|
مقهى وحكاية مدينة !!!
خليل الفخري
الحوار المتمدن-العدد: 4051 - 2013 / 4 / 3 - 22:07
المحور:
الادب والفن
مقهى وحكاية مدينة !!! تبدو المهمة شاقة وصعبة للغاية ، محاولة استرجاع الأمس بأدقّ تفاصيله، ولملمة ما غيبّته الاحداث ، ومشى النسيان به ، وتقطعت الاسباب ، اسباب التواصل ، كي لا يضيع تاريخ نحن الذين رسمنا على الحيطان الطينية وبيوت الصفيح والقصب بفخرٍ حروفه ، وتواصلنا مع احداثه الجسام ودفعنا الديّات باهضة أثمانها من اجل ان يورق ويثمر ، واحترقت السنوات بسببه ، وضاع الشباب والمستقبل ، وذوى العمر كنخيل العراق عطشا تموت ، وقد قطع الصفويون الاسلاميون الماء عنها . فكان الحصاد هشيماَ لعبت به الرياح في صحارى الغربة والضياع والقيظ حيث ارادت . لكننا وبرغم فداحة الانكسار ، ونزف الجرح والصديد تنكبنا الدرب على ظلّ الحقيقة المنفية الوجود . تواصلنا المسير بروح التحدي مع ارث كان ثقيلا بعض الشيء علينا يغذّي االعناد جمر النار فينا ، فكانت قاماتنا تطاول الشمس يملؤها الزهو والفخر . سعدنا بذلك ، فهو الارث النضالي لمدينة كانت حتى ساعة بنائها قبل قرون عصيّة على المطاوعة والانسجام مع مفاهيم وسياسات تتقاطع مع ايقاع الحياة ونبضها ففتحّت في نفوس اهلها وشبابها بواكير الحسّ الوطني ، فتقاسموا عشق الارض والخضرة والماء بينهم . مشوا حفاة على الدرب الصخري حتى تدمت الروح وخوضوا في ساحات الملح حتى تشققت ، وبرغم المرارة ، تواصلوا يحدوهم امل وحلم ان الدرب يفضي لخير الانسانية والانسان . تلك صورة مجتزأة لمدينة عُرفت بالتسامح ، ففتحت صدرها لكل الوان الطيف الديني والمذهبي ،حنت على اهلها ولملمت جناحها بنفس المحبة والحنو عليهم . عاش اليهود فيها جوار المسلمين والصائبة والمسييحيين أخوة يتقاسمون الاحزان وما اكثرها والفرحة وما أندرها . كان معيشا تداخلت أسبابه . لم يُشر يوما لأحدهم سوى بأنسانيته ، وجد الغرباء فيها ملاذا آمنا وظلا ظليلاً ووجوها باسمة ومرحبة كذلك كانت المقهى عنوان مقالتنا . لم تكن المقهى واسعة كبيرة الا بمرتاديها ، وهم معروفون ومعدودون ، يتكرر السؤال لو غاب أحدهم أو تأخر في موعده ، وعن اسباب الغياب والتأخير . كما كانت طقوس المقهى تلزم مَن يرتادها بضرورة الوقوف على خدمة نفسه ، اذا احتاج احدهم لقدح من الماء أو قليلا من السكر . لم يكن في المقهى جهاز تلفاز ، فقد كان النقاش الحاد بين جلاّسها وجميعهم من الشباب المثقف الواعي والمنتمي لتيارات مختلفة ، والجدل المستمر يغني عن مهمة التلفاز . احتفظ أبو احمد في مقهاه المتواضع جدا براديو قديم من نوع ~ سيرا~ ، يرفض أن يبعث الروح فيه الا عند الضرورة ، في وقت كان فيه هذا الراديو لا يعرف الراحة ولا الهدنة طوال فترة حكم الزعيم الخالد عبدالكريم قاسم . كان الرجل يتفرّد بروحية قلّ نظراؤه فيها ، كريم كأسمه ، متسامح لدرجة تكره معها التسامح ، شغوفا بمتابعة حال واوضاع العراقيين وما آلت اليه في ظل حكم البعثيين والقائد الضرورة وسياسة السلطة وما جرّت