|
بحث في مفهوم الأسطرة
كمال الدين
الحوار المتمدن-العدد: 4046 - 2013 / 3 / 29 - 00:31
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
لولا القلق من انحراف هذا المقال عن مساره الصحيح، لكنت قد أسميته مدخل إلى فلسفة التاريخ، ولكنت استرسلت فيه أكثر من ذلك بكثير، ولاستحال معي في النهاية إلى مجلد ضخم، لكن قبل كل شيء لست أعرض ما لم يعرضه أحد من قبل، وهذا العرض الذي أعرضه إنما يتضمن نفوذ إلى قلب أسطورتين، وأضفت ثالثة لأبرهن بها على ما أردت وأختم بها هذا المقال، فإن مظاهر الأسطورة حية، وسأقدم ما أردت تقديمه هنا بإيجاز شديد، كمدخل فقط لماهية الأسطورة التي سوف تنبني عليها دون شك مقالات أخرى سوف أقوم بنشرها في وقت لاحق.
1 قربان ينهض على أساس الإيمان، هو العرف الذي جرى عليه التعامل في الشرق الأدنى القديم، وهو الذى تطور العبريون في ربوعه حتى عصر الأنبياء. كان الولد البكر يعتبر ابنا للرب، وكان من عادة الصبايا أن يقضين ليلة في المعبد ليحبلن من الله؛ من ممثله الكاهن، أو من مبعوثه الغريب. التضحية بالولد البكر ترده إلى الألوهة وتنسبه إليها، وهكذا كان إسحاق، لقد كان ابنا لله وهبة منه لإبراهيم وسارة في وقت كانت سارة قد قطعت سن اليأس بمدة طويلة، لكن إسحاق أعطى لهما بفضل إيمانهما، إذن يصير إسحاق ابنا للوعد والإيمان، وتضحية إبراهيم لم تكن كسائر التضحيات فى العالم السامي القديم، فقد كانت تتميز من حيث المضمون تميزا هائلا. كانت عادة ليس إلا فى جميع أنحاء العالم السامى القديم على الرغم من وظيفتها الدينية، لكن في حالة إبراهيم وإسحاق -إسماعيل في القرآن- كانت فعل إيمان بحت، إن إبراهيم لم يفهم لماذا طلب منه تقديم تلك التضحية لكنه نفذها، ذلك أن الله هو الذى طلبها منه.
2 تراءى لإيزيك حلم يطلب منه التوجه إلى براغ من مدينته كراكوفيا، وهناك تحت الجسر الكبير المؤدي إلى القصر الملكي سيعثر على كنز مخبأ، ولما تردد ذلك الحلم ثلاث مرات قرر إيزيك الرحيل. عند إدراكه مدينة براغ وجد الجسر لكنه كان محروسا ليل نهار من قبل الخفراء، لم يكن لدى إيزيك جرأة الشروع فى التنقيب، وفيما كان يجوب المنطقة المجاورة بصورة مستمرة انتبه إليه رئيس الحرس، فسأله بلطف: هل فقدت شيئا؟ روى إيزيك ما تراءى له من حلم، وللحال استرسل الضابط فى ضحك شديد، وقال: حقا أنت إنسان مسكين. لقد أصاب حذائك الاهتراء من رحلتك الطويلة. هل يستحق الحلم كل تلك المتاعب؟ أي إنسان عاقل يصدق حلما؟ في اليوم التالى، وقد تناهى إلى سماعه في الحلم صوت يناديه، قال رئيس الحرس لإيزيك: كان الصوت يحدثني عن مدينة كراكوفيا ويأمرني أن أرحل إليها، وأن أبحث عن كنز مخبأ في بيت رجل يدعى إيزيك. هناك يجب اكتشاف الكنز فى ركن يعلوه الغبار. إنه مدفون خلف المدفأة. إن الضابط لم يثق في الصوت الذى سمعه في الحلم، لأنه كان إنسانا عاقلا... رزينا.
مدينة كراكوفيا مدينة تقع إلى الجنوب من بولونيا، تشتهر بجامعتها ومتاحفها، وبالصناعات الكيمائية والنسيجية وبآثارها القديمة، منها الكنيسة القديمة والقلعة والقصر الملكي، القصة السابقة تعمر آلاف السنوات، ولقد أزعم أن كلا من القصتين تعدان بمثابة أسطورة لها مكانتها كل في مكان نشأتها، لكن هناك مسألة لا مندوحة فيها وهي تعريف الأسطورة، فهي في علم الأساطير -الميثولوجيا- لا يقصد بها الخرافة، إنما يقصد بها القصة التي ترتبط بالمقدس، لكن هناك أنواع أخرى من الأساطير كالتي ترتبط بالأحداث التاريخية، أو الأحلام كما في حال إيزيك. ولكل أمة رصيدها الوفير من الأساطير، وهي على قدر من الاستطاعة في التفرقة بين الأساطير والخرافات، فتطلق على الأخيرة اسم الحدوتة أو الحكاية الشعبية، يعني أن المصريين مثلا يقرون بخرافة أمنا الغولة، ويقرون بواقعبة قصة تتحول فيها العصا إلى ثعبان، وهي أسطورة موسى بالطبع.
