|
حكاية الضجر .. 2 - العجلة
سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي
(Saoud Salem)
الحوار المتمدن-العدد: 4045 - 2013 / 3 / 28 - 12:34
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
نستطيع أن نفترض بطريقة ليست بعيدة عن المنطق السليم، حتى بدون تقديم أدلة دامغة، بأن العدو الحقيقي للنظام الرأسمالي الذي أكتسح كل بقاع الدنيا، هو ظاهرة "الضجر". وربما تكون هذه الظاهرة وراء العديد من الأزمات العالمية والحروب المتعددة التي يشنها هذا النظام من حين لآخر. للقضاء على هذه الظاهرة من ناحية، فالجيوش الرأسمالية المتعددة لا بد لها من حروب على فترات زمنية متقاربة نسبيا ومدروسة لملأ وقت فراغ الجنود والجنرالات، وكذلك لإختبار والتدرب على الأسلحة الجديدة على أرض المعركة الحقيقية. ومن ناحية أخرى لإكتشاف مناجم وآبار الضجر المنشرة في العالم واستغلالها إقتصاديا وإيديولوجيا. أمريكا على سبيل المثال لا الحصر، تمكنت في السنوات الأخيرة من تحويل هذا العدو الذي حاربته داخليا بكل قوة لدرجة الإبادة، إلى حليف خارجي ضروري لتسويق صناعاتها المختلفة وفكرها الإنساني الشديد الديموقراطية. فمن منكم لم ير صورة المكسيكي المتكيء على الحائط يستمتع بالشمس مغطيا وجهه بقبعته العريضة الحواف"سومبريرو"، ومن منكم رأى أمريكيا يتثائب؟ الصورة الأولى هي صورة العدو الأمريكي الخارجي، أما الصورة الثانية فيبدو أنها صورة محرمة وخطيئة الخطايا في الدين الرأسمالي الذي تنظم طقوسه حياة المواطنين بحيت تمتليء كل دقيقة وكل ثانية بشيء ما وبطريقة ما. إن الرجل الجالس تحت شجرة يستمع إلى زقزقة العصافير أو متأملا المنظر الطبيعي أمامه في صمت، هو إنسان غير مسؤول ومذنب وعدو للمجتمع وللنظام بأكمله، إنه إنسان خطير ويمكن أن يتهم بأي تهمة قد تصل إلى إتهامه بالخيانة العظمى. ليس فقط لأسباب أيديولوجية، حيث أن هذا الإنسان يمكن أن ينزلق وعيه إلى ظاهرة أخرى أكثر خطورة مثل "التفكير" أو "الخيال"، وإن لم يكن هذا النشاط الذهني محرما رسميا إلا أنه يفضل عدم تشجيعه ومحاربته بقدر الإمكان، لكونه نشاطا غير قابل للقياس أو التسجيل أو المراقبة بدقة كافية. وإنما لأسباب إقتصادية بحثة، فهذا الإنسان يعيش خارج وحدات الزمن الإقتصادية المتعارف عليها، كما أنه لا يساهم في دفع عجلة الإقتصاد الوطني، إنه عبء على المجتمع وعلى بقية المواطنين الذين يواصلون دفع العجلة بدلا من الإستماع إلى تغريد العصافير. إن التقدم العلمي الرائع الذي ذكرناه سابقا، قادر اليوم، بالإضافة إلى صناعة الكوكا كولا والآيباد، على برمجة حياة أي فرد من بدايتها إلى نهايتها، أي الفترة الممتدة قبل ميلاده بقليل، حتى بعد أن يترك هذا العالم الأرضي. يستطيع العلم الحديث أن يقرر تاريخ ميلاد أية عينة بشرية، اليوم والساعة، ويقرر كونه ذكرا أو أنثى، وفي صحة جيدة خاليا من كل الأمراض المعروفة، ويعمل له جدولا زمنيا شديد الدقة يبرمج حياته المستقبلة يوما بيوم. فالإنسان ما يزال هو "المادة الأولية" المتوفرة مجانا في كل أنحاء الأرض، وجاهزه للإستغلال من قبل النظام الحر في كل لحظة. الإنسان آلة يجب أن لا تكف عن الدوران، إنه هو ذاته عجلة الإقتصاد التي يجب أن تستمر في التدحرج ولا تتوقف أبدا. الإنسان هو آلة الإنتاج الرئيسية، منذ السنوات الأولى يبدأ في تهيئته لدوره ومكانه في المصنع الكبير، ويتم صقله تدريجيا وطوال سنوات عديدة بواسطة المدارس والجامعات والمعاهد المتعددة، ويدخل معترك الحياة العملية في سن الرشد ويتركها في سن السرطان والباركنسون. وإذا حدث خلل ما لأي سبب من الأسباب، في فترة نشاطه الإنتاجي، يمنع الإنسان من مواصلة عمله، فإن ورش الصيانة، كالمستشفيات والعيادات والمؤسسات الصحية المختلفة تتكفل بإصلاح الأجزاء المكسورة أو حل بها العطب أو الصدأ واستبدالها إذا لزم الأمر بقطع الغيار المناسبة، حتى يعود في أسرع وقت ممكن لدفع عجلة الإنتاج بكامل قوته وطاقته. هذه الحياة الممتلئة