|
جاك بريفير وقصيدة الشعب
خلدون جاويد
الحوار المتمدن-العدد: 1167 - 2005 / 4 / 14 - 10:28
المحور:
الادب والفن
الفرنسي جاك بريفير هو أحد شعراء قصيدة عصر السرعة .. القصيدة البوستر ... تنغيمةُ الرصيف ... همسة النقد على الماشي ... انها المعروفة بالقصيدة الوامضة ... شرارة في مقطع ، منشور ، قول مموسق ساحر وعابر . تركيبة لآذعة ... تضمين فيه تجاوز على المعتاد ... حبكة نثرية او مصوغة تفعيلات . نقوش كلامية بحجم كف اليد ... تلك هي قصيدة المقهى .. تلك هي قصيدة الرصيف . او الباراغراف . من خصائصها انها مكثفة وعصابية وامضة تترك رنينا عند مستمعها او قارئها تتسم بالقصر وبالذروة ، انها قصيدة الشعب وهمومه وحسه المتوقد النابع من حرارة روحه . بهذا الشكل كانت بلاد ballade او ليرِك lyric ولو انهما معدتان للاوركسترا او مصاحبة القيثارة ، وانهما كانتا محط استصغار الشعراء الكبار مثل ملتن و بوب ومن قبل شعراء آخرين لايكتبون القصائد فحسب ولكن يؤليذونها . والأليذة وكتابة المعلقات والمطولات الأسطورية والبطولية الشعبية الطابع ليست فعلا متخلفا بل انه جنس أدبي شعري مرموق ، لكن القصيدة الوامضة هي قول شعري او نثري شاعري يتسم بالقصر والانفعال تتداوله الناس على الماشي ويجري بموجبه نقد جوانب من الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية ،وقد يكون تعبيرا عن فرح او توجع . هذا هو الفرق . ان القصيدة الوامضة هي نتاج ابداعي للتراث الشعري وهي ليست حبكة يتم بناؤها طبقا لحاجات قومية او محلية معينة ، انها انعكاس لسمات عامة فقد نجدها عند وورد زوورث وكوليرج وشيلي وكيتس وبايرون . وفي فرنسا قد نجدها عند آرثر رامبو او اوجين غوليفيك مثلا وفي اليونان عند كافافي أو عند يانيس ريتسوس في أغانيه القصيرة كما نجدها عند معين بسيسو والشاعر الكوردي شيركو بيكه س ، وعلى سبيل المثال :
" اذا استطعتَ ان تعد عدا اوراق تلك الحديقة اذا استطعت ان تعد عدا كل الأسماك الكبيرة والصغيرة في هذا النهر الذي يجري أمامك واذا استطعت ان تعد عدا الطيور في موسم الهجرة من الشمال الى الجنوب ومن الجنوب الى الشمال وقتها اعدك بأنني ... سوف أعد عدا ضحايا وطني كردستان . "
كما ان الذي يكرس بحثا عن هذا النمط الشعري فانه سيجد الكثير من النماذج لدى الموجة الجديدة من شعراء العراق الحديث وغيرهم من مبدعي منطقتنا والعالم . . جاك بريفير،على سبيل المثال ، في ديوانه كلمات يختتم عرض الواقع بانفعال شعري جميل وضمن كل قصيدة قصيرة ولكنها حية متوهجة رغم بساطتها . يتناول شاعرنا التناقض الطبقي في فرنسا ، لايصرخ بكلمات غير مفهومة ضد الواقع ، كلا ان قوته تكمن في شاعريته المنفعلة والواضحة وبقدرته على ان يكون ملكا لأوسع قطاع انتاجي جماهيري وهو أي جاك بريفير ليجسد ذلك بكل دفق في قصيدته ( الوقت الضائع ) :
" أمام بوابة المصنع فجأة ... يتوقف العامل لقد سحبه الطقس الجميل من سترته يستدير فيلمح الشمس حمراء مستديرة مبتسمة في سمائها الرصاصية فيغمز بالفة قولي اذن ايتها الشمس .....يارفيقة ! الآ ترين من الغباء اعطاء مثل هذا النهار الجميل لرب العمل " ؟ !
