|
كاميراتنا ....كاميراتهم ..والصراع المعرفي
قصي الصافي
الحوار المتمدن-العدد: 4075 - 2013 / 4 / 27 - 10:07
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
إلى أي مدى يمكن أن تقف الحكومات بملابس نومها الشفافة أمام كاميرا الشعب..... ولطالما وقفت الشعوب على الدوام عاريةً أمام كاميرات حكوماتها !! لقد شاع التفاؤل بعد إنتشار الانترنت وتنوع وسرعة وسائل الإتصال وباقي منجزات التكنولوجيا الحديثة، وساد الإعتقاد بان إحتكار الحكومات لأقنية المعلومات ومنابع المعرفة قد بدأ بالتصدع ، وأن الحكومات ولأول مرة بالتأريخ ستكون وجهاً لوجه أمام الطبقات الشعبية المهمشة. رغم أن هناك ما ينعش هذا التفاؤل من تطورات سريعة وحراكات كان لعامة الناس الدور الرئيسي فيها ،إلا أن نشوة الإنعتاق جنحت بتفاؤلنا إلى مديات بعيدة لا تستند إلى مرتكزات واقعية، فالنخب المهيمنة و الحاكمة لم تفقد كل أسلحتها، ومازالت قادرة على إبتكار اليات جديدة تمكنها من التحكم بالمعلومة وتوجيهها وإعادة خلق فضاءات ثقافية تكفل ديمومة هيمنتها ورياستها للمجتمع. نحن الجيل الأخير في حضارة تتداعى والجيل الأول في حضارة قد شرعت بالبناء، هذا مايقوله المفكر الأمريكي الفن توفلر وهو يستشرف مآلات عالمنا المتحرك بسرعة فائقة نحو حضارة جديدة تخطينا عتبتها الأولى بإنطلاق الثورة المعلوماتية، حضارة جديدة يتم فيها انزياح السلطة بإنهيار هيكليتها الهرمية وتوزعها أفقياً بشكل ديمقراطي، بمعنى أن النخب التي تعتلي قمة الهرم الإجتماعي والسياسي ستفقد القدرة على ضرب الحصار حول الكم الهائل من المعلومات والمعارف التي تخزن كل لحظة في الكومبيوتر الذي سيفتح بدوره الأبواب مشرعةً للجميع ويسمح بإنتشار الحقائق والبيانات بسرعة البرق. سهولة الوصول للمعلومة وسرعة نشرها سيساهم بإنهيار العلاقات الفوقية في جميع مجالات الحياة، فتنحسر المسافة بين المعلم والتلميذ ، بين رجل الدين والعامة ، بين المسؤول السياسي والمواطن ..ألخ ،فلم يعد المسؤول قادراً على إبرام الصفقات وعقد الإتفاقات خلف أبواب موصدة وهو يعلم أن كل حركاته وسكناته وقراراته سترصد وتوضع تحت مبضع جراحة المواطن، مما يجعل المسؤول حذراً وأكثر شفافية خشية غضب المواطن، وبالتالي عدم التصويت له أو الإطاحة به حسب طبيعة النظام السياسي، أي أن المواطن قد إكتسب سلطة مؤثره بفعل قدرة الوصول إلى المعلومة والتواصل مع باقي المواطنين بسرعة فائقه ، بينما فقد المسؤول السلطة التي تتيح له الإلتفاف على المواطن عن طريق إخفاء أو انتقائية نشر المعلومة. تحليلات توفلر هذه قادته إلى إستنتاج آخر وهو أن سلطة رأس لمال ستضمحل وتخلي المكان للمعرفة كمصدر للسلطة ومعياراً للنخبوية وإن البروليتاريا في العالم الصناعي ستحل محلها المعرفتاريا * في العالم الجديد. مقاربة توفلر هذه تتضمن الكثير من الإستنتاجات المهمة والتي لا تجانب الحقيقة كثيراً ، لا سيما أن معظم توقعاته قد تحققت فعلاً ، مما جعله يحظى بإهتمام منقطع النظير ، ولكنه بإعتقادي يجنح إلى تبسيطية مغرقة بالتفاؤل ، أولاً : باستهانته بديناميكية رأس المال