|
الماركسية وأنثروبولوجيا المدارات الحزينة - تأليف سايمون كلارك - مراجعة ابراهيم فتحى - الفصل الرابع
سعيد العليمى
الحوار المتمدن-العدد: 4075 - 2013 / 4 / 27 - 01:34
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
الفــصل الرابــع البـنــى الأولــيــة للقرابـــــة
يمثل البنى الأولية للقرابة التطور التام لنظرية ليفي شتراوس عن التبادلية ونقطة الإنتقال إلى فلسفته " البنيوية " الإنسانية النوعية ونظرية الثقافة والمجتمع . لاتتبدى التضمينات الفلسفية ، والمنهجية ،والنظرية للبنى الأولية للقرابة بوضوح في هذا العمل ، لكنها مع ذلك الإستبصار الذى أعتقد ليفي شتراوس أنه قد حققه في دراسة القرابة وهي أساس بنيويته وبنيوية هؤلاء الذين ألهمهم . ومن ثم فإن البنى الأولية جدير بأشد الإنتباه . وبنيوية ليفي شتراوس فلسفة ،ونظرية ومنهجاً تقدم نفسها للعلوم الإنسانية ليس فقط على أساس الإدعاء الفلسفي بأنها هى التى حققت إستبصاراً متميزاً فى طبيعة الإنسانية ، ولكن بشكل أكثر جوهرية على أساس منجزاتها العلمية . وحتى نُقَّوم بنيوية ليفي شتراوس فإنه ، من ثم ، من الضرورى أن نصل إلى فهم الاستقصاء الأنثروبولوجي الذى ألهم ، اكتشاف ليفي شتراوس المفصل والأكثر جدارة لأنظمة القرابة وميثولوجيا الشعوب غير الكتابية . ان دراسة القرابة ، مثلها في ذلك مثل الأسطورة ، هي حقل شديد التخصص وكثير من الأطروحات التى أثارها عمل ليفي شتراوس شديدة التقنية وغالباً معلقة على التفسير الدقيق لبيانات إثنوجرافية مشوشه . وفي كتاب كهذا سيكون نوعاً من إختبار صبر القارئ أن ندخل في مثل هذه الأمور التقنية ، ومع ذلك يصر ليفي شتراوس دائماً على أن يُخضع نظرياته لإختبار واحد فقط : إختبار الشواهد .من حسن حظ القارئ أنه من الممكن أن نوجز تقويماً لنظرية ليفي شتراوس في القرابة دون أن نواجه البيانات الإثنوجرافية . ومن ناحية ، إن تفسيراً ساذجا لنظرية ليفي شتراوس يمكن دحضه بجلاء شديد بواسطة البيانات الإثنوجرافية دون أن يكون ضروريا فحص تلك البيانات تفصيليا. من ناحية أخرى ، لكي يوفق ليفي شتراوس بين نظريته والبيانات التى تظهر مناقضة لها فإنه يقدم سلسلة من الأدوات المنهجية والمفهومية التى تحرم النظرية من أى مضمون حقيقي ، ومن ثم يجعلها غير قابلة للدحض بصورة جازمة .
وحين أجادل بأن تحليلات ليفي شتراوس غير مرضية لأنها غير قابلة للدحض فأنا لا أريد أن أطابق بين نفسي وفلسفة العلوم البوبرية ، التى طبقا لها يكون مسموحا فقط للنظرية أن تدعى وضعا علميا إذا كانت قادرة على توليد تنبؤات تجريبية يمكن أن تدحض تجريبيا . وقد تم إنتقاد هذة الفلسفة بشكل واسع إستنادا على عدد من الأسس. أولا ، على الأسس الفلسفية بانة ليس من الممكن أن نحدد بأى معنى مطلق لا ما يكون تنبؤا تجريبيا أو ما يمكن أن يتضمن دحض مثل هذا التنبؤ . ثانيا ، حول الأسس الأكثر براجماتية بأنها تفرض على نحو غير ملائم شروطا مقيدة على أنواع النظرية التي ستسمح بها . وحين أشجب نظرية ليفي شتراوس بإعتبارها غير قابلة للدحض فإنني أستخدم المصطلح بمرونة أكثر مما يفعل بوبر ، سواء كمعيار للقابلية للدحض أو في الصرامة التى يطبق بها . وأنا لا أعتقد أنه من الضرورى الارتباط بمنظور بوبرى وضعى المنزع للإعتقاد بأن نظرية لها إدعاءات علمية يجب أن يكون لها إما بعض المضمون التجريبي أو الاحتكام الحدسي الذى يمكن أن يقودنا الى توقع أنها يمكن أن تعطي في النهاية مضموناً تجريبياً . سوف أبرهن في هذا الفصل على أن نظرية ليفي شتراوس عن القرابة ليس لها مضمون ذو دلالة تجريبية ، أضف إلـى ذلك أنها مضادة للحدس، حتى أنه ليس هناك سبب يدعو للإعتقاد أنها يمكن أن تعطي أبداً أى مضمون . إذا كان على النظرية أن يكون لها مضمون تجريبي فيجب أن تخبرنا شيئاً عن العالم . وحين تخبرنا ماذا يشبه العالم فعلى النظرية أيضاً أن تخبرنا ما الذى لايشبهه العالم ، ومن ثم لكي تحوز أى مضمون تجريبي يجب على النظرية أن تكون غير متسقه مع بعض حالات العالم على الأقل ، بمعنى آخر يجب أن تكون قابلة للدحض على الأقل من ناحية المبدأ. ان نظرية ليفي شتراوس عن القرابة غير قابلة للدحض لأنها متسقه مع أى مجموعة ممكنة من البيانات . لاتخبرنا نظريات ليفي شتراوس بأى شئ عن شكل أو إشتغال أنظمة القرابة التى يمكن أن نجدها في المجتمعات القائمة فعلاً ، ماتفعله هو أنها تختزل هذه الأنظمة إلى نماذج مجردة يفترض أن لها موقعا في اللاوعي والذى يفترض أنها تثوى فى أساس الأنظمة الملاحظة على الأرض كما تعطيها معناها. ومن ثم فإن نظرياته لاتخبرنا عن العالم ، وإنما عن المعاني المفروضة على العالم بواسطة لاوعي ما . وليس هناك من شئ يعترض عليه في حد ذاته حول إدخال مفهوم اللاوعي .ومما لاشك فيه أن نظرية اللاوعي يمكن أن تُعطي مضمونا تجريبيا ذو مغزى في الحالة التى إما أن يقدم فيها اللاوعي رابطة بين ماض قابل للتحقق والحاضر ومن ثم تكون تشكيلات اللاوعي النموذجية التى تثوى فى أساس أشكال السلوك المعاصرة مرتبطة مع خبرات الماضي النموذجية ، أو إذا كان ذلك الذى يمثل في لحظة ما لاوعيا ، يمكن خلال التحليل ، أن يصبح واعيا وهكذا يكون اللاوعي مجرد وعي مغمور تحت السطح . وبالرغم من أن التقويم العلمي للنظريات التحليلية النفسية يطرح مشاكل منهجية ومفهومية ضخمة ، فليس هناك شك في أنه حين تصاغ بدقه يكون لهذه النظريات مضمون تجريبي لأنها تقدم سبيلاً مباشراً أو غير مباشر الى اللاوعي . وعلى أية حال فإن استخدام ليفي شتراوس للمفهوم لايؤدى لهذا الإمكان . فمن ناحية ، اللاوعي مسبق التشكل ومن ثم لايمكن أن يرتبط بأى ماض تجريبي . ومن ناحية أخرى ، فالمعانى التى يعزوها ليفي شتراوس إلى اللاوعي لاتتطابق ، وفي بعض الحالات تتناقض بوضوح مع ، المعنى الواعي الذى يعزوه المشاركون لأنظمة القرابة عندهم . وعند ليفي شتراوس يمتلك اللاوعي أساسا فى الجهاز العصبي ، انه المفهوم الذى يتوسط بين العقل والمادة ( وهذا سبب إمكان قيامه بكل خدع الديكارتيه ) ، ولكن مادامت المشاكل العلمية والمفهومية المتدخلة في تحديد البنية التحتية العصبية للفكر هي ، على الأقل ، هائلة ، فحتى الإحالة الى علم الأعصاب لايمكن واقعياً أن ينتظر منها أن تمد النظرية بأى مضمون تجريبي . وعلى ذلك فليس هناك دليل ، وليس من دليل ممكن ، يمكن أن يقودنا إلى الإعتقاد بأن نظرية ليفي شتراوس قد كشفت حقيقة عن معنى موضوعي لاواع . إن نظرية بدون مضمون تجريبي ، أو (نظرية) مدحوضة منهجياً ، ليست بالضرورة بدون قيمة علمية . فربما يمكن تعديل وتطوير النظرية حتى تقدم تفسيرا أكثر اثماراً بكثير . وبالرغم من أن نظرية ليفي شتراوس عن القرابة مضادة للحدس ، بمعـنى أنها تـدعـي أن الـمعنى الحقيقي لأنظمة القرابة مختلف تماماً عن المعنى الذى يعزوه لهذه الأنظمة المشاركون فيها ، فربما يمكن لنظريته أن تطور حتى تقدم تحليلاً متماسكاً لمعنى موضوعي في أنظمة القرابة لايتضمن إحالة مجانية إلى لاوعي لاسبيل إليه . ولكن بالأحرى لأن تجد المعنى "الموضوعي " لأنظمة القرابة محايثاً في الأنظمة ذاتها . وهذا هو الإتجاه الذى تطور فيه عمل ليفي شتراوس بواسطة الأنثروبولوجيا البنيوية . وهوعلى أي حال ، تطور برهن على أنه لم يكن أكثر إثماراً مما لنظرية ليفي شتراوس الخاصة . وأنوى في هذا الفصل أن أبحث نظرية ليفي شتراوس عن القرابة قبل الانتقال إلى الفصل التالى لآخذ في الإعتبار التطورات الأخيرة التى ألهمتها مؤلفات ليفي شتراوس . 1 - النظرية العامة للتبادلية . أ - النظرية العامة للتبادلية وحظر إتيان المحارم : يقدم لنا البنى الأولية للقرابة نظريتين مختلفتين اللتان ، رغم ارتباطهما ، يمكن أن تميز كلا منهما عن الأخرى . فالنظرية العامة للتبادلية تسعى الى تأسيس أن مبدأ التبادلية هو شرط إمكان المجتمع ومن ثم يجب أن يكون له أصل لاواع نفسي شامل .كما تسعى نظرية القرابة أن تبين أن مجال مؤسسات القرابة والزواج يعبر عن مبدأ التبادلية ومن ثم ، على الأقل في المجتمعات غير الكتابية ( الأمية) ، فإنه يقدم الإطار للمجتمع . سوف أعالج النظرية العامة للتبادلية في هذا الجزء من الفصل قبل أن أنتقل الى نظرية القرابة في الجزء التالى . وحتى يؤسس وضع مبدأ التبادلية فقد كان على ليفي شتراوس أن يؤسس تجريبياً أن التبادلية بالفعل شاملة ، وعليه أن يؤسس نظرياً أنه لايمكن لمجتمع أن يوجد بدون التبادلية . يحاول شتراوس أن يؤسس شمولية التبادلية بربطها بالشمولية المفترضة لحظر إتيان المحارم . ثم ينطلق ليفي شتراوس بعدئذ لمحاولة تأسيس ضرورة التبادل بالإحالة إبتداء للمتطلبات السوسيولوجية القاضية بأن المجتمع ينظم توزيع الموراد الشحيحة(التى تتصف بالقلة والندرة) ، وفيما بعد بالإحالة الى الوظيفة النفسية للتبادل الرمزى كــطريقة لـلإستجابة للحاجة النفسية للأمان . ينطلق ليفي شتراوس من الحجة الأخيرة عن الوظيفة النفسية للتبادلية ليؤسس نظريته الخاصة باللاوعي كــشرط لإمكان التبادلية ، وكذلك المجتمع . ويحاول ليفي شتراوس أن يؤسس شمولية التبادلية بربطة بالحظر الشامل المفترض لإتيان المحارم الذى يضع خطاً فاصلاً بين الطبيعة والثقافة . وهذه الحجة لها بعض المغزى لأنها تقدم رابطة وثيقة تعود الى فرويد ، الذى ألهم كتابه الطوطم والتابو هذة الحجة بلا شك ، كما تقدم صلة تمضى نحو لا كان، الذى أعاد إدماج صيغة ليفي شتراوس داخل التحليل النفسي ، وبالنسبة الى ليفي شتراوس فإن حظر إتيان المحارم هو " الخطوة الأساسية التى بسببها ، وبواسطتها ، وفوق كل شئ بها ، أنجز التحول من الطبيعة الى الثقافة " (1) . وينتقد ليفي شتراوس النظريات القائمة عن حظر إتيان المحارم لفشلها في تفسير ذلك الطابع المزدوج للحظر . فهو ليس طبيعياً بشكل خالص ، ولا ثقافياً بشكل خالص ، ولا هو بضعة من الطبيعة ، وبضعة من الثقافة ، إنه نقطة التحول من الواحدة الى الأخرى . وعندئذ يقدم ليفي شتراوس تفسيره الخاص . ان حظر إتيان المحارم هو القاعدة التى تؤكد أولوية الثقافة في الأمور الجنسية . وأهمية القاعدة ليست فيما تمنع ، بل فيما تفرض : " ان حظر الإستعمال الجنسي للإبنة أو للأخت يفرض عليهما أن يمنحا فى الزواج الى رجل آخر ، وفي نفس الوقت فإنه يؤسس حقاً في ابنة أو أخت هذا الرجل الآخر .... مثل الزواج الخارجي ، الذى هو تطبيقة الإجتماعي الموسع لذا فإن حظر إتيان المحارم هو احدى قواعد التبادلية .... ان مضمون الحظر ليس مستنفداً بحقيقة الحظر : والأخيرة مؤسسة فقط حتى تضمن وتؤسس ، مباشرة وغير مباشرة ، فوراً أو توسطاً ، تبادلاً ما" (2) .