ولهذه المصوغة أهمية فائقة اذ تذكرنا بالقصيدة (المنشور) التي كانت تتداول فيما بين المقاتلين وذلك ابان الحرب العالمية الثانية : يقول يوفتشنكو على سبيل المثال :
" في بيت يضج بالأصوات حيث يجلس العريس المرتبك المجند بهندام العرس يجلس قرب عروسه فييرا وبعد يومين سيرتدي بزة الجندي الرمادية ويمضي الى الجبهة حاملا بندقيته في أرض غريبة وربما سيسقط قتيلا برصاص ألماني قد تكون ليلتها الاولى هي ليلتها الاخيرة ... " ان الخاتمة الجميلة التي يرسمها سيناريو ما تدل على قدرة تركيبية لحدث درامي ، وان دفقا شعريا جميلا تختتم به قصيدة ما تكسب الشاعر مكانة نوعية ... لماذا ؟ .... لأن الشعراء جميعهم قادرون على موسقة كلماتهم ، أما الذين يرتقون بكلماتهم الى ذروة من الرنين الدرامي فاؤلئك هم القلة ... يقول جاك بريفير في قصيدته 0النهار الاول ) :
" أغطية بيضاء في خزانة أغطية حمراء في السرير طفل في أحشاء امه امه في غمرة آلامها الأب في الدهليز الدهليز في البيت البيت في المدينة المدينة في الليل الموت في صرخة والطفل في الحياة " .
يقول مترجم كتاب كلمات : " ان مايثير دهشتنا حقا في شعر بريفير هو ان قصائده احيانا تكاد ان تصف الظاهرة كما هي بلا اضافات غير اضافة انفعاله العميق ، معتمدة على دقة رصد الظاهرة غير ان هذه الدقة هي التي تحيلنا الى الجوهر مباشرة " ادناه قصيدة (العائلات الراقية ) : لويس الأول لويس الثاني لويس الثالث لويس الرابع لويس الخامس لويس السادس لويس السابع لويس الثامن لويس التاسع لويس العاشر لويس الحادي عشر لويس الثاني عشر لويس الثالث عشر لويس الرابع عشر لويس الخامس عشر لويس السادس عشر لويس السابع عشر لويس الثامن عشر وما من أحد بعد أي بشر هؤلاء لايحسنون العد حتى العشرين ؟
اذن يميل شاعرنا في غالبيته الى عدم التبذير في الكلمات فهو يعرف كيف يرشرش عقيق كلماته بعيدا عن دوران لاموجب له .... هكذا هم الشعراء الكبار ، انهم يدبجون أكبر المعاني بأقل الكلمات : ( قصيدة الفصل الجميل ) :
" على الريق ، ضائعة ، بردانة وحيدة ، بلا قطعة نقد فتاة في السادسة عشرة واقفة بلا حراك في ساحة الكونكورد في ظهيرة منتصف آب " !!
قصيدة بربارا هي المساحة التي يتحرر فيها الشاعر نوعا ما ، من نطاق العمل المختصر لكنه لايتنازل عن أن تكون خاتمة القصيدة درامية تماما كما هي خاتمة المدن التي تخوض الحروب ولا يبقى منها شئ .... كل ذلك يسوقه جاك بريفير من روحه الانساني الضارب في عشق واع عامر بنشوة من سعادة الحب والشعر :
" آه .....بربارا ! أية بلاهة هي الحرب ! ما الذي حل بك ؟ تحت مطر الحديد والنار والدم وذاك الذي كان يطوقك بذراعيه مشغوفا أميت هو الآن مختفٍ ؟ ام لايزال حيا ؟ آه بربارا .. "
ان هذا العالم الذي يقف ضده جاك بريفير انما هو تكوين فرنسي ، عمل ويعمل هو ورفاقه في النضال الشاعري الوقّاد ! على كسر تطاولاته في الواقع من اجل تحجيم أكبر شخصياته ... يقول في قصيدته ( تكوين فرنسي ):
" كان نابليون الشاب نحيفا وضابط مدفعية ثم أصبح امبراطورا عندها صار له كرش وبلدان عديدة وحينما مات ذات نهار ظل محتفظا بكرشه ولكنه غدا صغيرا صغيرا جدا .... "
ان جاك بريفير هو انحياز الى قناعات كاملة ، والقناعة في أي عمل هي جسر للابداع واستقطاب للشهرة ، وعندما تعبر القصيدة عن اوسع قطاعات الناس فانها تنتشر كالنار في الهشيم .... ( المنظر المغبر ) : " شيئان أحدهما القمر والآخر الشمس لايراها العمال والفقراء فشمسهم هي العطش... الغبار العرق ... القطران وحين يعملون في عز الشمس يحجب العمل عنهم الشمس شمسهم هي ضربة الشمس ! وضوء القمر هو النزلة الرئوية لشغيلة الليل ، هو الصيدلية والملل " .