وقدرته على إستثمار سلطته لإستمرار هيمنته على المعرفة وتطويع التكنولوجيا الرقمية بحيث تصبح داعمةً لا مقوضةً له،وهو موضوع يغري بالدخول في تفصيلاته، لكني سأتركه لمقال قادم . ثانياً : باغفاله تشابك وتعقيد البنية الإجتماعية والسياسية للدول المتأخرة صناعياً كالدول العربية مثلاً ، وهذا ماأرغب بمناقشته بالقدر الذي يسمح به المقال دون إسهابٍ يثقل على القارئ. إذا كانت التطورات في المجتمعات الصناعية قد جاءت متسقةً مع تنبؤات توفلر ، ففي المجتمعات العربية ستكون النتائج متواضعةً في تفاؤلها وخاصةً فيما يتعلق بتوقعاته عن تصدع هيمنة النخب الإجتماعية والسياسية على المعرفة والتحكم بما يدخل في رؤوس الناس وما يخرج منها من مفاهيم وأفكار. يرى توفلر أن البشرية قد انجزت في تاريخها ثلاث حضارات يسميها بالموجات . الموجة الأولى ( الزراعية) بدأت مع إكتشاف الزراعة حتى الثورة الصناعية في القرن السادس عشر . الأنظمة السياسية في هذه الموجة ممالك وأمارات وامبراطوريات تكتسب شرعيتها من الدين والنسب العائلي ولذا فأن بنيتها الثقافية ستكون مؤسسة على الغيبيات والفكر الديني والسحر واللاعقلانية، أما البناء الإجتماعي فنواته العائلة الكبيرة التي تضم الأجداد وأحفاد الأحفاد وبمجموع البيوتات الكبيره تتشكل القبيلة، مصدر السلطة فيها ملكية الأرض وحظوة الفرد في المجتمع تتحدد بالنسب العائلي ، أما عامة الناس فهم على قناعة بقدرهم الذي لا خيار لهم فيه فهو من صنع الألهة أو الرب .
الموجة الثانية ( الصناعية) بدأت مع الثورة الصناعية وشرعت بالتداعي في نهاية الخمسينات .أصبح للبشر القول الفصل في نظامهم السياسي ولم يعد للدين أي دور في شرعيته ، والبناء الإجتماعي يقوم على أساس العائلة الصغيرة وينتهي دور القبيلة، وقد بدأت هذه الموجة بفكر الأنوار الذي شن حرباً شعواء لإستئصال الغيبيات والسحر وعقلنة الفكر ومنع الدين من التدخل بشؤون الدولة. وقد أصبح رأس المال هو مصدر السلطة, وحظوتك في المجتمع لا بنسبك العائلي بل بما تملك من رأس مال ، وتمتاز هذه الموجة بالمنتجات الكبيرة كثيرة التعقيد والتي تتطلب أعداداً كبيرة من العاملين، وهذا ماجعل التجمعات الكبيرة السمة المميزة لهذه الحضاره ( المصنع ، المدرسة ، الجامعة،المولات التجارية ، الأحزاب ، المظاهرات ، النقابات ، المستشفيات ، السينما ....ألخ ) ، لتنظيم كل هذا كان لابد من البيروقراطية الإدارية القائمة على أساس التسلسل الهرمي والتي تتضخم مع النمو الصناعي بينما في الموجة الثالثة (المعلوماتية) بدأ الإنسان بصناعة المنتج الأصغر فالأصغر منذ اختراع الترانزستور وصولاً إلى النانوتكنولوجي ،وصار المنتج لايحتاج لعاملين كثر بل لبيانات ومعلومات ومهارات قد يؤديها فرد أو مجموعة قليلة، بل أن التكنولوجيا الحديثة ستمكن الفرد من صنع الكثير مما يحتاج بنفسه ،بل سيؤدي الفحوصات الطبية لنفسه ويختار الدواء المناسب بالتليفون المحمول . لهذا فلا حاجة للتجمعات الكبيرة وبيروقراطيتها وسلطتها الهرمية ، المجموعات الصغيرة بوسائل التواصل الإفتراضي ستكون أكثر كفاءةً وديمقراطية.