وهكذا فنحن نجد أن حظر إتيان المحارم هو الوجه الآخر للتبادل . إذا حرمت المرأة على جماعتها ، فيجب من ثم أن تقدم الى (جماعة ) أخرى . وليس شمول حظر إتيان المحارم ذا مغزى في حد ذاته ، بل هو مغزى كـــمؤشر على شمولية التبادلية ، على أى حال تلك الحجة ، أقل مايقال فيها ، أنها غير مقنعة .
في المحل الأول ، وكما أشار الكثيرون ، فإن حظر إتيان المحارم هو قاعدة تحكم العلاقات الجنسية بينما تحكم قاعدة التبادلية الزواج . وبالرغم من أن هاتين القاعدتين ربما كانتا مرتبطتين ارتباطا وثيقا فقد تكونان مختلفتين بوضوح فى مجموع الأفراد الواقعين تحت نطاقها . ان حجة ليفي شتراوس تقول بأن " حظر إتيان المحارم يؤسس إعتماداً متبادلاً بين العائلات ،فارضا عليهم (مجبرا اياهم) ، من أجل أن يخلدوا أنفسهم ، أن ينشئوا عائلات جديدة " (3) ومن ثم يفرض حظر إتيان المحارم على الأغلب زواج العائلة الخارجي ، وهو يتضمن هذه التبادلية فقط بأكثر المعاني مرونة . وتسائل حجة ثانية شمولية حظر إتيان المحارم . إنه من الصحيح أن كل مجتمع لديه مجموعة من القواعد التى تحكم العلاقات الجنسية ، ولكن هذه القواعد تتنوع بشدة من مجتمع الى مجتمع ، في كل من الإتساع والمغزى الثقافي ، الى الحد الذى يكون فيه إتيان المحارم في بعض المجتمعات جنحه تستأهل بالكاد التعليق عليها . وماهو شامل إذن ، ليس مضمون الحظر ولكن بالأحرى حقيقة ان هناك قواعد من نوع ما تنظم العلاقات الجنسية بين الأقرباء . بهذا المعنى فإن حظر إتيان المحارم ليس أكثر شمولية من ، على سبيل المثال ، قواعد آداب المائدة . أن حظر إتيان المحارم هو حقا مسألة لإبعاد الإنتباه عن القضية الرئيسية ، لأن قواعد الزواج في ذاتها شاملة ، والزواج يربط على نحو شامل الأفراد والجماعات . إن أكثر نقاط الضعف أهمية في حجة ليفي شتراوس هي محاولة تأسيس ضرورة التبادلية على ركيزة شموليتها المفترضة . ليس هناك من سبب يدعو لعدم وجوب أن تكون الظواهر الثقافية شاملة ، ومن ثم لامبرر لمطابقة الشامل بالطبيعي . وبينما أنه من الصحيح أن شرط إمكان المجتمع سوف يكون شاملاً ، فليس من الضرورى أن أى شئ يكون شاملاً وجـزءاً من ثـقافــة سوف يكون اما طبيعياً ، أو شرطاً لإمكان المجتمع . ان ما هو قبلى لايمكن أن يكتشف أبداً تجريبياً ، ولكن فقط بواسطة البرهان النظرى ، لأن البرهان النظرى فقط يمكن أن يفصل بين الشامل مصادفه ، الذى بدونه لا يوجد المجتمع ، والشامل بالضرورة الذى بدونه لايمكن للمجتمع أن يوجد . ب - الوظيفة الإجتماعية للتبادلية . يقدم ليفي شتراوس مثل هاتين الحجتين عن ضرورة التبادلية ؛ الأولى ، سوسيولوجية ، حجة هى أثر متخلف عن التحليلات الأسبق للتبادلية ولاتحتاج لإحتجازنا طويلاً . أما حجة أن التبادلية موظفة لتوزيع الموارد ، وخاصــة النساء ، بـين المجموعات الإجتماعية فهى التى تستحق الوقوف عندها . إنها حجة تشير ، من ثم ، الى تبادلات حقيقية بين المجموعات المتماسكة، وليس الى تبادلات رمزية فقط ، وهى حجة تظهر فقط في الفصول الأولى من البنى الأولية للقرابة . فالتبادلية مطلوبة من أجل تجاوز المشاكل التى سببها عدم المساواة في توزيع النساء . كائنات ذات قيمة هناك حاجة لهن لأنهن يعملن وينتجن أطفالاً لهم قيمة . وتنشأ المشاكل بسبب " ميل عميق لتعدد الزوجات ، يوجد عند كل الرجال " (4) ويحتاج المجتمع ، من ثم أن يتولى توزيع هذه الأشياء الثمينة وأن لايترك هذا التوزيع للمصادفة أو للأنانية الفردية . ومن ثم تعبر التبادلية عن سيادة الجماعة في توزيع الأشياء الثمينة . وهذه الحجة ليست مطوره جيداً في البنى الأولية . مرة أخرى المسألة هي شمولية وضرورة هذه الوظيفة . ان شموليتها ليست مطلقة بوضوح ، لأن المجتمعات يمكن أن توجد بغير مساواة شديدة في توزيع النساء . أضف الى ذلك ، أن التبادلية ليست ، في حد ذاتها ، آلية توزيعية على الإطلاق : إنها آلية تداولية ، والتداول لا يحدث إلا بمجرد توزيع الموارد. ان قواعد الزواج التى اهتم بها ليفي شتراوس في البنى الأولية لاتتضمن أى مواصفات كمية ، انها ببساطة تقول لرجل أن يذهب ليجد زوجة . ومن ثم فإن تطبيق هذه القواعد لن يكون له أثر على توزيع النساء . على سبيل المثال ، رجل له أكثر من نصيبه من الأبناء سوف يكون قادراً على أن يؤمن نصيباً أكبر من الكنات .وبصفه عامة ، من ثم فإن توزيع النساء غير متأثر بقواعد الزواج ، بالرغم من أنه من الممكن عرضاً أن تكون هناك آليات إعادة توزيع ، مثل نظام المهر ( ما يدفعه الزوج للعروس)، مضاف الى قاعدة الزواج .
لذلك ، ليس واضحاً ماهو شامل بشأن الوظيفة التوزيعية ، ولا أن القواعد التى يدرسها ليفي شتراوس في الحقيقة تنتج إعادة توزيع .وأخيراً ، رغم أن أى مجتمع ينبغي أن تكون له آلية ما لتوزيع منتجاته ، فإن شكل هذه الآلية يختلف من مجتمع الى آخر . أضف الى ذلك ، أنه من الممكن تماماً أن مجتمعاً يمكن لبقائه أن يضار بطريقة أو بأخرى بوجود عدم المساواة يمكن أن يطور آليات بديلة بإتجاه إعادة توزيع يمكن أن تصون التماسك الإجتماعي دون المساس بعدم المساواة (كما هو الحال لدينا) من ثم فلا أساس لإشتقاق وظيفة شاملة من حاجة لتنظيم إعادة التوزيع لأن الأخير ليس له مضمون جوهرى شامل . جـ - نحو نظرية نفسية للتبادلية . تتغير الحجج في مجرى البنى الأولية . فلم تعد تأثيرات التبادلية التوزيعية المفترضة هي التى تجعل التبادلية شرط إمكان المجتمع ، ولكن بالأحرى قيمتها الرمزية . بعد الفصول القليلة الأولى ينظر الى التبادلية بإعتبارها مؤسسة ذات دلالة رمزية بشكل خالص حتى أنها أصبحت عند نهاية الكتاب نظاماً للإتصال أكثر منها نظاما لتوزيع القيم . إستبدل بالنزاع حول التوزيع نزاع له أصل نفسي ومن ثم له حل رمزى . وقد اعطيت الحاجة الى التبادل ضمنياً وعلى وجـــه الحصر أساساً نفسياً وليس إجتماعياً . ويتبع هذا التطور إدخال العقل كــأساس للتبادل . لقد جادل ليفي شتراوس فى البداية بأن التبادلية تعبر عن سيادة الجماعة في تــوزيع الأشياء الثمينة . على أية حال فإن مطالب الجماعة لاتجعل نفسها فعالـة مباشرة عند ليفي شتراوس ، كما تفعل عند دوركايم ، لأن الجماعة لاوجود لها بإستقلال عن أعضائها الأفراد . ومن ثم ، رغم أنه فى البداية يعطى إجابة سوسيولوجية عن سؤال لماذا يجب أن تكون التبادلية شرط إمكان المجتمع ، فإن حقيقة التبادلية يجب أن تفسر بالاحالة الى نفسية الفرد .التبادلية من ثم ، ليست مفروضه بواسطة سلطة خارجية ،وليست متبناه بشكل واع ، لا تنبثق كإستجابة عفوية من الفرد لتعايشة مع الآخرين : " إذا أُعترض على أن مثل هذا الإستدلال غاية في التجريد ومصطنع ليجرى في مستوى شديد البدائية ، فيكفي أن نلاحظ أن النتيجة ، وهي المناط ، لاتفترض أى إستدلال شكلى وإنما ببساطة الحل العفوى لهذه الضغوط النفسية - الإجتماعية التى هي الوقائع المباشرة للحياة الجماعية " (5) . وكان ليفي شتراوس بدءاً من مقالاته النظرية الأولى يبحث عن تفسير نفسى مُرضٍ للتبادلية ، وحيث أن هذا هو عماد النظرية بمجملها ، وفي النهاية بنيوية ليفي شتراوس ككل ، فلم يكن من الممكن إعتبار نظريته مكتمله حتى تحقق مثل هذا التفسير . وكانت المشكلة أنه لم تكن أى من النظريات النفسية المتاحة بالنسبة الى ليفي شتراوس ملائمة على الإطلاق . وغالبا ما تقدم البنى الأولية كتطبيق لنظريات ومناهج اللسانيات البنيوية على أنظمة القرابة . وإذا إخذنا فى اعتبارنا تأثيراكتشاف ليفي شتراوس للسانيات على فكره لاحقا ، فإنه مما يثير الدهشة أن هناك علامات قليلة لهذا التأثير في البنى الأولية . لقد ارتبط ليفي شتراوس باللسانيات من خلال رومان ياكوبسون ، الذى قابله في نيويورك في أواخر عام 1941 ، وحضر دروسه في 1942 – 3 . وقد بدأ ليفي شتراوس كتابة البنى الأولية عام 1943 ، رغم أن الكثير من هذا البحث كان قد تم آنئذ ، وأكمل في بداية 1947 . وعلى أية حال ، لم يكن حتى ، " حوالى 1944 " أن أصبح مقتنعا بتماثل " قواعد الزواج والنسب " مع تلك " السائدة في اللسانيات " . وكان أول عمل منشور لليفي شترواس يشى بالإلهام اللساني ، مقالة في ( مجلة ) كلمة عام 1945 أعيد طبعها في الأنثروبولوجيا البنيوية ، وجرى الإقتباس منها كثيراً منذئذ ، تنكر بوضوح أن المنهج يمكن أن يطبق على مصطلحات ، على موضوع بحث البنى الأولية ، مطبقاً إياه بدلا من ذلك على أنظمة المواقف ، التى كان سيكرس لها مشروع مجلد ثالث من دراسات القرابة . في مقاله عام 1946 " حول علم الاجتماع الفرنسي " ،لاتزال اللسانيات غير ذات امتياز بصفة خاصة ، أما" الفلسفة ، علم النفس ، التاريخ ، إلى آخره ، فقد انتقيت كأنظمة تكميلية في دعوة لعلم الاجتماع للعودة إلى دراسات أكثر عيانية . ( 6 )
