|
جوني منصور مؤرخ حيفا
سميح مسعود
الحوار المتمدن-العدد: 4063 - 2013 / 4 / 15 - 15:01
المحور:
الادب والفن
جوني منصور مؤرخ أكاديمي يعيش ويعمل في مدينة حيفا ، جذبه سحر مدينته ، فاهتم بها وأعطاها بحماس زائد عصارة أبحاثه وعلمه وكل لحظة من حياته ، كل كتاباته هي تعبير عن حبه لها ، تتسع في تكاثرها وتناثرها بأنساق كثيرة مشفوعة بحس وطني عالٍ حول الأرض و النكبة وغربة أهل حيفا في منافي الشتات البعيدة .
حدثني عنه صديقي الروائي جريس طنوس من عكا ، عَرفه لي بكونه من أهم عشاق حيفا ، يعيش الحياة فيها بأحاسيسه ويتذوق الوجود في أعالي كرملها بمشاعره ، وتدفع به الحياة إلى آفاق عديدة مزدحمة بالمشاغل والافكار الخاصة بها .
وحدثني عنه أيضاً صديقي الكاتب د. سميح غنادري من الناصرة ، أكد لي أنه مؤرخ لامع بين مجايليه ، ومتفرد بينهم بعمقٍ قل نظيره في مجال ارتباطه بحيفا ، فهي محفورة في فكره ووجدانه ، تضم أعماله عنها سلسلة كتب ومقالات كثيرة أصدرها خلال السنوات الماضية وفق رؤى توثيقية وتاريخية تعتبر في مجملها علامة بارزة في استنطاق مخزون تاريخ حيفا الماضي والمعاصر .
تواصلت معه قبل فترة وجيزة عبر البريد الإلكتروني ، ومن ثم التقيت به مؤخرا في عمان ، زارها لإلقاء محاضرة عن حيفا في ثلاثة عهود : العثماني والإنتدابي والحالي ، استمعتُ لمحاضرته ، شدّ اهتمام جمهور غفيرمن الحاضرين بما قاله عن التاريخ الحيفاوي في مسار زمني طويل يمتد على مر عقود طويلة حول نشوء حيفا ونموها ونهضتها وسقوطها وبدء نكبتها وتشرد أهلها في المنافي خارج فلسطين .
استخلصتُ من محاضرته أن حيفا تتجلى في مشاعره وأحاسيسه الذاتية ، يحملها في قلبه وعينيه ... يطوفُ بها في واقعه وتخيلاته ، يتبدى ذلك من بنى دلالية كثيرة سمعتها في سياق حديثه بلغة رهيفة وانضباط فكري لا تشوبه شائبة ، ظهر فيها أنه وصَل حد التوحد بكل لحظات ماضي حيفا في السنوات القليلة التي سبقت النكبة ، استجلب فيها أحداثاً ماساوية حدثت يوم سقوط حيفا ، قدمها داخل نسيج تصويري محكم البناء ، هي الأكثر إيلاماً من أي قهر عانى منه أي شعب أخر ذاق العذاب على يد أعدائه .
حصلت منه على عدد من كتبه ، قرأتها ووجدتها مليئة بمشاهد ومناظر بصرية لها أثرها في رفد الذاكرة الجمعية بما يلزمها من صور قديمة تتصل بالمكان – حيفا ، تجسد أبنيتها وشوارعها وظروف أهلها وحالتهم الإجتماعية ، تُلهب النفوس بما تنطوي عليه من معلومات تعريفية هامة لحيفا لا تعرفها الأجيال الحالية ، تتسع في إبرازملامح ومعالم كثيرة ومتنوعة عن حيفا بموروثها الوطني الثقافي والعمراني والاقتصادي والاجتماعي والمكاني ، وعن تفردها بمزايا وسمات جعلت منها متفوقة عن غيرها من مدن الجوار العربية .
من الكتب التي قرأتها ، كتاب بعنوان " مسارات حيفا العربية ، مسارات العودة والحنين إلى التاريخ " ، يضم بين دفتيه معلومات تاريخية وجغرافية وثقافية وعمرانية وبشرية بارزة عن حيفا ، استعرض فيها جوني منصور مضامين خفايا من سيرة أحياء مدينته بتلاوين خطاب سردي جذاب ، بكل ما فيها من معالم مادية ساهمت في تشكيل واقع حياة المجتمع الحيفاوي على مختلف شرائحه واتجاهاته .
وهذا الكتاب رغم صغره يعتبره مؤلفه " خطوة أولى وأساسية ضمن مشروع ثقافي وحضاري هام لبناء هوية وطنية " موضحاُ ذلك بافكار مشفوعة بوعي كامل لدور المكان والذاكرة الجماعية في تشكيل الهوية والانتماء ، فيهما يعيش الانسان ازدواجية التداخل ما بين التحامه بالأرض - المكان من جهة ، وبين ارتباطه بجذوره التاريخية من جهة أخرى .