وفق هذا العرض المختصر لنظرية توفلر يتضح أن الأنساق الفكرية المكونة لبنى الفكر العربي السائد تنتمي في أغلبها إلى الموجة الأولى( الزراعية )، فالأنظمة السياسية على شكل ممالك وإمارات وجمهوريات (ملكية) ،قرابة النسب للملك أو الأمير أو الرئيس أو الوزير أو المدير تمنح لصاحبها مكانة وحظوة ،كما أن الدين وما يتفرع عنه من طائفية ما زال متشابكاً مع الدولة ، ونواة المؤسسة الإجتماعية لدينا يرمز لها سي السيد عبد الجواد و البيت الكبير ثم القبيلة. الوافد من الحداثة لم يتأصل على أساس نفي القديم بل بالتعايش معه بعد أن يتجرد الحديث من مضامينه فيصبح ثوباً يتأنق به القديم. ليس مصادفةً أن يكون لكل مفهوم من مفاهيم الحداثة معادلاً ذهنياً من نفايات التأريخ يمسخه ويفرغ محتواه ، فيختلط مفهوم الديمقراطية مثلاً بالشورى والوطنية بالطائفية أو القبلية وغير ذلك من الزيجات غير الشرعية التي تنجب مواليد مشوهةً من الأفكار الهجينة. كأن القديم شجرةٌ ضاربةٌ بجذورها في تربة الفكر والجديد ليس سوى ثماراً إصطناعيةً تتدلى من أغصانها. إن هذا الخلط والتشوش بين مفاهيم الموجة الأولى(الزراعية) والموجة الثانية (الصناعية ) ربما يعود إلى عدم اكتمال مشروع التحديث الصناعي في أي من الدول العربية، فقد ادخلت الصناعات الخفيفة من قبل الدول المستعمرة لا ضمن مشروع تحديثي جاد بل بالقدر الذي يستجيب لهيمنتها على السوق والعمالة والمواد الأولية، ثم تبعتها دكتاتوريات عسكرية وممالك متخلفة غير قادرة على إنجاز مشروع الحداثة، بل انشغلت بتعزيز سلطاتها بإنعاش التقاليد والبنى الفكرية البالية، وتقريب رموزها من رؤساء العشائر ورجال الدين، وتأجيج الصراعات الطائفية والقبلية، وكثيراً ما تم إقحام القانون المدني بالأعراف العشائرية والدينية لتفرغه من مضامينه . افتقاد الحاضنة الإقتصادية الممثلة بالتطور الصناعي من جهة، والإنعاش المستمر للأنساق الفكرية البالية من جهة ثانية، قد أنتجت عقلاً مشوشاً ممانعاً للحداثة يمثل حصانةً قوية لديمومة النخب المهيمنة رغم تكنولوجيا الإتصالات وحضارة الموجة الثالثة. نعم وفرت التكنولوجيا الحديثة والإنترنت وشبكات التواصل للجميع المعلومة وتعدد الخطابات الفكرية والرؤى، مما يتيح للفرد -إفتراضياً- حرية التفكير, إلا أنه عملياً أسيرٌ لانحيازاته القبلية والطائفية والقومية، والتي تحرف مسار المعلومة التنويري إلى مطبات ومتاهات ظلامية. الشفافية وإنزياح السلطة أفقياً كما يراها توفلر تصطدم بأزمة بنيوية حادة في مجتمعاتنا و طريقنا للحداثة سيكون أكثر تعقيداً وطويلاً جداً .
نعم لقد مكنت التكنولوجيا الحديثة كاميرا الشعب من رصد حكوماتها إلا أن عدساتها ملوثةٌ بشتى النفايات الفكرية، فهي تعكس صوراً ضبابيةً مشوهة، فالوزير المفسد والمرتشي يظهر تقياً ورعاً، والنائب المتواطئ مع الإرهاب رئيس القبيلة الذي يحمي هويتنا، أما الدكتاتور المتعطش للدماء فهو بطل الأمة وحامي بوابتها الشرقية.
* المعرفتاريا cognitariat مصطلح مركب من إبتكار توفلر إذ مزج كلمة المعرفة cognition مع كلمة بروليتاريا proletariat ويعني به العامل بالمعلومات والمعارف لا بالعمل العضلي مثل العاملين في الخدمات المصرفية وخدمات الإستشارات التقنية عبر الهاتف وتقنيي السوفتوير وغيرهم
#قصي_الصافي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
اليوتوبيا بين الفكر والارهاب
المزيد.....
-
-عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
-
خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
-
الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
-
71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل
...
-
20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ
...
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على
...
-
الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية
...
-
روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر
...
-
هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
-
عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|