|
منزلنا الريفي (1)
عبد الله عنتار
كاتب وباحث مغربي، من مواليد سنة 1991 . باحث دكتوراه في علم الاجتماع .
الحوار المتمدن-العدد: 4051 - 2013 / 4 / 3 - 03:52
المحور:
الادب والفن
بمجرد ما تنزل من السيارة ؛ حتى يتراءى لك منزلنا الريفي ؛ إنه منزل يعتريه اللون الأحمر الفاتح، وتحيط به مجموعة من الشجيرات ؛ تارة تتمايل، وتارة أخرى يعمها السكون . من الطريق ؛ يظهر صغيرا بحجم البؤبؤ، وتجاوره مجموعة من الرموش السوداء، والخضراء ؛ إنه عين، أو منظار تراه مفتوحا، سرعان ما ترى عبره طيور النغاف، وهي تطارد الجرار، إضافة إلى العجول المزركشة، وطائر الخطاف، وهو يتواتر بين النزول، والصعود . منزلنا الريفي تراه في الربيع باسما ؛ سرعان ما يحزن مع حلول الصيف ؛ إذ يفقد رموشه، ويصاب بالعمى ؛ لا يمكن رؤية شيء ؛ معظم أوراق الدوم تعتل، أما الأزهار تذبل ذبولا كأنها لم تكن يوما . بمجرد ما تأخذ طريقك إليه حتى تجد حرارة مفرطة تلطم خدودك، وما إن تقترب منه متجاوزا مجموعة من المنازل المتناثرة، حتى تسمع صفير الزرزور( حشرة صغيرة تملأ القرية صخبا خلال الصيف )، ناهيك عن جماعة السحليات التي لا تعرف من أين تخرج ؛ هل تخرج من دغل أم من كنف دومة ؟ لست تعرف، فأنت عائد من المدينة، وغائب عن قريتك منذ شهور ؛ لم تشارك في تقلبات الطبيعة، وتغيراتها المتلاحقة . يبتعد منزلنا الريفي عن الطريق قرابة الكيلومترين ؛ قبل أن أخطو الخطوة الأولى ؛ أحس أنه حزين ؛ لقد فقد كل فينوساته ؛ فقد النحلة التي تطن من حوله كل الطنين، وفقد الزهرة التي كانت تفعمه بالأريج، كما فقد الشجرة التي تمده بالحفيف . يا منزلنا الريفي ! لقد فهمت لم اعتراك الاصفرار ! ولم استولت عليك الدموع، والأحزان ! أجل ؛ كل شيء ذهب ؛ الأرض جرداء ؛ الطريق غبراء، والناس تعساء ؛ ماذا بقي يا ترى ؟ الوحدة أم الضياع ؟ الجلوس أم الفراغ ؟ إن الأمر سيان ؛ أجل لقد فهمت ؛ أليس ذاك هو الصبار ؟ إنه يلسعك بالأشواك، ويتراءى جاثما على كل الرقاب . منزلنا الريفي ! لماذا لم تبكي على تلك الشجيرة الصغيرة التي هشها الإنسان ؟ وماذا عن الشجرة الكبيرة ذات العروش المديدة ؟ ألا تحز في قلبك ؟ تكلم يا هذا ! يا رفيق طفولتي ! يا كاتم أسراري ! يا شيفرة آثاري ! منزلنا الريفي ؛ إن كل بصمة من بصماتي، وكل حركة من حركاتي مازالت محفوظة في ذاكراتك ( ذاكرتي) ؛ أجل أيها المنزل العتيد ؛ ألم تكبر معي ؟ هناك كنت أبكي، وأفرح، وأحزن، وأتلاعب مع أختاي، وأتراقص مع إخوتي، وهناك أمي هي قاعدتك أيها المنزل الريفي العظيم . تجلس فوق صخرة الحربيلي، فيظهر منزلنا الريفي، إنه عبارة عن غرف متراصة، ومتداخلة ؛ لست تعرف أين المبدأ، وأين المنتهى ؛ خلفنا ترى فرنا أسودا حالكا ؛ لقد طاله الدخان عبر سنين طويلة ؛ هناك كانت تجلس أمي فتخبز الخبز ؛ لقد كان شبيها بالأقراص، وكنا نلوكه أنا و إخوتي، فيتراخى الجوع في دواخلنا ؛ أين أنت أيها الفرن؟ لم هدك الزمان وقطعك إربا إربا ؟ يتواجد وراء منزلنا الريفي حمام بلاستيكي ؛ يكون دافئا في الصيف، غير أنه تعتريه البرودة أثناء الشتاء ؛ هذا الحمام مازلت أراه ماثلا أمامي ؛ إن دخولنا إليه : ليس هو خروجنا ؛ لقد كان مفعما بالنعومة، وما يضفيها أكثر هو الكانون ؛ لقد كان يخلق جوا مكيفا مع حرارتنا، ولا نبال بما يوجد بالخارج . يسار منزلنا الريفي ؛ يقبع " النادر " ؛ إنه عبارة عن قطع التبن، ويحيط به غلاف بلاستيكي ؛ أسفله توجد مجموعةمن الممرات ؛ لقد كنا نلعب فوقه لعبة تسمى " بالرطاوة" ( لعبة أشبه بالجيمناستيك ) ؛ كانت لعبة خطيرة، فما نفعلها حتى تحس بأن الأرض من حولك ترتج ارتجاجا، وفي أحيان أخرى ينتابك مغص شديد، أو قيء ؛ المهم لقد كنا نتراقص، ونتلاعب أنا، وإخوتي، ولكن ما إن ترانا أمي، أو أختي حتى تمنعنا من فعل ذلك، وإن لم تستطع ؛ تتوعدنا بأشد العقوبة . أخرج من المنزل ؛ يظهر لي " الجنان " ؛ إنه عبارة عن صبار متداخل ؛ ليس فيه أي مسلك، أو ممر ؛ تعيش فيه مجموعة من الثعابين، كما يبيض الدجاج داخله ؛ لا يفيدنا في أي شيء ؛ سوى في إمدادنا " بالهندية " ( ثماره ) في عز الصيف القائظ ؛ كلا ؛ لا يمنحنا شيئا، وإن كان يمنحنا، فماذا نقول عن الأشواك التي تحيط " بالهندية"؟ فما إن كنت تمسك بها بعد نفضها، حتى تنغرز في يديك الغضتين، فتدميهما ؛ أجل لقد كنت تنجرح، وتتألم ألما، ويعتصر في كيانك اعتصارا. أجل ؛ أجل ... يا منزلنا الريفي الثاوي في ذاكرتي!!! عبد الله عنتار 24/03/2013 بني كرزاز - بنسليمان - المغرب
#عبد_الله_عنتار (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رسالة إلى أستاذتي العزيزة
-
جحر
-
سعاد
-
راعية القطعان
-
أنت
-
ذكرى ميلادي
-
تلك
-
أ- تبكين ؟
-
الضحك
-
العاملة الجنسية
-
رسم
-
وردة أهديها إلى الحياة ؛ إلى الحب
-
الحب المفقود
-
إنجراحات
-
حذاءان
-
إنهجاس الذاكرة
-
هواجس الذاكرة
-
زفرات (1)
-
زفرات (2)
-
إنطراحات- إنهجاسات
المزيد.....
-
ما حقيقة الفيديو المتداول لـ-المترجمة الغامضة- الموظفة في مك
...
-
مصر.. السلطات تتحرك بعد انتحار موظف في دار الأوبرا
-
مصر.. لجنة للتحقيق في ملابسات وفاة موظف بدار الأوبرا بعد أنب
...
-
انتحار موظف الأوبرا بمصر.. خبراء يحذرون من -التعذيب المهني-
...
-
الحكاية المطرّزة لغزو النورمان لإنجلترا.. مشروع لترميم -نسيج
...
-
-شاهد إثبات- لأغاثا كريستي.. 100 عام من الإثارة
-
مركز أبوظبي للغة العربية يكرّم الفائزين بالدورة الرابعة لمسا
...
-
هل أصلح صناع فيلم -بضع ساعات في يوم ما- أخطاء الرواية؟
-
الشيخ أمين إبرو: هرر مركز تاريخي للعلم وتعايش الأديان في إثي
...
-
رحيل عالمة روسية أمضت 30 عاما في دراسة المخطوطات العلمية الع
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|