إن النوع الأول من الأساطير يكون له دوره في دين ما، ولقد يؤسس لعقيدة تبقى في الزمان وقتا طويلا وتحتل مكانات لا بأس بها في أنفس الناس، فبذلك الفعل الذى لا معنى له فى الظاهر الذي أتى به إبراهيم، أسس من خلاله لخبرة دينية جديدة هى الإيمان، أو بعبارة أخرى أسس لخبرة إنسانية جديدة، هى أن تكون أو بالأحرى أن تصبح إنسانا يعنى أن تكون متدينا. والنوع الثاني يصلح للتمسك بالأحلام والسعي لأجل تحقيقها، وتصلح مثل هذه الأساطير للأعمال الإبداعية، ولقد اقتبس باولو كويلو من قصة إيزيك هذه وحاكى بأسلوبه المتميز تفاصيل أشهر أعماله -رواية الخيميائي- التي نشرها في العام 1988.
لكن كل أسطورة تبغي الانتشار بين الناس، وهذا الانتشار هو غايتها الوحيدة، لذلك تجدها في محاولات مستميتة لصد العقل عنها، وورد ذلك بوضوح شديد في قصة إيزيك، حي أن العقل والرزانة في نهايتها لم يكونا صفتان محمودتين بل منبوذتين يجب التخلص منهما، ولذلك فهي تحصن نفسها ضد الثغرات مع مرور الزمان، وسأعرض ذلك في قصة معاصرة خلال الأسطر التالية: فى العاشرة من مساء كل ليلة، يحضر الزوج إلى البيت مخار القوى غير قادر على التسامر ولا حتى على تناول العشاء، حيث كان يعمل موظفا فى الحكومة حتى الثانية ظهرا، يتناول الغداء خارج بيته من ثم يتجه إلى عمله الثاني. وفى طريق عودته قبل ساعتين من منتصف الليل، اعتاد إجابة طلبات ربة البيت زوجته، فيشتري ما يلزم من طعام وغيره من حاجات البيت. لم تشتك الزوجة يوما في إخلاصه، وأيقن الزوج حبها له، وآمن لولاها ما احتمل الحياة؛ كانت تسانده وتقف دائما إلى جانبه، تشد أزره وتمسح عنه هموم الحياة. كسى الزمان زيجتهما بسنوات خمس، رزقا فيها بطفل عمره أربع سنوات اليوم، وأخرى جنينة فى طريقها إلى الحياة. ومنذ فترة قصيرة تراءى له الشيطان في صورة امرأة فتنته ملامحها وتضاريسها وغدى بها متيما. أخذت الخلافات تدب في منزل الزوجية الدافئ، وشبت المنازعات، واستقر الشك فى قلب الزوجة واستحال إلى يقين بخيانة زوجها لها. وعندما اقترب موعد وضعها مولودتها عرفت أن عالم الموتى يناديها، فأوصته بالرضيعة وابنهما البكر، لكن محبوبته اشترطت ألا ترتبط به إذا لم يتخلص من الطفلين، فما لبث أن قرر التخلص منهما فعلا. وبعد ثلاثة أيام من موت الأم ودفنها، تجمهر سكان المقابر حول قبر حديث القفل، وفتح التربى ذاك القبر وهبط إليه، وخرج يحمل رضيعة ويجر طفلا وهما في صحة ونضارة تسران الأعين ويحسدان عليهما، أخطرت الشرطة بالطبع وفعلت أفاعيلها فقبضت على الجانيين، واعترف الأب بوأده طفليه. اندهش الناس جمعهم وتساءلوا كيف بقى الطفلان حيين؟ يا بني كيف تحملت ظلمات القبور ثلاثة أيام بحولها ولياليها؟ من أطعمك وأرضع أختك؟ إن أعتى الناس لتجنه وحشة المدافن، كيف نجوت يا بني؟ فأجاب الطفل: كان النور يملأ المكان، وأمى كانت تطعمنا وترعانا!