ولا تلاحظ أهمية اللسانيات في البني الأولية بشكل خاص الا في الفصل الختامي ، حيث عرضت المقارنة بين النساء والكلمات والإحالة النظرية الوحيدة ذات الدلالة إلى اللسانيات في مجمل الكتاب (ص ص 93 – 4 ) تعرض مسألة سبق أن قدمـت بالإحالة إلى علم نفس الجشطالت ( ص ص 89 – 90 ) أيا ما كان " الإلهام النظري " الذي يدين به لرومان ياكوبسون وأعترف به في المقدمة ، فإن ، هناك أثرا شديد الضآلة لتأثير اللسانيات في البني الأولية . يمكن أن يكون فرويد الذي قدم النظرية قبلا في الطوطم والتابو هو المصدر الواضح للنظرية النفسية التي يمكن أن تفسر الأصول النفسية للتبادلية . لقد رأينا آنفا أن الاتصال بعمل فرويد هو الذي جذب إنتباه ليفي شتراوس إلى اللاوعي . ولكننا قد رأينا أن ليفي شتراوس كان ينظر إلى اللاوعي من أجل علم نفس ، عقلاني ، ذهني سوف يحارب به النظريات التى إعتمدت على العاطفي واللاعقلاني . لم تكن نظرية فرويد في هذا الصدد بأفضل من تلك النظريات التى سعى ليفي شتراوس لإزاحتها وتحديدا لأنها في النهاية لا عقلانية . لقد رأينا أن كلا من دوركايم وبرجسون قد عارض ، كل منهما بطريقته ، المجتمع بالفرد وكذلك العقلاني باللاعقلاني ، والعقل بالعاطفة ، بينما سعى ليفي شتراوس إلى أن يسترد العقل والذكاء للفرد . في هذا الصدد يشبه فرويد وخاصة فرويد فى الطوطم والتابو شبها كبيرا دوركايم وبرجسون . أضف إلى ذلك أن الطوطم والتابو يضاعف الجناية بأن يضيف إليها برهانا ميتافيزيقيا ( وغالبا دوركايميا ) تطورياً كاملاً. وفي هذا الصدد فإنه بالنسبة إلى فرويد رعب إتيان المحارم الذي يثوى فى أساس تابو اتيان المحارم والمؤسسة الاجتماعية للزواج الخارجي ( الزواج خارج الجماعة بغض النظر عما إذا كانت عائلة ، عشيرة ، بطن ،أو أيـا ما كانت ) يفسر بالإحالة إلى حادثة تاريخية واقعية أو أسطورية يعاد إنتاجها في الأجيال المتعاقبة . من ثم يفسر الوجود المعاصر لحظر إتيان المحارم كراسب تطوري لاستجابة أصلية لا عقلانية نفسية . بغض النظر عن قدر تأثر ليفي شتراوس بفرويد ، فإن تفسير الأخير لحظر إتيان المحارم هو غير مرضى تماماً . أولاً ، لا يمكن أن تقدم النظرية تفسيراً للوجود المعاصر لحظر إتيان المحارم لأن أصوله النفسية محالة إلى ماض بعيد وأسطوري . ولا يمكن أن يدعي أن استمرار اتيان المحارم يعبر عن استمرار الدوافع النفسية التي ولدته لأن ليفي شتراوس يصر على أن الأحاسيس هي استجابة لنظام عقلي معياري ولا يمكن أن تسبقه . ومن ثم فإن الرعب المعاصر لإتيان المحارم ينبغي أن يفسر من خلال حظره وليس العكس ( وهكذا فانه لذو مغزى أن يدرس فرويد تابو إتيان المحارم ويدرس ليفي شتراوس حظر إتيان المحارم ) . ثانياً ، تختزل النظرية الثقافة إلى استجابة طبيعية لا عقلانية . وهكذا فإن الثقافة بعيدة عن أن تعبر عن الطبيعة الاجتماعية للحيوان الإنساني ، فهي مؤسسة بالنسبة إلى فرويد على كبت الجوانب الأساسية الإنسانية : فالثقافة والعقل الذي تجسده غريب جوهرياً عن البشر الذين يتضمنونه . الثقافة ، أبعد من أن تكون وسيله التحقق الذاتي الإنساني ، أبعد من أن تكون الوسيلة التى ترفع بها الإنسانية نفسها فوق الحيوانية ، تمثل بالنسبة لفرويد إستلاب الكائن الإنساني عن طبيعته أوطبيعتها . بينما لم يكن ليفي شتراوس ليختلف على أنه من الممكن للثقافة أن تطور أشكالاً مستلبة ، فإن هذا الاستلاب لا يمثل فرضاً من العقل على الغريزة ، وإنما بالأحرى إنحراف العقل من أجل غايات أنانية . بالنسبة إلى ليفي شتراوس فإن فرويد ، مثل برجسون وليفي برول ، لابد أنه مثل ردة عن الإنجازات الإيجابية لعلم الاجتماع الدوركايمي ، وبصفة خاصة عن إصرار دوركايم على أن ميلاد الثقافة هو ميلاد العقل ، وإن إنجازات الثقافة تقود إلى فرض الذكاء على الغريزى . وبالنسبة إلى ليفي شتراوس لم تكن المهمة هي رفض هذا الإصرار ، وإنما فقط رفض مفهوم الثقافة باعتباره واقعاً خارجياً وقف فوق وضد الفرد وأن يبحث بدلاً مـن ذلك عن أساسه في عقل الفرد . هذا مغزى رفض ليفي شتراوس لفرويد ، ولعودته إلى روسو كما سوف نرى .
وفي الواقع يقدم ليفي شتراوس في البني الأولية تقويمه للأسس النفسية للتبادلية ليس من خلال إحالة مباشرة إلى فرويد ، ولكن بإحالة إلى علم نفس الطفل . وهو يجادل بأن عقل الطفل يقدم لنا استبصارا متفرداً للسمات الشاملة للعقل لأنه كان أقل تعرضاً للشرط الثقافي ، ولكن ليس ، كما يتبنى البعض ، بسبب أن عقل الطفل يتوافق مع مرحلة أكثر " بدائية " من التطور الذهني . ربما نخمن نظراً للإحالة إلى علم نفس الطفل أنه ربما كان لبياجية تأثير مبكر على ليفي شتراوس ، وبالفعل فإن ليفي شتراوس يناقش عمل بياجية في البني الأولية ، فقط ليستبعد فرضيته التطورية ، مجادلاً بأن " عقليات " مختلفة تعكس ظروفا مختلفة ، حتى أن كل فكر ، الراشد والطفل ، " المتحضر " و " البدائي " هو عقلى بصورة حاسمة . من ناحية أخرى ، في إطراء حديث توج ليفي شتراوس بياجيه باعتباره المفكر الذي أعطى الأولوية للنشاط الذهني وللوظائف الإداركية حين كان علم النفس على وجه الضبط في خطر أن يكون " مغموراً بالأفكار المشوشة في ظل هجوم (مزدوج بين) البرجسونية والفرويدية ( بالأحرى من المقلدين أكثر من المؤسسين ) . وهكذا فإن علم النفس والفلسفة أمكن أن ينتزعا نفسيهما مـن المستنقع العاطفي الذى بـدءا في الغرق فيه " ( 7) على أية حال لا يعترف ليفي شتراوس بتأثير مباشر على البني الأولية فيه ، وعلم نفس الطفل الذي يحيل إليه هو الخاص بسوزان إيزاكس . يقتبس ليفي شتراوس بحثاً لسوزان إيزاكس الذي يبين تطور مفاهيم التحكيم وسط الأطفال والصغار . يجد الأطفال أنفسهم في مواقف مخاصمة بسبب رغبتهم في امتلاك أشياء تخص الآخرين ، ويتسبب هذا في علاقة معاداة بين الذات والآخر التي يجب أن تحل إذا كان على المجتمع أن يوجد على الإطلاق . هذا العداء مبطن بحاجة نفسية للأمان . إن حاجتي للأمان تجعلني أريد الأشياء الثمينة لدى الآخرين ، في حالة إذا ما احتجتها لنفسي . هذه الحاجة للأمان يمكن ، على أية حال ، أن تشجع فقط من خلال التعاون ، الذي هو مؤسس كـتبادل . ان مؤسسة تبادل النساء هي بالفعل استجابة لوصية تايلور " تزوج في الخارج أو تقتل في الخارج " . يثبت الاتجاه إلى علم نفس الطفل ، بالنسبة إلى ليفي شتراوس الاعتقاد بأن التبادلية ليست شيئا مفروضا من المجتمع في استجابة للاحتياجات الاجتماعية ، ولكنها شئ ينبثق عفويا من " الضغوط النفسية – الاجتماعية للحياة الجمعية " إنه ، من ثم ، شئ يوجد سلفا في العقل قبل أن يتمأسس في المجتمع . ويستمر ليفي شتراوس ليعين " البني الأساسية للعقل " التي تثوى خلف التبادلية وهذه البني ، " الشاملة " ثلاث : " إن ضرورة القاعدة كـقاعدة ، فكرة التبادلية بوصفها الشكل الأكثر مباشرة لتكامل التعارض بين الذات والآخرين ، وفي النهاية ، الطبيعة التركيبية للهدية ، أى النقل المتفق عليه للأشياء الثمينة من فرد إلى آخر يحول هذين الفردين إلى شريكين ، ويضيف صفة جديدة للأشياء الثمينة المنقولة " (8) هذه هي البني الأساسية للعقل التي تجعل المجتمع ممكنا . يجب أن يكون من الممكن تصور ما الذى تتضمنه قاعدة . يجب أن تُرى التبادلية كاستجابة عفوية لتجربة التعارض بين الـذات والآخر . يجب أن يكون للعقل القدرة على منح الموضوع المتبادل مغزى أو دلالة . ويشتق هذا المغزى من حقيقة أن الموضوع بمثابة هدية تصادق على تحالف ، ومن ثم فهي رمز لهذا التحالف . وبعد ذلك بقليل ، يقدم ليفي شتراوس وصفاً أكثر " شكلية " لقدرات العقل : " تتحدد قدرة الإنسان على الانتقال من الطبيعة إلي الثقافة بأن يفكر في العلاقات البيولوجية كـأنظمة للتعارضات " ( 9 ) ويجادل سيمونس بأن هذه القدرة نفسها تفسر الثلاث السابقة ، بينما يعتبرها دافي قدرة إضافية . على أية حال ، فإنها بكل تأكيد قدرة متضمنة في " البني " الثلاث السابقة دون أن تكون بذاتها مفسرة لشيء . ( 10 ) . تتضمن القدرات المذكورة أن العقل يفعل أكثر من أن يفرض ببساطة علاقة ، لأن لهذه العلاقة طابعا نوعيا ، وقوة نوعية . إنها لا تربط فحسب ، وإنما تدمج الفرد في المجتمع من خلال إيماء رمزي . فاللاوعي ، تماماً مثل التبادلية ذاتها ، ليس من ثم ببساطة قدرة شكلية في هذه المرحلة من تطور فكر ليفي شتراوس ، إن له مكونا فعالا وهكذا فإن نظرية اللاوعي في البني الأولية ليست نظرية اللاوعي الشكلي الخالص ، التوافقى الذي أخذه ليفي شتراوس فيما بعد من اللسانيات البنيوية .