حتى الحافة، لا يجب أن تتخللها ولو ذرة واحدة من الفراغ، ذلك أن الوحدات الزمنية الغير مستهلكة في العمل والإنتاج، تعتبرتبذيرا للطاقة وخسارة لا يمكن تعويضها، نتيجة أن عجلة الزمن - الإنتاج لا يمكن إعادة توجيهها لتعود إلى الوراء. غير أن الفراغ مستمر في تسميم أدمغة مهندسي الحياة البرجوازية والرأسمالية، ذلك أنه في الحياة اليومية الواقعية، هناك بالضرورة ثوان ودقائق وأيام تهرب من الرقابة العامة، هناك لحظات المرض والنقاهة والعطلات الوطنية والدينية وعطلة نهاية الأسبوع والإجازات السنوية وإجازات الزواج والولادة والوفاة .. إلخ، بالإضافة إلى أن الآلة الإنسانية لا يمكنها أن تكون في نشاط مستمر أكثر من إثنى عشرة ساعة في اليوم الواحد دون أن تنفجر، لا بد من فترات للراحة والنوم والجلوس تحت شجرة ومراقبة العلم الأمريكي يرفرف على سطح القمر. لذلك تفنن مهندسوا حضارة الحديد والبلاستيك في خلق وإبداع الملايين من المنتوجات التي يبدو في الظاهر أنها لا تفيد البشرية في كثير ولا قليل، ولكنها في حقيقة الأمر موجهة أساسا لتفادي هذه اللحظات المسروقة من الفراغ وللقضاء على الضجر. فالجرائد والمجلات وأجهزة التلفزيون وآلات التصوير والتلفونات النقالة والثابتة والكمبيوتر والويب وكذلك السيارات والطائرات والدراجات والبواخر والقوارب، والمطاعم والمقاهي والبارات والنوادي بكل أنواعها، الرياضية والثقافية والإجتماعية، والمتاجر والمحلات والأسواق وصالونات الحلاقة والتجميل، وأيضا الكنائس والمساجد والمعابد المختلفة، المكتبات ودور النشر وصالات السينما والمسارح والمعارض والملاهي وصالات الموسيقى وصالات الأفراح والإحتفالات .. والآلاف المؤلفة من النشاطات الأخرى التي يمارسها المواطن كلما وجد قليلا من وقت الفراغ، وهو عموما ما يسمى "الحياة"، أي ملء الفراغ الأصلي للإنسان بأي نشاط مهما كان نوعه، وجعله يتحرك دون أن يتوقف من الدقائق الأولى لميلاده حتى تناله المنية ذات يوم في حادث سيارة أو بشظية حرب من الحروب أو بتوقف القلب أو بإنفجار شريان في الدماغ بفعل الويسكي أو التبغ وما شابه. إنه تطور نوعي للبشرية ندين به لهذه الحضارة المميزة، فبدلا من قتل الوقت كما كان يفعل أجدادنا الجهلة، اليوم تتحول هذه الوحدات الزمنية العقيمة إلى وحدات نقدية.
#سعود_سالم (هاشتاغ)
Saoud_Salem#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
القاتل والقتلة والجوع
-
حكاية الضجر .. 1- القناص
-
مسرحية -الديموقراطية هي الحل-
-
ورعب السلطة
-
رعب الحرية
-
خرائب الوعي .. 17 - شيزوفرينيا
-
خرائب الوعي .. 16 - الريح والكلمات
-
خرائب الوعي .. 15 - إستراحة
-
بيان من أنصار البدعة
-
تداعيات 3- شيطان المحبرة
-
تداعيات 2- الغثيان
-
تداعيات 1- الرجوع
-
خرائب الوعي .. 14 - إفتح يا سمسم
-
خرائب الوعي .. 13 - الرأس المقطوعة
-
خرائب العقل .. 12 - تحرش بعد الغروب
-
خرائب الوعي .. 11 - الشاعر والعطش
-
خرائب الوعي .. 10 - المرأة التي أكلها النمل
-
خرائب الوعي .. 9 - لا يحب الله والله لا يحبه
-
خرائب الوعي .. 8 - الطابق الثاني
-
خرائب الوعي .. 7 - قوارب الهجرة إلى الجحيم
المزيد.....
-
مشهد يحبس الأنفاس.. مغامر يتسلق جدارًا صخريًا حادًا بسويسرا
...
-
وسط التصعيد الأوكراني والتحذير من الرد الروسي.. ترامب يختار
...
-
انخفاض أعدادها ينذر بالخطر.. الزرافة في قائمة الأنواع مهددة
...
-
هوكستين في تل أبيب.. هل بات وقف إطلاق النار قريبا في لبنان؟
...
-
حرس الحدود السعودي يحبط محاولة تهريب نحو طن حشيش و103 أطنان
...
-
زاخاروفا: الغرب يريد تصعيد النزاع على جثث الأوكرانيين
-
صاروخ روسي يدمر جسرا عائما للقوات الأوكرانية على محور كراسني
...
-
عشرات القتلى في قصف إسرائيلي -عنيف- على شمال غزة، ووزير الدف
...
-
الشيوخ الأمريكي يرفض بأغلبية ساحقة وقف مبيعات أسلحة لإسرائيل
...
-
غلق أشهر مطعم في مصر
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|