ان جاك بريفير هنا صديق العمال . والمدافع عنهم ، ليس ببيانات سياسية طويلة ، ليس بمصنفات اقتصادية تحليلية نبيلة ، وانما بلمسة حنون ، بوهج خاطف . بضخة حبرية سريعة .. كلمات يقولها الشاعر لمستمعيه على الرصيف ويمضي . انه حقا شاعر ديوانه ( كلمات ) التي تناسب عصر السرعة وتحولات التغيير في عوالم الحرية والديموقراطية وجماليات الانطلاق وفردانية الاختيار . كم نستفيد من جاك بريفير ؟ ان هذا مرهون بالذوق المحلي . أما عالمية الدفاع عن الشعب وحريته في النقد ، والعمال وحقهم بالتعبير وبالحياة الاقتصادية الجديرة بموقعهم ، فتلك سمة عالمية يمكن ان ندخل من خلالها الى نمط شعري معين ونكيفه مع قضايانا الساخنة . ان جاك بريفير ومعه رفاقه العالميون في كل مكان هم نجوم خوالد في ذاكرة الشعب وتاريخ الابداع العالمي .
#خلدون_جاويد (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تذكّر الأشجان في حضرة غانم بابان
-
ادعاء دين واداء مُشين
-
النظرية السامية والواقعية الدامية
-
كونانبايف شاعر التراث الطليعي
-
الحب وفقا لماركس
-
العراقيون وأدب الرسائل العاشقة - عبد الغني الخليلي نموذجا
-
هل ستبقى ليلى بلا ذئب ؟
-
اللآقاعدة الفكرية في العراق ستكون هي القاعدة الذهبية
-
الشاعربدر شاكر السياب .... هل هو من جماعة القاعدة ؟!
-
الجواهري روح العراق وعنفوانه الفكري والعاطفي ...هل سيعمم شعر
...
-
الموسيقى باعتبارها نوعا من السجن
-
كتابات في الحرية ألمعية الأديب في كسر القاعدة والمسلّمات
-
اوروك والتاو الصيني والآخرون
-
قوس الفلسفة في قزح الشعر
-
أُمهات البلاد الحبيبة
-
الذباب بين الفكر الفلسفي والواقع المحسوس
-
على هامش الفلسفة الوجودية
المزيد.....
-
ليلى علوي تخطف الأضواء بالرقص والغناء في حفل نانسي بالقاهرة
...
-
-شرفة آدم-.. حسين جلعاد يصدر تأملاته في الوجود والأدب
-
أسلوب الحكيم.. دراسة في بلاغة القدماء والمحدثين
-
الممثل السعودي إبراهيم الحجاج بمسلسل -يوميات رجل عانس- في رم
...
-
التشدد في ليبيا.. قمع موسيقى الراب والمهرجانات والرقص!
-
التلاعب بالرأي العام - مسرحية ترامبية كلاسيكية
-
بيت المدى يؤبن شيخ المخرجين السينمائيين العراقيين محمد شكري
...
-
مصر.. الحكم بحبس مخرج شهير شهرين
-
مصر.. حكم بحبس المخرج محمد سامي بتهم -الاعتداء والسب-
-
مصر.. حكم بحبس المخرج محمد سامي شهرين لهذا السبب
المزيد.....
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
المزيد.....
|