في الواقع فإن نظرية الأسس العقلية للتبادلية التي عرضت في البني الأولية ليست حقاً نظرية نفسية على الإطلاق . " البني " التي وصفت توا لا تشير مباشرة إلى خصائص العقل . إنها تصف قدرات ينبغي أن تكون للعقل أكثر من العقل بالأحرى الذي يمنحها هذه القدرات . ومن ثم فإن ما تصفه ليس العقل وإنما " مفهوم " التبادلية – قاعدة تؤثر في إدماج الأفراد في المجتمع بوسائل التعامل الرمزي . إن الممارسة التى إنهمك فيها ليفي شتراوس هى في هذه اللحظة منطقية أكثر منها نفسيه ، لأنه يعد الشروط المنطقية المسبقة لمفهومه عن التبادلية . وهكذا فإن دعامات التبادلية هي قبليات حقيقية . هذه " البني " ذاتها لا تقدم تفسيراً للتبادلية : ان هذه البني ذاتها ينبغي أن تفسر من قبل علم نفس واف . يبدو أن هناك قليلا من الشك فى أن النظرية التي آمن بها ليفي شتراوس بداية يمكن أن تقدم الأسس النفسية لنظرية التبادلية لم تكن تلك الخاصة باللسانيات البنيوية ، ولا الخاصة بيياجية ، وإنما تلك الخاصة بعلم نفس الجشطالت ، التي كانت تملك بالضبط المفهوم الغائي للبنية الذي تطلبه ، كانت المقاربة الجشطالتية متكيفة تماما مـع إهتمامات ليفي شتراوس . وكما لاحظ بياجيه : " يمثل الجشطالت النفسي نموذجا للبنية يروق لهؤلاء الذين ، سواء إعترفوا بذلك أم لا ، يبحثون بالفعل عن بنى ربما يظن أنها " نقية " غير ملوثة من قبل التاريخ أو التكوين ، بلا وظيفة ومنفصلة عن الذات " . ( 11 ) وفي مقدمة البني الأولية يستوعب الكتاب في الحركة الجشطالتية ، وقد أكد ليفي شتراوس فيما بعد جذور مفهومة عن البنية في الجشطالت ، كما أكد الأصول الجشطالتية المشتركة لكل من اللسانيات والأنثروبولوجيا ، والأخيرة بالإشارة إلى بنيدكت وكروبير بالإضافة إلى عمله الخاص . يشار ضمن الكتاب إلى أولوية العلاقات على الحدود كدرس من علم النفس ، وليس من اللسانيات ، ومفهوم البنية ذاته مشتق من علم نفس الجشطالت حين يؤكد ليفي شتراوس على اللاوعي ، ومن ثم فإن غائية مضادة للميتافيزيقا هي تحديداً ما أدخله علم نفس الجشطالت . (12) ان مفهوم البنية المعتمد هو جشطالتي أكثر منه لساني بطرق أكثرمغزى: والمبدأ المنظم ، مبدأ التبادلية ، جوهرى ، وليس شكلياً خالصاً ، أساس كل تزامني وظيفي الذي هو ذاته ذو أساس فسيولوجي . مهما يكن من أمر فإن العلاقة بين الشكل وأساسه الفسيولوجي ليست ( علاقة ) إختزالية ، وإنما علاقة تشاكل . المبدأ الوظيفي الذي يفسر البنية مبدأ التبادلية ، يفسر باعتباره نتاجا لمحاولة إستعادة التوازن وهو المبدأ المركزى للجشطالت . ان الأساس الجشطالتي للبني الأولية هو غاية في الأهمية ، لأنه يعطي هذا العمل انفتاحا مفقوداً مع الإدراك المتأخر . وهذا يعني بصفة خاصة أن البني الأولية قابل تماما للتفسيرات الظاهرياتية ، رغم بغض ليفي شتراوس المعلن للظاهرياتية . هذا التفتح، أو الالتباس ، كامن في علم نفس الجشطالت ، لأن المشكلة مع علم النفس هذا أن الجشطالت ذاته يبقي ظاهرة غامضة للغاية : من أين يأتي ، كيف يوجه ؟ من أجل تجنب نوع من الميتافيزيقيا الحيوية ( ظلال برجسون مرة أخرى ) يبدو أن علم نفس الجشطالت عليه في النهاية أن يقرر بين شكل من السلوكية يعبر فيه الجشطالت عن عمليات بيولوجية تدمج مواد الإحساس ، وشكل من الظاهرياتية يعبر فيه الجشطالت عن قصدية الذات المدركة . فسر ميرلوبونتي ( الذى شرح دقائق الظاهرياتية إلى ليفي شتراوس حين عاد الأخير إلى فرنسا في نهاية الحرب والذي بقي صديقاً وزميلاً ) وسيمون دى بوفوار كليهما البني الأولية ، بالمعنى الأخير ، وبالفعل فإن مناقشة ليفي شترواس نفسه لعمل ايزاكس بها ترديدات قوية للاصداء الظاهرياتية . وقد احتفلت سيمون دى بوفوار بالبني الأولية للقرابة باعتباره تحفة ذات نزعة إنسانية حين ظهر لأول مرة : " يفترض ليفي شتراوس … أن المؤسسات الإنسانية حافلة بالمعنى : ولكنه يبحث عن مفتاحها في إنسانيتها فقط ، وهو يتجنب أشباح الميتافيزيقا ، ولكنه لا يقبل رغم ذلك بأن هذا العالم يجب أن يكون مجرد إمكان ، فوضى ، عبث ، وسوف يكون سره أن يفكر في المعطي دون أن يسمح بتدخل فكر يمكن أن يكون غريباً عليه . وهكذا فهو يعيد إلينا صورة كون ليس في حاجة لأن يعكس السماوات حتى يكون كوناً إنسانياً … وتفكيره بشكل جلى جزء من التيار الإنساني العظيم الذي يعتبر أن الوجود الإنساني يحمل في داخله تبريره الخاص … وهذا الكتاب... بدا على الأغلب موفقاً فى مصالحته بين إنجلز وهيجل : لأن الإنسان يظهرفى الأصل لنا باعتباره مضادا للطبيعة ، وما يحققه تدخله هو الموقف العياني لمواجهة بين ذاتي و ذات أخرى والذي بدونه لا يمكن للأولى أن تحدد نفسها . لقد وجدته أيضا مؤثراً بتفرد اتفاق أوصاف معينة مع تلك التي طرحت من قبل الوجودية : حين يؤسس الوجود ذاته يؤسس في نفس الوقت قوانينه ، انه ليس محكوما بأية ضرورة داخلية ، ومع ذلك فهو يتفادى الإمكان بافتراض شروط إنبثاقة المتصاعد . ( 13 ) في كتاب الجنس الآخر، وعند تحليلها لوضع المرأة ، استعارت دى بوفوار نظرية ليفي شتراوس عن التبادلية وصاغتها بمفاهيم العداء الوجودي بين الذات والآخر . ومثال ميرلوبونتي بالأحرى أكثر تنويرا .فقد وضع ميرلوبونتي ، مثل الوجوديين وحتى ، ليفي شترواس بطريقته الخاصة ، مشكلة العلاقة بين الذات والآخر بإعتبارها ، مشكلة معنى واتصال . بالنسبة لميرلوبونتي مشكلة الذاتية المتبادلة هي مشكلة المعنى ، والمعنى هو ما يعطينا في النهاية مدخلاً إلى الآخر.فلا نستطيع أن نمسك بالمعنى دون مدخل إلى الآخر لأن جوهر المعنى هو أنه قصدي ، ومن ثم فإن إعادة تعيين معنى ما هي إعادة تعيين قصد ، قصد الشخص الذي قَصَدَ . كما طور ميرلوبونتي تحليله للمعنى والاتصال تحديداً من خلال نقد لعلم نفس الجشطالت . وقد أدان ميرلوبونتي علم نفس الجشطالت الفج بسبب شكليته . لقد أحل سلوكية المنبهات الأولية بسلوكية المنبهات المعقدة ، فبقى الجشطالت شيئا شكليا خالصا مفروضاعلى المضمون . وأعاد ميرلوبونتي من ثم تفسير الجشطالت بمفاهيم قصد الذات . يقر ميرلوبونتي تماما بالطبيعة اللاواعية للقانون الذي يحكم الأنظمة الرمزية ، وحتى إمكانية طبيعة العقل هي كذلك حتى أنها تفرض قيودا على هذا القانون وهكذا تقيد أشكال الاتصال التي يمكن أن توجد ولكن بالنسبة إلى ميرلوبونتي يستبعد الطابع القصدي للمعنى تماما إمكانية أن اللاوعي يمكن أن يعين معنى ، لأن المقاصد لا يمكن أن تكون لا واعية . لقد رفض ليفي شتراوس بصراحة تفسير ميرلوبونتي الظاهرياتى لعمله ، ولكن مثل هذا التفسير ممكن في جميع نقاطه نسبة إلى الالتباس المتضمن في البني الأولية ، التباسا مشتقا من أسسه الجشطالتية . والإحالة القصدية بالنسبة إلى ليفي شتراوس في تفسير البني غير كاف لأنه يريد أن يبرهن بأن التبادلية حاضرة حتى حين لا تكون متضمنة في قصد أو في وعي . بالنسبة إلى ليفي شتراوس الجشطالت ليس نتاجا للقصد ، ولكن للنشاط التركيبي للاوعي . لا يلجأ ليفي شتراوس على أية حال ، إلى السلوكية لأن الشكل الخاص للتركيب محدد ثقافياً ، بالرغم من أن المبدأ التركيبي شامل. لقد كانت المواجهة مع اللسانيات هي التي أعطت ليفي شتراوس هذا النموذج الخاص باللاوعي ومكنته من أن يذهب الى ما وراء إلتباسات الجشطالت . وهكذا ففي الطوطمية يتبني شكلا معدلا من نزعة تداعى المعانى التى فيها الكل بوضوح ليس انبثاقا ، كما هو الأمر بالنسبة لعلم نفس الجشطالت وعند ميرلوبونتي ، وإنما نتاج للنشاط العقلي : " الحال بالتأكيد أن واحدة من نتائج البنيوية الحديثة (وهى لم تعلن ، على أي حال ، بوضوح ) وجب أن تكون إنقاذ علم نفس تداعى المعانى من عدم الثقة الذي لحق به . ولمدرسة التداعى الجدارة الكبرى في رسم حدود هذا المنطق الأولى ، الذي يمثل أقل قاسم مشترك بين كل الفكر ، لم يكن فشله الوحيد أنه لم يدرك أنه كان منطقاً أصليا ، تعبيرا مباشرا عن بنية العقل ( وخلف العقل ، من المحتمل ، الدماغ ) وليس نتاجا حاصلا لفعل البيئة في وعي غير متبلور . وإنما … انه منطق التعارضات والتضايفات ، الإستبعادات والتضمينات ، التساوق والتنافر ، الذى يفسر قوانين التداعى ، وليس العكس . وكان على نزعة تداعية مجددة أن تُؤسس على نظام للعمليات لـن يخلو من تشابه مـع الجبر المنطقي . ( 14 )
جـ – التبادلية في أنظمة القرابة والزواج .