إذن هل تقدر على خلق الثغرات في تلك القصة؟ لا شك أنها مزعومة، لكن كيف؟ التساؤل المنطقي الوحيد يكون عن كيفية وأد الطفلين، وذلك يستحيل بنا إلى إعادة نظر فى كلا من: تراءى الشيطان للزوج امرأة آسرة الملامح والتضاريس، وقبض الشرطة على الجانيين. ومن الأخيرة ننطلق، من الجانيين إذن؟ أهما الزوج وعشيقته؟ وفى هذه الحال تقضى القصة على نفسها ولا تستحيل إلى أسطورة، ويصير لفظ الشيطان استعارة لم تخلو من التشبيه ولا شيء آخر، وهنا ينكشف مخباها، فكيف يتسنى للزوج فتح القبر بعد أن أحكم التربى إغلاقه بالأسمنت؟ لكن لها تأويل ثان قد يخرق كل التساؤلات على الرغم من سذاجتها، إن الجانيين هما الأب والتربى، وهذا أكثر واقعية، ويصير الشيطان إذن إن كان استعارة أو استخداما حرفيا سواء؛ فكم من أسر بدأت زيجاتها فى هدوء وتناغم، وما لبث أن تبدل كل شىء بسبب وقوع الزوج أو الزوجة فى حب محرم؟ وكم من زيجات توجها القتل؟
في النهاية نخلص إلى أنها قصة خرقاء، وقد ابتدعت نصفها أثناء كتابتي لها، إلا أن تعدد التأويل الذي رأيناه قد يفيد القصة وتمسي في النهاية أسطورة يقر بها أناس كثيرون، فإذا تليت القصة الخرقاء هذه على مسامع نفر من العامة سوف تجد أنهم سوف يصدقونها بعد حين، ويخرون سجودا وتكبيرا، لكن إجماع العامة على شيء لا معنى له ولا يغني شيئا. إن ما يضمن البقاء والاستمرار لنص ما هو احتماله أكثر من تأويل واحد، وعن طريق ذلك يتحدى الأزمنة والأماكن وتتقلص أمامه التساؤلات، فهو إذن في تعدد تأويلاته تظهر له تفسيرات جديدة وتلصق به تفاصيل جديدة، ولا يمكن أن ننسى عامل الزمان الذي قد يضفي أحداث جديدة تعمل على تعقيد الصورة الأصل أكثر فأكثر، لا شك أن كل ذلك يلائم عملية الأسطرة، التي هي بيننا في كل مكان، وقد ينتهي بقصة كالسابقة تلك إلى أسطورة يعتبر بها الناس ويصدقونها بل ربما ذهب أحدهم للقسم بأنه حضر أحداثها ورآها بأم عينه، وهذا يساعد القصة أو النص على الانتشار كما أنه يحول دون المساس به. إن الأساطير تحيا بيننا، وتتخفى متخذة شكل كل عصر تحل فيه، وتتهرب من عوامل الزمان، وتحيط نفسها بأسلاك شائكة تمنع التساؤلات وتدحضها قبل أن تنطلق. ولولا أني أريد إنجاز الكثير من الوقت لأخذت في ذكر قصصا وأساطير أخرى لا نهاية لها من جميع الحضارات وجميع الشعوب التي تحيا على هذه الأرض، ولكنت قد شرعت في تشريح ماهية الأسطرة تشريحا، لكني قررت الاحتفاظظ ببعض هذه الأساطير، فأنها سوف تتخذ مكانا محوريا في مقالات أخرى سوف أقوم بنشرها قريبا هنا.
#كمال_الدين (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في رحاب الكعبة
-
الحنين إلى الفردوس
-
منظور جديد حول الصراع العربى الإسرائيلى
-
حليف السام للعم سام
المزيد.....
-
من قوته إلى قدرة التصدي له.. تفاصيل -صاروخ MIRV- الروسي بعد
...
-
نجل شاه إيران الراحل لـCNN: ترامب و-الضغط الأقصى- فرصة لإنشا
...
-
-لقد قتلت اثنين من أطفالي، فهل ستقتل الثالث أيضا؟-: فضيحة وف
...
-
كيم: المفاوضات السابقة مع واشنطن لم تؤكد سوى سياستها العدائي
...
-
الوكالة الدولية للطاقة الذرية تعتمد قرارا ينتقد إيران لتقليص
...
-
ZTE تعلن عن أفضل هواتفها الذكية
-
مشاهد لاستسلام جماعي للقوات الأوكرانية في مقاطعة كورسك
-
إيران متهمة بنشاط نووي سري
-
ماذا عن الإعلان الصاخب -ترامب سيزوّد أوكرانيا بأسلحة نووية-؟
...
-
هل ترامب مستعد لهز سوق النفط العالمية؟
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|