على الوطن من الويلات والخراب والدمار . لم يطالب يوما زبائنه بدفع مستحقات ما شربوه ،كما انه لم يعرف مقدار ديونه عليهم ، بل كان يقوم على الدوام مقام بنك التسليف ،فيمدّ الكثيرين منهم بقروض يربط مواعيد سدادها بتحسن اوضاع المقترض الاقتصادية ، او الحصول على عمل لمن لم تتوفر لهم فرصة العمل بعد . كان الرجل منفتح الذهنية ، صاحب مزاج اجتماعي يميل الى الألفة ، والنقاش والحوار الملتزم ومجالس الشرب مع من يرتاح اليهم ويثق بهم ، كان وطنيا ثورياً ، يقدح شرر الثورية من عينيه ويخبئ تحت ثيابه سعيره . كان بركانا يتحرك بصمت دون حمم .فلا غرابة ان كان من اوائل المشاركين في مظاهرة الاحتجاج ضد معاهدة بورتسموت البريطانية التي ارادت حكومة صالح جبر تكبيل العراق بها لثلاثين عاما قادمة ، والهجوم على مركز الاستعلامات البريطاني وحرقه . رواده فقهاء وهم خليط من الشيوعيين الملتزمين واليساريين والناصريين والبعثيين الذين يحترمون قيمّ التعايش الأنساني والصداقة . كان يقاسم الجميع أوجاعهم وهمومهم وساعات الفرح وهي قليلة جدا ، في مدينة ارتبط تاريخها بالنضال ومقاومة الاستعمار وتكوين الاحزاب . ففيها أسس المرحوم عبدالجبار حسون الحزب الوطني الديمقراطي قبل ان ينتمي اليه المرحوم جعفر ابو التمن . بارك ابو احمد هذه الولادة ، وحين دعاه عبدالجبار حسون الى الانتماء ،لم يتردد ، بل سارع الى ذلك مع المرحوم عبدالحسن علوان الحلاق وسيد شامان والشيخ حامدالبدر وعطشان ضيول. لكنه تركه بعدما أسس في الناصرية الرفيق الخالد يوسف سلمان فهد الحزب الشيوعي مع عطشان ضيول .وفؤاد الركابي حزب البعث ولغرض الحدّ من انتشار افكار الحزب الشيوعي وتحجيم قاعدته الجماهيرية ، وتعميم ثقافة عفلق العيسمي كرها ، قررت قيادة فرع حزب البعث في الناصرية تزويد المقاهي مجانا بخزانات ذات رفوف واقفال ، وملأتها بطاعون عفلق والبيطار وسموم حثالات البعث وتخريف صدام ، كتبا لا تصلح سوى للحرق والنار ، فتحول وجهه المبتسم دوما حتى في ساعات غضبه الى خندق تتقاسم فيه الكآبة المرارة والحزن وخيبة الامل . لا اتذكر وخلال فترة تواجدي انه أدار مفتاح الخزانة يوما واخرج كتاباً منها لأحد ، وحين كنت أثيره بصوت عالٍ ، رجاءَ ابو احمد اريد أشوف هذا الكتاب !. فكان يصيح بي قائلا : الخاطر الله خليني بحالي .. لقد ضاع المفتاح .كنت والمرحوم ابراهيم دراج من اقرب الناس اليه واحبهم الى روحه المرحة الطيبة . رآني مرّة مهموماً على غير عادتي وقد كنت قد خرجت من سجن في نقرة السلمان للتو ، سألني عما يشغل بالي ، فلم أجبه رغم الحاحه كما لم اجب دعوته حين دعاني للغداء فتركت المقهى وليس في ذهني مكان اقصده .لم يترك سبيلا لمعرفة ما كان يعتمل في صدري الاّ سعى اليه .