تتصل نظرية التبادلية بطريقتين مع تحليل أنظمة القرابة والزواج . يجادل ليفي شتراوس من ناحية ، بأن أنظمة القرابة والزواج تظهر في شمول مبدأ التبادلية . ومن ناحية أخرى ، يجادل ليفي شتراوس في متن البني الأولية ، بأن هذه الأنظمة الخاصة للقرابة والزواج يمكن أن تفسر بإعتبارها طرقا مختلفة لمأسسة المبدأ . واننا لمعنيون في هذا القسم بهذا الجدال الشمولي . ان العلاقة الإجتماعية الأساسية بالنسبة إلى ليفي شتراوس هي تبادل النساء ، ومن ثم فإن القرابة والزواج هي التى سوف تكشف الأساس اللاواعي للمجتمع . لماذا يمثل تبادل النساء العلاقة الإجتماعية الأساسية ؟ لماذا : " لا نغالي إذن ، ان قلنا أن الزواج الخارجي هو النموذج الأصلي لكل التظاهرات الأخرى المرتكزة على التبادلية " الذي يقدم القاعدة الجوهرية والثابتة مؤمنا وجود الجماعة كجماعة " . (15) إنـه بسبب أن المرأة دائما وفي كل مكان هي علامة وقيمة معا . يجرى تبادل الكلمات والسلع أيضا ، ولكن الكلمات فقدت صفتها في كونها قيما ، الذي يفترض أنها قـادت البشر أولاً ، للاتصال الواحد بالآخر ، بينما فقدت السلع صفتها كعلامة . للنساء قيمة اقتصادية ، وفي بعض المجتمعات هذا أمر هام ، ولكنها الرغبة الجنسية فيهن هي التي تجعلهن قادرات شموليا أن يخدمن اندماج المجتمع . ان تبادل النساء من ثم ، هو التبادل الوحيد الذي يمكن أن يعبر في كل المجتمع ، عن التزام مادي ورمزي بالمجتمع . يعبر الرجل حين إعطائه أختا أو ابنة للزواج عن التزامة الأساسي بالحياة في المجتمع . هذا الإلتزام هو دائما ، وعادة ، تبادل . لا يحتاج هذا التبادل إلى أن يمأسس كعلاقة يعترف بها بوضوح باعتبارها تبادلا للنساء . تتضمن قاعدة الزواج بالضرورة ، بغض النظر عن أن هذه القاعدة إيجابية أو سلبية أن بعض الأفراد يتنازلون عن حق في المرأة التي قدمت لهم في الزواج . والقاعدة ذاتها تمأسس التزاما من الآخرين أن يفعلوا نفس الشئ ، ومن ثم تكون النساء الآخريات متوفرات لهؤلاء الذين يتنازلون عن حقوقهم في المرأة المعنية التى هي ابنة ، أخت ، ومن ثم : " ربما لا يكون التبادل صريحا أو مباشرا ، ولكن حقيقة أنني أستطيع أن أحصل على زوجة هي ، في التحليل الأخير ، نتيجة حقيقة أن أخا أو أبا قد تنازل عنها "( 16 ) ليس التبادل " مباشرا أو صريحا " هذه البنية غالبا ماتكون مرئية حتى في أنظمة لم تكن قد تجسدت بشكل عيني " ( 17 ) ومن ثم فكل ما يقصد " بالتبادل " هو أن كل العلاقات الاجتماعية تبادلية بمعنى أن الإنسان سوف يتنازل عن شئ للمجتمع إذا قدم له المجتمع شيئا بالمقابل يجب أن يسم. مثل هذا " التبادل " كل العلاقات الإجتماعية إذا لم تكن ترى القاعدة باعتبارها تستمد قوتها من إحدى التقييدات الخارجية مثل العقل الجمعي . يشترك الأفراد في المجتمع بعفوية ، وليسوا مجبرين على أن يشاركوا لا أخلاقيا أو بالقوة . إن الاعتقاد الأخير هو ما يعطي علم إجتماع دوركايم بعده " الميتافيزيقي " الذي وجده ليفي شتراوس قابلا للاعتراض عليه بشدة ولكن اذا كان على الناس أن يرتبطوا بالمجتمع تلقائيا فلا بد أن يعرض عليهم شئ ما فى مقابل ما يتخلون عنه، وتأخذ العلاقات الإجتماعية شكل عقد وهو عند ليفي شتراوس عقد يبرمونه بحرية . ولكن بلا وعي وليس أمرا مفروضا من " مجتمع " فوق فردى . تجريبياً هو مدين إلى حد بعيد بهذا الاستبصار إلى موس ، وهو يمثل نظريا مجرد إعادة طرح لنظرية العقد الاجتماعي .وتكمن الأصالة في محاولة إيجاد العقد الاجتماعي لا في واقع اجتماعي Sui generis منقطع النظير ، ولا في الوعى الفردي ، وإنما في اللاوعي . نحن نلاحظ في مجتمعات عديدة أن الرجال يكونون سعداء بأن يتنازلوا عن النساء ، بالرغم من أن الزواج ليس معترفاً به بصراحة بإعتباره تبادلا . إذا لم يكن الرجال مدركين أن العلاقة تبادلية ، فعندئذ لنا أن نسأل لماذا هم مستعدون أن يتنازلوا عن نسائهم . ان إجابة ليفي شتراوس هي أنهم مستعدون للتنازل عن نسائهم لأنهم يعرفون " بلا وعي " منهم أن هذه العلاقة هي بمثابة تبادل . ومن ثم فإن كل علاقة اجتماعية تتضمن تضحية يجب أن تكون مبطنة بلاوعي ان لم تكن بوعي ، بمفهوم عن هذه العلاقة كعلاقة تبادل .
ماهو المضمون التجريبي لهذه الحجة ؟ لا يؤكد ليفي شتراوس أن العلاقات الاجتماعية يمكن تصورها بوعي كعلاقات تعاقدية ،وهو تأكيد يمكن أن يدحض تجريبياً دون صعوبة كبيرة ، ولكنها مدركة بلا وعي باعتبارها كذلك . ولكن كيف يمكن للأنثروبولوجي أن ينفذ إلى المعنى اللاواعي للعلاقات الاجتماعية ؟ كيف يمكن للأنثروبولوجي على أي نحو أن يكتشف أن المعنى الحقيقي للمؤسسات قيد المراجعة يمكن أن توجد في مبدأ التبادل بينما هذا المبدأ مغلق عليه في لاوعي المشاركين في هذه المؤسسات ؟ بالنسبة إلى فرويدى يكون ذلك من خلال التحليل الذي يُظهر ما كان في اللاوعي إلى الوعي حيث يمكن للمحلل النفسي أن يكتشف المضمون المختفي سابقاً للاوعي ويجد التشخيص الذى يؤكد عليه المريض . ولكن لا توجد بالنسبة إلى ليفي شتراوس مثل هذه العملية مـن التحليل ، وانه لمن المشكوك فيه أنه سوف يعزو أي مغزى لنتائج مثل هذه العملية . وهكذا فإن ليفي شتراوس لا يقدم لنا وسيلة للوصول للمعنى اللاواعي للعلاقات الاجتماعية التي يصفها . ليس هناك من طريقة لإيجاد إثبات إيجابي لفرضية ليفي شتراوس . مع ذلك ربما يكون من الممكن أن نقدم دعماً سلبياً للفرضية بإظهار أن العلاقات الاجتماعية يمكن تصورها باعتبارها تبادلية . لسوء الحظ فإن هذه دعوى صحيحة كتحصيل حاصل منطقي ، لأن مفهوم العلاقة الاجتماعية يتضمن وجود أكثر من طرف مرتبط . ومن ثم فإمكانية التبادل ، كما تفهم في نظرية ليفي شتراوس العامة ، هي سلفا متضمنة في مفهوم العلاقة الاجتماعية . ومن ثم فليس للنظرية مضمون تجريبي أيا كان : إذ يمكن تصور أى علاقة بإعتبارها تبادلية . وعلى ذلك لا يعاني ليفي شتراوس أية صعوبة في تحليل علاقات قوة غير متماثلة ، مؤسسة التعدد الزوجي وشن الحرب كتعبيرين عن العلاقة التبادلية .
حين ينظر إليه بهذه الطريقة يمكن أن نرى مغزى اللاوعي ، والتراجع داخل العقل ، بالنسبة لنظرية ليفي شتراوس ، ويمكننا أن نرى لماذا كان أساس نظريته ، في نظرية العقل ، آخر قطعة من الترتيب المتشابك التى تقع فى مكانها . انـه اللاوعي الذي يضمن أن أي علاقة اجتماعية يمكن أن تُرى كعلاقة تبادلية . ان " البني الأساسية للعقل " التي تثوي خلف التبادلية تنجز بدقة هذا : إنها تصف الشروط النفسية الضرورية لأي علاقة اجتماعية حتى يمكن ادراكها كعلاقة تبادلية وعلى ذلك فليس هناك علاقة اجتماعية قابلة للتصور لا يمكن تمثلها في فكرة التبادلية . وهكذا فبينما يمكن من ناحية تصور دعوى أن العلاقات الاجتماعية كتظاهرات لمبدأ التبادلية هي تحصيل حاصل خالص ، وأن دعوى أنه يمكن تصورها كذلك بلاوعي غير قابل للدحض بصورة جازمة ، أن نظرية ليفي شتراوس العامة عن التبادل مشدودة بين تحصيل حاصل خاو وبنفس القدر تأمل خاو . لقد ناقشت في الأقسام الأربعة الأخيرة نظرية ليفي شتراوس عن التبادلية كشرط لإمكان المجتمع . برهنت في القسم الأول أن حظر إتيان المحارم لا علاقة له بتنظيم الزواج ، ولم يتضمن بأي معنى دال ، ضرورة التبادل . برهنت في القسم الثاني أن أنظمة الزواج لا علاقة لها بتوزيع الموارد . برهنت في القسم الثالث أن ليفي شتراوس ليست لديه أي نظرية نفسية مؤسسة تحت تصرفه . وقد برهنت في هذا القسم أن نظرية التبادل ليس لها مضمون اجتماعي جوهري ، وإنها دعوى تأملية خالصة حول طبيعة اللاوعي ، دعوى لا تشتق من نظرية للعقل وإنما بالأحرى أخترعت من أجلها نظرية العقل باعتبارها سنداً ضرورياً . فالنظرية العامة للتبادلية ، مـن ثم ، فارغة ، ونظرية اللاوعي التي تثوى خلفها هي نظرية تأملية ميتافيزيقية خالصة ليس لها مضمون تجريبي . على أي حال ليست التبادلية موضوع نظرية عامة فقط بالنسبة إلى ليفي شتراوس . انها أيضا مفهوم ذو درجات . ومن ثم فإن ليفي شتراوس ، في متن البني الأولية ، يسعى إلى تأسيس أن هذه الأنظمة المختلفة للقرابة والزواج تمثل أشكالا مؤسساتية مختلفة من مبدأ التبادلية الذي يتوافق مع درجات مختلفة من " خداع " التبادلية . إذا كان لنظرية التبادلية أى مضمون تجريبي فإنها يجب أن تؤسس في دراسة أنظمة معينة ، وليس في النظرية العامة .
يظهر ليفي شتراوس في تحليل أنظمة القرابة وكأنه يبرهن بأن مـبدأ التبادل ليس مجرد مبدأ لاواعي ، ولكن أن له وجود موضوعي في المؤسسات الاجتماعية . يكمن المضمون الجوهري في النظرية في دعوى أن هذه الأنظمة هي موضوعيا أنظمة تبادل ، وليس فقط أنها يمكن أن تفسر ، بلاوعي من قبل المشاركين ، وبشكل واع من قبل المحلل ، باعتبارها أنظمة للتبادل : " ان مشكلة حظر إتيان المحارم هي تفسير للشكل الخاص للمؤسسة في كـل مجتمع خاص . المشكلة هي اكتشاف ما هي الأسباب العميقة وكلية الوجود التي يمكن الإعتداد بها لتنظيم العلاقات بين الجنسين في كل مجتمع وعصر " ( 18 ) وهكذا فإن ليفي شتراوس لا يسعى لتأسيس أن التبادل هو نتيجة ممكنة لهذه الأنظمة ، ولكنه سببها . ومن ثم فإن على ليفي شتراوس أن يظهر أن هذه الأنظمة التى يدرسها هي موضوعيا قابلة للإختزال إلى المبدأ البنيوي للتبادل . هذه هي المهمة التي يتولاها ليفي شتراوس بدراسته البني الأولية للقرابة . 2 – البني الأوليـة للقرابـة : أ – التصنيف الإجتماعي وتنظيم الزواج . يتألف متن البني الأوليـة من محاولة لاثبات أن التبادلية في الواقع تثوى خلف أنظمة القرابـة والزواج لتلك المجتمعات التى يمكن تشخيصها بما يدعوه ليفي شتراوس " بنية أولية للقرابة " . لقد وعد بمؤلف لا حق عن مجتمعات أخرى ، تلك التي " لها بني معقدة " ولكنه لم يظهر أبدا . ان الفكرة وراء التمييز بين بني أولية ومعقدة هو أن هذه المجتمعات مقسمة إلى تلك التي تنظم الزواج باعطاء تعليمات ايجابية حول من يتزوج بمن وتلك التي تنظم الزواج سلبا بمنع الزواج من فئات معينة من الأشخاص . المجتمعات الأولى هي ذات البني الأولية .
توجه قواعد الزواج المصاغة في شروط ايجابية الرجل الباحث عن زوجة إلى أن يأخذ زوجته من طبقة أو فئة معينة من النساء . وعلى ذلك فإن تقدير قاعدة الزواج لا يمكن أن ينفصل عن تقدير الأشكال التي تتبناها المجتمعات لتصنيف أعضائها في علاقة كل منهم بالآخر . وفي سياق البني الأولية هناك نوعان مختلفان من التصنيف وثيقا الصلة . يقسم النوع الأول من التصنيف المجتمع موضوعياً إلى عدد من الطبقات المختلفة ، وفي أشد الحالات بساطة إلى " بطنين " وأعضاء المجتمع ينتسبون إلى هاتين الطبقتين على أساس سلسلة النسب . يحدد نظام النسب الأمومي عضوية الطبقة من خلال خط الإنثى ، ويمكن للفرد ،على سبيل المثال ،أن ينتسب إلى طبقة أمه أو( أمها) في أشد ( أشكال ) مثل هذا النظام بساطة . وتحدد الطبقة في نظام ذى خط أبوى من خلال خط الذكر ، ينتسب الفرد في أبسط نظام في طبقة أبيه أو ( أبيها ). ويصبح الوضع أشد تعقيداً إذا اشتغل التصنيف وفق تقسيم " أفقي " وكذلك " عمودي " مميزاً اعضاء الطبقة وفقاً للجيل وكذلك بخط النسب . وفي نظام النسب الأبوي مع تعاقب الجيل ، سوف ينتسب الفرد الى طبقة أب الأب ، وفي نظام النسب الأمومي إلى طبقة أم الأم . مثل هذه الأنظمة معروفة بإعتبارها أنظمة القطاع . يمكن أن يستخدم مثل هذا النوع من التصنيف الموضوعي لتنظيم الزواج سلبياً ، بالإصرار على أن تكون الطبقات خارجية ( أي أن يؤخذ أطراف الزواج من خارج الطبقة ) أو إيجابيا ، بتعيين الطبقة التى يتزوج منها الفرد . على أية حال فإنه من المهم ادراك أن هذا النوع من التصنيف ليس بالضرورة مرتبطاً بتنظيم الزواج اما إيجابيا أو سلبياً . وانه من الهام ايضا للغاية أن نفهم أننا نتعامل مع نظام للتصنيف الاجتماعي وليس مع شكل للتنظيم الاجتماعـي . وهـكذا فليس لـ " الطبقات " بالضرورة وجود مادى ، يمكن لها أن تكون اسمية خالصة على وجه التمام :وفي مجتمعنا يشير اللقب إلى عضوية طبقة كل فرد في مجتمعنا ، وعضوية الطبقة محددة النسب ( الأبوي ) ان ابن السيد ديبوا هو ديبوا ، إبنة السيد سميث هي سميث .على أية حال الطبقات التى أشير إليها بأسماء ديبوا أو سميث ليس لها وجود مادى ولا تلعب دورا في تنظيم الزواج ، فهي إسمية خالصة .