ويؤكد المؤلف في هذا الشأن حسب ما جاء في مقدمة كتابه على أن " المكان والذاكرة قوام الهوية والإنتماء ، فالمكان ليس الموقع الجغرافي المُحدد أو البيت أو المزرعة أو الشارع فحسب ، إنما هو ما يحمله من ذاكرة تاريخية وحضارية ومشاهد حياتية . " المكان " يحمل في الآن نفسه دلالات تُلقي بظلالهاعلى اللحظة الحاضرة وتزيدها توهجاُ ... يتحول إلى مخزون من الذاكرة والتاريخ والإنتماء "
ويتأكد بذلك الاستنتاج الذي توصل إليه جوني منصور بقوله " إن حيفا "مكان " جميل ، مكانٌ يحمل تاريخ أبنائه العرب الذين بنوه بعرقهم وطوروه بجهودهم إلى أن غدا مركزياً وأساسياً في حياتهم وصيرورتهم الحضارية ، و " حيفا " رغم نكبتها في العام 1948 تبقى ذاكرة وواقعاً وتطلعات مستقبلية ، فكل حجر وكل بناية وزقاق في حيفا هو هوية للعرب الفلسطينيين أبناء حيفا ."
يشتمل الكتاب على صور كثيرة قديمة وحديثة ، ومعلومات متنوعة عن الحارات والبيوت والشوارع والشخصيات البارزة في خمسة أحياء من أحياء حيفا ، هي : حي وادي النسناس والكبابير ووادي السياح والحليصة ووادي روشميا وحيفا القديمة ومحطة الكرمل والحي الألماني .
قرأت الكتاب وتجولت عبر صفحاته في أحياء حيفا ، سرت فيها متنقلاُ في دواخلها ، وتداخلت معلومات الكتاب عنها مع معلومات منقوشة في ذاكرتي بوعي وطني غير قابلة للتغيير والتبديل ، أحملها معي منذ ايام طفولتي الباكرة ، مشكلة في جدلية بنية ثنائية عن الذات والاخر في حوزة حيفا – المكان بصورتها الوجودية العميقة ودلالاتها الحضارية . ومن هذا الكتاب انتقلت لقراءة كتاب أخر لجوني منصور ، عنوانه : " شوارع حيفا العربية " ، يتصدره إهداء إلى " أبناء حيفا في الوطن والشتات والذين تربطهم بمدينتهم روابط المحبة ... إلى أبناء عروس الكرمل المنغرسين فيه بأجسادهم وأرواحهم على أرض الوطن وفي الشتات على أمل الإلتقاء في ربوعها ."
أراد المؤلف في هذا الكتاب توثيق شوارع حيفا بأسمائها العربية و بكل خصائصها وصورها كما كانت عليه قبل النكبة ، واعتمد في معلوماته على الوثائق القديمة المحفوظة في أرشيف البلدية ، وعلى معلومات شفوية استقاها من كبار السن من أهل حيفا .
وهذا الكتاب على جانب كبير من الأهمية ، لأنه يركز على تدوين جانب من الحقائق والشواهد التاريخية والحضارية العربية التي سادت في مدينة حيفا قبل النكبة ، حتى لا تُنسى وتبقى منقوشة في الذاكرة الجمعية كمكونات أساسية ملتحمة بالمكان ، قابلة للصمود في وجه التغيرات المتواصلة التي يقوم بها المحتل لإلغاء الوجه العربي لمدينة حيفا . يشتمل الكتاب على شوارع حيفا بعدة تصنيفات : حسب الأبجدية العربية ، وحسب المناطق والمواقع ، وحسب المواضيع ( رجال فكر وادباء وشعراء وأسماء عائلات ومواقع تاريخية وجغرافية ) ، وحسب التغيرات الحاصلة عليها ( الغائها أو تغيير أسمائها واستبدالها باسماء عبرية ) إضافة إلى دليل يشتمل على نبذة تعريفية بأسماء شوارع حيفا ، وقائمة باسماء مناطق واحياء واودية وتلال تقع في حيفا وجوارها .
ويلاحظ من هذا الكتاب أن حيفا قد أفردت فيما مضى فوق خارطة شوارعها مكانة خاصة للمدن الاردنية ، فهناك خمسة شوارع رئيسية تسمى باسم : عّمان ، عجلون ، العقبة ، إربد ، السلط ، وشارع أيضاً باسم الأردن ، مقارنة بأربعة شوارع فقط تحمل أسماء اربع مدن من بقية الدول العربية ، ويرجع هذا إلى علاقات مترسخة بين حيفا وشرقي الأردن ، عناصر اقتصادية واجتماعية تضافرت في تكونها .