عند الغروب حين وصلت المقهى كعادتي ، جلست بروح خالطها كثير من اليأس والعنت والتوتر . جلس ابو احمد الى جانبي وقدم لي شاياً من يده الكريمة ، وربت على كتفي قائلا : بسلوكك هذا تكون قد ابتعدت عني كثيرا ، فما ظننتك هكذا يوما !!! . لن يباع بيتكم من اجل مائة دينار ، رهن بها والدك البيت ليطعم عياله حين اخذوك الى السجن ، ولجأت امك لدى اهلها في كربلاء بعد صدور القاء القبض عليها اثر انقلاب شباط الدموي الاسود فترك عمله لهذا السبب مضطرا ! كان الصديق ابراهيم قد حدّثه بكل شيء .ثم مدّ لي يده بالمبلغ . تأزمت الاوضاع مطلع الثمانينيات ، وانكفأ ابناء المدينة عنها مكرهين . بكى النخل وانحنت قاماته حزنا ، وغار ماء الفرات واتشح بالسواد حتى لون الخضرة وابتلعت الحرب العراقية الايرانية احمد فجن الرجل ، غابت حدّة الذاكرة فيه ،فهجر مقهاه وانطوى على جراحه حين تناهى الى مسامعه انكفائي عن الوطن في هجرة ما زالت تمتد بها السنوات وصدم برحيل ابراهيم الى دار القرار مبكراً جدا ، ومن اجل لا شيء قتل في الحرب العبثية احمد ،فودع الرجل الدنيا فجأة ومن غير ان يصاب بعاهة او مرض . رحل ابو احمد واندثرت المقهى وضاع تاريخ يعتز به ابناء الناصرية . الناصرية ~خليل الفخري
#خليل_الفخري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بعد رحيل القذافي !!! ما الذي تغير ؟؟؟ مدرسة الوحدة العربية ف
...
-
تداعيات ليلة أعياد الميلاد
-
هدى بن عامر ونجاة ابراهيم الهوني , لغة التهديد الى أين ؟
-
.هدى بن عامر ، ونجاة ابراهيم الهوني !!!. الحقّ من خاصرة البا
...
-
هدى بن عامر !!! ماضٍ يتبرأ الحاضر منه ، ويبصق المستقبل عليه
...
-
الانفجار السكاني -2 -
-
هدى بن عامر مرّة اخرى في مدرسة الوحدة العربية في بودابست !!!
-
الأنفجار السكاني و نقص الغذاء (1) !!!
-
عالم غابريل غارسيا ماركيز ومناخاته
-
الثابت و المتغيّر
-
مظفر النواب ، نجم على عاتق الليل يضيئ !!!!!
-
انك لا تجني من الشوك العنب !!!
-
دور الضيافة الحكومية, وفنادق الدرجة الأولى
-
من اين نبدأ !!! واي اصلاح يريد شعبنا ؟
-
في اغتيال ثورة 14 تموز دروس ،فاتّعظوا ايها الحكام !!!
-
تجريف بساتين النخيل في كربلاء: اغتيال للبيئة والأنسان ..!!!
-
بلا عنوان ... !!!
-
سقوط الأحزاب الدينية سبب الأزمات رهن بيد الناخب ليس غير !!
-
ثورة 14 تموز ألق في عيون الشعب وعمى بعيون الحكام
-
وهب الأمير بما لا يملك !!!!!
المزيد.....
-
80 ساعة من السرد المتواصل.. مهرجان الحكاية بمراكش يدخل موسوع
...
-
بعد إثارته الجدل في حفل الغرامي.. كاني ويست يكشف عن إصابته ب
...
-
مهندس تونسي يهجر التدريس الأكاديمي لإحياء صناعة البلاط الأند
...
-
كواليس -مدهشة- لأداء عبلة كامل ومحمد هنيدي بفيلم الرسوم المت
...
-
إحياء المعالم الأثرية في الموصل يعيد للمدينة -هويتها-
-
هاريسون فورد سعيد بالجزء الـ5 من فيلم -إنديانا جونز- رغم ضعف
...
-
كرنفال البندقية.. تقليد ساحر يجمع بين التاريخ والفن والغموض
...
-
أحلام سورية على أجنحة الفن والكلمة
-
-أنا مش عايز عزاء-.. فنان مصري يفاجئ متابعيه بإعلان وصيته
-
ماذا نعرف عن غزة على مر العصور؟ ولماذا وصفت بـ-بنت الأجيال-؟
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|