الشكل الكلاسيكي لأنظمة الطبقة هي تلك الخاصة بالمجتمعات البدائية في إستراليا . بالرغم من أن هذه الأنظمة يمكن أن تستخدم لتنظيم الزواج ، فإنها ليست بالضرورة مستخدمة هكذا . من ثم فقد كانت هناك مناقشات هامة عن طبيعة هذه الأنظمة وعن علاقتها بتنظيم الزواج . وهناك وجهة نظر بأن هذه الأنظمة تفسر بالإحالة إلى مبادئ غير تلك التى تتعلق بالقرابة والزواج : البعض ، متبعين مثال دوركايم ، يجادلون بأن هذه الأنظمة لها هدف ، إحتفالي وديني بصفة أساسية ، ويجادل البعض الآخر بأن لها هدفا إقتصاديا في تأسيس الحقوق الإقليمية . في أي حالة منهما فإن أي رابطة لتنظيم الزواج هي سمة ثانوية للنظام . وجهة النظر الأخرى التي أقترحها ليفي شتراوس ، هي أن الوظيفة الجوهرية لهذه الأنظمة هي دورها في تنظيم الزواج . لا يعبر في مجتمعنا عن قواعد الزواج بمصطلحات تصنيف موضوعي ، ولكن بمصطلحات تصنيف متمركز حول فرد ، مصطلحات العلاقة أو " نظام القرابة " . يرتب هذا التصنيف أعضاء المجتمع في فئات طبقا لعلاقاتهم بفرد . وهكذا يعبر في مجتمعنا عن القاعدة السلبية للزواج بمنعنا من الزواج من فئات معينة من الأقارب . بنفس الطريقة ربما تعين مجتمعات ذات قاعدة إيجابية للزواج فئات معينة من الأقارب يجب التزوج منها ، عادة واحدا أو واحدة من " أبناء العم " . لا تعبر أنظمة القرابة عن علاقات بيولوجية ، إنها أنظمة للتصنيف الاجتماعي التي تختلف بشكل معتبر من مجتمع إلى آخر . في مجتمعنا على سبيل المثال ، تنطبق مصطلحات القرابة بشكل أولى على أقرب الأقارب الذى يمكن تتبع علاقة مباشرة معه . في كثير من المجتمعات ، على أية حال ، فإن نظام القرابة له تطبيق أوسع كثيرا ، إلى الحد الذي يكون فيه كل عضو في المجتمع معين بمصطلح أو آخر . لا يوجد هناك تمييز في مجتمعنا بين قريب أموى أو أبوى ، بينما مثل هذا التمييز أساس لمجتمعات أخرى . ليست هناك إشارة في مجتمعنا إلى العمر في تحديد مصطلحات القريب ، ولكن في مجتمعات أخرى العمر مبدأ أساسي في تصنيف القريب . يلعب نظام القرابة في مجتمعنا دوراً محدوداً في تنظيم الحياة الاجتماعية ، بينما في المجتمع غير الكتابي سوف يلعب نظام القرابة غالباً دوراً هاماً للغاية في تنظيم نطاق واسع من العلاقات الاجتماعية : اقتصادية ، سياسية ، دينية وكذلك شخصية . يقدم نظام القرابة " لغة يعبر فيها عن كل شبكة الحقوق والالتزامات " ( 19 ) وهكذا فإن دراسة أنظمة القرابة تلعب دوراً مركزياً في دراسة مثل هذه المجتمعات . بالنسبة إلى ليفي شتراوس ، ولكثير من الأنثروبولوجيين ذوى القناعات المختلفة ، فإن نظام القرابة هو الذي يقدم الإطار لكل نوع من النشاط الاجتماعي . هكذا ، فإن الجدال حول تفسير أنظمة القرابة ، الذي يظهر غالباً لغير الأخصائي باعتباره مناقشة مفهومة لقلة عن مؤسسات غريبة ، هو في الحقيقة جدال عن طبيعة المجتمع وعن التفسير السوسيولوجي . ان العلاقات الأساسية المستخدمة في إنشاء مصطلحات القرابة هي علاقات قرابة العصب والزواج . من المهم أن يكون غاية في الوضوح ، على أية حال ، أن هذه الآراء مجردة من أي مغزى بيولوجي ضروري حين تستخدم من قبل مصطلحات . ومن ثم فإن وجود علاقة نسب بين إنسانين لا تتضمن وجود علاقة بيولوجية ، ولا يتضمن وجود علاقة بيولوجية الإقرار بعلاقة نسب . في مصطلحات العلاقة في مجتمعنا الخاص فان العلاقات يمكن تتبعها نسبيا ، ومن ثم فان قريبا من خلال الزواج يكون كذلك فقط إذا كان يمكن تتبع العلاقة فرديا من خلال زواج .وقريب من خلال النسب إذا كان يمكن تتبع العلاقة فرديا من خلال النسب . وهكذا على سبيل المثال فان المصطلح " أخت " يطبق بصواب فقط على الأنثى المنحدرة من والـدي الفرد ومن نفس جيل الفرد ، رغم أنه يمكن أن يطبق ايضا ، بواسطة مدة دون تفرقة ،على كل الأعضاء الاناث من جيل فخذ الفرد دون وجود أى مصطلح خاص للأقارب ،الذين يمكن تتبعهم بالنسب . لاحظ أنه حتى في مجتمعنا تعنى مؤسسة التبنى أن النسب منفصل عن أساسه البيولوجي .
لايحدد أوليا تطبيق فئات القرابة في مجتمعات أخرى كثيرة بالاحالة إلى النسب . على سبيل المثال الفئة التي تتضمن " أختاً " نَسَبِيَة يمكن أن تطبق بدون تمييز على الأناث من أعضاء جيل الفرد بدون أن يكون هناك مصطلح خاص لأقارب نسبيين يمكن تتبعهم . لقد كان هناك جدال طويل حـول طبيعة المصطلحات " التصنيفيـة " وعلاقتها بمصطلحات " النسب " . وقد جادل البعض أن الأولي تتطور كإمتداد للأخيرة ، فالمصطلح " أخت " على سبيل المثال ، يمتد من التعيين النسبي ليغطي كل أعضاء أنثى مجموعة الأخت والجيل . ويعتمد هذا الجدال ، على أية حال ، على وجهة نظر للتصنيف النسبي باعتباره على نحو ما مميزا ، وهي وجهة نظر لا مبرر لها ، لأن التصنيف المؤسس على النسب ليس أكثر " طبيعية " من آخر " تصنيفي " . إن المبادئ التصنيفية التي استخدمتها أنظمة القرابة هي غالبا شديدة التعقيد . بالرغم من أن المبادئ الأساسية هي تلك التي تتعلق بالنسب والزواج فان معايير أخرى يمكن أيضا أن تستخدم مميزة الفئات الواحدة من الأخرى ، والأشد شهرة الجنس والجيل . أضف إلى ذلك تطبيق المصطلحات على أفراد معينين ربما يقدم أيضا معايير أكثر لا علاقة لها بالقرابة باعتبارها كذلك ، على سبيل المثال العمر ، محل الإقامة ، العضوية في المجموعات المشتركة ، العلاقات السياسية إلى آخره ، وحيث لا توجد معايير واضحة فالإلحاق بفئة معينة ربما يكون اعتباطيا ، مثل ، على سبيل المثال أن يصل أنثروبولوجي إلى مجتمع وعليه أن يدخل في تصنيف . وأخيراً ، كما أشرت فإن النظام مستعمل لمفصلة مجموعة واسعة من العلاقات الاجتماعية والرمزية : العلاقات الحقوقية ، الحقوق والواجبات ، العلاقات العاطفية ، علاقات الملكية ، الإقامة ، الزواج ، العلاقات الدينية إلى آخره . وحين يصل الأمر لتفسير أنظمة القرابة هناك تقسيم أساسي بين هؤلاء الذين يقترحون تفسيرات " سوسيولوجية " مصرين على أن أنظمة القرابة ينبغي أن تفسر باعتبارها وسائط مفصلة للعلاقات الاجتماعية التي تفسر هي نفسها بالإحالة إلى مبادئ اللاقرابة ، وهؤلاء الذين يقترحون تفسيرات "عقلية" مصرين على أن التصنيف يجب أن يفسر كإنشاء عقلى باستقلال عن ، وسابق على،الاستعمال الذي خصص من أجله .
بالنسبة لهؤلاء الذين يتخذون وجهة نظر سوسيولوجية فإن أنظمة القرابة اشتقاقية ، ما فوق بنيوية ، كما تقدم مبادئ القرابة الوسائط لتأسيس إطار تصنيفي ُيحـدَّد مضمونة بإستقلالية . وهكذا ، على سبيل المثال ، يفسر هومانس وشنيدر نظام القرابة كتطور امتدادي لنظام النسب حيث تعبرالفئات عن روابط عاطفية . يفسر كولت نظام القرابة كتعبير عن العلاقات الحقوقية . يفسر ليش ، في مقاربة أكثر شمولاً ، مصطلحات القرابة بإعتبارها تشير إلى فئات دالة سوسيولوجيا . وحاول الأنثروبولوجين الماركسيون تفسير نظام القرابة كتعبير عن علاقات الإنتاج ( 20 ) .
إن التفسيرات السوسيولوجية جميعا ، هي بطريقة أو بأخرى ، تفسيرات إختزالية حين تبرهن على أن أنظمة القرابة يمكن أن تفسر فقط كتعبير عن علاقات إجتماعية أخرى ، بغض النظر عما إذا كانت عاطفية ، سياسية ، إقتصادية ، أو تركيبا من كل هذه الثلاث .
تصر المقاربة " العقلية " على أن نظام القرابة سابق منطقيا على أي من علاقات اللاقرابة هذه لأنه يمكن الإفتراض بأن الأخيرة تحدد فقط بمصطلحات القرابة . ومن ثم على سبيل المثال ، فقد جرت البرهنة على ان فئات نظام القرابة المميزة لا يمكن أن تفسر كتعبيرات عن علاقات عاطفية مختلفة ، ما دام قد بُرهن على أن نظام القرابة هو الذي يقدم فقط التمييزات بين نوعين مختلفين من القرابة اللذين يضمران معها علاقات عاطفية مختلفة . وبنفس الطريقة فإن العلاقات السياسية ، والحقوقية والاقتصادية هي كلها منظمة في مصطلحات القرابة ، ومن ثم ، فهي مؤكدة ، لايمكن تصور أنها مستقلة عن أو سابقة على نظام القرابة . نظام القرابة هو لغة تقدم التمايزات الاجتماعية التي هي أساس كل التنظيم الاجتماعي . وهكذا فإن ( العلاقات ) العاطفية ، الاقتصادية والسياسية ، والحقوقية الأخرى ينبغي أن تعبر عن العلاقات المنفصلة بواسطة أنظمة القرابة ، وليس العكس .
يحاول ليفي شتراوس في البني الأولية أن يبين أن أنظمة القرابة هي مفترضات عقلية تخدم هدفاً سوسيولوجيا ، أي تنظيم الزواج . وهكذا فإن نظرية ليفي شتراوس عن التبادلية ، ومحاولته لأن يقيم علم الإجتماع على أساس عقلي قادته إلى نظرية عقلية مكينة لأنظمة القرابة التي تحدت جوهريا النظريات السوسيولوجية التي كانت مهيمنة حتى ذلك اليوم . ورغم أن ليفي شتراوس لم يكن أول من تبنى مقاربة عقلية لأنظمة القرابة ، وهو يعترف بكروبر وبواس كمصدري إلهام فإن البني الأولية للقرابة يميز بالفعل لحظة فاصلة باعتبارها التطوير المنهجي الأول للمقاربة بوصفه الإلهام لهؤلاء الذين طوروا المقاربة لاحقا . وفي التحليل الأخير إنها المواجهة بين المقاربتين العقلية والسوسيولوجية ، أكثر منها التفسيرات النوعية لأنظمة القرابة المعروضة ، هي الموضوعة الواضحة التي أثيرت من قبل البني الأولية ، لأن هذه هي الموضوعة التي تهم طبيعة التفسير السوسيولوجي وجوهر إمكانية علم الإجتماع .
