ثلاثة عقود، ويساويه بالرفيق، الأمر الذي دفع بإحدى الرفيقات الشرسات للرد عليه، وهي في حالة استنكار وذهول من هذه المساواة. قسوة حياة الأنصار وضعف الوعي الصحي لم يجعل من أولوياتهم التنظيف والعناية بالقاعة التي صارت كل حياتهم، غرفة اجتماعات ونوم وطعام واستراحة ومكتبة، خصوصا وأن نصيرا واحدا كسولا أو بمعدة تالفة يستطيع تحويل القاعة المغلقة الشبابيك إلى مبولة قديمة. في مساءات روستي الساحرة كان الشهيد أبو سحر يقف، قبل الذهاب للنوم، عند الباب ويقول بصوت مسموع (رفاق آني رايح للتواليت) يكررها أكثر من مرة لغرض تحريك الأنصار، ثم يذهب من دون فائدة. في أحدى الليالي رد عليه الراحل أبو ميلاد بقوله (آني ما أنام زين من كثر البرد ولذلك أفسّي، بعدين انتم الشيوعيين شنو الما معترضين عليه ). رغم المعاناة عاش الانصار حالة انسجام وتضامن رفاقي لم تكن الأديرة المرمية على سفوح الجبال القريبة منهم تعرفه. دراويش يشعرون بالامتلاء لكونهم جنب بعضهم البعض، يستمعون إلى صوت فيروز ويتبادلون الأفكار ويتقاسمون أرغفة الخبز والملابس القليلة التي تصلهم بين فترة وأخرى. أما الدنانير فكانت قليلة في جيوبهم، وكان بعضهم يتنازل عنها للمدخنين أو لمن هو على سفر. ومع ذلك لم تكن حياة الأنصار في غاية التكامل، ولو نظرنا بموضوعية إلى طبيعة العيش المشترك والاجباري الذي فرض على النصير والمسؤول الأنصاري والقائد السياسي تحت سقف واحد، أو مفرزة واحدة، لوجدناه نوع من اختبار القوى أنتج الكثير من الحوارات الفكرية والمواقف المحتدمة والآراء الجديدة التي لم تكن مشوبة بالعبث والعداء الشخصي. من بين مشاكل العيش المشترك التي افرزتها التجربة هي كسر بعض الحواجز وإضعاف هيبة "القائد" السياسي وظهور الكثير من المواقف التي تستهدفه، صار معها مراقبة البعض من الأنصار للقائد السياسي هاجس يومي لا يستطيعون الفكاك منه. ولكن لم تصل هذه المناوشات إلى مستويات التخوين والالغاء والشتائم إلا في بعض الحالات القليلة. تجربة الأنصار الشيوعيين ناصعة ومؤلمة ولكنها ليست مقدسة، وحصاروست ليس جبل "أُحد"، وما جرى من أخطاء وخلافات هو جزء من حيوية التجربة وعنفوانها.
#نصير_عواد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أمنيات في عيد الشيوعيين
-
الاغتصاب.. أو الموت مرّتين
-
دور المال في خراب العراقيين
-
الشيوعيون الأنصار صفحة أخرى تقاوم النسيان
-
شُهداء في الزحام
-
بشتآشان.. نسيان بعد ارتطام الصخور
-
دَساتير أحْزابنا السياسيّة مِن نسل واحد!
-
حكاية التصاق الثقافة بالشيوعيين
-
باطن الجحيم رواية سلام إبراهيم الجديدة
-
تهديد الذَاكِرة العراقية
-
احذروا عاشوراء
-
الحياةُ لحظةٌ- رواية التفاصيل الخَرِبة للبطولة
-
إنهم يفترون على الشهداء
-
مواقع إلكترونية أم قبائل سياسية؟
-
في مديح الهزيمة
-
حذاءٌ وطنيٌّ آخر من تركيا
-
في ذهاب المهنة وبقاء المهانة
-
يا أهل الشام أحيو المعروف بإماتته
-
فنانو المنفى في ضيافة كامل شياع
-
تعقيب على-محاولة-الناصري
المزيد.....
-
الدفاع التركية: تحييد 14 عنصرا من -حزب العمال الكردستاني- شم
...
-
-حل العمال الكردستاني مقابل حرية أوجلان-.. محادثات سلام مرتق
...
-
عفو «رئاسي» عن 54 «من متظاهري حق العودة» بسيناء
-
تجديد حبس المهندس المعارض «يحيى حسين» 45 يومًا
-
«نريد حقوق المسيحيين» تظاهرات في سوريا بعد إحراق «شجرة كريسم
...
-
متضامنون مع المناضل محمد عادل
-
«الصيادون الممنوعون» في انتظار قرار مجلس الوزراء.. بشأن مخرج
...
-
تيار البديل الجذري المغربي// في خدمة الرجعية يفصل التضامن م
...
-
جريدة النهج الديمقراطي العدد 585
-
أحكام ظالمة ضد مناهضي التطبيع مع الكيان الصهيوني والجبهة تند
...
المزيد.....
-
سلام عادل- سيرة مناضل - الجزء الاول
/ ثمينة ناجي يوسف & نزار خالد
-
سلام عادل -سیرة مناضل-
/ ثمینة یوسف
-
سلام عادل- سيرة مناضل
/ ثمينة ناجي يوسف
-
قناديل مندائية
/ فائز الحيدر
-
قناديل شيوعية عراقية / الجزءالثاني
/ خالد حسين سلطان
-
الحرب الأهلية الإسبانية والمصير الغامض للمتطوعين الفلسطينيين
...
/ نعيم ناصر
-
حياة شرارة الثائرة الصامتة
/ خالد حسين سلطان
-
ملف صور الشهداء الجزء الاول 250 صورة لشهداء الحركة اليساري
...
/ خالد حسين سلطان
-
قناديل شيوعية عراقية / الجزء الاول
/ خالد حسين سلطان
-
نظرات حول مفهوم مابعد الامبريالية - هارى ماكدوف
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|