وثمة كتيب قرأته لجوني منصور بعنوان " حيفا إسم يناجي القمر ويخاطب البحر " ، أصدره بمناسبة ذكرى مرور 250 عاماً على تأسيس حيفا الجديدة في عام 1761 ، حيث قام في هذا العام " ظاهر العمر الزيداني بهدم المدينة القديمة ، وإقامة مدينة أخرى أحاطها بسور ، كما هي العادة في ذلك العصر ، وتطورت هذه المدينة حتى غدت إحدى أهم مدن فلسطين ، بل حوض البحر الابيض المتوسط الشرقي ."
يتضمن هذا الكتيب معلومات موجزة عن بدايات حيفا في أزمنة قديمة ، وعن أوضاعها في الفترة العثمانية ، وفي عهد الانتداب البريطاني ، مدعمة بمشاهد من الحياة السياسية والفكرية والفنية والصحافية ، ومرافقها الصناعية وحركتها العمالية ، ومعالمها الدينية ، ومن ثم نكبة حيفا عام 1948 وحيفا تحت الإحتلال بعد النكبة .
وتأتي الاهمية المعرفية لهذا الكتيب ، على كونه يفتح الباب واسعاً أمام القراء ، من أهل حيفا ومن محبيها ، لمعرفة المزيد من الحقائق التاريخية ، ومن أجل تعميق العلاقة بين أهالي حيفا ومدينتهم أينما تواجدوا وانتشروا في كل جهات المعمورة .
يبقى أن أشير إلى أن جوني منصور كاتب معروف في مجال الكتابة الصحفية ، يكتب مقالة اسبوعياً على صفحات جريدة محلية تصدر في حيفا ، كتب حتى الأن مئات المقالات في مواضيع متصلة بماضي وحاضر حيفا ، تتطرق فيها إلى مواضيع كثيرة تتصل بالتاريخ الزمني وبأعلام وأحداث وكتب كتبت عن مدينته ، أرفق بها جميعها مجموعات من الصور الفوتوغرافية ، سواء تلك المتوفرة على الشبكة العنكبوتية ، أو في طيات الكتب ، أو تلك التي يمتلكها كمجموعات خاصة به ، ويخطط أن يصدر في قادم الأيام مجموعة من مقالاته المختارة في كتاب جامع يزدان أيضاً بصور ووثائق تاريخية ، تعبر عن مشاهد تاريخية واجتماعية واقتصادية عن حيفا عبر عصور مختلفة .
إضافة إلى كل ما قيل عن منجزاته في مجال التأليف وكتابة المقالة الصحفية ، لجوني منصور إنجازات ميدانية متميزة ، في مجال التعريف بمكونات التراث الحضاري والعمراني في حيفا ، تتجسد في إشرافه على حملات ميدانية تنظم بين الحين والحين لتعريف الشباب والشابات من حيفا وقضائها على معالم أحياء حيفا العربية ، بهدف ترسيخها في نفوسهم ، و لكي تبقى منقوشة في ذاكرتهم على مدى الأيام .
برناندشو يقول " إن الانسان لا يُمدح أبدا ًلذاته بل لما يقدمه للاخرين " وهذا ما ينطبق على جوني منصور مؤرخ حيفا وأهم عشاقها .
#سميح_مسعود (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عن أقباط مصر
-
أحييكم
-
الثورة الجزائرية في مرآة النفس والآخر
-
كتاب المهد العربي
-
حيفا ليست قرطبة
-
عبد عابدي : نصف قرن من الإبداع
-
شظايا مذكرات غير مكتملة
-
جزيرة في نهر سان لوران.
-
البحث عن الجذور
-
عيسى بُلاطه : ناقداً وأديبا ً
-
تراجيديا الهنود الحمر
-
التوثيق في الأعمال الإبداعية
-
امرأة منسية
-
فتاة الترومبون
-
ناجي علوش شاعراً ومفكراً
-
في ذكرى ناجي العلي ثانية
-
في ذكرى ناجي العلي
-
العرب لا يقرأون
-
كتاب - الإسلام وأصول الحكم - للشيخ علي عبد الرازق
-
رواية - الحاسة صفر - لأحمد أبو سليم
المزيد.....
-
-الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر-
...
-
بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص
...
-
عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
-
بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر
...
-
كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
-
المتحف الوطني بسلطنة عمان يستضيف فعاليات ثقافية لنشر اللغة ا
...
-
الكاتب والشاعر عيسى الشيخ حسن.. الرواية لعبة انتقال ولهذا جا
...
-
“تعالوا شوفوا سوسو أم المشاكل” استقبل الآن تردد قناة كراميش
...
-
بإشارة قوية الأفلام الأجنبية والهندية الآن على تردد قناة برو
...
-
سوريا.. فنانون ومنتجون يدعون إلى وقف العمل بقوانين نقابة الف
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|