وقد أصبحت هذه الموضوعات حديثاً فقط واضحة نسبياً ، مع تطور المقاربة العقلية ، من قبل نيدهام ودومون وهذا بسبب أن نظرية ليفي شتراوس الخاصة ، بالرغم من أنها عقلية ، فهي في نفس الوقت نظرية إختزالية في معاملة أنظمة القرابة وكأنها أدوات لتنظيم قواعد الزواج . وكانت نظرية ليفي شتراوس من ثم مُعرضة لتفسيرات سوسيولوجية ، الأكثر شهرة من قبل ليش . وحين أزال دومون ونيدهام هذا البُعد السوسيولوجي من النظرية العقلية فقط ، أصبح المغزى الواقعي لمقاربة ليفي شتراوس واضحاً . وسوف أؤجل من ثم مناقشة هذه المواجهة إلى الفصل التالي .
ب – البني الأولية :
تسعي نظرية ليفي شتراوس عن القرابة والزواج إلى أن تختزل أنظمة الطبقة ، وأنظمة القرابة وقواعد الزواج إلى مبدأ وظيفي مفرد ، مبدأ التبادلية وهو يهدف إلى تقديم نظرية عامة سوف تبين أن :
" قواعد الزواج ، واطلاق التسميات ، وأنظمة الحقوق والإلتزامات هي جوانب لا يمكن فصلها عن الواقع الواحد نفسه ، أي بنية النظام موضع البحث " . (21 )
يوظف مبدأ التبادلية ، وهو التعبير عن حاجة غير واعية للأمان ، في تشغيل قواعد الزواج ضمن أنظمة التصنيف . على ليفي شتراوس أن يبين من أجل تأسيس معقولية لنظريته ، في أقل القليل أن تنظيم الزواج ضمن مثل هذه الأنظمة يقود في الواقع لتبادل منهجي له بعض المغزى . على النقيض من ذلك ، إذا كان من الممكن إظهار أن التبادل ليس بصفة عامة نتيجة هذه الأنظمة ، فإن نظرية ليفي شتراوس في القرابة والزواج يمكن أن تعتبر ، في أفضل الأحوال ، غير قابلة للتصديق .
من أجل أن يؤسس تجريبيا أن مبدأ التبادل يمكن أن يقدم تفسيراً لأنظمة القرابة والزواج يتبني ليفي شتراوس مقاربة ذات مرحلتين . أولاً ، فهو يحدد ما يسميه " البني الأولية للقرابة " التي هي أنظمة مثالية – نموذجية بنيت استنباطيا باعتبارها طرقا مختلفة ممكنة لتطبيق مبدأ التبادلية مع قاعدة إيجابية للزواج . تكشف هذه الممارسة الاستنباطية أن هناك فقط عدداً محدوداً من الطرق لعمل هذا ، كل منها مرتبط مع قاعدة معينة للزواج معبر عنها في مصطلحات العلاقة .
ثانياً ، يسعى ليفي شتراوس لتبيان أن هذه المفترضات " المثالية – النموذجية " يمكن أن تستخدم لتفسير السمات البنيوية لأنظمة القرابة وقواعد الزواج التي تـوجد في الأدب الإثنوجرافي . تقويم نظرية القرابة والزواج من ثم يجعلنا نتساءل عما إذا كانت البني الأولية تعبر بالفعل عن مبدأ التبادلية ، من ناحية وعما إذا كانت البني الأولية يمكن أن تقدم تفسيراً مرضياً للأنظمة التي توجد في الأدب الإثنوجرافي ، من ناحية أخرى .
ان البني الأولية التي تلعب دورا مركزيا في دراسة ليفي شتراوس ، تستقي مباشرة من عالم الصينيات الدوركايمي مارسيل جرانيه ، الذي أعترف ليفي شتراوس بتأثيره تماما مؤخرا فقط . جرانيه يبدو أنه أستقي أفكاره من فان وودن ، الذي لم يناقش ليفي شتراوس مؤلفه .
لقد سعى جرانيه إلى أن يفسر بني اجتماعية صينية معينة باعتبارها أنظمة تبادل بين مجموعات مرتكزة على ملكية الأرض .لقد نظمت هذه المجموعات الاجتماعية في أنظمة طبقية قارنها جرانية بوضوح بأنظمة القطاعات الإسترالية التي أسس عليها ليفي شتراوس مناقشته للبني الأولية .
جادل جرانيه بأن المجموعات كانت ترتبط بواسطة نظام معقد للتبادل ، بما فيها تبادل النساء في الزواج ، وجادل بشكل أبعد ، وهنا تكمن أصالته ومصدر تأثيره على البني الأولية ، بأن أنظمة القرابة في هذه المجموعات قد عبرت أيضا عن نظام التبادل هذا بين المجموعات الاجتماعية ولكن من منظور تمركز الأنا . ثم جادل بأن قواعد الزواج داخل نظام القرابة ضمنت تبادل النساء بين المجموعات مالكة الأرض . ان البني الاجتماعية المختلفة التي عزلها جرانيه ، مركبا نظاما طبقيا ، ونظاما قرابيا وقاعدة للزواج كانت تحديدا البني التي تبناها ليفي شتراوس باعتبارها " البني الأولية للقرابة " .
لقد تبني ليفي شتراوس من جرانية المبادئ الأولية التي بني على أساسها تحليله الخاص ، ولكن رفض بحدة نزعة جرانية السوسيولوجية والتطورية . رتب جرانية أبنيته في تعاقب تطورى كان ، بالنسبة إلى ليفي شتراوس ، مرتكزا على حدوس سطحية ( 21 ) . أضف إلى ذلك أنه لم يفسر التبادل كتعبير عن المبدأ النفسي ولا أنظمة القرابة كتصنيفات مؤسسة من أجل أن تؤمن تبادلا . بل لقد جادل بالأحرى بأن التبادل مفروض إجتماعياً وأن أنظمة القرابة عكست البنية الاجتماعية لوحدات حيازة الأرض للمتزوجين خارجياً التي ارتبطت بواسطة نظام معقد من التبادلات .
إن تبادل النساء بالنسبة إلى جرانيه مظهر واحد فقط من هذه الأنظمة ، وتنظيم الزواج ليس سبب الأنظمة ، وإنما بالأحرى أثر ضروري للاحتفاظ بتماسك أنظمة التصنيف وخلقها ، اندماج المجموعات الاجتماعية الأساسية . وهكذا فإن تنظيم الزواج وأنظمة التصنيفات كانت بالنسبة إلى جرانيه ، تعبيرات ثانوية عن التنظيم الاجتماعي للمجموعات حائزة الأرض . ابتكر تنظيم الزواج حتى يحتفظ بالعلاقات بين الطبقات ، عند المستوى الموضوعي ، أو فئات القرابة ، عند المستوى الذاتي . وهكذا فقد رفض جرانية بوضوح أي تفسير عقلي لهذه الأنظمة . فإنه من غير المشروع " أن يحول وضع ترتيب معين للمجتمع إلى نظام منطقي " . (22 )
بالرغم من رفضه تفسير جرانيه ، فإن ليفي شتراوس قد فعل ذلك ببساطة من خلال قلب تحليل جرانيه ، مفسراً أنظمة جرانية بمؤثراتها ، معمما النظرية على كل أنظمة التصنيف الإجتماعي . لقد كانت حلول جرانيه بالنسبة إلى ليفي شتراوس معقدة بغير ضرورة ، لأن جرانية سعى لأن يفسر الظاهرة العامة لتنظيم الزواج بإعتبارها تبادلا بالرجوع إلى تنويعة من مختلف الأصول . على النقيض من ذلك ، عنيت شمولية تنظيم الزواج بالنسبة إلى ليفي شتراوس ، أن القواعد موضع البحث " يجب أن تمتلك سراً ما ووظيفة عامة " ( 23 ) وهذه الوظيفة توجد في أثرها ، التبادل .
ينبغي أن نتساءل إن كان قلب حل جرانية ممكنا ، وإن كان التعميم مشروعاً هل يمكن لكل أنظمة القرابة والزواج أن تختزل إلى مبدأ التبادلية ؟
جـ – أنظمة القرابة والزواج :
يتضمن متن البني الأولية مسحا شاملا ، وأحيانا مختالا ، للسجل الإثنوجرافي من أجل محاولة تأسيس الأطروحة الأساسية بأن أنظمة الطبقات ، وأنظمة القرابة وقواعد الزواج يمكن أن تختزل كلها إلى تعبيرات عن المبدأ اللاواعي للتبادلية . المناقشة غاية في التفصيل وغالبا فنية والموضوعات المطروحة قد جرى توضيحها تدريجياً فقط خلال العقود الثلاثة منذ أن نشر الكتاب لأول مرة . على أية حال فإن نتائج الجدالات واضحة وعلى الأغلب متفق عليها في النقطة الجوهرية : ليست هناك أي علاقة ضرورية بين شكل نظام القرابة ، أو شكل التصنيف الموضوعي ، أو القواعد الإيجابية أو السلبية للزواج الحالية السائدة في المجتمع ولا في ممارسة أو تمثل الزواج . وتواجه محاولة تعميم تحليل جرانيه للزواج كتبادل صعوبة أنه لا يوجد أي معنى غير مبتذل يكون فيه الزواج بصفة عامة إما ممارسا أو ممثلا كتبادل .
تنشأ الصعوبات لنظرية ليفي شتراوس في عدد من المستويات . أولاً ، القرابة وأنظمة الطبقات هي أشكال تصنيف ليس لها بالضرورة أية تضايفات سوسيولوجية مباشرة . وهكذا فليس الحال كذلك بصفة عامة أن هذه الأنظمة تنظم العلاقات بين المجموعات الاجتماعية . يميل ليفي شتراوس مرارا إلى أن يخلط التنظيم الاجتماعي مع التصنيف العقلي حين لا يرتبط الاثنان بالضرورة . ليس هناك من ثم تبرير بالنسبة إلى ليفي شتراوس في " الاعتقاد الأولي بأن نظريته كانت معنية بالتفسير السوسيولوجي للتبادل الواقعي بين المجموعات المشتركة ". والأنظمة العقلية التى يفحصها ، حتى إذا أمكن القول أنها تعبير عن التبادل على مستوى نموذج النظام ، لا تولد بالضرورة علاقات تبادل واقعية كهذه ، وبالفعل ربما تمنع تأسيس مثل هذه التبادلات . وهذه الصعوبة قادت ليفي شتراوس لاحقا لأن يصر على أنه لم يكن أبدا معنيا بواقعة الزواج وإنما فقط بــ " نموذج " النظام .
ثانياً ، حتى في مستوى نموذج النظام الـذي صيغ بمصطلحات مجردة بإعتباره " البنية الأولية " النموذجية – المثالية ليس هناك إفتراض أن النظام ينبغي أن يولد تبادلا بأي معنى غير مبتذل . يصوغ ليفي شتراوس نفسه البني الأولية بطريقة أن التبادل سوف يحدث ، ولكن هذه الصيغة بلا مبرر .
صيغت بصفة خاصة " البنية الأولية للتبادل المعمم " من قبل ليفي شتراوس باعتباره الزواج في دائرة : فئة أ تتزوج داخل فئة ب التي تتزوج داخل فئة ج التي تتزوج داخل فئة أ . حين تكون هناك ثلاث فئات فقط فإن النظام ، المرتكز على مبدأ أن زوجة ينبغي أن تؤخذ من فئة غير الفئة التي تعطى الزوجة ، لها بالفعل مثل هذه التضمينات الدائرية مادام ب لايستطيع أن يتزوج داخل أ ولا ج داخل ب ولا أ داخل ج . كيفما كان الأمر بمجرد أن تكون هناك أكثر من ثلاث فئات فليست هذه هي الحال بصفة عامة . وهكذا لا يتضمن نموذج النظام تبادلا دائريا ، ولا تعترف أو تميز التمثيلات المحلية للنظام بالضرورة بمثل هذا التبادل ، ولا تنتج الممارسة المحلية بالضرورة مثل هذه الدوائر . وبالفعل إذا كان للنظام سمة بنيوية محددة فإنها أن تحظر بصفة خاصة التبادل المباشر للنساء .
لقد كانت استجابة ليفي شتراوس على هذه الصعوبات هي أن يجادل ، أولاً ، أنه ليس مهتما بإن كان الزواج يأخذ بالفعل شكل التبادل أو لا مادام أنه معني بالتبادل كواقع نفسي ، ورمزي . وهكذا فإن المرأة لا تحوز دلاتها الرمزية ، ولا الزواج قيمته الرمزية ، بفضل نتائجه ، وإنما بفضل " النموذج " العقلي الذي يعبر عنه ، نموذج هو ، إضافة إلى ذلك ليس تمثيلا واعيا ، مادام " التبادل المعمم " لا يمثل عادة بوعي باعتباره كذلك . وعلى ذلك فإن نظرية ليفي شتراوس معنية بالنماذج اللاواعية للنظام . وهكذا فإنه يختزل إلى ما هو غير قابل للدحض ، ومن ثم دعوى فارغة بأنه حتى حين لا يكون النظام في الممارسة نظاما للتبادل ، وحتى حين لا يمثل بشكل واعى كتبادل ، وحتى إذا لم يكن التبادل متضمنا فيه ، فإنه مازال يدرك بشكل لاواع باعتباره نظاما للتبادل .
ليس هناك جدال في أنه سوف يكون من الممكن استخدام " البني الأولية " لليفي شتراوس حتى تلك التي تتعلق بــ " التبادل المعمم " لإنتاج الزواج بالتبادل ، ولكن بأشد المعاني إبتذالا فقط فإن التبادل متضمن في هذه البني . من ثم إدعاء أن البني الأولية نماذج لا واعية لأنظمة التبادل هو تكرار الدعوى المبتذلة التي رأينا آنفا أن النظرية العامة للتبادل تختزل إليها .
و ينشأ نوع ثالث من الصعوبة بمجرد أن نذهب وراء النماذج لفحص المعطيات الإثنوجرافية . إن " البني الأولية " لليفي شتراوس هي كما رأينا ، نماذج مثالية – نموذجية فيها نظام القرابة ، نظام الطبقة وقاعدة الزواج تتوافق بتلك الطريقة لتنظيم الزواج . في الممارسة على أية حال ، فإن مثل هذا التوافق لأنظمة الطبقة ، ولأنظمة القرابة وقواعد الزواج هو إستثناء أكثر منه القاعدة .
لقد أعترف منذ وقت طويل في حالة أنظمة الطبقة بأن هذه الأنظمة لا تخدم بصفة عامة في تنظيم الزواج ولا تتوافق بالضرورة مع تنظيم الزواج . ولذلك فإن دارسي هذه الأنظمة قد رفضوا باتساق محاولات تفسير مثل هذه بصفة عامة باعتبارها أنظمة زواج طبقة ، وبدلاً من ذلك فسروها باعتبارها احتفالية أو كمؤسسات حقوقية . لا تتطابق في حالة أنظمة القرابة أيضا قواعد الزواج بالضرورة مع مصطلحات العلاقة .وترتبط في الممارسة قواعد مختلفة للزواج تماما مع أنظمة قرابة متطابقة شكليا ، وغالبا ما يرتبط عدد من قواعد الزواج مع نظام قرابة مفرد . فما دامت قاعدة الزواج تمنع الناس الموصوفين بأنهم " إخوة " من الزواج الواحد من الآخر ، فإنها لن تخل بالتصنيف . إذا كان الناس الذين وصفوا بأنهم " إخوة " قد سمح لهم بأن يتزوجوا فإن الشذوذ يمكن أن ينشأ ولكن حتى عندئذ فهي لا تخل بوجود نظام القرابة . وأخيراً فإن كثيرا من قواعد الزواج التي فحصها ليفي شترواس ليست أكثر من تفضيلات مبهمة بالنسبة إلى الزواج مع فئات معينة من الأقرباء غالبا ما تنتهك بقدرما تراعى.
يقدم ليفي شتراوس لتفادى الافتقار للتطابق بين تنظيم الزواج ، وأنظمة القرابة وأنظمة الطبقة عددا من الوسائل التي تحرم في النهاية نظريته من أي مضمون تجريبي . في حالة أنظمة الطبقة يفسر ليفي شتراوس اختلافها عن تنظيم الزواج على أشد الأسس التطورية خلوا من المبرر : لابد أن الأنظمة قد توافقت ذات مرة حتى وإن لم يكن الأمر كذلك الآن ، إذ يفسر الاختلاف بالإشارة إلى حقيقة أن المجتمعات موضع البحث قـد غيرت نظام قطاعاتها لسبب أو لآخر . يفسر ليفي شتراوس في أوقات أخرى الاختلاف بالإشارة إلى افتقار السكان المحليين للتآلف مع نظريته ، مجادلا بأنهم " مفتقرين لإدراك " التضمينات البنيوية لقواعد زواجهم حتى أنهم يمأسسون الزواج خطأ . ( 24 )
يهجر ليفي شتراوس في حالة الإختلاف بين نظام القرابة وقواعد الزواج أي إدعاء بربط نظريته بالسجل الإثنوجرافي . حيث لا تتوافق قواعد الزواج مع نظام القرابة القائم يجادل ليفي شتراوس ببساطة أنه يعبر عن الإدراك اللاواعي للإمكانات الكامنة في القاعدة إذا كانت مرتبطة بنظام آخر . يوفق بهذه الطريقة كل ضروب الشذوذ مع نظريته : دور الخال الأمومي في الأنظمة الأمومية وخاصة تلك التي تتعلق بالأنظمة الأسيوية .
يتناول ليفي شتراوس جوانب الشذوذ في الأنظمة الأسيوية بثلاث طرق . أولاً ، من خلال الحيلة المنهجية لــ " النموذج المختزل " الذي يتضمن فقط الحدود المركزية للمصطلحات من أجل تبسيط مهمة التفسير . ثانياً ، يفسر ليفي شتراوس بعض جوانب الشذوذ المتبقية بمصطلحات إنتشارية – تطورية باعتبارها " آثار وبقايا نظامين تعايشا " ( 25 ) . ثالثاً ، يحيل إلى اللاوعي ليفسر الأنظمة باعتبارها نتيجة لتعايش أكثر من بنية أولية ،لا البني الأولية المـوجودة في العقل اللاواعي . ( 26 )
كتب ليفي شتراوس في مقدمة الطبعة الثانية من البني الأولية للقرابة " هل هناك من حاجة للتأكيد على أن هذا الكتاب معني على وجه الحصر بالنماذج ، وليس بالوقائع التجريبية " . إعطاء اهتمام ليفي شترواس المغزى النفسي الرمزي هذا الانشغال بالنموذج سوف لا يكون غير إستثنائى بالمرة إذا كان ما أشار إليه هو النماذج المحلية . على أية حال يشير ليفي شتراوس للنماذج المحلية فقط حين يتصادف أنها تتوافق مع نظريته . وحين لا تتوافق المؤسسات المحلية مع نظريته فإنه يحول فورا موضع الإشارة إلى نموذج لاواع مفترض قابل للوصول إليه فقط من قبل ليفي شتراوس الذي يكشف أن الأنظمة التي لا تقوم في الواقع ولا في أنظمة التمثيلات المحلية لتبادل الزواج هي رغم ذلك تعبيرات عن الإدراك اللاواعي لمبدأ التبادلية . هذه الإحالة إلى ما وراء أي إشارة إثنوجرافية إلى لاوعي غير قابل للوصول إليه تُجرد أخيراً نظرية القرابة ، مثل نظرية التبادل التي ارتكزت عليها ، من أي مضمون تجريبي على الإطلاق . مادام أي نظام قرابة متصور ، نظام طبقة وقاعدة زواج يمكن أن يوفق مع نظرية ليفي شتراوس بواسطة الحيل التي يستفيد منها ، فليس للنظرية قيمة تفسيرية ، الحاجة المفترضة لتأمين التبادل اصبحت حاجة لاواعية عميقة يمكن تلبيتها بلاوعي داخل أي إطار مؤسساتي أيا ما كان .
برغم أن محاولة تفسير أنظمة القرابة بالإحالة إلي دورها المفترض في تنظيم الزواج كتبادل ينبغي أن تعتبر فشلا مدويا فإن هذا لا يحسم شأن المظاهر الأكثر جوهرية لمقاربة ليفي شتراوس التي نوقشت سابقا. وبالرغم من فشله ، فإن البني الأولية قد شرع لتدمير النظريات الاختزالية للتصنيف الاجتماعي . جادل ليفي شتراوس في البني الأولية بأن أنظمة التصنيف لا يمكن أن تفسر بمفهوم الإدراك الذاتي للأنظمة المعبر عنها في تمثيلات واعية أو بمفهوم واقع ما يفترض أنه الأكثر جوهرية . بغض النظر عما إذا كان اقتصاديا ، سياسيا أو عاطفيا ، وانما يمكن فقط أن يفسر بمفهوم نفس خصائصها المحايثـة . بصفة اعم إنها هـذه المحاولـة لإظهار ، ، أن المـعنى " الحقيقي " أو " الموضوعي " للأنظمة الأيديولوجية كامن في هذه الأنظمة ولا يمكن أن يوجد وراءها هو السمة المميزة للبنيوية . حقيقة أن ليفي شتراوس لم يكتشف المعنى المحايث لأنظمة القرابة التي استكشفها لا تستبعد المشروع من التناول . سوف نرى في الفصل التالي كيف جرى تبنى هذا المشروع من قبل أتباع ليفي شتراوس .
#سعيد_العليمى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الماركسية وأنثروبولوجيا المدارات الحزينة - تأليف سايمون كلار
...
-
الماركسية وأنثروبولوجيا المدارات الحزينة - تأليف سايمون كلار
...
-
الماركسية وأنثروبولوجيا المدارات الحزينة - تأليف سايمون كلار
...
-
سلطة الشعب أو - ثورة إدسا - بين التوظيف الليبرالى ومرض الشيخ
...
-
الواقع السياسى بين النص القانونى والصراع الطبقى
-
السياسة والمضمون الطبقى
-
أزمة الثورة ومأزقها
-
حزب العمال الشيوعى المصرى - إنتفاضة يناير ( كانون الثانى ) 1
...
-
الماركسية والتفكيكية : الغرب ضد الآخر - بعض الأفكار حول كتاب
...
-
من كتابات حزب العمال الشيوعى المصرى - ممهدات وحدود حرب اكتوب
...
-
من كتابات حزب العمال الشيوعى المصرى -- ممهدات وحدود حرب أكتو
...
-
من كتابات حزب العمال الشيوعى المصرى 1972 -- 1973 - القسم الث
...
-
من كتابات حزب العمال الشيوعى المصرى 1971 -- 1973 القسم الأول
-
الوثائق التاريخية الأساسية لحزب العمال الشيوعى المصرى - القس
...
-
الوثائق التاريخية الأساسية لحزب العمال الشيوعى المصرى -- الق
...
-
الانطولوجيا السياسية عند مارتن هيدجر - بيير بورديو -- الحواش
...
-
الانطولوجيا السياسية عند مارتن هيدجر - بيير بورديو - الفصل ا
...
-
الأنطولوجيا السياسية عند مارتن هيدجر - بيير بورديو - الفصل ا
...
-
الأنطولوجيا السياسية عند مارتن هيدجر - بيير بورديو - الفصل ا
...
-
الأنطولوجيا السياسية عند مارتن هيدجر -- بيير بورديو -- الفصل
...
المزيد.....
-
الأمن الأردني يعلن مقتل مطلق النار في منطقة الرابية بعمان
-
ارتفاع ضحايا الغارات الإسرائيلية على لبنان وإطلاق مسيّرة بات
...
-
إغلاق الطرق المؤدية للسفارة الإسرائيلية بعمّان بعد إطلاق نار
...
-
قمة المناخ -كوب29-.. اتفاق بـ 300 مليار دولار وسط انتقادات
-
دوي طلقات قرب سفارة إسرائيل في عمان.. والأمن الأردني يطوق مح
...
-
كوب 29.. التوصل إلى اتفاق بقيمة 300 مليار دولار لمواجهة تداع
...
-
-كوب 29-.. تخصيص 300 مليار دولار سنويا للدول الفقيرة لمواجهة
...
-
مدفيديف: لم نخطط لزيادة طويلة الأجل في الإنفاق العسكري في ظل
...
-
القوات الروسية تشن هجوما على بلدة رازدولنوي في جمهورية دونيت
...
-
الخارجية: روسيا لن تضع عراقيل أمام حذف -طالبان- من قائمة الت
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|